الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
حريز بن عكاشة
المؤلف:
أحمد بن محمد المقري التلمساني
المصدر:
نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب
الجزء والصفحة:
مج3، ص:558-561
21-1-2023
1504
حريز بن عكاشة
ومن غريب ما يحكى من قوة أهل الأندلس وشجاعتهم : أن الأمير حريز بن عكاشة(1) من ذرية عكاشة بن محصن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بساحة أذفونش ملك ملوك الروم ، فبدأهم بخراب ضياعها وقطع الشجر ، فكتب إليه حريز : ليس من أخلاق القدير ، الفساد والتدمير ، فإن قدرت على البلاد أفسدت ملكك ، ولو كان الملك في عشرة أمثال عددي لم ينزل لي بساحة ، ولا تمكن منها براحة ، فلما وصلته الرسالة عف ، وأمر بالكف ، وبعث الملك يرغبه في الاجتماع به ، فاستر هنه في نفسه عدة من ملوك
558
الروم ، فأجاب إلى ما ارتهن ، ولما صاروا بالمدينة البيضاء – وهي قلعة رباح غربي طليطلة ـ خرج حريز لابسا لأمة حربه يرمق الروم منه شخصا أوتي بسطة في الجسم والبسالة يتعجبون من آلات حربه ، ويتحدثون بشجاعة قلبه ولما وصل فسطاط الملك تلقته الملوك بالرحب والسعة ، ولما أراد التزول عن فرسه ركز رمحه، فأبصر الملك منه هيئة تشهد له بما عنه حدث ، وهيبة يجزع للقائها الشجاع ويكترث ، فدعاه إلى البراز عظيم أبطالهم ، فقال له الملك : يا حريز أريد أن أنظر إلى مبارزتك هذا البطل ، فقال له حريز : المبارز لا يبارز إلا أكفاءه ، وإن لي بينة على صدق قولي أن ليس لي فيهم كفء ، هذا رمحي قد ركزته ، فمن ركب واقتلعه بارزته ، كان واحداً أو عشرة ، فركب عظيمهم فلم يهز الرمح من مكانه حين رامه ، ثم فعل ذلك مراراً ، فقال له الملك : أرني يا حريز كيف تقلعه ، فركب وأشار بيده واقتلعه ، فعجب القوم ، ووصله الملك وأكرمه ، انتهى .
وكان حريز هذا شاعراً ، ولما اجتاز به كاتب ابن ذي النون الوزير أبو المطرف ابن المثنى كتب إليه (2):
يا فريدا دون ثان وهلالاً في العيان
عدم الراح فصارت مثل دهن البلسان
فجاوبه حريز ، وهو يومئذ أمير قلعته:
يا فريداً لا يجارى بين أبناء الزمان
جاء من شعرك روض جاده صوب البيان
فبعثناها سلافا كسجاياك الحسان
559
وكان لحريز كاتب يقال له عبد الحميد بن لاطون فيه تغفل شديد ، فأمره أن يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شأن حصن دخله النصارى ، فكتب وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن ، بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان ، فإنا لله على هذه المصيبة التي هدت قواعد المسلمين ، وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين ، فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض ، وكتب لابن عكاشة جوابه ، وفيه وقد عهدناك منتقياً لأمورك ، نقاداً لصغيرك وكبيرك ، فكيف جاز عليك أمر هذا الكاتب الأبله الجلف ، وأسندت إليه الكتب عنك دون أن تطلع عليه ، وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه ، ورائد عقله خطابه وما أدري من أي شيء يتعجب منه هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي ؟ أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه ؟ أم من تورعه عن تأويله إلا بتوقيف من سماع عن إمام ؟ أم من تهويله لما طرأ على متن يخاطبه ؟ أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهوله شيئاً ؟ ولو أن حقيراً يخفى عن علم الله تعالى لخفي . عنه هذا الحصن ، ناهيك من صخرة حيث لا ماء ولا مرعى ، منقطع عن بلاد الإسلام خارج عن سلك النظام ، لا يعبره إلا لص فاجر ، أو قاطع طريق غير متظاهر ، حراسه لا يتجاوزون الخمسين ، ولا يرون خبز البر عندهم إلا في بعض السنين ، باعه أحدهم بعشرين ديناراً ، ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه ، فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل ، حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل .
فلما وقف حريز على الكتاب كتب لا بن ذي النون جواباً منه : وإن المذكور ممن له حرمة قديمة ، تغنيه عن أن يمت بسواها، وخدمة محمود أولاها وأخراها ، ولسنا ممن اتسعت مملكته ، وعظمت حضرته ، فنحتاج إلى انتقاء الكتاب ، والتحفظ في الخطاب ، وإنما نحن أحلاس' ثغور ، وكتاب كتائب
560
لا سطور ، وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم ، فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم ، وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان ، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان ، وليس ذلك يقدح عندنا فيه ، بل زاده لكونه دالا على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه ، انتهى.
ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء ، وقد يتنبه فيه تنبه الأذكياء ، فمنه قوله من قصيدة يمدح حريزاً المذكور مطلعها:
يذكرني بهم العنبر وظلم ثنايـاهم سكر
إلى أن قال:
ولولا معاليك يا ذا الندى لما كان في الأرض من يشعر
فلا تنكرن زحامـا على ذراك وفي كفك الكوثر
ومشى في موكبه وهم في سفر ، وكان في فصل المطر والطين ، فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكاشة ، فلما أثارت يدا فرسه طيناً جاء في عنق أميره ففطن لذلك الأمير ، فقال له: يا أبا محمد ، تقدم ، فقال : معاذ الله أن أسيء الأدب بالتقدم على أميري ، فقال فإن كان كذلك فتأخر مع الخيل فقال مثلي لا يزال عن ركابك في مثل هذه المواضع ، فقال له : فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا فرسك علي من الطين ، فقال أعز الله الأمير ، يعذرني ، فو الله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك ، فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قد مر شيء عنه ص: 358 وانظر الحلة ٢ : ١٧٦ – ۱۷۹.
2- مرت هذه الحكاية ص : ٣٠٨ وانظر الحلة ٢ : ١٧٩ والمطمح: 30.