أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-4-2018
735
التاريخ: 25-4-2018
523
التاريخ: 21-4-2018
1459
التاريخ: 21-4-2018
627
|
تصوّر معي رجلا يسير في أحد شوارع المدينة مع صبي صغير، ثم تصور أن يمر الرجل والصبي بمطعم يعرض بعضا من أصناف الطعام الشهي، وتنبعث منه رائحة مشهية لبعض الشواء، فيسترعي كل هذا انتباه ذلك الصبي، ويسيل له لعابه، ويحس بالجوع، فينطق بمجموعة من الاصوات اللغوية، ويقول للرجل جملة مثل (هات شطيرة من هذا الشواء). وهنا نرى الرجل يتقدم نحو ذلك المطعم، ويخرج بعضا من النقود، ويشتري تلك الشطيرة، ويناولها للصبي فيلتهمها التهاما مسرورا مغتبطا.
ففي هذا الحدث الصغير على بساطته تمت عمليات كثيرة بعضها عضوي وبعضها نفسي قبل أن يتحقق على صورة من الصور. وأولى تلك العمليات أن شعاعا من الضوء قد انعكس على عيني الصبي من ذلك الطعام المعروض، ففسره الصبي بأن أمامه طعاما شهيا، وقد صحب هذا الضوء المنعكس رائحة تعود الصبي أن يشمها مع كل طعام يشتهيه، وتصادف في الوقت نفسه أن كل صبي يحس بإفراز في فمه الذي نسميه باللعاب، وبإفراز في معدته في شكل عصارة تولد الإحساس بألم الجوع. وكل عملية من تلك العمليات تتطلب من المتخصص دراسة طويلة وبحوثا مستفيضة، فطبيب العيون يفسر لنا في مجلدات ضخمة، كيف تنعكس أشعة الأشياء المرئية على العيون وكيف تتم الرؤية، وطبيب الأنف يوضح لنا كيف يكون الشم وكيف يرتبط بالتجارب السابق لكل منا، مما قد يستنفد في بحثه زمنا طويلا، وجهدا عقليا كبيرا. وطبيب ثالث يفسر لنا كيف يتم إفراز اللعاب، ويوضح لنا كنه العصارة المعدية، وما تتركب منه، وأثرها في شعور الإنسان، ويتطلب كل هذا بحوثا علمية يتوافر عليها نخبة من ذوي العقول الجبارة في مجال من البحث يشترك فيه الطبيب الكيميائي والصيدلي وغيرهم.
وتتم كل هذه العمليات المعقدة لدى الصبي في سرعة لا تكاد تجاوز بضع ثوان، بعدها ينطق الصبي بتلك الاصوات اللغوية. فهي الشرط الأول الذي لابد أن يتحقق حتى يمكن أن يكون هناك مثل ذلك النطق.
ص39
أما عملية النطق فيشترك فيها هواء الرئتين، ويشترك فيها الحنجرة واللسان والشفتان، وتتم عدة أشكال وأوضاع للسان في الفم، وعدة أشكال وأوضاع للشفتين. بعدها يصدر الهواء إلى الخارج، وينتقل في شكل موجات معينة إلى أذن السامع؛ فتحدث في طبلتها أثرا خاصا، هو الذي تحمله أعصاب الأذن الى المخ فيفسرها أو يفهمها.
أما ما بعد النطق والفهم فكأن يسارع الرجل الى تلبية رغبة هذا الصبي، ويخرج نقوده، وينتظر دوره في الشراء، ويتحمل الوقوف والانتظار الى أن يعد له صاحب المطعم ما يشتهي. وعملية الشراء ودفع تلك العملة الرمزية نظير شيء مرغوب فيه، يستعين به المرء على دفع ضرر محقق هو الرجوع وما قد يترتب عليه. هذه العملية الشرائية يبحثها رجل الاقتصاد في علمه الذي تنظم المعاملات بين الناس.
