مبدأ الحياد كأساس معتبر في التقيد بنطاق الدعوى الجزائية الشخصي والعيني |
4606
09:00 صباحاً
التاريخ: 10-5-2017
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-2-2016
2463
التاريخ: 2023-09-09
1568
التاريخ: 9-1-2021
2592
التاريخ: 9-5-2017
3668
|
توجه الفقهاء في اهتمامهم نحو إيجاد الأساس الفلسفي لقاعدة القيد بنطاق الدعوى ضمن ما يتمتع به القاضي من صفات تفترضها فكرة التقاضي ذاتها.
وكان توجه الفقهاء إلى مبدأ الحياد، وجعله الأساس الفلسفي لقاعدة التقيد بنطاق الدعوى كون ان الحياد هو جوهر العدالة. لكن يبقى لنا ان نعرف ما هو مضمون هذا الحياد ومدى اتساع أو ضيق نطاقه ؟ وبالتالي فأن تبنيه يخرج إلى حيز التطبيق بعض أهم النتائج بخصوص قاعدة التقيد بنطاق الدعوى الشخصي والعيني . ووجود النطاق الذي يقيد به المحكمة بحديه الشخصي والعيني، وعليه سوف نقسم هذا الموضوع على خمسة فروع ووفق الأتي:
الفرع الأول
مدلول مبدأ الحياد ومسوّغات ترجيحه
مؤدى هذا المبدأ ان يلتزم القاضي الموقف السلبي في النزاع، فلا يميل إلى أحد الخصوم(1). وأن اختلافنا مع فكرة منع الميل تعالج موقف القاضي السلبي، إذ يمكن ان يميل القاضي حتى في موقفه السلبي، ذلك إننا نرى ان يلتزم القاضي الموقف المتوازن بين الخصوم دون تحديد ذلك بسلبية موقفه.
وبالتالي فيترتب على ذلك تسويغ عدم تدخل القاضي من تلقاء نفسه في اي نزاع أو تعديله أو تغييره لأي اتهام حاصل فيه. فهو يسوّغ القاعدة الخاصة بالتقيد وفي الوقت ذاته فأن مبدأ الحياد هو الأساس المسوّغ للعديد من القواعد الشكلية الإجرائية الأخرى التي يحاط بها القاضي، ولسبب كون مبدأ الحياد لصيق بصفة القاضي منذ أن نشأت فكرة التقاضي حتى ينعكس عن القضاء صورة العدالة التي هي مبتغى المتعاملين مع القضاء(2) ، فهو في جميع صور التقاضي يطبق القواعد القانونية التي تحقق العدالة وفقاً لمفهوم النظام القانوني الذي يفرض هذه القواعد(3).
وقد قيل الكثير في دواعي الأخذ بمبدأ الحياد ليس على التقيد بنطاق الدعوى موضوع البحث فحسب، بل إلى جميع القواعد الإجرائية التي تحيط عمل أي قاضي(4)، إلا أن خير من عرض تفسيراً واضحاً حول دواعي الأخذ بمبدأ الحياد الدكتور محمود احمد طه عندما قال (لمقتضيات التناقض الحتمي بين صفتين من صفات القاضي: إحداهما لصيقة به لا يستطيع التحرر منها، وهي كونه إنسانا له أهواء البشر وميوله، والثانية عارضه ومؤقتة وهي كونه قاضياً... ولحل مشكلة التوفيق بينهما لا بد من وجود فيصل حاسم بين القاضي من جانب، ونفسه من جانب أخر وهذا الفيصل هو الذي يضمن تجريد القاضي جبراً من صفاته التي تتعارض مع العدالة وهذا الفيصل يكمن في فكرة الحياد.
أما فكرة الحياد بذاتها فهي تفرض الجذور الفلسفية المنطقية لفكرة التقاضي نفسها، فلم تظهر فكرة الحياد إلا بظهور التقاضي إلى طرف ثالث. وهي بهذا الوصف لم تكن موجودة أبان فترة الانتقام الفردي التي لم يكن لفكرة التقاضي وجود فيها. وبالتالي فقاعدة التقيد الدعوى أساسا لم تكن موجودة. فالترابط إذاً موجود بين فكرة الحياد وفكرة التقاضي. فأطراف النزاع لم يجعلوا للطرف الثالث الخارج عن النزاع تلك المكانة والحبوه لولا يقينهم بعدالة توجه القاضي كونه ملزماً بفكرة الحياد أي عدم الانحياز إلى أي طرف سواء جهة الاتهام أو المتهم. وإنما الحكم في النزاع فقط .
ويعود الفضل إلى فكرة الحياد لإقناعها المجتمعات البدائية المتقدمة في التحول من مفهوم القوة لاسترداد الحقوق إلى حالة التقاضي(5). التي تحولت هي أيضاً من حالة الخصومة الاتفاقية إلى التقاضي الإجباري لكن تحت المسّوغ ذاته هو الحياد.
وأخيراً فأن فكرة الحياد هي الأساس الفلسفي لقاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجزائية. التي هي عبارة عن كون القاضي خارج دائرة النزاع، مع كونه طرفاً فيه، إلا أنه ملزم بالحياد التام، وأي خروج عن فكرة الحياد يخرجه من فكرة القاضي إلى فكرة الخصم وبالتالي إهدار العدالة بدلاً من تحقيقها سواء كان هذا القاضي قاضياً مدنياً أم جنائياً (6).
الفرع الثاني
نطاق مبدأ الحياد
إن من مسوّغات العدالة ومن جوهرها التزام قاضي الموضوع بالحياد التام بين طرفي النزاع حتى لا يخرج من دائرة الحكم الى دائرة الخصم يثار أمام الباحث تساؤل مشروع هو أن صح تعبير حياد القاضي فهل الحياد صفة مطلقة لا تقبل التضييق منها ؟ أو بعبارة أخرى هل مبدأ الحياد عند تطبيقه يثبت باختلاف النزاعات والمواضيع أم له صورة قد تتغير نسبياً لحيثيات كل موضوع ؟ أي أن صفة القاضي السلبي هل تستمر في جميع صور التقاضي أم تختلف بحسب اختلاف الحقوق محل النزاع ؟
يتجه بعض الفقه الجنائي إلى التمييز أساسا بين مفهوم بعض الحقوق كونها حقوق خاصة تفرقها عن الحقوق التي تتصل بالمصلحة العامة والأولى تجد لها مكاناً وحيزاً كبيراً في مجال القانون المدني الذي يتصف فيه القاضي بشكل أساسي بكونه سلبي النزعة، وبالتالي فإن مبدأ الحياد يجد له التطبيق المطلق هناك بل يجد له سنداً منطقياً يدعم توجه ذلك ففي الوقت الذي يحتاج فيه مبدأ الحياد إلى بعض التوضيح لاختلاف محل الحقوق المتنازع عليها عندما يكون ميدان الحياد المنازعات الجنائية. وقد يتضمن النتيجة لهذا الاختلاف أن مبدأ الحياد لا يمكن الأخذ به على إطلاقه في ميدان المسائل الجنائية(7).
هذا وجدير بالذكر أن فكرة الحق الخاص والحق العام قد وجدت في التطور التاريخي لنظم القانون ميداناً لتطورها فانتقلت من فكرة الحق الفردي إلى الانتقام إلى فكرة الحق العام بقالب صيانة أمن الملك ثم بعد ذلك تحول الأمر إلى فكرة الحق العام نزولاً عند مقتضيات أمن المجتمع، وذلك كله خلال فترة تطور اجتماعية رافقت الجريمة والحق المنصب عليه وصولاً إلى جعل حق المجتمع من قبيل الحقوق العامة وجعل القاضي كجزء من العامة حاكماً فيه (8).
وقد أثير في الفقه الجنائي تساؤل مشروع حول مسألة الحياد فإذا كان مبدأ الحياد هو جوهر العدالة والمسوّغ الفلسفي لجميع قواعد القانون الجنائي الشكلية ومنها القاعدة موضوع البحث. وما يستفاد من مبدأ الحياد هو عدم انحياز القاضي إلى أي طرف من أطراف النزاع المعروض عليه، كونه جزءاً من المجتمع أنيطت به مهمة الحكم بين المتنازعين فكيف والحالة هذه تفسير كون المجتمع أو الدول ومن خلال جزء منها هي التي تقوم بالإدعاء ، عن طريق الإدعاء العام وفي الوقت ذاته من خلال جزء ثاني تقوم بالحكم، وبالتالي فإن هذا التسأول قد يشكل مشكلة تواجه مبدأ الحياد بل تهدمه تماماً في مجال القانون الجنائي دون المدني.
ونحن بدورنا نرى أن ما جاء به أحد الفقهاء(9) من حل لهذه المشكلة يكفي ويفي بالحاجة، حيث ان مثل هذا التساؤل الذي يستهدف الخلط بين مركز القاضي في النزاع الجنائي دون التمييز بين حالتين، بين حال الدولة كنظام قانوني قائم وبينها كشخص معنوي فالدولة كنظام قانوني قائم يتمثل بالقواعد التي تحكم كافة الأشخاص داخلها وبضمنهم هي، ومن هذه القواعد تلك التي تحكم طرق حل النزاع والتي يمثل فيها القاضي الدولة لكن كنظام قانوني وليس كشخص معنوي هو بنفسه يخضع إلى الدولة القانونية أي كنظام قانوني.
وعلى ما تقدم فليس هناك أي مشكلة عند بحث مسألة الحياد وتأثيره بمدى الاعتبار لمركز القاضي ما دام القاضي هو دائماً جزءاً من الدولة في نظامها القانوني، وليس نائباً عنها بوصفها شخصاً معنوياً، وما يمثله الادعاء العام هو الدولة. ليس بوصفها نظاماً قانونياً بل شخصاً معنوياً يبتغي الحصول على حقوقه التي هي حقوق المجتمع والمحافظة عليها من خلال الادعاء أمام القضاء الذي هو وسيلة ضمن بناء الدولة كنظام قانوني سواء كان هذا الادعاء أمام قضاء مدني أو جنائي لحماية حق مقرر قانوناً سواء للدولة أم للفرد العادي . وهنا يثبت أن مبدأ الحياد قد عُمل به في بداية القضاء المدني والجنائي وإن ثبتت صورته في الأول(10).
أصبح من الواضح أن جميع الكتاب والفقهاء يتفقون على مبدأ حياد القاضي كضرورة للعدالة المفترضة عند تطبيق القانون، وعند مناقشة مسألة الخلط بين مركز القاضي كجزء من الدولة وتميزه عن الادعاء بوصفه جزءاً من الدولة أيضاً فالكثير من الكتاب وتأكيداً منهم على اختلاف المركز في كلا الجانبين وقانوناً يمنع على القضاة أن يشغلوا وظيفة مدعي ويتولون نظر ذات الدعوى. وذلك لتفادي الجمع بين سلطة الاتهام والحكم، بل انه على القاضي نفسه وحفاظاً على مبدأ الحياد عدم النظر في نزاع إذا كان قبل توليه منصب القضاء قد شغل وظيفة مدعي عام في النزاع ذاته قبل أن ينصب قاضياً(11).
وتجاه إشكالية الخلط بين مبدأ الحياد في القانون المدني والجنائي، ومدى موقف القاضي فيهما خلال فكرة الخلط السابقة الذكر، نجد أن الفقه قد اثبت الحياد بمفهومه العادي موجود في كلا القضاءين المدني والجنائي اعتماداً على مرتكزات هي كون القاضي في كلا القانونين ممثلاً للدولة كنظام قانوني وليس كشخص معنوي يواجه ادعاء مقدم من شخص سواء كان طبيعياً أو معنوياً يبتغي حماية حقه المقرر قانوناً.
والقاضي هنا يفًعل مبدأ الحياد للوصول إلى إحقاق الحق، بعبارة أخرى فإن الادعاء القانوني المدني والجزائي المقدم للقاضي هو متساوي ومتماثل هذا من جهة ومن جهة أخرى فمركز القاضي في مواجهة الادعائين هو نفسه ذلك الشخص الذي يمثل الدولة كنظام قانوني(12).
وهنا يخلص الفقه إلى نتيجة هي ان القول بأن مبدأ الحياد يختلف نسبيًا في القانون الجنائي عما عليه الحال في القانون المدني، هو قول مردود إذا استند إلى ما يعطيه القانون الجنائي إلى القاضي من سلطات واسعة. إذ أن جوهر مبدأ الحياد هو نفسه لدى القضاءين كما أن وجوب الأخذ به هو ذاته .
إلا أننا نقول في هذا الصدد ان مبدأ الحياد عند التطبيق في نزاع مدني محوره حق خاص يكون واضح المعالم لعدم وجود ما يدفع الأطراف إلى الاعتقاد بأن سلوكاً معيناً للقاضي قد يفهم على كونه خروجاً عن مبدأ الحياد، ما دام القاضي ملتزماً بعدم الميل الى أحد الخصوم إلا ما تقتضيه ضرورة إدارة النزاع والحكم فيه دون بذل المجهود الذي يبذله نظيره الجنائي للوصول إلى الحقيقة وبشتى السبل المتوفرة قانونياً.
وبالتالي فنحن هنا أمام واقع مغاير لما هو عليه الحال في القضاء الجنائي الذي يندفع فيه القاضي بدوافع أهمية الحق المتنازع عليه أو خطورة الاعتداء المشتكى منه عما هو عليه الحال في القضاء المدني، ومن ثم الطبيعة الوظيفية للقاضي الجنائي المتناغمة مع الصفة الغالبة للقاضي الجنائي، وهي الصبغة الإيجابية التي تحتم على القاضي المحايد أساساً أن يتخذ سلوكاً يفهم للوهلة الأولى انه إيجابي في مسار الادعاء لكنه يقيناً إيجابياً ليس للإدعاء فحسب بل للوصول إلى الحقيقة أياً كانت في جانب الإدعاء أم في جانب المهتم.
وخلاصة القول بأن نطاق مبدأ الحياد هو ذاته لا يمكن النزول عنه أو تضييقه بحيث يمكن ا لقول بأن القاضي هنا أكثر حياداً من القاضي هناك، إلا أن هذا الحياد لا يمكن قياسه على سلوك معين إلا بعد معرفة اتجاه هذا السلوك والغاية منه وما يسنده من نصوص وأفكار منطقية التي هي بالتالي تسوّغه وحسب مقتضيات الحاجة دون المساس بجوهر الحياد .
الفرع الثالث
النتائج التي تترتب على كزنر الحياد مسوّغاً للتقيد بنطاق الدعوى الجزائية
بالاستناد إلى أن مبدأ الحياد هو المسوّغاً المنطقي (الفلسفي) لفكرة قاعدة تقيد المحكمة بنطاق الدعوى الجزائية بعدم تجاوز حدودها الشخصية والعينية من حيث موضوع الاتهام بوقائعه وأشخاصه وبالنظر إلى ما تقدم سالفاً من مضمون لهذا المبدأ وهو عدم ولاية القاضي من تلقاء نفسه والتزامه الموقف السلبي في النزاع المعروض عليه يمثل بحد ذاتها أول نتيجة لهذا المبدأ.
والملاحظ في نتائج مبدأ الحياد أن تطبيق هذا المبدأ وبشكل مطلق في أغلب القواعد الشكلية للقاضي يؤدي بالضرورة إلى تقييد القاضي بجميع هذه القواعد لاعتبارات المحافظة على حياده، وبالتالي فإن التأثير متبادل بين الحياد وتقييد القاضي فالأول مسوّغاً لتقييد القاضي، والثاني نتيجة للحياد، والعلاقة بين مفهوم التقييد في القضاء ومبدأ الحياد علاقة طردية، فكلما زاد التقييد يزداد تأثير مفهوم الحياد وكلما تمسك القاضي بحياده زادت نزعته السلبية فزاد تمسكه بمسوّغاته من القواعد الشكلية التي كان أساس وضعها تحقيق العدالة وكضمان لقياس محافظة القاضي على حياده، وبعبارة أخرى إن هذه القواعد الشكلية (القيود) هي التي تضمن حياد القاضي وبالتالي عدالته(13)
وجدير بالذكر أن مبدأ الحياد بهذا الوصف لم يكن محصوراً على نظم قانونية معينة، بل وجد في كل نظام قانوني متطور من القانون الروماني والشريعة الإسلامية الغراء التي أكدت أحكامها على حياد القاضي وعدالته، مروراً بالقانون الفرنسي الحديث وحتى الوقت الحاضر(14).اذن فإن طريق الحياد يحقق للقاضي مهمته، وهي تحقيق العدالة التي تتطلب تجرد القاضي عن عواطفه الشخصية والمصالح الذاتية، وهي بالتالي صورة من صور النتيجة الأولى لقاعدة التقيد بنطاق الدعوى وهي عدم ولاية القاضي من تلقاء نفسه.
علاقة مبدأ الحياد بقواعد الإجراءات الجزائية
عند الخوض في نتائج مبدأ الحياد نرى أن من مضمون هذا المبدأ تتضح معالم علاقة وثيقة ترتبط بها أغلب القواعد الإجرائية الشكلية بل والموضوعية.
أن مبدأ الحياد أو فكرة الحياد وكما سبق ترتبط بفكرة التقيد و تظهر هذه العلاقة في كل تقييد يواجه القاضي بدوره، وبالتالي فإن أي قاعدة إجرائية تقيد القاضي فهي حتماً تستند إلى ذات المبرر، وهو الحياد.
ومنها تظهر العلاقة بين قاعدة تقييد المحكمة الجنائية بحدود الدعوى الشخصية والعينية مع قاعدة ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ) (قاعدة التقيد بالتجريم والعقاب) ، فكلتا القاعدتين مخاطب بها القاضي، والقاعدتان تفرضان قيداً على القاضي فالقاعدة موضوع البحث تفرض عدم نظر الجديد أو تعديل التهمة الأصلية والقاعدة الثانية تمنع تطبيق الجديد أو تعديل الموجود من نصوص التجريم والعقاب وذلك كله يجتمع تحت غاية واحدة فقط هي منع تحكم القاضي، وهذا كله لسبب واحد أن القاعدتين نتيجة لمبدأ واحد هو الحياد(15).
وكدليل على التشابه بين القاعدتين مع أي قاعدته تقييد أخرى، أن النقاش ذاته قد أثير في إيجاد المسوّغ الفلسفي لقاعدة التجريم والعقاب، وقد أرجعها بعض الفقهاء إلى مبدأ الفصل بين السلطات ، وما قيل على مبدأ التقييد بنطاق الدعوى ذاته يصدق على مبدأ الشرعية حتى أن مبدأ الفصل بين السلطات ما هو إلا نتيجة مبدأ الحياد وهو بذاته، أي الفصل وسيلة للوصول إلى الحياد ذاته الذي يتمثل بعدم الاستبداد والتحكم، وما ينتج عن قاعدة التجريم والعقاب هو ضمان الحرية الفردية. وبذلك فإن المبرر الفلسفي للقاعدتين هو ذاته مبدأ الحياد(16).
خلاصة دراسة الأصول الفلسفية لقاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجزائية
حتى يمكننا ربط ما قدمنا في بداية هذا البحث من دواعي الدراسة للأصول الفلسفية للقاعدة بما نتج عنه من نتائج خرجت من خلال هذه الدراسة.
نقول من خلال معرفة المسوغ الفلسفي للقاعدة، وهو هنا الحياد، يمكننا أذن الوقوف على اهم ما تستند إليه قاعدة تقييد المحكمة أو بنطاق الدعوى منطقياً وما يؤدي بالضرورة إلى مضمون هذه القاعدة الذي هو حتماً يمثل فكرة الحياد، وهو هنا عدم تدخل القاضي في أي عنصر من عناصر الاتهام الشخصية والعينية أي اتخاذه الموقف السلبي وعلى هذا يمكن لنا حتى عند تطبيق القاعدة الوصول بالتطبيق إلى أحسن صوره ما دام الأساس الذي تقوم عليه واضحاً .
فمن خلال مبدأ الحياد الذي يكون الفيصل في عمل القاضي، وهو مضمون قاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجزائية ، أظهرت لنا دراسة الأصول الفلسفة أن عمل القاضي الجنائي بما فيه من سلطات وأسس ليس خروجاً على مفهوم الحياد بقدر ما هو تطبيق له، يهدف من ورائه إلى الوصول إلى أقصى درجات الحقيقة الممكنة .
ونحن نرى أن قاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجزائية الشخصية والعينية يستند في الأصل إلى مبدأ صريح مفهوم هو فصل سلطة الاتهام عن سلطة المحاكمة، وهذا بالتالي يُفضي إلى تقييد إحدى هذه السلطات بما تقوم به السلطة الأخرى، وبشكل نسبي كما سوف نرى، وهذا يعني تطبيق قاعدة التقيد بنطاق الدعوى وهذا أولاً أما ثانياً فتسويغ هذا يقوم على أساس حياد القاضي الجنائي أثناء نظرا لنزاع.
فالقاعدة موضوع البحث هي نتيجة لقاعدة أخرى هي جزء من مبدأ فصل الوظائف القضائية، والتي سنأتي على ذكرها في البحث اللاحق، وهي ترتكز على أساس يسوغها،ويسوغ مضمونها الذي سوف نناقشه الفصل القادم، فالقاعدة هي (نتيجة وأساس لمضمون) وكل منها يمثل دعامة تفسر حقيقة القاعدة.
إن قاعدة تقيد المحكمة بنطاق الدعوى الشخصي والعيني لم تظهر لولا وجود مبدأ فصل السلطات، ليس بالمنظور السياسي، ولكن بالمنظور الجنائي، وبالتالي فإن صورته قد هذبت بحيث درج الفقه على تسميته مبدأ فصل الوظائف القضائية وإن لم يكن بشكل مطلق إذ قد توجد حالات تتركز فيها عدة وظائف لدى جهة واحدة ، وما يعنينا فيه هو محور فصل سلطة الاتهام عن سلطة الحكم، منتجاً ومكوناً لنطاق الدعوى. والتي يسوغ مبدأ قديم ثابت في النظم الإجرائية الجنائية هو الحياد الذي هو في الوقت ذاته تسويغ تبررها لها فهو يعطيها مضمونها الذي تعمل به، وهو عدم تدخل القاضي بما يحال إليه من السلطة الأخرى (الاتهام) .
______________
1- ينظر : د. محمد علي سويلم ، تكيف الواقعة الإجرامية ، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق جامعة عين شمس ، 1999 ، ص193. د. . محمود أحمد طه ، مبدأ تقيد الدعوى الجنائية ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، 2003 ، ص45.
2- ينظر : د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي ، قاعدة تقييد المحكمة الجنائية بالاتهام ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1973 ، ص87.
3- ينظر : حسين جميل ، حقوق الإنسان والقانون الجنائي، منشورات معهد البحوث والدراسات العربية ، مطابع دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة، 1972، ص167.
4- ينظر : الأستاذ حسين جميل ، المرجع السابق، ص46.
5- ينظر : د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي ، المرجع السابق، ص90.
6- ينظر : د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي ، المرجع السابق، ص92.
7- ينظر : د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي ، المرجع السابق، ص94.
8- للتفصيل ينظر : د. عزت الدسوقي ، قيود الدعوى الجنائية بين النظرية والتطبيق ، رسالة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق جامعة القاهرة ، 1987 ، ص53-61.
9- ينظر : د . عبد الوهاب العشماوي ، الاتهام الفردي، رسالة دكتوراه أشار إليها : د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي: المرجع السابق، ص96.
10- ينظر : د. آدم وهيب النداوي ، المرجع السابق، ص63.
11- ينظر : د. حسن بشيت خرين ، ضمانات المتهم خلال مرحلة المحاكمة ، ج2 ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، عمان ، 1998 ، ص33.
12- ينظر د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي ، المرجع السابق ، ص98.
13- ينظر: د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي ، المرجع السابق، ص100.
14- ينظر: د. حسن بشيت خوين ، المرجع السابق، ص25. د. أحمد فتحي سرور ، الشرعية والإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1977، ص186-187.
15- ينظر : د. عبد المنعم عبد الرحيم العوضي: مرجع سابق، ص101.
16- يسوق الفقه كمسوغ للقواعد الإجرائية مفهوم الأسباب فكل سبب لتطبيق القاعدة هو مسوغ لها، والقاعدتان موضوع البحث تعود أسبابها إلى:
1- الحفاظ على حق المتهم في الدفاع عن نفسه، بسبق معرفته بالجرائم أو التهم المحال عليها والاستعداد لها.
2- إن القاعدتين تجسدان فكرة الحياد.
3- عدم احترام القاعدتين يفقد المحكمة والمتهم ضمانته التي يستوجبها المشرع والمنطق أيضا.
للتفصيل ينظر : د. حسن بشيت خوين: المرجع السابق، ص110
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|