توزيع السلطات القضائية وأثره في قاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجزائية |
3153
11:20 صباحاً
التاريخ: 9-5-2017
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2/9/2022
1534
التاريخ: 2023-09-07
1284
التاريخ: 19-3-2018
1876
التاريخ: 2023-07-25
982
|
يعتقد الكثير من المتناولين للمصطلحات القانونية محدودية نطاق استعمال هذه المصطلحات إلا أن بعضها يفرض نفسه على أكثر من مجال من مجالات القانون ومنها مصطلح فصل السلطات(1) حيث نجد أن مصدر هذا المصطلح هو سياسي بحت لكنه يتداخل ليشمل اكثر مجال من مجالات القانون ومنها الجنائي.
إلا أن ما يدفعنا إلى التعرض لهذا المصطلح ليس العمق السياسي الذي يحتويه بل الطابع الجنائي لهذا المصطلح، فمضمون فصل السلطات بحد ذاته يعني تجزأ العمل أي كان نوعه إلى أقسام توزع بين سلطات عدة ولاعتبارات تتعلق بالعدالة، وعدم التأثير فيما بينها وتحت المبرر الفلسفي ذاته كان يجب حتى تتصف طريقة حل النزاع الجنائية بالعدالة أن يتم الفصل بين السلطات الجنائية التي تتعرض للخصومة الجنائية منذ تحريكها حتى تنفيذ الحكم ، ولسنا هنا في مجال مناقشة مبدأ فصل السلطات القضائية كونه يحيد بنا بعيداً عما نبغيه من وراء هذا المطلب ألا وهو بيان ماهية العلاقة بين هذا المبدأ والصورة المطبقة منه مع مبدأ التقييد بنطاق الدعوى الجزائية الشخصي والعيني.
عليه لا بد لنا أولاً من معرفة ما يمثله مبدأ فصل السلطات لمبدأ التقييد بنطاق الدعوى، ومن ثم معرفة الغاية من هذا البحث ثم نتطرق لمعرفة هذه السلطات القضائية وماهية النظم التي عالجتها في الإطار الإجرائي الجنائي، والوقوف على أفضلها وأكثرها تطبيقاً واتصالاً بموضوع بحثنا هذا،وسنقسم هذا الموضوع على ثلاثة فروع ووفق الآتي :
الفرع الأول : مبدأ الفصل بين السلطات
الفرع الثاني : السلطات القضائية الإجرائية وأثر النظم الإجرائية في تنظيمها.
الفرع الثالث : موقف النظم الإجرائية الجزائية من الفصل بين الوظائف القضائية .
الفرع الأول
مبدأ الفصل بين السلطات(2)
قد يسأل سائل عن الغاية التي نقصدها من وراء التطرق لهذا الموضوع أو عن الجدوى تجاه موضوع البحث أن قاعدة تقيد المحكمة بنطاق الدعوى .لم تكن لتبرز للوجود لولا وجود ذلك الانفصال العضوي والوظيفي بين جهتين قضائيتين الزم ذلك أحدهما أن تحيل ما تتوصل إليه من نتائج تخص إحدى الجرائم سواء كانت هذه النتائج هي وقائع معينة أو أشخاص معنيين تنسب لهم صلة تجاه تلك الوقائع وهذه الجهة هي التي يمكن حصرها بسلطة الاتهام وسلطة التحقيق معاً، أما الجهة الثانية فهي قضاء الحكم الذي يقع عليه عبء إثبات أو نفي الجريمة تجاه المتهمين بها أي الوصول إلى حكم معين في النزاع.
وهنا يظهر لنا الرابط ا لقوي بين مبدأ تقييد الدعوى ومبدأ الفصل بين السلطات، حيث لا وجود لتقيد المحكمة بنطاق الدعوى الجزائية ما لم تتميز وتنفصل عن جهة الإحالة سواء كانت هذه الجهة قاضي التحقيق أو النيابة العامة بحسب النظام القانوني المعمولة به.
وفي الحقيقة إن قاعدة التقييد بنطاق الدعوى الجزائية هو نتيجة لمبدأ فصل السلطات في إحدى صوره، أي أن المبدأ مترتب على تلك الطبيعة الانفصالية للسلطات القضائية فيما بينها، وهذا ما ندعوه نحن بالدعامة الأخيرة للنطاق، إن مبدأ الفصل بين السلطات يقوم على دعائم تمثل كيانه ، فهو يستند إلى أساس فلسفي يتمثل بحياد القاضي، وهذا يشكل أولى الدعائم، ومن ثم لا بد أن يكون هناك فصل للسلطات القائمة على الاتهام والتحقيق عن سلطة الحكم، أما الدعامة الأخيرة فهي الصورة التي تظهر فيها القاعدة عند التطبيق، وهي تقييد القاضي تجاه النزاع وعدم تدخله به بشكل يؤدي إلى تغيير الاتهام أو تعديل ما يحيله المختص بسلطة التحقيق، أي حياد القاضي.
الفرع الثاني
السلطات الجزائية الإجرائية وأثر النظم الإجرائية في تنظيمها
لا يكفي ضماناً لاستقلال القضاء أن يتحقق الفصل بينه وبين السلطات التشريعية والتنفيذية حسب المفهوم السياسي لفصل السلطات فحسب، بل ينبغي كذلك ضماناً لتحقيق أهداف الدعوى الجزائية في إقرار حق الدولة في العقاب على أساس من الحقيقة الموضوعية أن يفصل بين السلطات التي تتولى الدعوى الجزائية في مراحلها المختلفة وهذه السلطات هي:
أولاً : سلطة الاتهام :
وهي السلطة التي تقوم بتحريك الدعوى الجزائية قبل المتهم(3) ،وهي أما أن تتمثل بالمجني عليه أومن يقوم مقامه، أو جهة الادعاء العام المكلفة قانوناً بتحريك الدعوى للمصلحة العامة(4). في غير الحالات التي قيد المشرع فيها تحريك الدعوى بشكوى من المجني عليه أو من يقوم مقامه قانوناً (5)، وهناك أيضاً جهة أخرى للاتهام هي المحكمة ذاتها في جرائم التصدي والجرائم الخاصة بالجلسات(6) .
وتحريك الدعوى الجزائية هو البدء في تسييرها أمام السلطات المختصة إذا ما توفرت العناصر الرئيسية لوجودها كمشتكي ومتهم عليه(7)، وتجدر الإشارة إلى أن التمييز ضروري هنا بين جهة تحريك الدعوى وجهة استعمالها ومباشرتها فمن يحرك الدعوى ليس ضرورياً أن يستمر باستعمالها لحين صدور قرار فيها، فالاستعمال أعم وأشمل(8)، فإذا كان تحريك الاتهام من قبل عدة جهات منها الادعاء العام فإن الادعاء العام هو الجهة الوحيدة المخولة استعمال الدعوى الجزائية لحين صدور حكم فيها.
ومن هنا يتضح لنا أن النظام اللاتيني بشكل عام يجعل تحريك الدعوى بشكل عاما من اختصاص الادعاء العام ابتداءاً ومن ثم يعطي الحق للفرد في بعض الجرائم بتقديم الشكوى . كما أن تحريك الدعوى في بعض المسائل يتم من خلال سلطات استثنائية قد تتخذ في بعض الأشكال إذن وزير العدل، للمتهم خارج العراق حيث لا يمكن اعتباره جهة اتهام بقدر كونه جهة إدارية يستلزم القانون إذنها لتحريك الدعوى(9). في حين أن النظام الانكلوسكسوني والذي يعد المرجع الأعلى لمبدأ التقييد لنطاق الدعوى الجزائية يحتوي في مضامينه تنوعاً غريباً لجهات الاتهام وبشكل كبير . فهو يعهد بالاتهام ابتدائياً إلى الفرد العادي كحق موروث من النظام الاتهامي الذي لا يزال يطبق على الرغم من الانتقادات الكثيرة، إذا كان يمنح حق الاتهام للفرد فإنه يفرض عليه قيد كبير قد يؤدي بالاتهام إلى الانحسار حيث يضطر الفرد العادي إلى تقديم الاتهام عن طريق ممثل قانوني خاص به(10). أو في بعض الأحيان تقيد هذا الحق بالحصول على أذن جهات معينة كنوع من الرقابة عليها، أو قد يقيد القانون الإنكليزي الفرد في حالة الاتهام بما يخص الجرائم التي تهم الدولة (11). عموماً فقد مهدت هذه القيود التي فرضت على الحق الفردي للاتهام إلى بداية ظهور (الهيئة الملكية للادعاء العام) ....