بهذا نرى أن الحدث الصغير من أحداث الحياة يتطلب عمليات كثيرة معقدة، بعضها يسبق النطق ويمهد له، ثم عملية النطق نفسها التي تتم بعدها عمليات أخرى. وكل هذه العمليات ضرورية لصحة الفهم والتفاهم، ولا يتم هذا الفهم أو التفاهم إذا نقصت تلك العمليات عنصرا من عناصرها.
ولسنا نزعم أن الظروف التي أحاطت بالصبي في مثلنا السابق تؤدي حتما وفي كل مرة الى العبارة نفسها التي نطق بها الصبي. فقد يرى الطعام ويشم الشواء ويحس بالجوع، ومع هذا ينطق بعبارة أخرى ولا ينطق؛ إذ يتوقف هذا على صلة الصبي بالرجل، وتجاريه معه، فقد يكون الرجل والدا لهذا الصبي يدلله ويلبي كل طلباته. وقد يكون الصبي خجولا فلا يتكلم، وقد تكون تجاربه السابقة مع هذا الوالد لا تشجعه على النطق. كذلك ليس من الضروري أن يسارع الرجل الى تلبية طلب الصبي، فقد يكون خالي الوفاض لا يملك من المال ما يسمح بمثل هذا الشراء، أو قد ينفر من أن يزج بنفسه في وسط الشرايين المتزاحمين على الطعام، فيصرف الصبي في رفق أو عنف، الى غير ذلك من الظروف والأحوال والملابسات، التي لا تكاد تحصى عندما نحلل مثل ذلك الحدث الصغير البسيط.
ص40
ويُعنى اللغوي عادة بالتعرف على الدور الذي تقوم به العبارة المنطوقة، أو تلك الأصوات اللغوية التي تصدر من الفم وتتلقفها الأذن. ويتضح هذا الدور حين نتصور أن الصبي كان وحده، وأحاطت به الظروف نفسها من رؤية الطعام والإحساس بالجوع، هنا نراه قد يندفع في صمت نحو المطعم ويشتري منه، أو يختطف في خلسة بعض الشطائر. ومثله حينئذ مثل الحيوان الأعجم حين يرى الطعام أو يشمه فيندفع نحوه في شكل غريزي ليحصل منه على ما يسد رمقه، ويمنع عنه ضررا محققا هو نتائج الجوع من مرض أو هزال. وقد ينجح في عمله فيحصل على طعام وقد يفشل فيظل جائعا، فالإنسان الصامت يشبه الحيوان الأعجم إلى حد كبير.
أما الانسان الناطق فهو في ظروف مؤاتية أكثر توفيقا وأقرب الى تحقيق أهدافه؛ إذ يستعين بأخيه الإنسان، ويتعاون معه على الوصول إلى ما يشتهي بوساطة تلك الوسيلة التي ندعوها اللغة، والتي تنظم كل الصلات بين أفراد مجتمع من المجتمعات. فاللغة أداة لتيسير مطالب الحياة، فهي توفر على الناطق مجهودا عضويا كبيرا كان عليه أن يبذله لو انه عاش وحده، ولم يتعاون مع المجتمع الإنساني، يقوم كل قرد فيه بنصب في تيسير سبل الحياة ومطالبها، حتى يتكون من تلك الجهود مجتمعة نظام اجتماعي دقيق محكم. ومن هنا نرى الدور الذي تقوم به اللغة في حياة المجتمع الإنساني، وتنظم الصلة بين أفراده.
ويستعين اللغوي الحديث بعلم وظائف الأعضاء، وعلم التشريح وعلم الطبيعة لتفسير تلك الأصوات التي تصدر من الفم، وتتلقفها الآذان، فالصبي الذي نطق بقوله (هات شطيرة من ها الشواء) قد حرك الوترين الصوتيين في حنجرته حركات أو ذبذبات منتظمة ذات عدد خاص، ثم جعل للسان أوضاعا عدة، وللشفتين أشكالا متباينة، مما جعل هواء الرئتين يحدث موجات صوتية تحرك الهواء الخارجي، وتنتقل إلى اذن السامع فيفسرها أو يفهمها، ويتصرف تبعا لها، كما لو أنه يمر بالتحارب نفسها التي يمر بها الصبي، أو كما لو أنه تحيط به الظروف نفسها التي تحيط بهذا الصبي من رؤية الطعام واشتهائه والاحساس الجوع.
والناس في مجتمع من المجتمعات لا يكادون يعنون بتلك الأصوات اللغوية إلا بمقدار ما تحققه لهم من أغراض دنيوية، فهي لهم بمثابة الوسيلة لا الغاية. فالصبي يعنيه أولا الشطيرة نفسها لأنها هي التي تسد رمقه، ولا يكاد يعني بتلك الأصوات التي تتكون من الشين الطاء والياء والراء والتاء.
ورغم أن بعض أنواع الحيوان قد تستجيب لبعض الأصوات على النحو الذي
ص41
وصفناه آنفا، نرى أن أصوات الحيوان محدودة قليلة يمكن حصرها بسهولة. فالهمزة مثلا لا تكاد تستخدم في كل مطالبها وحاجياتها، وأكثر من ثلاثة أو أربعة أصوات يستطيع دارس الحيوان أن يتعرف عليها بسهولة وأن يميز بينها.
أما الانسان فكلامه كثير التنوع متعدد الألوان، ولا تكاد تحصى أصواته أو ألفاظه، وهو يتخذ لكل منها دلالة معينة تحقق له غرضا من أغراض الحياة، تلك الأغراض التي لا تحصى، والتي لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة نفسها. ويتوسل الإنسان بكلامه إلى التفاهم بين افراد مجتمعه، كما قد يستعين به في التأمل والتفكير، ولا غرابة حينئذ أن يقال إن الإنسان يفكر في كلمات شبه منطوقة، وإنه لا تفكير بغير تلك الكلمات والألفاظ(1).
ومن العسير أن نتصور إنسانا ينشأ وحده في جزيرة نائية ثم يفكر ويتأمل ويصل وحده الى الاهتداء الى الإله، كشخصية حي بن يقظان التي وصفها ابن الطفيل وغيره من الفلاسفة، أو كشخصية روبنصن كروزو المشهورة في آداب الغربيين.
أما الصلة بين تلك الأصوات وما تثيره في الأذهان من أثر أو ما يتبعها من تصرفات، فأمر كان ولا يزال موضع بحث العلماء والمفكرين. وسنرى فيما بعد أن الفلاسفة اليونان قد اختلفوا بصدد هذه الصلة، فكان سقراط وافلاطون ممن يرون أن الصلة بين الأصوات والمدلولات طبيعية حتمية، في حين أن ارسطو كان يرها صلة عرفية لا تعدو أن تكون بمثابة رمز اصطلح الناس على وضعه للمدلول. ومثله حينئذ كمثل كل الرموز العربية كالإشارة باليد أو اشارات التلغراف أو الشفرة، أو الأعلام المتعددة الألوان والأشكال في السفن، أو الأضواء من أحمر وأخضر وأصفر حين يصطنعها الناس لتنظيم شئون الحياة.
وسواء كانت هذه الصلة طبيعية أو عرفية، فالذي لا يزال يحير المفكرين هو كيف تثير هذه الأصوات تلك الدلالات في الأذهان، ولم لا تثير في كل مرة الدلالات نفسها، أو تؤد الى التصرفات نفسها؟ وهنا يتدخل علم النفس ويرجع هذا الى الحالة النفسية للمتكلم والسامع، وهي من التعقيد والغموض بحيث يصعب الوقوف على نظامها، ويتعسر إخضاعها للتجربة أو الملاحظة.
