الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
الوجه الآخر للولاية ودوره في تهذيب النّفوس
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج1 / ص 331 ـ 342
2024-12-07
189
لا ينحصر دور الاعتقاد بالولاية، في المسائل الأخلاقيّة وتهذيب النّفوس والسّير إلى الله تعالى، على اتّخاذ القُدوات الصّالحة والاقتداء بكلامهم وفِعالهم، بل وبحسب اعتقاد بعض الأعاظِم والعُلماء، يوجد هناك نوعٌ آخر من الولاية، هو فرعٌ من الولاية التّكوينية، يستطيع معها القادةُ الإلهِيّيون، وبواسطة نفوذهم الرّوحي المباشر، في عالم الوجود والتّكوين، من معرفة النّفوس المستعدّة للتربية والإصلاح، والتّصرّف المعنوي المَباشر، في المستوى الرّوحي لِلإنسان في خطّ التّربية.
وتوضيح ذلك: إنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، هَمْ القلب النّابض للأمّة الإسلاميّة، وكلّ عضوٍ من الأعضاء، يكون له ارتباط وثيقٌ بالقلب، سيتسنّى لذلك العَضو أن يسترفِد من المنبع مَنافع أكثر، أو أنّهم بمنزلة الشّمس المشرقةِ، فكُلّما انقشعت سُحب الأنانية عن القلب، فإنّ تلك الأشعّة ستتولى تربية عناصر الخير في النّفس، فَتورقُ وتثمرُ، وتنعكس آثارها على شخصيّة الإنسان، في إطار السّلوك والفِكر.
وهنا تأخذ الولاية شَكلاً آخر، وتنحى مَنْحاً يختلف عن السّابق، وسيكون الكلام فيها عن المَعطيات الخفيّة الغامضة، في دائرة التّأثير التّربوي، غير التي نعرفها سابقاً، في دائرة التّصرفات الظّاهريّة.
يقول القرآن الكريم: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً).
فهذه الشّمس المنيرة، وهذا السّراجُ المنير، يتولّى وظيفتين، فمن جِهة أنّه يُضيء لِلإنسان الطريق إلى الله تعالى، ليعرف الطّريق الصّحيح والجادّة المؤدّية إلى الحقّ والصّلاح، ويبتعد عن حافّة الهاوية.
ومن جهةٍ أخرى، فإنّ هذا النّور الإلهي، يؤثّر لا شعوريّاً في واقع الإنسان، ويتولّى إصلاح النّفس في خطّ التّربية الأخلاقيّة، ويساعدها في عمليّة التّكامل والرّقي.
وكَنموذجٍ على ذلك، ما نقرأه في الحديث المرفوع عن «هِشام بن الحَكم»، ومناظرته مع «عَمرو بن عُبيد»، العالم بِعلم الكلام السّني، عندما ذَهب هشام إلى البصرة، وأجبره ببيانٍ لطيفٍ ومنطقي، على الاعتراف بِلزوم وجود الإمام في كلّ عصرٍ وزمانٍ.
قال هشام: بلغني ما فيه عَمرو بن عبيد، وجلوسه في مسجد البصرة، فعظُم ذلك عليّ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة، فأتَيت مَسجد البَصرة، فإذا أنا بحلقةٍ كبيرةٍ فيها عَمرو بن عبيد، وعليه شَملةٌ سوداءٌ، متّزراً بها، من صوفٍ وشملةٌ مرتدياً بها، والنّاس يسألونه، فاستفْرَجت النّاس فأَفرَجوا لي، ثمّ قَعدت في آخر القَوم، على رَكبتي، ثم قلت: أيّها العالم، إِنّي رجلٌ غريبٌ تأذن، لي في مسألةٍ!
فقال لي: نَعم.
فقلت له: أَلك عَينٌ؟
فقال: يا بُنيّ أيّ شيءٍ هذا السّؤال، وشيء تراه كيف تَسأل عنه.
فقلت: هكذا مَسألتي.
فقال: يا بُنيّ سَلُ وإن كانت مَسألتك حَمقاء.
قلت: أجبني فيها.
قال لي: سَلْ.
قلتُ: ألكَ عينٌ؟
قال: نَعم.
قلت: فما تَصنع بها؟
قال: أرى بها الألوان والأشخاص.
قلت: ألكَ أنفٌ؟
قال: نَعم.
قلتُ: فما تصنع به؟
قال: أشمٌّ به الرّائحة.
قلتُ: ألكَ فمٌ؟
قال: نَعم.
قلتُ: فما تصنع به؟
قال: أذوقُ بِهِ الطّعام.
قلت: ألك اذنٌ؟
قال: نَعم.
قلتُ: فما تصنع بها؟
قال: أسمع بها الصّوت.
قلت: أَلك قلب؟
قال: نعم.
قلتُ: فما تصنع به؟
قال: أميّز به كلّما ورد على هذه الجَوارح والحَواس.
قلتُ: أوَلَيس في هذه الجَوارح غِنًى عن القلب؟
فقال: لا.
قلتُ: وكيف ذلك، وهي صحيحةٌ سليمةٌ؟
قال: يا بُني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيءٍ، شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردّته إلى القَلب فيسْتَيقِن اليَقين ويُبطل الشّك.
فقلت له: فإنّما أقام الله القلب؛ لِشّك الجَوارح؟
قال: نعم.
قلتُ: لا بُدَّ من القلب وإلّا لم تَستَيقن الجوارح؟
قال: نعم.
فقلتُ له: يا أبا مَروان، فالله تَباركَ وتعالى، لم يترك جوارحك حتّى جَعل لها إماماً، يُصحِّح لها الصّحيح، ويتيقّن له ما شكّ فيه، ويترك هذا الخَلق كلّهم في حِيرتهم وشَكّهم واختلافهم، لا يُقيم لهم إماماً يردّون إليه شَكّهم وحِيرتهم، ويُقيم لَك إماماً لِجوارحك، تردّ إليه حيرتك وشَكّك؟
قال: فَسكت ولم يقل شَيئاً، ثم التفتَ إليّ، فقال لي: أنتَ هُشام بن الحكم؟، فقلتُ: لا. قال: من جُلسائه؟، قلت: لا، قال: فَمن أَنتَ، فقلت: من أهلِ الكوفة. قال: فأنت إذاً هوَ، ثمّ ضمّني إليه، وأَقعدني في مَجلسه، وزالَ عن مجلسه، وما نطَق حتّى قُمت.
قال: فَضحِك أبو عبد الله (عليه السلام)، وقال: يا هُشام من عَلّمك هذا؟
قلتُ: شيءٌ أخذته منك، وألّفته.
فقال الإمام: «هذا والله مكتوبٌ في صُحف إبراهيم وَموسى» ([1])
نعم، فإنّ الإمام بمنزلةِ القَلب، لِعالَم الإنسانيّة، وهذا الحديث يمكن أن يكون إشارةً، لِلولاية والهداية التّشريعيّة أو التّكوينية، أو الإثنين معاً.
وكذلك ما ورد، في حديث أبي بَصير وجاره التوّاب، هو شاهدٌ آخر على هذا المَطلب:
قال أبو بَصير: كان لي جارٌ يتبعِ السّلطان، فأصابَ مالاً فاتّخذ قِياناً، وكان يجمع الجَموع ويشربُ المُسكِر ويُؤذيني، فشكوته إلى نفسه غيرَ مَرّة، فلم يَنتَهِ، فلّما ألحَحَتَ عليه، قال: يا هذا أنا رجلٌ مُبتلى، وأنت رجلٌ معافى، فلو عرّفتني لِصاحبك رَجوتُ أن يَستنقذني اللهُ بك، فوقع ذلك في قلبي، فلما صِرت إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، ذكرتُ له حاله.
فقال لي: «إذا رجعت إلى الكُوفة، فإنّه سيأتيك، فقل له: يقول لك جعفر بن محمد: دعْ ما أنت عليه، وأَضمِنْ لك على الله الجنّة».
قال أبو بَصير: فلمّا رجعت إلى الكوفة، أتاني فيمن أتى، فاحْتبستُه حتّى خَلا منزلي. فقلت:
يا هذا، إنّي ذكرتُك لأِبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: «أَقرِأه السّلام وقل له: يترك ما هو عليه، وأَضمن له على الله الجنّةَ».
فَبَكى، ثمّ قال: الله، قال لك جعفر (عليه السلام) هذا؟
قال: فحلفت له، أن قال لي ما قلت لك.
فقال لي: حَسبُك وَمَضى، فلما كان بعد أيّامٍ بعث إليّ ودعاني، فإذا هو خَلف باب داره عُريان.
فقال: يا أَبا بصير، ما بقي في منزلي شيءٌ، إلّا وخرجت عنه، وأنا كما ترى.
فَمشيت إلى إخواني، فجمعت له ما كسوته به، ثمّ لم يأت عليه إلّا أيّاماً يسيرةً، حتّى بعث إليّ: أنّي عليل فآئْتني، فجعلت أختلف إليه، وأعالجه حتّى نزل به الموت.
فكنت عِنده جالساً وهو يجود بِنفسه، ثم غُشي عليه غشيةً ثم أفاق، فقال: يا أبا بَصير، قد وفّى صاحبك لنا، ثم مات، فَحَججت فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام)، فاستأذنت عليه، فلمّا دخلت قال مبتدئاً من داخل البيت، وإحدى رجليّ في الصّحن والأخرى في دهليز داره: «يا أبا بَصير قد وفّينا لصاحبك». ([2])
بالطّبع يمكن أن يقال: إنّ هذا الحديث حمل في طيّاته، جانب التّوبة العاديّة المعروفة بين الناس، ولكنّنا نقول: إنّ ذلك الرّجل المذنب والمليء بالمعاصي، من رأسه إلى أخمص قدمه، لم يكنِ ليُغيّر طريقة حياته، واتّخاذه جانب الصّلاح والفلاح، وعلى حدّ اعترافه هو، بأنّه لولا الإمام (عليه السلام) وعنايته، لم يكن له أن يتحول من دائرة الظلّمة والمعصية، إلى دائرة النّور والهداية.
ويوجد احتمال قويٌّ، وهو أنّ هذا الانقلاب والتّحول، في روح وسلوك هذا الرجل المذنب المستعد لِلتوبة، كان بسبب التّدخل الرّوحي للإمام (عليه السلام)، وتصرّفه في محتواه النّفسي، و ذلك لوجود نقطةٍ مضيئةٍ وبصيصٍ من الأمل في أعماق قلبه، وهو تمسّكه بالولاية، حيث أدّى إلى أن يتحرّك الإمام (عليه السلام) إلى نجدته وإنقاذه، في آخر لحظات حياته وأيّام عمره.
والّنموذج الآخر لهذا التّأثير المعنوي، والولاية التكوينيّة في تهذيب النّفوس المستعدّة، هو ما نقله العلّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار، عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، والجارية التي أرسلها هارون إليه.
فقد وَرد أنّ هارون الرّشيد، أنفذَ إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) جاريةً خصيفةٌ، لها جمالٌ ووضاءةٌ لتخدمه في السّجن، فقال له: (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)([3])، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها، قال: استطار هارون غَضباً، وقال: ارجع إليه وقل له: ليس بِرضاك حبَسناك، ولا بِرضاك أخذناك، واترك الجارية عنده وانصرف.
قال: فَمضى ورجع، ثم قام هارون عن مجلسه، وأنفذَ الخادم إليه ليتفحّص عن حالها، فرآها ساجدةً لربّها لا ترفعُ رأسها، تقول: قُدّوسٌ سُبحانك سُبحانك.
فقال هارون: سَحرها والله موسى بن جعفر بسحره، عليّ بها، فأتى بها وهي تَرتَعد، شاخصةً نحو السّماء بصرها، فقال: ما شأنك؟
قالت: شأني الشّأن البديع، إنّي كنت عنده واقفةً، وهو قائمٌ يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف عن صلاته بوجهه، وهو يسبّح الله ويقدّسه، قلت: يا سيّدي هلْ لك حاجة أعطيكها؟
قال: وما حاجتي إليك؟
قلت: إنّي ادخلت عليك لِحوائجك.
قال: ما بالُ هؤلاء؟
قالت: فآلتفتُّ فإذا روضةٌ مزهرةٌ، لا أبلغ آخرها من أوّله بنظري، ولا أوّلها من آخرها، فيها مجالسُ مفروشة بالوِشيّ والدّيباج، وعليها وصفاً وَوَصائِف، لم أرَ مثل وجوههم حُسناً، ولا مِثل لباسهم لِباساً، عليهم الحَرير الأخضر، والإكليل والدّر والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمَناديل، ومن كلّ الطّعام، فخَررت ساجدةً حتّى أقامني هذا الخادم؛ فرأيت نفسي حيثُ كنت.
فقال هارون: يا خبيثة، لعلّكِ سجدت فَنمت فرأيت هذا في مَنامك؟
قالت: لا والله يا سيّدي، إلّا قبل سُجودي، رأيت فسجدت من أجلِ ذلك.
فقال هارون: اقبض هذه الخبيثة إليك، فلا يسمع هذا مِنها أحد، فأقبلت في الصّلاة، فإذا قيل لها في ذلك، قالت: هكذا رأيتَ العَبد الصّالح (عليه السلام)، فسُئلت عن قولها، قالت: إنّي لما عَييت من الأمر نادتني الجواري، يا فلانة أبعدي عن العبد الصّالح، حتّى ندخل عليه، فنحن له دونك، فما زالت كذلك حتّى ماتت، وذلك قبل موتِ موسى (عليه السلام) بأيّامٍ يسيرةٍ ([4]).
وفي هذه القصّة، نشاهد نموذجاً آخر من تأثير الإمام (عليه السلام)، في روح تلك الجارية المستعدّة للتّربية والإصلاح الرّوحي، والهداية في طريق الحقّ والعودة إلى الله تعالى.
والخلاصة: أنّ تاريخ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والأئمّة الهداة (عليهم السلام)، حافل بمثل هذه الحوادث، حيث يتّفق لبعض الأشخاص، أن يلتقوا مع النّبي أو الإمام، فينقلب مَساره في حركة الحياة والواقع ويتغيّر كليّاً، ويتحوّل إلى النّقطة المقابلة، في حين أنّ هذا التغيّر، ما كان ليحصل بواسطة الأسباب العادية، بحسب الظّاهر، وهذا الأمر يدلّ على أنّ الإنسان الكامل، هو الذي تولى هذه العمليّة التغييريّة، في هؤلاء الأشخاص من خلال التّصرف والتّدخل في النّفوس، وهو ما نسمّيه بالولاية التكوينيّة.
ومن المؤكّد أنّ هذه العناية، واللّطف والتّوجه، لم يكن اعتباطًا، بل هو لوجود نقاط قوّة في شخصيّة الفرد المعتني به، لتشمله العناية الإلهيّة، بواسطة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والأئمّة الطّاهرين (عليهم السلام).
كلام العلّامة الشّهيد المطهّري:
نترك الكلام والقَلم هنا، للعلّامة الشّهيد المطهّري (قدس سره)، حيث يقول في كتابه: «ولاءها وولايتها»: (تستعمل هاتين الكلمتين عادة في أربع موارد: ولاء المحبة: (أي المحبّة لأهل البيت) (عليهم السلام)، وولاء الإمامة، بمعنى التّأسي بالأئمّة (عليهم السلام)، وجعلهم القدوة لأعمالنا وسلوكيّاتنا، وولاء الزّعامة، بمعنى حقّ القيادة الاجتماعيّة والسّياسية للأئمّة (عليهم السلام)، وولاء التّصرف، أو الولاء الرّوحي وهو أسمى هذه المراحل).
وبعدها يوضّح الأوّل والثّاني والثّالث، ثمّ يعرج على المعنى الرّابع، الذي هو مورد بحثنا ويقول: (إنّ التّصرف الرّوحيّ والمعنويّ، هو نوعٌ من القُدرة والتّسلط الخارق للتكوين، بمعنى أنّ الإنسان ومن خلال عبوديّته الحقّة لله تعالى، يحصل على مقام القُرب الإلهيّ المعنويّ والرّوحيّ، ونتيجة لهذا القُرب، يصبح إنساناً كاملاً، يتحرّك في طريق هداية الناس نحو المعنويّات، ويتسلّط على الضّمائر، وتكون له قدرة الشّهود على الأعمال، وبالتّالي يصير حُجّة الله في زمانه!
فمن وجهَة نظر الشّيعة، أنّ كلّ زمان لا يخلو من إنسانٍ كاملٍ، يتمتّع بقدرة التّصرّف الغيبيّ في العالم والإنسان، وناظرٌ وشاهدٌ على الأرواح والقلوب، وهذا الإنسان هو حجّةُ الله على الأرض.
والمقصود من التّصرّف، أو الولاية التكوينيّة، ليس كما يعتقد بعض الجهّال، من أن يتولّى الإنسان الكامل، مسألة القَيوميّة والتدبير في العالم، بحيث يكون الخالق والرّازق والمفوّض، من جانب الله تعالى.
وهذا الاعتقاد، رغم أنّه لا يعتبر شركاً، بل هو كما ورد في القرآن، بالنّسبة إلى الملائكة: «المُدَبِّراتُ أَمرَاً (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً»)، فهو بإذن الله تعالى، والقرآن يُخبرنا أنّ لا نَنسب مسائل الخلقة والرّزق والموت والحَياة، إلى غير الله تعالى.
ولكن المقصود، هو أنّ الإنسان الكامل، ولقربه من الله تعالى، يصل إلى مرحلةٍ تكون له الولاية في التّصرف في: (بعض أمور) العالم.
ثم يضيف قائلاً: ويكفي هنا أن نشير إشارةً إجماليّةً إلى هذا المطلب، وتوضيح أسسه بالاعتماد وعلى المفاهيم والمعاني القرآنيّة، لِئلّا يعتقد البعض، أنّ هذا جزافاً من الكلام.
فلا شك أنّ مسألة الولاية، بمعناها الرّابع، هي من المسائل العرفانيّة، ومجرّد كونها عرفانيّة، لا يعني نكرانها بالكامل.
ثمّ يشرح بإسهاب، معطيات القرب من الله تعالى، ويستنتج منها، ما يلي:
فعلى هذا الأساس، من المحال على الإنسان، وبعد قربه وطاعتِه للهِ تعالى، ألّا يصل إلى مقام الملائكة، بل وأرقى، أو على الأقل يساوي الملائكة في مقامهم، الملائكة التي تدبّر وتتصرّف في عالم الوجود، بإذن الله تعالى» ([5]).
ويمكن أن نخرج من هذا الحديث بنتيجة، وهي أنّ العلاقة المعنويّة، والارتباط بالإنسان الكامل، يمكن أن يساعد الإنسان في عمليّة التّصرّف، والنّفوذ في حياة الأناس المستعدّين والمتقبّلين للإصلاح، وسوقهم تدريجياً في خطّ التّهذيب الأخلاقيّ، وإبعادهم من جو الرّذائل إلى جو الفضائل الأخلاقيّة والكمالات الروحيّة.
الاستغلال السّيء:
تتعرّض المفاهيم البنّاءة والصّحيحة، للأمم والشّعوب في كلّ زمانٍ ومكانٍ للاستغلال والتّحريف دائماً، وهذا الاستغلال في الحقيقة لا يؤثّر على صحّة وقداسة أصل المسألة.
ولم تكن مسألة القدوة الأخلاقيّة في خطّ التربية والتّهذيب، ولزوم الإستفادة من الاستاذ العامّ والخاصّ، لأجل السّلوك إلى الله وتهذيب الأخلاق، مستثناة من هذا الأمر، فجماعةُ من الصّوفيّة طَرحوا أنفسهم، بعنوان: «مُرشد» أو «شيخ الطّريقة» و«القُطب»، ودعوا الناس لاتّباعهم والتّسليم المُطلق إليهم، بل وتعدّوا الحُدود، وقالوا إذا ما شاهدتم سلوكاً يصدر من الشّيخ، مخالفاً للشريعة، فلا عليك ولا ينبغي عليك الاعتراض؛ لأنّ ذلك يخالف روح التّسليم المُطلق للمرشد.
ويُستفاد ومن كلمات «الغزالي»، المؤيّد للصّوفيّة، في فصولِ متعددّةٍ من كتابه «إحياء العلوم»، هذا المعنى أيضاً، حيث يُشمّ منها رائحة الصوفيّة، والحقيقة أنّ فِرقاً من الصّوفية، تعتبره من كبار أعلامها، فقد قال في الفصل (51) من الجزء الخامس، الباب الخامس:
(نَظَرُ الصّوفية أنّ أدب المريدين في مقابل شيوخهم هو، أن يجلس المريد مقابل الشّيخ مسلوب الاختيار، فلا يتصرّف في نفسه وماله إلّا بأمره ... وأفضلُ أدب المُريد أمام الشّيخ: هو السّكوت والخمود والجمود، إلى أن يملي عليه شيخه، ما يراه له صلاحاً في أعماله وأفعاله ... وكلّما رأى من شيخه خِلافاً، وعسُر عليه فَهمه، تذكّر حكاية مُوسى والخِضر (عليهما السلام)، فإنّ الخضر قد عمل أعمالاً أنكرها مُوسى، ولكن عندما كشف له الخِضر أسرارها انتبه مُوسى، وعليه فكلّما فعل الشّيخ، كان له عُذراً بلسان العِلم والحِكمة) ([6]).
ويقول العارف العّطار، في أحوال يوسف بن حسين الرّازي، عندما أمره ذو النّون المَصري: (مرشده)، الخُروج من بلدِه والعودة إلى دياره، طلب يوسف منه برنامجاً يعمل به، فقال له ذُو النّون: عليك بِنسيان ما قرأته، وامحُ كلّ ما كتبته، ليُزال الحِجاب!.
ونقل عن أبي سعيد، قوله للمُريدين:
«رَأسُ هذا الأمرِ، كَبْسُ الَمحابِرِ وَخرَقُ الدَّفاتِر وَنِسيانِ العِلمِ» ([7]).
ونقل عن أحوال وحالات «أبو سعيد الكندي»، أنّه كان قد نزل في الخانقاه، وإجتمع عنده جمعٌ من الدّراويش، وكان يطلب العلم سرّاً، وفي يوم من الأيّام سقطت من جيبه محبرةٌ، فانكشف سرّه: «وهو أنّه من هواة تحصيل العلم»، فقال له أحد الصّوفيين: (استر عليك عَورتك) ([8]).
ولا شك فإنّ الجو الحاكم هناك، كان نتيجةً لتعاليم مرشدهم في هذا الأمر، ولكنّ الحقيقة أنّ الإسلام قد أكّد على خلاف هذا المسلك، ففي الحديث الوارد عن الصّادق (عليه السلام)، عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، أنّه قال: «وُزِّنَ مِدادُ العُلَماءِ بِدِماءِ الشُّهدَاءِ، فَرُجّحَ مِدادُ العُلَماءُ عَلى دِماءِ الشُّهَدَاءِ» ([9]).
فانظر إلى الفرق بين المسلكين!!.
ولأجل الإطّلاع على كيفيّة التّحريف والانزلاق في منحدر الإفراط والتّفريط، وكيف تنحرف مسألةٌ معينةٌ عن المنطق والشّرع، لدى وقوعها بأيدي مَنْ لا أَهليّة له، على التّنظير في أمور الدّين؟، وكيف تَتعرض للاستغلال والتّشويه، علينا إلقاء نظرة على كلام: «كيوان القِزويني المُلقّب ب منصور علي شاه»، حيث يُعتبر من أقطاب الصّوفية، فقد بيّن حدود وصلاحيّات القُطب، وقال: لِلقطب أن يدّعي عشرةَ خُصوصيّات:
1 ـ أنّ عندي باطنُ الولاية التي كانت عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ... مع فرقٍ واحدٍ هو، أنّه المؤسس وأنا المروّج والمدير والحارس!.
2 ـ عندي القُدرة على تربية الأفراد، وتهذيب نفوسهم، وإزالة العناصر الخبيثة والخصائص الشّريرة، في واقعهم ونزعها ونقلها إلى الكفّار.
3 ـ أنا حرّ من قيود الطّبع والنّفس.
4 ـ يجب أن تؤدّى جميع عِبادات ومُعاملات المُريدين، بإجازةٍ وموافقةٍ منّي.
5 ـ كلّ اسمٍ ألقّنه لِلمُريدين، وأجيزهم بذكره في القلب أو اللّسان، يكون هو ذلك الاسم فقط هو الله، ويسقط الباقي من درجة الاعتبار.
6 ـ كلّ المعارف الدينيّة والعقائديّة، إن كانت قد حصلت بموافقتي، فهي صحيحة، وإلّا فهي عينُ الزّيف، ومَحض الخَطأ.
7 ـ أنا مفترضُ الطّاعة، ولازمُ الخِدمة، ولازم الحفظ.
8 ـ أنا حرٌّ في عقائدي.
9 ـ أنا ناظرٌ للأحوال القَلبيّة لمريديّ دائماً.
10 ـ أنا قسيم النّار والجنّة ([10]).
هذا الكلام أشبهُ بالهَذيان منه إلى البَحث المَنطقي، رغم أنّه قد لا يقبله أغلب الصّوفيّين، ولكن مجرّد أنّه يرى نفسه بِعنوان: «قُطب»، وإدّعائه أن للأقطابِ، اختياراتٌ وصلاحيّاتٌ لم يدّعيها حتّى الأنبياء لأنفسهم، فإنّ ذلك يكفي، في تبيان مدى استغلال هؤلاء المدّعين، لمثل هذه العناوين الضّبابيّة وحاجة الناس للمعلم، في أمر السّير والسّلوك إلى الله تعالى، وما يمكن أن يترتّب على ذلك، من عواقبٍ سلبيّةٍ على مستوى، سَوقِ النّاس في خَطّ الباطل.
فهذه الادّعاءات، بعض منها من خواصّ الأنبياء، والأخرى لم يجرء على ادّعائها أحد من الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وأيّ شخصٍ له قليلٌ من الإلمامٌ بالدّين، سيتوجه إلى فَضاعةِ الأمرِ وخُطورته.
وإذا ما رَجعنا إلى كُتب أهل التّصوف، مثل، «تَذكرة الأَولياء» لِلشيخ العَطار، و«تاريخ التّصوف»، و«نفحات الأنس»، وبعض أبحاث «إحياء العُلوم»، نرى أنّ الإدّعاءات والخُصوصيّات التي يضعوها لِلأقطاب، وشيخُ طريقتهم: فضيعةٌ، ولذلك فإنّ بعض مُحقّقي الشّيعة وفقهائهم، وقفوا بِشدّةٍ وقوّةٍ، مقابل هذه الطّائفة، حتى أنّ هذا الموقف تسبّب بإيذاء بعض الّذين يتعاملون مع المفاهيم الدينيّة، من موقع الجهل والسطحيّة، لكن الحقيقة أنّ المثقفين والمطّلعين، يعلمون أنّ إطلاق العِنان لمثل هذه الأفكار المُنحرفةُ من شأنه أن يَقضي، على فُروعِ وأصولِ الدّين الحَنيفِ بصورةٍ كاملةٍ.
[1] اصول الكافي، ج 1، ص 129، ح 3، باب الاضطرار إلى الحجّة، (مع التّلخيص).
[2] بحار الأنوار، ج 47، 145 146، ج 199.
[3] سورة النّمل، الآية 36.
[4] بحار الأنوار، ج 48، ص 239، نقلاً عن المناقب، ج 3، ص 414، (مع شيءٍ من التّخليص).
[5] كتاب ولاءها وولايتها، ص 56، وما بعدها.
[6] احياء العلوم، ج 5، ص 198 ـ 210، (مع التلخيص).
[7] أسرار التّوحيد، ص 32 و 33، طبعة طهران.
[8] نقد العلم والعلماء، ص 317.
[9] بحار الأنوار، ج 2، ص 16، ح 35.
[10] إستوار نامه، ص 95 ـ 106، (مع التّلخيص).