كما أعطى النظام الأنكلوسكسوني حق الاتهام إلى الأشخاص المعنيين سواء كانت مصالح حكومية، أو أشخاص معنوية خاصة يمكن لها التقدم بواسطة ممثليها بأي اتهام ترتضيه. ويمكن لأي جهة معنوية خاصة ان تتقدم بأي اتهام في حال المساس بالحق الذي تتصدى لحمايته(12).
أما الجهة الأكثر سيطرة على الاتهام في القانون الإنكليزي قبل إنشاء الهيئة الملكية للادعاء العام فهو جهاز الشرطة الذي كان هو السيد في الاتهام في الدعوى الجزائية ذلك لعزوف أغلب الأفراد عن القيام بهذه المهمة لعدم مقدرتهم تحمل التكلفة المادية لها، فيقوم جهاز الشرطة ذاته بتقديم الإدعاء .
والملاحظ أن الكثير من الانتقادات وجهت إلى هذه الجهة كطريقة التوجيه الاتهام، كونها قد جمعت بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق، إذا ما عرفنا أن رجال الشرطة هم المسؤولون الأصليون عن التحقيق في النظام الانكلوسكسوني، وبسبب هذه الانتقادات قام المشرع الإنكليزي بإنشاء الهيئة الملكية للادعاء التي اعتبرت كجهة مستقلة تتكفل بمهام الادعاء العام كما في النظام اللاتيني (13)،حيث شهد عام 1985 تطوراً في النظام الإجرائي الإنكليزي بإصدارة قانون ملاحقة الجرائم، متضمناً إنشاء هيئة أو جهاز ملكي للادعاء العام كان الهدف الأهم منه توفير اكبر قدر من التجانس في سياسة الاتهام ورفع كفاءة نظام العدالة الجنائية وتفادي مثالب النظام الاتهامي عن طريق جهاز الشرطة.وتجدر الإشارة إلى أن النظام الأمريكي الخاص بالاتهام قد أوكل مهمة الاتهام حصراً إلى الادعاء العام الذي يترأسه النائب العام، وليس للأفراد كما في إنكلترا(14).
خلاصة القول أن سلطة الاتهام كوظيفة قضائية مهمة وأولى في الخصومة الجنائية تتعدد الجهات التي تمارسها في كلا النظامين اللاتيني الانكلوسكسوني إلا أن الطابع العام هو إرجاعها إلى جهة الادعاء العام كممثل عن المجتمع.
علماً أن سلطة الاتهام، وفي جميع الأحوال تكون منفصلة ابتدائياً عن سلطة الحكم ... .
ثانياً : سلطة التحقيق الابتدائي :
بعد تحريك الدعوى من قبل الجهة المختصة أياً كانت، تبدأ مرحلة التحقيق الابتدائي للوصول إلى الحقيقة التي تفرض على القائم على التحقيق سواء كان قاضي التحقيق أو النيابة العامة الاختيار بين ترجيح الإدانة ومن ثم الإحالة إلى المحكمة المختصة أو إذا كانت الأدلة لا تكفي للإحالة الأمر بالإفراج. إذ ترمي هذه الوظيفة إلى جمع الأدلة . والتحقيق هو مجموعة الإجراءات القضائية التي تباشرها سلطات التحقيق بالشكل المحدد قانوناً بغية تمحيص الأدلة والكشف عن الحقيقة حتى لا تحال الى المحاكم إلا الدعاوي التي تستند على أساس متين من الواقع والقانون(15) .
أما السلطات التي تباشر وظيفة التحقيق فقد اختلف النظم الإجرائية في تحديد هذه السلطات، وانبعثت بشأنها مذاهب شتى ففي فرنسا عهد بالتحقيق إلى قاضي التحقيق وقد سار على منوالها دول كثيرة ومنها العراق(16) .وقد أسندت في مصر إلى النيابة العامة للتحقيق فضلاً عن سلطتها الأصلية في الاتهام مكرسة بما يعرف نظام الجمع بين سلطتي الاتهام والتحقيق، أما في النظام الأنكلوسكسوني فقد عهد بالتحقيق إلى جهاز الشرطة فأصبح التحقيق من اختصاصات الشرطة الحصرية أما الاتهام فقد تنوعت الجهات التي تقوم به فهو مخول إلى الفرد العادي أولاً كنظام بدل على صلابة النظام الاتهامي في وجه الانتقادات الموجه إليه هناك، لكنه قد أعُطي أيضا إلى جهات أخرى(17).
ومن خلال ما تقدم يظهر لنا أن اختلاف النظم القانونية الإجرائية في عملية إسناد مهمة التحقيق قد أدت إلى ظهور ما يسمى بمبدأ الفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق أو الجمع بينهما، فمن الدول من قامت بتبني الفصل بين من يقوم بالاتهام عمن يقوم بالتحقيق، ولاعتبارات كثيرة لا مجال لذكرها هنا(18) ومثالها فرنسا والعراق وإن لم يكن بشكل مطلق، وبسبب هذا الفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق أو الجمع بينهما ظهر اختلاف النظم فيه .
ثالثاً : سلطة المحاكمة :
حتى يكون سير الدعوى الجزائية أو استعمالها بالشكل الذي يوصل إلى تحقيق العدالة، لا بد ولأي دعوى جزائية بعد أن يرفع فيها اتهام معين وتبدء معه إجراءات التحقيق بما يحتويه من جمع للأدلة والاستدلالات تصل بقناعة القائم عن التحقيق أياً كان سواء قاضي تحقيق كما في النظام اللاتيني أو النيابة العامة في النظام الإجرائي المصري ومثيله، أو حتى رجال الشرطة في النظام الانكلوسكسوني فهم يحيلون ما توصلوا إليه من نتائج تدعو إلى الاستمرار بالخصومة الجنائية، والانتقال بها إلى مرحلة أخرى هي المحاكمة، أو يقررون عدم كفاية ما توصلوا إليه من أدلة تكفي لترجيح إدانة المتهم وبذلك تغلق القضية.
ما يهمنا نحن هنا هي حالة الانتقال إلى المحكمة والقيام بإجراءات المحاكمة حيث ينظر هنا تأثير المراحل السابقة بتكريسها لحالة قاعدة التقيد بنطاق الدعو ىحيث أنها تقيد المحكمة الجزائية بما تحيله إليها من متهمين ووقائع هي محل الاتهام، وبالتالي فإن موضوع البحث يدور حول الفصل بين السلطة التي تحيل والسلطة التي تستقبل الإحالة وتحاكم وهي المحكمة، والتي تقوم بالحكم بالبراءة أو الإدانة أو عدم المسؤولية أو قرار بالإفراج حسب ما يتوفر لديها من يقيني قضائي بخصوص الموضوع(19).
يمكن القول بأنه لا خلاف بين النظم الإجرائية الجزائية سواء اللاتينية أو حتى تلك المطبقة في النظام الانكلوسكسوني حول استقلالية سلطة الحكم والمحاكمة بشخص القاضي أو هيئة المحكمة عن جميع السلطات الأخرى التي تباشر الاتهام أو التحقيق وبشكل كامل جميع معاني الانفصال (التشكيلة – التخصص – الاستقلال في إدارة العمل)(20).
... .
رابعاً : سلطة تنفيذ الجزاء الجنائي :
ظل الفكرالجنائي ولفترة طويلة يدور في تلك النظرية التقليدية الرافضة لدور القضاء في الإشراف على تنفيذ العقوبة بحجة ان دور القاضي ينتهي عند النطق بالجزاء الجنائي عقوبة كان أم تدبيراً، حيث تنتقل الدعوى الجزائية في تنفيذ العقوبة إلى جهة إدارية هي الإدارة العقابية، إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطات بمفهومه السياسي.إلا أن النظرية الحديثة نادت إلى امتداد سلطة القضاء الجنائي ليشمل مرحلة تنفيذ الجزاء كون ان الغاية منها هي إعادة تأهيل المجرم وإعادته إلى المجتمع أي إشراف القضاء على مرحلة التنفيذ للعقوبة، وأن لا مساس بمبدأ فصل السلطات كون عدم امتداد سلطة القضاء هو بحد ذاته انتهاك لذلك المبدأ كون مرحلة التنفيذ ذات طابع قضائي لا يمكن تسليمها إلى السلطة التنفيذية. دون المساس مبدأ فصل السلطات .
وقد أقرت المؤتمرات الدولية الجنائية مسألة كون مرحلة التنفيذ هي مرحلة من مراحل الدعوى الجزائية كمؤتمر برلين للقانون الجنائي العقابي سنة 1935 ومؤتمر باريس للقانون الجنائي سنة 1937، والمؤتمر الدولي العاشر لقانون العقوبات المنعقد في روما 1969، مما حدا بالعديد من الدول إلى تخويل القضاء سلطة الأشراف على تنفيذ العقوبات(21).
ولقد ثار جدل في الفقه الجنائي حول جواز تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات حتى فيما بينها وبين سلطة تنفيذ العقوبة، أم الجمع بين قضاء التحقيق مثلاً ومرحلة تنفيذ العقوبة . واستقر جانب كبير من الفقه الفرنسي على أن مبدأ حياد القاضي ينبغي أن يطبق الفصل بشكل تام حتى في مرحلة تنفيذ العقوبة والإشراف عليها .
ومهما كان هذا الخلاف فإن مجاله ليس ضمن بحثنا هذا كونه يتصدى لمسألة تدخل في سير الدعوى الجزائية ولا يمتد إلى حيز تنفيذ العقوبة بل هي تنتهي حتماً أي قاعدة تقييد المحكمة الجنائية بنطاق الدعوى الشخصي والعيني بلحظة النطق بالحكم(22).
الفرع الثالث
موقف النظم الإجرائية الجنائية من مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية
بعد أن بحثنا السلطات أو الوظائف القضائية التي تحتك في عملها مع الدعوى الجزائية وتبين لنا أنها أربع (الاتهام ، التحقيق ، المحاكمة ، التنفيذ). بقي لزاماً علينا توضيح ما هو موقف النظم الإجرائية من الأخذ أو عدم الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات أعلاه وهل انتهجت جميعها منحى واحداً أم اختلفت في ذلك، حتى نخلص إلى غاية واحدة نتعرض لها في هذا الفرع هي موقف القاعدة الخاصة الذي تقيد به الدعوى من مسألة الانفصال بين الوظائف القضائية. ما دام نطاق تطبيق قاعدة التقيد بنطاق الدعوى عموماً لا يتجاوز مرحلة النطق بالحكم دون تنفيذ العقوبة ، وبالتالي فإن سياق تناول موقف النظم الإجرائية الجنائية ينحصر حول مدى الأخذ بمبدأ الفصل للوظائف القضائية بالنسبة للاتهام والتحقيق ووظيفة والحكم، وبناء على ذلك سنقسم هذا الفرع الى النقاط الآتية:
أولاً : موقف النظم الإجرائية تجاه الفصل أو الجمع بين وظيفتي الاتهام والتحقيق:
بحسب ترتيب دخول الدعوى إلى حيز السلطات القضائية فإن أول من يتولاها من السلطات القضائية هي السلطة المختصة بتحريك الدعوى الجزائية وهي سلطة الاتهام وهنا تظهر المسألة التي نروم بحثها والتي يمكن أن نعبر عنها بالتساؤل الآتي:-
هل يكون القائم بالاتهام منفصلاً عن القائم بالتحقيق أم يمكن أن يزاول المحقق أياً كان مهمة الاتهام؟
إن دراسة الفصل أو الجمع بين هاتين الوظيفتين يتطلب التعرف إلى مدلول موضوع الفصل بين وظيفة الاتهام والتحقيق، ومسوغات الأخذ به وموقف التشريعات منه أولاً ثم التعرض لمدلول الجمع بين وظيفتي الاتهام والتحقيق ثانياً.
1 . مدلول الفصل بين وظيفتي الاتهام والتحقيق :
يقصد به أن يتولى الاتهام جهة غير الجهة التي تتولى التحقيق الابتدائي(23)، ويمكن أن نحدد أسباب الفصل بين سلطة الاتهام عن سلطة الحكم بما يلي :
أ- قاعدة التشكيل: ومؤداها أنه لا يمكن لنفس الشخص أن يباشر في الدعوى ذاتها اكثر من وظيفة واحدة، فلا يمكن للاتهام سواء كان مدعياً عاماً أم نيابة عامة أن يكون قاضي التحقيق في الدعوى التي مارس فيها عمله كسلطة اتهام، وهذا يشمل أيضا حالة العكس أي لا يمكن للقاضي أن يتحول إلى سلطة اتهام في الدعوى ذاتها التي مارس فيها عمله كقاضي تحقيق. ومسوغاً هذا كله هو الحفاظ على حياد القاضي وروح العدالة وضمانات المتنازعين للقضاء وعدم إثارة الريبة فيهم.
ب- قاعدة التخصص: من المستلزمات الواجب توفرها لتحقيق مفهوم الانفصال هي مضمون قاعدة التخصص، أي ان الاختصاص لا يمكن أن يكون لشخص واحد في سلطتين مختلفتين، فاختصاص تحريك الدعوى للنيابة العامة والتحقيق يختص به قاضي التحقيق، ومسوّغاً هذه القاعدة هي ملاءمة الاتهام لطبيعة الاختصاص الاتهامي الذي يحتوي على نزعة اندفاعية ضد المتهم أما وظيفة القاضي فتفرض عليه ابتداءاً أن لا يوجد لديه رأي مسبق أو نزعة اندفاعية، بل الحياد للوصول إلى الحقيقة(24).
ج - قاعدة الاستقلال في أداء العمل: لا بد أن يكون هناك استقلال تام بين سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق حتى يمكن القول بانفصالهما، فلا يمكن التأثير بينهما في أداء ما هو موكل لهما.
فإذا توافرت تلك الأسباب الثلاثة فنحن أمام حالة الفصل بين السلطتين أياً كانت هذه السلطة .
ومسوغات الفصل بين وظيفتي الاتهام والتحقيق هي :
المسوّغ الأول : كون هذا المبدأ يعد انعكاساً للمبدأ الأم المطبق في الواقع السياسي، حيث أن لتحقق عدم إساءة استخدام السلطة ينبغي تفعيل مبدأ السلطة التي توقف السلطة وهذا مهم في الجانب القضائي الجنائي، وبالتالي فإن الدعوى الجزائية لا يمكن أن تكون تحت يد شخص واحد دائماً وإنما لا بد أن يكون هناك نظر جديد لها عند عرضها على السلطة الجديدة دون وجود رأي مسبق(25).
المسوّغ الثاني : كون أن هذا المبدأ فرنسي النشأة، فإن الفرنسيين وفي سبيل حماية حقوق وحريات الآخرين جعلوا من القضاء الحصن الراعي لها، فإن من البديهي أن يكون هذا الحصن هو الرقيب، وليس جزءاً ممن يقوم بالاتهام أي الجمع بينه وبين وظيفة الاتهام متمثلة بالنيابة العامة.
المسوّغ الثالث: والأساس الثالث للفصل بين هاتين الوظيفتين هو أن طبيعة عمل كل منهما تختلف عن ا لأخرى فعمل التحقيق ومن يقومون عليه يستند أساسا إلى عملية جمع الأدلة والتحقيقات والاستدلالات بما يمكنهم من الوصول إلى الحقيقة عن طريق جمع الأدلة التي تثبت التهمة عن تلك التي تنفيها وإصدار القرار بترجيح الإدانة ومن ثم إلاحالة إلى المحاكمة وبخلاف ذلك التوقف عند هذه المرحلة.
أما سلطة الاتهام فهي تحرك الدعوى الجزائية وإلا لما تقدمت باتهامها، أما الحياد فيصعب تطبيقه هنا لتعارضه مع طبيعة وظيفة الاتهام.
وكان الهدف الرئيس من وراء هذا الفصل هو إيجاد رقابة متبادلة بين السلطتين والحيلولة دون تجاوز إحدى السلطتين لوظيفتهما(26).
عموماً فإن العمل قد جرى في الكثير من الأنظمة القضائية على جعل العمل القضائي ينقسم بين أربعة جهات قضائية، جهة تقوم بالاتهام للمصلحة العامة، وجهة تقوم بجمع التحريات والأدلة، وجهة تقوم بتقييم هذه الأدلة، وجهة أخيرة تقوم على الحكم في الدعوى .ونحن نضيف حسب النظرية الحديثة للسياسة الجنائية بصنفاً خامساً يقوم على الإشراف على تنفيذ العقوبة على المحكوم عليه . أن فصل سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق من أهم صور مبدأ فصل السلطات أو الوظائف القضائية وقد سارت أغلب النظم الإجرائية عليه إلا بعضها الذي أخذ بالجمع بينهما واشهرها النظام الإجرائي المصري .وبالتالي فما دام هناك فصل بين سلطة الاتهام عن التحقيق وإن لم يتصل اتصالاً مباشراً مع قاعدة التقيد بنطاق الدعوى إلا أنه يتصل به من حيث كون القاعدة تقف أساساً على دعامة الانفصال ين وظيفتين قضائيتين أحدهما تحيل ما تتوصل إليه وهي هنا سلطة التحقيق الابتدائي والأخرى تحكم لما يحال عليها وهي محكمة الموضوع (27).
لذا فقاعدة التقييد بنطاق الدعوى الجزائية لا يتأثر بشكل كبير بالفصل بين هاتين السلطتين ما دامت المحكمة في جميع الأحوال تتسلم ما يحال إليها من الجهة الأخرى سواء كانت هذه الجهة نتاج فصل أم جمع يبن سلطة الاتهام والتحقيق كما في العراق الذي يأخذ بالفصل النسبي، وفي مصر التي تأخذ بمبدأ الجمع. فحقيقة ما يحدث ان قاضي التحقيق في العراق يتفاعل مع الاتهام المقدم إليه فيحيل قناعته إلى المحكمة بصورة قرار الإحالة الذي يحتوي تفاصيل التقيد بنطاق الدعوى .أما في مصر فإن النيابة العامة هي التي تقوم بالاتهام عموماً ومن ثم تحقق فيه، وبالتالي فإن ما تتوصل إليه يحال أيضاً إلى المحكمة الجزائية فتتقيد به من حيث الأشخاص والوقائع .
2 . مدلول الجمع بين وظيفتي الاتهام والتحقيق :
ويعرف بنظام الجمع بين وظيفتي الاتهام والتحقيق بيد هيئة واحدة تمارس الاختصاص معاً ، حيث يتعرض جوهر حياد المسؤول عن ممارسة سلطة الاتهام والتحقيق الى خطر الانتهاك الموجه إليه من دواعي استخدام سلطتين بيد هيئة واحدة. وهذا الحال لا يعني بأي حال عدم منطقية الطرح الخاص بهذا المبدأ فقدمت له الكثير من المسوغات منها عدم تفاعل القاضي من الناحية العملية مع الكثير من الحقائق وكذلك تثبيت الدليل من خلال تعدد أماكن سؤال المتهم سواء أمام ضابط التحقيق أو قاضي التحقيق أو المحكمة(28).
بل أن تلك المسوغات وغيرها كانت السبب في إعطاء بعض الاختصاصات التحقيقية إلى سلطة الاتهام المتمثلة في الادعاء العام سواء في فرنسا أو حتى في العراق، حتى صدور قانون الادعاء العام في العراق رقم 159 لسنة 1979 الذي كرس مبدأ الفصل بين سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق عدا حالة غياب القاضي فقط(29).
وقد انعكس نقاش الفقه والاختلاف بينهم حول الأخذ بالفصل من عدمه على اتجاهات الدول فمن الدول العربية التي أخذت بنظام الجمع مصر، والكويت، وليبيا، والأردن، واليمن، وبعض الدول الغربية مثل إيطاليا، ألمانيا، بولندا، بلجيكا. ولقد سوّغه أصحاب هذا الاتجاه بحاجة المجتمع للسرعة في حل القضايا ولاعتبارات عملية معينة ليست هي محل نقاش بل معرفة المبدأ أولاً ثم ما يتصل بقاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجزائية من تأثيرات نابعة عن حالة الجمع بين الوظيفتين، يمكن القول أن حالة الجمع والتي تجعل في الكثير من الأحيان للنيابة العامة قدرة الاتهام والتحقيق وأن تقاربت من انتهاك مبدأ الحياد من جهة إلا أنها لا تؤثر على قاعدة التقيد بنطاق الدعوى الذي يقوم على مضمون الحياد ذاته ، كون جوهر تطبيق المبدأ لا يشترط وجود جهة إحالة والتي هي هنا النيابة العامة التي تحيل الاتهام المحقق فيه مع تقديرها للأدلة إلى جهة المحكمة التي تكون ملزمة بقبوله والتقيد به(30).