وعلماء اللغة صنفان من الناس (2):-
الروحانيون: وهؤلاء يرون أن لكل منا نفسا أو عقلا. ومحله الجشم ولكنه يختلف عن تلك المادة الملموسة في كنهه، ويمت الى عالم آخر غير عالم المادة المألوفة لنا، عالم روحي أو روحاني غير خاضع للملاحظة أو التجربة بالحواس كما تخضع ظواهر الطبيعة الأخرى. فقد يسهل التعرف على كل تفاعل كيميائي، أو ملاحظة النار وأثرها في الأشياء القابلة للاحتراق، وقد يسهل تتبع النمة في النبات والحيوان، وسقوط الأمطار، وقصف الرعد، وضوء البرق، وتنقل الأصوات، وغير ذلك من ظواهر الطبيعة التي أخضعها الإنسان للملاحظة والتجربة، واستطاع تحليلها وتفسيرها، وجعل لها أسبابا ومسببات، وانتهى الى كليات لا تقبل الخلاف أو النزاع، فكل ماء ينطفئ بالنار، وكل نار تحرق، وفي كل يوم تشرق الشمس من الشرق وتغرب في المغرب، وفي كل شهر يتناقص الهلال ويكتمل، وكل ماء يتبخر بالحرارة ويتجمد بالبرودة، إلى غير ذلك من النظام المادي الذي استطاع الإنسان أن يفسره ويحدده في غالب الأحيان.
ولا شك أن للنفس نظاما آخر، ولكنه غير خاضع للتجربة والملاحظة بواسطة الحواس، ولا شك أن كل مقدمات في هذا النظام النفسي تؤدي حتما الى نتائج معينة، فليست تسير النفوس على غير هدى، أو دون نظام، وإن كنا لانزال نجهله، ولا نقف على أسراره.
فلو أننا نعرف تفاصيل هذا النظام النفسي، لأمكن التنبؤ بنتيجة الكلام في كل مرة يتم فيما فيها النطق بتلك الأصوات اللغوية.
أما الماديون من أصحاب علم النفس، فيرون أن الجسم الإنسان جهاز شديد التقعيد، فيه الأعصاب بمثابة الأسلاك التي تكون شبكة معقدة غاية التعقيد، ومحكمة أدق الإحكام، وأجزاؤه متشابكة، ونواحيه متداخلة، ويتأثر الجهاز بأقل خلل في أي عضو، بل في أي شعيرة من شعيرات الشرايين.
ولو تصورنا أعقد جهاز ميكانيكي وصل إليه العقل الإنساني من تلك الأجهزة التي لاتكاد تحصي أجزاؤها، والتي تستنفد في تركيبها الشهور أو السنين وقسنا به الجهاز الإنساني، لبدا لنا كصندوق أجوف فيه عدة من الأسلاك تصل جنباته، ولبدا الجسم الإنساني كجهاز للإرسال والاستقبال في الإذاعة، وقد شحنت جوانبه وأنحاؤه بآلاف من الأسلاك العقدة المتشابكة، وآلاف القطع والأجزاء التي لكل منها وظيفة معينة في ذلك الجهاز الضخم.
ص43
ومن طريف ما يذكر عن الجسم الإنساني تلك الإحصائية التي قام بها الدكتور «ستيرنز» العالم الأمريكي، والتي جاء فيها أن مجموع طول الأوعية الدموية الموجودة في الجسم يبلغ 160 ألف كيلومتر، وأن في الخ البشري 12 مليون خلية، وفي الرئتين 300 مليون خلية هواثية، ويستبدل الجسم عشرة ملايين كرة حمراء من الدم في كل ثانية.
ويتأثر الجهاز الإنساني بأقل أنواع التأثر، ومثله في هذا مثل الآلة المعقدة حين يكفي عود من الثقاب لإدارتها أو تحريكها.
وقد عرف الإنسان حتى الأن عن ذلك الجهاز الجسماني القليل، أو أقل من القليل، ولا يزال يجهل الكثير، بل لايزال سره مغلقاً عليه، ونظامه غامضا مجهولا جهلا تاماً.
من أجل هذا يعمد أصحاب علم النفس الى نوع من التجربة الخارجية حين شق عليهم ملاحظة ما يجري في داخل الجهاز الإنساني، وقنعوا بملاحظة الآثار التي تترتب على تلك العمليات الداخلية، لعلهم يهتدون الى شيء من اسراره وخفاياه فهم يضعون عدة أفراد في ظروف معينة، ثم يلاحظون استجابتهم لأثر خارجي معين، ومن تلك التجارب والملاحظات الخارجية يحاولون تكوين رأي خاص.
ومن طرقهم مساءلة المرء موضع التجربة، وطلبهم منه أن يصف ما يشعر به، أو يتم داخل جسمه من عمليات على إثر دافع من الدوافع الخارجية، ولكنهم في كثير من الحالات يضلون الطريق السوي. وذلك لأن المرء يصعب عليه وصف ما به وصفاً دقيقا، ويشق عليه أن يتبين مكان الأثر الداخلي أو كنهه. و مثله مثل المريض حين يشير للطبيب على مكان الداء من جسمه، ثم يكتشف الطبيب أن الداء في موضع آخر.
هذا الى أن المسؤول قد لا يجد من اللغة الإنسانية، ما يكفي لوصف ما يحس به في داخل جسمه وصفاً دقيقاً، فيتخبط في وصفه، ويضلل السائل.
ومن الأطباء من حاولوا الربط بين عملية النطق و عملية الفهم بملاحظة بمض الأمراض أو الإصابات التي تعتري المخ الإنساني. وتمت لهم على إثر الحروب حالات كثيرة من المصابين في أجزاء المخ و نواحيه. ومن هؤلاء المصابين من فقد القدرة على النطق، وبقيت له القدرة على الفهم، ومنهم من فقد كل ما حفظه من ألفاظ لغته طول حياته من قبل، ومنهم من يتلعثم في نطقه، أو يفأفئ أو يتأتئ في
ص44
كلامه، ومنهم من يفهم الألفاظ ولكنه لا يرتبها الترتيب المألوف حين يتكلم الى غير ذلك من حالات كثيرة حاولوا عن طريقها أن يبينوا لنا اختصاص كل منطقة من مناطق المخ الإنساني بعملية معينة من عمليات الفهم والإفهام. ولكنهم مع هذا أو رغم ما بذلوه في هذا من تجارب و مشاهدات، لم يصلوا الى رأي قاطع في بحث الصلة بين الألفاظ و مدلولاتها، أو ما تثيره في الأذهان من عمليات نسميها الفهم مرة، والتفكير مرة أخرى.
وإذا كنا قد أخفقنا حتى الآن في دراسة هذه الظاهرة في الفرد الإنساني فمم الخير أن ندرسها في الجماعات وذلك بأن يعرض الأثر اللغوي على أكبر مجموعة من الناس ثم نلاحظ تصرفهم إزاء هذا، مستعينين بعلم الإحصاء للوصول الى أرقي مرتبة من الاحتمال. ويكفي حينئذ أن يقال إن الناس في مجموعهم يتصرفون تصرفا معيناً حين يسمعون جملة معينة دون أن نخصص فرداً معيناً منهم بمثل هذا الحكم. وتكون دراستنا حينئذ كدراسة كثير من الظاهر الاجتماعية الأخرى حين تحكم على عدد الزيجات والطلاق والولادة والموت في شعب من الشعوب، دون التعرض لشخص بالذات، أي أننا لا ندري أو لا نحاول أن نتنبأ ما إذا كان فلان بالذات سيتزوج أو يطلق أو يولد أو يموت.
ومن حسن الحظ أن دراسة اللغة في المجتمع لا تتطلب أحيانا الكثير من الإحصاء أو الاستقصاء، بل يكفي في بعض الأحيان الحكم على البيئة اللغوية وتصرفاتها إزاء حدث لغوي من ملاحظة هذا في فرد واحد أو عدة أفراد.
فدارس اللغة العربية مثلا حين يسمع أحد المصريين ينطق بعبارة مثل «صباح الخير» ويرى أن السامع يستجيب الى مثل هذه العبارة، ويقول «أهلا وسهلا» فله أن يحكم حكما عاما على هذه البيئة اللغوية. مقرراً أن أفرادها في مجموعهم يستجيبون لمثل هذه العبارة هذه الاستجابة، ويردون عليها بنفس الرد.
وليس هذا الحكم بمانع من أن بعض المصريين قد يجيب إجابة أخرى أو لا يجب فأفراد البيئة اللغوية يخضعون في مجموعهم لنظام عام مطرد يألفونه، ويشيع بينهم؛ وكلما عرض لهم حدث من الأحداث اللغوية يتصرفون على حسب هذا النظام، فاللغوي يحكم عليهم كمجموعة لا كأفراد، أي لا يختص فلانا بالذات بذلك الحكم، فلا يقول مثلا عن فلان هذا إنه حين يجيبه أحد الناس غداً أو بعد غد، فمن المؤكد أن استجابته ستكون على نحو معين. ولا يكاد يعنى اللغوي بتلك الظروف الخصة، أو الحالة النفسة الخاصة التي قد تدفع متكلما معينا الى النطق بغير المألوف
ص45
من الكلام، بل يوجه عنايته الى ذلك النظام العام الذي ينتظم كل الأفراد، والذي جرت به العادة في بيئة لغوية معينة. هب مثلا أن شخصا معينا في البيئة المصرية تعود لسبب ما أن ينطق بالتاء كالنطق الإنجليزي (أي بالتقاء طرف اللسان بأصول الثنايا العليا)، أو أن في نطفه صفة الفأفأة أو التأتأة أو اللثغة، هنا لا يصح أن تتخذ هذه الحالة الخاصة مقياسا للحكم على سائر المصريين. أو هب مثلا أن شخصا آخر تعود أن يحيي الناس بالتحية الأجنبية «بنچور» لا يصح كذلك أن يعدّ هذا دليلا على أن التحية في البيئة المصرية تسلك هذا المسلك.
ولذا حين تسمع زائراً لبلد من البلدان يحكم على لغته حكما ما بعد فترة قصيرة، لا تسميه حينئذ متعجلا أو متسرعا في حكمه، بل نقبله على أنه الحكم العام الذي ينطبق على المجموع لا على الأفراد كلا منهم على حدة. فالزائر لمصر لا يلبث بعد زمن قليل أن يدرك أن المصريين بوجه عام حين يطلب منهم شيء، ويعبرون عن استعدادهم لإجابة هذا الطلب يقولون «حاضر»، ولكن هذا الزائر قد يحتاج الى زمن أطول، وتجارب أكثر حتى يعثر على أحد المصريين الذين يبدون نفس الاستمداد قائلين «ماشي»!!
ولذا ننعى على اللغويين القدماء مسلكهم حين خلطوا بين الصفات الخاصة والصفات العامة للغة، فبينما تراهم يحكمون حكما عاما على لغة العرب، نراهم في بعض الأحيان يقحمون في حكمهم تلك التجارب الخاصة فيقول أحدهم مثلا سمعت أعرابيا يقول كذا، أو سمت امرأة من غني تقول كذا، متخذين من تلك الصفات الخاصة وجوها من القول أو رخصة يضعونها جنباً الى جنب مع الوجه العام أو المسلك العام الذي ينتظم كل البيئة العربية.
ص46
______________
(1) language in society by m. m lewis. P. 235.
(2) story of language. P.138. language by bloomfield p.142.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|