مازالت الدراما خير وسيلة لمخاطبة الأسرة، فهي تصل إلی أفرادها جميعا، وعلی اختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية والاجتماعية، فقد يكون المشاهد متلقيا من عامة الناس أو نخبويا أو مثقفا..الخ ، فلا تقييد في نمط الجمهور بخلاف المسرح علی سبيل المثال!
وهنا وددت أن أتحدث عن مسلسل" أعقل المجانين" الذي كتبه المبدع السوري عبد الغني حمزة، وهو مسلسل يتناول شخصية "أبي وهب البغدادي". وكيف فرّ بدينه من دنياه، وكيف استلّ نفسه من منصب قاضي القضاة، كي لايكون سيفا مسلطا لبني العباس، وكي لا يبيع آخرته، فيغضب ربه ويوقع علی إعدام ابن بنت رسول الله، الإمام موسی بن جعفر(ع)، فرضي أن يحمل عصاه ويدور في الأزقة متظاهرا بالجنون،أو لنقل: إنه عاش الجنون وتنازل عن هيبته في دنياه من أجل حفظ هيبته، وسلامة موقفه أمام رسول الله وأهل بيته (صلوات الله عليهم) في الآخرة، وفي هذا العمل الدرامي الضخم المتكون من ثلاثة أجزاء، تدهشك الحوارات الفكرية والعقائدية الرائعة، وتدهشك قدرة الكاتب وقدرة الممثلين ولاسيما البطل(اندريه سكاف) علی نقل الصورة الاجتماعية والاقتصادية للحياة في بغداد في العصر العباسي، ولكن الأكثر دهشة؛ قدرة المؤلف والبطل علی نقل الحالة النفسية لإنسانٍ يحمل هذا العبء، ويتحمل هذه المسؤولية الكبيرة، ويضحي هذه التضحية العظيمة في سبيل دينه وإمامه، وهم في ذلك كله يعرضون الحوارات بموضوعية وحيادية، وفي أغلب الأحيان لايتم التصريح بالموقف من الخلفاء العباسيين؛ وإنما يتركون شخصيات الأبطال تعمل لوحدها من دون تقييد، ومن دون فرض نتائج مسبقة علی المشاهد!!
والأجمل في المادة التي يقدمها الكاتب، ويترجمها البطل؛ الخطاب الروحي، والتحليقات الملكوتية عن طريق الدعاء، والحوار بين العبد وربه، فقد وجد(أبو وهب) من يخفف عنه غربته، ومن يعينه ويمده بالصبر والقوة والثبات، وجد من يغنيه عن العالم كله، فكل الضجيج الذي يعيشه خلال يومه، مابين مواقف يتعرض لها، ومابين تحمل مسؤولية مساعدة المظلومين والمحتاجين من فقراء الناس، ومابين مجازفاته وتحدياته في مجالس الخلفاء والوزراء والقضاة، كل هذا الحمل الثقيل، تبدده لحظة الوصال واللقاء مع الله عبر أثير الدعاء!!
ولايستطيع المشاهد إلا أن يخشع مع كلمات دعاء كميل، بصوت أبي وهب، وترتقي روحه مع كفيّه المرفوعة بالدعاء، وتسيل دموعه معه، وتحلق النفس الحائرة مع نظرته تجاه السماء،فيجد المشاهد نفسه يردد ما يدعو به أبو وهب من دعاء كميل:
فَإِلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهِي، وَإِلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدِي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لِي دُعائِي، وَبَلِّغْنِي مُنَايَ، وَلا تَقْطَعْ مِنْ فَضْلِكَ رَجَائِي، وَاكْفِنِي شَرَّ الجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ أعْدائِي. يا سَرِيعَ الرِّضَا اغْفِرْ لِمَنْ لا يَمْلِكُ إِلَّا الدُّعاءَ، فَإِنَّكَ فَعَّالٌ لِما تَشاءُ، يامَنِ اسْمُهُ دَواءٌ، وَذِكْرُهُ شِفاءٌ، وَطاعَتُهُ غِنىً، ارْحَمْ مَنْ رَأسُ مالِهِ الرَّجاءُ وَسِلاحُهُ البُكاءُ، يا سَابِغَ النِّعَمِ يا دافِعَ النِّقَمِ، يا نُورَ المُسْتَوْحِشِينَ فِي الظُّلَمِ، يا عالِماً لا يُعَلَّمُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ"
فدعاء كميل؛ تربية للنفس وترويض لها من جهة، ومن جهة أخری هو دعوة للتمسك والتشبث بالأمل، الأمل بالله تعالی ورحمته الواسعة، ودعاء كميل، هو تنمية للذات،يمنحها دفقات من الإصرار والثقة والقوة، فلا( أنا) يائسة، ولا (أنا) دونية طامسة، ولا (أنا) متورمة فارغة، مليئة بالأوهام؛ بل ذات مؤمنة، مستيقنة، مدركة لمعنی رحمة الله الواسعة، (أنا)تدرك معنی أن الدنيا زائلة، وأنها ممر سريع، يحدد الشخص نفسه المكان الذي ينتهي إليه هذا الممر،ويرسم له الخاتمة.
وهكذا قدمت لنا الدراما السورية عملا فنيا تربويا هائلا،يربي ويعلم ويصنع ويدفع ويرفع ويقي ويقوّي ويسند ويرسم ويكشّف الحقائق، ويميط اللثام عنها، ويزرع في البراعم الذكاء والفطنة واللسان السليم وسرعة البديهة،والبصيرة و الثبات!!
وهكذا كان( أبو وهب)، فهو من مدرسة دعاء كميل، تلك المدرسة التي شيّدها علي بن أبي طالب(ع)، الذي قال فيه رسول الله الأعظم(صلی الله عليه وآله):(أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه).







وائل الوائلي
منذ 5 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN