في إحدى القُرى الوادعةِ، عاشَ رجلٌ يُدعى "أبو خالد"، جمعَ مِنَ المالِ والثَّراءِ ما جعلَهُ سيّدًا في أعيُنِ الناسِ، إلّا أنَّ البخلَ الذي يسكنُ روحَهُ حجبَهُ عنْ كرمِ الأخلاقِ، حتّى صارَ ذكرُهُ بينَ أهلِ قريتهِ مقرونًا بالحِرصِ والأنانيّةِ. كانَ بيتُهُ عامرًا بالخيراتِ، لكنَّهُ مُغلَقُ الأبوابِ، وبئرُهُ مليئةً بالماءِ، لكنَّها لا تروي سوى عطش نفسِهِ.
كانَ لأبي خالدٍ ولدانِ: خالدٌ، شابٌّ طيّبُ القلبِ، وأمينةُ، فتاةٌ تتوقّدُ ذكاءً وحُبّاً للخيرِ. لكنّهما كانا يعيشانِ حياةً تَعِسَةً، إذ لم يكُنْ والدُهُما يُنفقُ عليهِما إلا ما يسدُّ الرمقَ ويسترُ الحالَ. وكانتْ أمُّ خالدٍ كثيرًا ما تناشدُهُ بالقَولِ:
"يا أبا خالدٍ، أنفِقْ ممّا رزقَكَ اللهُ، فالمالُ لا يُخلِّدُ صاحبَهُ"
ولكنّهُ كانَ يردُّ عليها بحِدَّةٍ:
"هذا المالُ حصادُ سنينَ تَعبِي، ولنْ أضيعهُ على أمورٍ لا طائلَ منها"
في عامٍ شحّتْ فيهِ الأمطارُ، واجتاحَ الجفافُ القريةَ، بدأَ أهلُها يُعانونَ نقصَ الماءِ والطعامِ. قصدَ بعضُ الجيرانِ بيتَ أبي خالدٍ، يرجونَ أنْ يُسعِفَهُم بقطراتٍ منَ الماءِ منْ بئرهِ العامرةِ. إلّا أنّهُ صدَّهُم بجَفاءٍ:
"ما عِندي ليسَ لَكُم، فابحثُوا لأنفُسِكُم عنْ حَلٍّ"
عادَ الجيرانُ بقلوبٍ مُثقَلَةٍ، بينَما تناقلُوا في القريةِ حديثًا عنْ بُخلِ أبي خالدٍ، فصارَ مضربَ المثلِ في الأنانيّةِ والجَّفاءِ.
بعدَ أشهُرٍ، أُصيبَ خالدٌ الابنُ بمَرَضٍ شديدٍ ألزمَهُ الفراشَ، وأخبرَ الطبيبُ أبا خالدٍ أنَّ علاجَ ابنهِ يتطلَّبُ دواءً نادرًا باهظَ الثَّمنِ. حينَها قالتْ أمُّ خالدٍ لزوجِها بصَوتٍ مُتَهدِّجٍ:
"أرجوكَ يا أبا خالدٍ، هذا وَلدُكَ أنفِقْ عليهِ ممّا رزقكَ اللهُ قبلَ أن نفقدَهُ."
لكنَّ البخلَ تغلغلَ في قلبهِ، فقالَ:
"الأطباءُ لا يفقهونَ سوى امتصاصِ المالِ. سيشفى خالدٌ منْ تلقاءِ نفسهِ، ولنْ أضيعَ مالي على هذهِ الأوهامِ."
معَ مرورِ الأيّامِ، تدهورتْ حالةُ خالدٍ حتّى فاضَتْ روحُهُ إلى بارئها. عندَها، انكسرَ قلبُ أمِّ خالدٍ وعمَّ الحزنُ بيتَهُم. أمّا أبو خالدٍ، فظلَّ جالسًا بجانبِ جُثمانِ ابنهِ، يداهُ ترتعشانِ ودموعُهُ تنسابُ على وجنتيهِ، وهُوَ يردِّدُ:
"يا حَسرتي على ما فَرَّطتُ هل ينفعُ المالُ بعدَ رحيلهِ"
انتشرَ خبرُ وفاةِ خالدٍ في القريةِ، وازدادَ الناسُ نفورًا منْ أبي خالدٍ. صارَ حينَ يمرُّ في السوقِ يشيحونَ بوجوههِم عنهُ، ويتهامَسونَ:
"مَنْ ضَنَّ بمالهِ عنِ الخيرِ، لَقِيَ العارَ في دُنياهُ قبلَ آخرَتِهِ."
تذكّرَ أبو خالدٍ قولَ اللهِ تَعالى:
وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ
فأدركَ أنَّ البخلَ لم يجلبْ لَهُ سوى الخزيّ والخسارَة.
حاولَ أبو خالدٍ أنْ يكفّرَ عنْ خطيئتِهِ. بدأَ يتصدّقُ على الفقراءِ والمحتاجينَ، وفتحَ أبوابَ بيتهِ للنّاسِ، لكنّهُ لم يستطعْ نسيانَ أنَّ بخلَهُ كلَّفَهُ ابنَهُ وكرامتَهُ. عاشَ ما تبقَّى منْ عمرهِ في كرمٍ وسَخاءٍ، لكنّهُ كانَ يحمِلُ دائمًا في قلبهِ جرحًا لا يندملُ، إذ كانَ يدركُ أنَّ بعضَ الأخطاءِ لا يُصلحُها ندمٌ، وأنَّ المالَ بلا بركةِ الخيرِ وبذلهِ لا يزيدُ صاحبَهُ إلا خُسرانًا.
البخلُ عارٌ لصاحبهِ، يَهوي بهِ في مَهاوي الذُّلِّ والهَوانِ، ويحجبُ عنهُ محبّةَ الناسِ واحترامَهُم. المالُ نعمةٌ تُصانُ بالبذلِ في مواضعِ الخيرِ، إذ قالَ اللهُ تعالى:
وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فالذينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.
-----------------
قالَ الإمامُ عليٌّ (عليهِ السَّلامُ):
(الْبُخْلُ عَارٌ).







وائل الوائلي
منذ 7 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN