الجبرية
المؤلف:
صائب عبد الحميد
المصدر:
المذاهب والفرق في الاسلام (النشأة والمعالم)
الجزء والصفحة:
ص71-75
26-05-2015
1421
لقد احتاج
الاُمويون منذ البداية إلى تبرير سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي ، فذهبوا إلى تأويل
بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير ، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما
هو من قضاء الله تعالى وقدره ، وليس من أيدينا ، بل حتّي مناصبهم هذه فهي من الله تعالى
فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم ، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع
الملك ممّن يشاء !! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك
! وليكونوا مخولين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك . . وبمثل هذا التأويل الفاسد أصبح يتكلّم
بعدهم علماء كبار !! يقول ابن العربي في معرض « تأسّفه ! » على مصرع الحسين عليه السلام
: « ولو لا معرفة أشياخ الصحابة وأعيان الاُمّة بأنّه أمر صرفه الله عن أهل البيت .
. . وما أسلموه أبداً » ! (1)
والحقّ أنّنا
لو تقدّمنا في عمق التاريخ لو جدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق
بها على لسان عمر بن الخطاب ، وهو يردّ على ابن عباس تذكيره بإرادة رسول الله صلى الله
عليه واله في تنصيب عليّ لخلافته ، فيقول : وماذا كان ، إذا أراد رسول الله شيئاً غيره
؟!
وفي الحالين
كان ( نظام الغَلَبة ) هو الباعث إلى هذه المقولة !
ولقد حاول
معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة ، لكنه اصطدم في أول محاولة له بعقل حرّ
أفسد عليه حيلته : خطب معاوية خطبةً قال فيها : إنّ الله تعالى يقول : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } [الحجر :
21] فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم ؟!
فقال له الأحنف
بن قيس : إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه
فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه ! (2)
عندئذ أخذتْ
هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الاُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ
واسع في وقت مبكّر جداً .
ـ قيل لابن
عبّاس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل الله تعالى ، وأنّ الله
أجبرهم على المعاصي !
فقال : لو
أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر
اللهُ علي المعاصي ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد عاملون ! (3)
ـ ولقد أدرك
ابن عبّاس أنّ مصدر هذا الانحراف الفكري هو السلطة وأنصارها ، فخاطبهم خطاباً عنيفاً
، قال فيه : أتأمرون الناسَ بالتقوى وبكم ضلّ المتّقون ؟! وتنهونَ الناس عن المعاصي
وبكم ظهر العاصون ؟! يا أبناء سَلَف المنافقين ، وأعوان الظالمين ، وخزّان مساجد الفاسقين
! هل منكم إلا مفتر على الله ، يجعل إجرامه عليه سبحانه وينسبه علانيةً إليه ؟! (4)
ـ واقتحمت
هذه العقيدة البصرة ، ورقت إلى مجلس الحسن البصري ، فزجر أصحابها وقال : «إنّ الله خلقَ الخلق للابتلاء ، لم يطيعوه بإكراه ولم يعصوه
بغَلَبة ، وهو القادر على ما أقدر هم عليه ، والمالك لما ملكهم إيّاه ، فإن يأتمروا
بطاعة الله لم يكن لهم مثبّطاً ، بل يزيدهم هدىً إلى هداهم وتقوىً إلى تقواهم ، وإن
يأتمروا بمعصية الله كان الله قادراً على صرفهم ، إن شاء حال بينهم وبين المعصية ،
فمن بعد إعذار وإنذار » (5) .
ورغم تلك المواجات
فقد ترقّى الأمر بهذا المذهب حتّى دان به كبار من أهل العلم ودافعوا عنه حتّى أصبح
هو المذهب الغالب في ملّة الإسلام ، حتّى انتقل إلى الأشعري فعزّزه ونفخ فيه روحاً
جديدة ، بعد تعديل لفظي أدخله بعنوان ( الكسب ) (6)
وهو مفهوم اعتباري ليس له أيّ قيمة حقيقية ، وإنّما اُريد به التميز عن الجبرية الخالصة
التي طالما سخر منها الأشعري أيّام كان معتزليّاً .
ومنذ زمن عبد
الملك بن مروان كان أقطاب هذا المذهب في الشام يروجون لفكرة جديدة تساهم في تطويره
، لكنّها افتضحت حين لم يتقنوا صياغتها ، إذ كانوا يقولون : إنّ الله إذا استرعى عبداً
رعيّته كتبَ له الحسنات ، ولم يكتب عليه السيئات ! . لكنّها كانت مقولة هزيلة تردّد
حتّى الوليد بن عبد الملك في قبولها (7) .
وبقيت هذه
المقولة تَتّهم الله تعالى بإكراه العبد على المعاصي ، وأنّه تعالى هو الخالق لهذه
المعاصي التي تجري على أيدي العباد ، ثمّ هو يعذّبهم عليها! بحجّة ساذجة يردّدونها
دوماً ، مفادها أنّ الله تعالى لا يُعصى مكرَهاً ، فهو إذن لا يعصى إلا وهو يريد هذه
المعصية أن تقع من العاصي ، ثمّ هو الذي يخلقها فيه لأنّه {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات : 96] ! هكذا
دون تمييز بين إرادة تكوينية وإرادة تشريعية ، ولا معرفة صادقة بمعاني هيمنة الله تعالى
وقدرته .
__________________
(1) العواصم
من القواصم ـ بتعليق محب الدين الخطيب : 245 .
(2) ربيع الأبرار
/ الزمخشري : 683 ـ منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ 1410 ه .
(3) المذاهب
الإسلامية : 173 عن ( المنية والأمل ) للمرتضى .
(4) المذاهب
الإسلامية : 172 .
(5) العقد
الفريد / ابن عبد ربه 2 : 83 ـ دار ومكتبة الهلال ـ بيروت ـ 1986 م ، ونحوه في المذاهب
الإسلامية : 172 ـ 173 عن المنية والأمل .
(6) اضطربوا
في تعريف الكسب كثيراً ، والمحصل أنّ بين قدرة الله المؤثرة على العبد و بين إيجاد
الله لأفعال العبد ، هناك قدرة حادثة مقارنة لقدرة الله ، وهي الكسب . . وقد اعترف
متأخروهم بأنّ هذا الكلام لا معنى له ، إذ ما فائدة وجود قدرة ليس لها أي دور إلا الاقتران
؟ [ إليواقيت والجواهر / الشعراني 1 : 140 ـ مصطفى البابي الحلبي ـ مصر ـ 1959 م ]
وقد طعن أكثر الناس بنظرية « الكسب » وقالوا : عجائب الكلام ثلاثة : طفرة النظّام ،
وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري ! وأنشد بعضهم في ذلك :
مما يقالُ ولا حقيقة تحته *** معقولة ، تدنو إلى الأفهام
الكسبُ عند الأشعري والحالُ عن *** د الهاشمي
، وطفرةُ النظّام
[ منهاج السنّة
/ ابن تيمية 1 : 127 ] .
(7) اُنظر
استفساره من الزهري في إبطالها : العقد الفريد 1 : 46 .
الاكثر قراءة في الجبرية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة