كان يبدو صديقًا حقيقيًا، قريبًا للروح، تتحدث إليه فيفهمك دون أن تشرح كثيرًا. عاش بينك زمنًا من المودّة والصدق الظاهري، حتى ظننت أن صداقتكما من النوع الذي لا يتبدّل. لكنك كنتَ مخدوعًا أو بالأحرى كنت ترى الوجه الذي أراد أن يُريك إياه.
فجأة تغيّر.
صار يتصرف بسوء، يتحدث عنك في غيابك، يذكرك بأقبح الكلام، لا يسلّم إن سلّمت، ويتصيّد زلاتك التي لم تكن تهمّه يومًا. وعندما اخترت الصمت والتجاهل، ظنّ أنك تحتقره، فزاد من حديثه عنك.
هذا التحوّل المفاجئ ليس لغزًا أخلاقيًا فقط، بل ظاهرة نفسية تستحق التأمل والتحليل.
1. الصديق الذي لم يكن صادقًا مع نفسه
في علم النفس، كثير من الناس يبدون لطفاء لا لأنهم كذلك فعلًا، بل لأنهم يحتاجون أن يُروا بهذه الصورة.
هذا ما يسمى في علم النفس بـ "القناع الاجتماعي" (Social Mask)، وهو السلوك الإيجابي المؤقت الذي يتخذه الإنسان ليحصل على القبول أو الإعجاب.
لكن هذا القناع يسقط حين يواجه أول اختبار حقيقي: مثل التجاهل، أو فقدان الاهتمام، أو شعوره بأنه لم يعد مركز العلاقة.
حينها يظهر وجهه الحقيقي، لأن الصداقة بالنسبة له لم تكن تواصلاً إنسانيًا، بل مصدرًا لتغذية الأنا.
فإذا توقفت عن تغذيته بالاهتمام، يبدأ بالهجوم عليك ليعيد لنفسه الإحساس بالتفوّق.
2. الإسقاط النفسي: عندما يراك مرآةً لضعفه
في نظرية التحليل النفسي، هذا السلوك يُفسَّر بوضوح من خلال آلية تُسمى الإسقاط (Projection).
الفرد الذي لا يحتمل رؤية ضعفه أو إحباطه في ذاته، يقوم بـ إسقاطه على الآخرين.
فبدل أن يعترف بأنه يشعر بالنقص أو الخذلان، يبدأ بالقول أو الاعتقاد بأنك أنت السيئ، أو المتغيّر، أو الخائن.
حين يتحدث عنك بسوء، هو في الحقيقة يتحدث عن نفسه دون أن يدري.
هو لا يحتمل صورتك الهادئة بعد أن تجاهلته، لأنها تذكّره بمدى اضطرابه الداخلي.
3. الجرح النرجسي
من المحتمل أن هذا الصديق يعاني مما يُعرف في علم النفس بـ "الجرح النرجسي" (Narcissistic Injury)، وهو الأذى النفسي الذي يصيب الشخصية النرجسية عندما تفقد الإعجاب أو الاهتمام الذي تتغذى عليه.
التجاهل بالنسبة له ليس موقفًا عابرًا، بل طعنة في كبريائه.
ولأن كبرياءه هشّ، لا يستطيع مواجهته بنضج، فيلجأ إلى الهجوم اللفظي وتشويه صورتك أمام الآخرين، في محاولة لاستعادة توازنه.
وهذا ما يفسّر قوله السيئ عنك، وسلوكه المتناقض بين التقرّب سابقًا والعدوان لاحقًا.
4. الصراع بين القناع والذات
في داخل مثل هذا الشخص صراع مستمر بين صورته القديمة كصديقٍ طيب وصورته الجديدة كمهاجم.
علم النفس يرى أن هذه التناقضات تنشأ من ضعف الهوية الانفعالية، أي أنّ الشخص لم يبنِ لنفسه أساسًا ثابتًا من القيم، بل يتشكل وفق الموقف ومصلحة الأنا.
وحين تتغير الظروف، تتغير أخلاقه تبعًا لذلك.
5. التجاهل: مرآة تفضح النفوس
التجاهل في العلاقات لا يصنع الكراهية، بل يكشفها.
فالشخص السويّ نفسيًا حين يُتجاهل، قد يتألم، لكنه يحترم المسافة، ويفكّر بهدوء.
أما من يعاني اضطرابًا في التوازن النفسي، فيرى التجاهل تهديدًا لوجوده، فيبدأ بالرد عليه بالكلام الجارح والسلوك السلبي.
وهذا ما حدث مع هذا الصديق الذي لم يتحمّل أن يخرج من دائرة الاهتمام، فحوّل الألم إلى عدوان.
6. القراءة النهائية في علم النفس
في علم النفس التحليلي، يُقال: من يتحدث عنك بعدك، لم ينسك بل لم يتجاوز نفسه.
فالصديق الذي كان يومًا طيبًا ثم تحوّل إلى من يذكرك بسوء، لم يتغيّر فجأة، بل انكشف على حقيقته بعد أن توقفتَ عن دعمه العاطفي غير المقصود.
إنه يعاني من فراغ داخلي، فيحاول ملأه بالحديث عنك.
وهذا ما يُسمى "التعويض العدواني" (Aggressive Compensation)، أي أنّ الفرد يهاجم ما يشعر أنه فقد السيطرة عليه، حتى يشعر مؤقتًا بالقوة.
7. من منظور النضج النفسي
النضج النفسي يعني أن تبقى أخلاقك ثابتة حتى في غياب الآخرين، وأن لا تدع التجاهل يُحرّض داخلك الرغبة في الانتقام.
أما من يتغيّر مع تغيّر الموقف، فهو ما زال رهين ردّات الفعل، لم يصل بعد إلى مستوى النضج الذي يوازن بين العاطفة والعقل.
في النهاية، من كان يومًا صديقًا طيبًا ثم أساء إليك بعد التجاهل، لم يتحوّل من الخير إلى الشر، بل فقط أزال قناعه النفسي.
سوء الأخلاق الذي ظهر ليس جديدًا، بل هو ما كان يختبئ خلف مظهر اللطف.
وفي علم النفس، يُقال إنّ الابتعاد الصامت يكشف أكثر مما تفعله الكلمات.
فكن مطمئنًا:
من يتحدث عنك بسوء بعد أن كنتَ سببًا في خيره، هو لا يهاجمك بل يحاول أن يهرب من مواجهة نفسه.







د.فاضل حسن شريف
منذ 5 دقائق
تذكرة شهر رمضان المبارك
هي المواكب إن كنتَ تجهلها ..
المرجعية صرح شاهق
EN