علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
شاهد الحق.
المؤلف: الشيخ محمّد جواد آل الفقيه.
المصدر: عمّار بن ياسر.
الجزء والصفحة: ص 6 ـ 12.
2023-10-11
1145
شهادات:
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ما لهم ولعمّار، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، إن عماراً جلدةٌ ما بين عيني وأنفي.
(أخرجه ابن هشام مرفوعاً. الغدير 9 ـ 27).
عن عائشة:
ما من أحدٍ من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشاءُ أن أقولَ فيه إلا قلتُ، إلا عمارَ بن ياسر، فإني سمعتُ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) يقول: مُلئ عمّار إيماناً إلى أخمصِ قدميه.
(الاستيعاب 2 / 478).
عن خالد بن الوليد، قال:
كان بيني وبين عمار كلامٌ فأغلظتُ له، فشكاني إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فرفع رسول الله رأسه فقال: مَن عادى عماراً عاداه اللهُ، ومن أبغض عمّاراً أبغضه اللهُ.
(الإِصابة 2 / 512).
أعجب ما يدور في خلد إنسانٍ أن يدلي شاهد بشهادته أمام التأريخ على أمرٍ سوف يقع، يختصر الأعوام بلحظة والحوادث بكلمة! وأعجب من ذلك أنه بشهادته تلك يلْمِح إلى أن هناك حرباً سوف تقع بين طائفتين من المسلمين، ثم يعطي الحُكمَ الفاصل بينهما قبل أن يكون هناك خصامٌ وقبل أن يكون هناك قتال.
لكن العجب سرعان ما يزول حين يدرك السامع أن ذلك المتكلم الشاهد إنما كان يغرف من بحر الغيب، وأنّه رسول الله.
لقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تقتل عماراً الفئة الباغية (1).
إن هذه الشهادة من الرسول في حق عمار تكررت غير مرة في أكثر من مناسبة وبصيغ مختلفة.
فمثلاً: حين أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) في تشييد مسجده المبارك في المدينة المنورة جعل المسلمون يحملون لبنةً لبنة، وجعل عمار يحمل لبنتين لبنتين، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) ينفض التراب عن رأسه، ويقول: ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية.
وتمضي فترة من الزمن تأتي بعدها غزوة الخندق وبينما المسلمون منشغلون بحفر الخندق ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يعاطيهم حتى اغبرّ صدرهُ وهو يقول:
اللهم إن العيشَ عيشَ الآخرة ** فاغفر للأنصار وللمهاجرة
إذ يجيىء عمار فيلتفت إليه النبي (صلى الله عليه وآله) ويقول: «ويحكَ يا بنَ سمية، تقتلك الفئة الباغية» وفي مناسبة أخرى يقول (صلى الله عليه وآله): عمار على الحق حتى يقتل بين فئتين إحدى الفئتين على سبيلي وسنتي والأخرى مارقةً عن الدّين خارجة عنه (2).
إنّ هذه الشهادة لم تصدر من النبي (صلى الله عليه وآله) على نحو المداعبة لابن ياسر، ولا على نحو الإِخبار المجرد، وإنما صدرت منه على سبيل الإِعلام، وكأنه يرمز من خلالها إلى أمرين مهمين:
الأول: هو التنويه بشخصية عمّارٍ حيثُ استأثر باهتمامه صلواتُ اللهِ عليه دون غالبيّة الصحابة من إخوانه.
الثاني: أنّه بكلماته تلك اختصر الزمان والأحداث ملْمِحاً للمسلمين بأن حرباً سوف تقع بين طائفتين منهم إحداهما باغيةً على الأخرى وظالمةً لها، وبالتحديد: الفئة التي تقتل عمار بن ياسر. ورُبّ تلميحٍ أبلغُ من تصريح! ثم إنّ المألوف لدى المؤرخ حينما يتناول حياة علمٍ من أعلام الإِنسانية أو بطل من أبطالها العظماء هو التركيزُ على الجوانب الهامة التي تمتد عبر حياته وما يتصل فيها من النواحي الإِجتماعية والثقافية وغيرها مما يؤمّن للإِنسانية بشكلٍ عام مزيداً من المعطيات الخيرة والمفيدة في مسيرتها الطويلة، والمألوف أيضاً أن سيرة أي واحد من هؤلاء العظماء تنتهي بالمؤرخ إلى نقطةٍ أخيرة من حياتهم تكون فيها الخاتمة.. خاتمة الموضوع بخاتمة الحيا، أما أن تكون النهاية هي البداية، فهذا أمر نادر قلما يحصل، إلا أن يكون مثل عمار بن ياسر! إننا حينما نتناول سيرة هذا الصحابي الجليل والجوانب الهامة في حياته، تطالعنا ـ ولا شك ـ صورٌ ندية مفعمة بكل معاني الخير، فهو بالإِضافة إلى إيمانه القوي وعقيدته الراسخة وفنائه في ذات الله، إنسانٌ يتمتع بأنبل صفات الإِنسانية من الشجاعة والكرم، والخلق الرفيع والتسامح وكل السجايا الحميدة، ونقرأ ذلك كله في سيرته وسلوكه منذ نعومة أظفاره ومصاحبته للنبي (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة وبعدها.. حتىٰ إسلامه ومعاناته وهجرته إلى استشهاده.
ولكن لا ينتهي الأمر بنا عند استشهاده إلا ويُفتح لنا بابٌ جديد نرى أنفسنا ملزمين باقتحامه وأن نقف متأملين نجيلُ الفكر فيما يفضي إليه ذلك الباب. فالوقوف عند موت عمار واستشهاده ليس أقل أهمية من سيرة حياته. لما يترتب على ذلك من آثارٍ هامة في تأريخ أمةٍ بأكملها على صعيد ما تدين به. إذ أن دين الإِسلام لم ولن ينتهي بانتهاء حياة الرسول. كما وأن المسلمين لم ولن يتركوا بدون قائد! ومن هنا كانت الفتن التي مزقت جسم الأمة.
غير أن ذلك لا يعني ضياع الحق وفقدان القائد، فالقائد موجود والحق قائم وأن تعامت عنه عيونٌ وصُمّت عن ندائه آذان.
وإنّ من دواعي التأمل أن يقرن التأريخ اسم محمد (صلى الله عليه وآله) بأبي سفيان! وعلي (عليه السلام) بمعاوية بل ويزيد بالحسين (عليه السلام)!!
فأبو سفيان قائد أول حرب عسكرية ضد الرسول (صلى الله عليه وآله) ورسالته، وليست آخر حرب، ومعاوية قاد الحرب الظالمة في صفين ضد ثاني قديس في الدولة الإِسلامية بعد الرسول. ثم تلاه ولده يزيد فقتل الحسين (سيد شباب أهل الجنة) ومعه رهط من آل محمد في كربلاء.
وما أروع ما قاله الشاعر:
آل حربٍ أوقدتم نار حربٍ ** ليس يخبو لها الزمان وقودُ
فابن حربٍ للمصطفى وابن هندٍ ** لعليٍّ وللحسين يزيدُ
إنّ معاوية بدهائه ومكره استطاع أن يجنّد بلاد الشام ونواحيها لحرب علي بن أبي طالب ولم يكن ذلك بالأمر السهل بتاتاً لولا أن ولايته التي دامت ثمانية عشر سنة تقريباً هي التي ساعدته على ذلك.
ففي سنة 15 هجرية ولّاه عمر بن الخطاب الأردن، وفي سنة 17 هجرية مات أخوه يزيد بن أبي سفيان الذي كان والياً على الشام من قبل عمر فولّاه إياها، وحين تولى عثمان الخلافة في سنة 23 هجرية أقره على عمله وضم إليه ولاية حمص وفلسطين والجزيرة، وبذلك مدّ له في أسباب السلطان إلى أبعد مدىً مستطاع (3).
إنّ هذه السنين الثمانية عشر كافيةٌ في إنشاء قاعدة قوية ينطلق منها أمير كان يطمح للملك وأن يبسط سلطانه على الدولة الإِسلامية سيما إذا اصطبغ بلون شرعي ينطلي على البسطاء من العامة، ككاتب الوحي، وقرابة الرسول، وخال المؤمنين والمولّى من قبل الخلفاء الراشدين، بل بإمكاننا التصور أن هناك جيلاً كاملاً لم يعرف والياً ولا مرشداً له غير معاوية، أما الزعماء والقادة فكانوا يعيشون في بحبوحةٍ من الترف والبذخ حياة فارهةً بما أعطى الله المسلمين من الفيء، وبذلك وطد أركان ملكه حتى أنه قال عن نفسه: أنا أول الملوك.
على ضوء هذا يمكننا الجزم بأن غالبية جنده كانوا مضللين مخدوعين، وأوضح دليل على ذلك أن عمرو بن العاص كان إذا غضب منه يهدده بما يفسد عليه أهل الشام، فكان معاوية يبادر إلى استرضائه، كما سيأتي.
إنّ معاوية اتّهم علياً بالهوادة في أمر عثمان وإيوائه قتلته في جيشه وعدم القصاص منهم كل ذلك حتى لا يفلس من الشام لأنه يعلم مسبقاً أن علياً لن يقرّه عليها وأنه ـ إذا استتب له الأمر ـ سيكون في عداد الولاة والأمراء المعزولين وسيخضع لحسابٍ عسير من على الذي لا يهادن ولا يمارج في أمر الله، وبالفعل فقد جرت وساطات لإِقناع علي (عليه السلام) في أن يقر معاوية على عمله، لكنه رفض، فقد أشار عليه المغيرة بن شعبة بذلك، فكان ردّه (عليه السلام): «لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً»(4).
لقد كان علي (عليه السلام) واضحاً في حجته حين كتب إلى معاوية: «إن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار.. الخ» (5).
لكن معاوية كان في أثناء مراسلاته لعلي يهيىء للحرب، فقد استطاع أن يشرب أهل الشام بغض علي مقنعاً إياهم أنه هو المسؤول عن دم عثمان وأنه يريد الثأر له فاستجابوا له على ذلك، بل وصل الجهل بهم أن هددوه بالعزل إن لم يفعل ذلك.
هذا إن لم يكن هو الذي أوحى لهم بأن يقولوا ذلك فكانت صفين.
واحتدمت الحرب بين الفريقين واستعرت نارها، وهنا كان لا بد من شاهد حق يدحض حجة الباغي ويجدع أنف الباطل، كان لا بد من شاهد حق يصدم تلك الأدمغة التي أمعنت في غيها وظلالها كي تعود إلى الصواب.. إلى جادة الحق.
لقد كان هذا الشاهد الحق هو عمار بن ياسر، وبالضبط: شهادة عمار بن ياسر! كلا الفريقين كانا يرويان حديث النبي (صلى الله عليه وآله) في عمار.. في صفين نفسها والحرب على قدم وساق كانت سيرة عمار بن ياسر تدور على ألسنة المتحاربين، حتى على ألسنة القادة الكبار منهم فعمرو بن العاص الذي يعتبر الدعامة الكبرى لمعاوية كان يروي حديث النبي في عمار ويلتفت إلى معاوية بعد أن لامه هذا الأخير في ذلك ويقول له: قلتها ولست أعلم الغيب، وقد رويتَ أنت فيه مثلما رويتُ (6)!
حين استشهد عمار بن ياسر دب الرعب والخوف في عسكر معاوية وكثر اللغط فيما بينهم وكادوا ينقسمون على أنفسهم لولا أن معاوية قال لهم: إنما قتله الذي جاء به وألقاه بين رماحنا! محاولاً بذلك إقناعهم.
وكان جواب الإِمام علي حين بلغه ذلك: إذن إنما قتل رسولُ الله حمزةَ لأنه ألقاه بين رماح المشركين!
لقد كان نبأ استشهاد عمّار يوازي في أهميته حقبةً من الجهاد الطويل المثمر لأنه كان الفاضح لفئةٍ تحارب وتقاتل باسم الحق وباسم الدين، بينما الحق والدين كانا مع عمّار! لقد كان شاهد حق مع علي وأصحاب علي.
وكان في نفس الوقت حرباً على معاوية ومن معه من البغاة.
رحم الله أبا اليقظان، فلقد أعطانا بشهادته عدل ما أعطانا من حياته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبقات الكبرى 3 / 251 ـ 252.
(2) البحار 22 / 326.
(3) الطبري 4 ص 60 وص 241 وأبو ذر الغفاري المؤلف ص 108.
(4) الإمامة والسياسة: 86 وشرح نهج البلاغة 3 / 84.
(5) شرح النهج: 3 / 75.
(6) صفين: 345.