ثانياً : موقف النظم الإجرائية من مبدأ الفصل بين وظيفتي التحقيق والحكم وأثره في قاعدة التقييد بنطاق الدعوى الجزائية :
بعد مناقشتنا لطبيعة العلاقة بين الوظيفتين السابقتين على مرحلة المحاكمة وهما الاتهام والتحقق سواء في حال الجمع أو الفصل، وبعد أن وضحنا أن منهج بحثنا لا يدخل في نطاقه تنفيذ الجزاء الجنائي، وبالنظر إلى طبيعة قاعدة التقيد بنطاق الدعوى الجنائية الذي يقوم بجوهره على عدم تدخل محكمة الموضوع بأمور الاتهام والتحقيق في الدعوى المعروضة يصبح من الواضح أن قاعدة التقيد توجد مع وجود الانفصال العضوي والوظيفي لسلطة المحاكمة عن السلطة التي تهيئ الدعوى الجزائية للقضاء وهي سواء كانت منفصلة الطبيعة عن سلطة الاتهام أو ذات طبيعة مزدوجة أي سلطة اتهام وتحقيق معاً كما كان في النيابة العامة في قانون الاجراءات الجنائية المصري . ان الانفصال الذي نعنيه هنا هو انفصال يوجد بوجود معانيه الثلاثة السابقة الذكر من انفصال التشكيل والتخصص، واستقلال العمل.
1 . مدلول المبدأ :
لا يجوز لنفس القاضي في الدعوى ذاتها مباشرة وظائف التحقيق والحكم بما يحتويه من انفصال التشكيل والتخصص والاستقلال في أداء أعمال الوظيفتين ، وبالتالي يكون مستقلاً حتى في تكييفه القانوني للوقائع عن قاضي التحقيق وتقدير قيمة الأدلة في الدعوى(31) .
أما بالنسبة للعلاقة بين مرحلة الحكم بما قبلها، فالمبدأ يطبق في الدعوى حتى وإن كان هناك فصل بين التحقيق والاتهام لا بل هو واجب التطبيق في الأنظمة التي أخذت بنظام الجمع بين وظيفتي الاتهام والتحقيق بيد النيابة العامة مثل مصر، وإلا لكانت الدعوى الجزائية بيد سلطة واحدة أو جهة محددة بذاتهاوهذا ما ينافي ابسط دلالات العدالة. فضلاً عما ما تقدم فقد ظهر في الفقه مفهوم آخر يدعم الفصل بين مرحلة المحاكمة ومرحلة التحقيق تحت مفهوم (التعارض للأعمال القضائية للوظائف)(32).والتعارض هو مفهوم قانوني يفرضه المنطق السليم أي ان أي تعارض بين أعمال سلطتين يوجب القانون الفصل بينهما لخرقهما مبدأ حياد القاضي، والتعارض يستند إلى ما يقوم عليه نظم الإجراءات الجزائية الحديثة من فصل دقيق بين وظيفتي الاتهام والحكم(33). وقد نص على هذا المبدأ الكثير من القوانين كالفرنسي والمصري والعراقي أيضاً. وأصبح هذا المبدأ واجب الاحترام إلا في حالات نادرة استوجبتها المسوّغات العملية كما في جرائم الجلسات أو التصدي للمتهمين الجدد (34).
إن هذا المبدأ هو أساس قاعدة التقييد بنطاق الدعوى الجزائية ولا دليل أهم من أنه ينبع من النظام الاتهامي حيث يحظر على المحكمة التدخل في عمل الاتهام(35). وبالتالي لا يمكن أن تجد لمبدأ فصل سلطة الحكم عن سلطة الاتهام تطبيقاً في النظام التنقيبي كونه يمنح القاضي قدرة على التدخل حتى في أمور التحقيق وجمع الأدلة.
وتجدر الإشارة إلى أن القضاء الفرنسي قد استخلص هذا المبدأ على الرغم من عدم توفر نص قانوني يمنع الجمع بين سلطة الحكم والتحقيق واستمر الحال كذلك حتى عام 1897 حيث أكد عليه بشكل صريح وثبت في مواد (257) و (49/2) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الجديد(36)، إذن لا يمكن وفق مبدأ الفصل هذا لأي قاضي مارس عمل من أعمال التحقيق أن يقوم بعمل الحكم في الدعوى ذاتها وهنا تجدر الإشارة إلى أن عمل التحقيق لا يستوجب القيام بكل التحقيق دائماً وانما القيام بأي عمل منه أو أي إجراء فيه.
ويجب الانتباه هنا أن وصف الأعمال التي تُنشئ حالة التعارض هي الأعمال ذات الصيغة القضائية وليست الأعمال الإدارية وهنا يمكن لقاضي المحكمة أن ينظر الدعوى حتى وأن أصدر فيها أمر إدارياً سابقاً في التحقيق قبل الاطلاع على الأوراق التحقيقية ، كما أن للمحكمة أيضاً أن تقوم بما يسمى بالتحقيق التكميلي والذي يعد من مراحل المحاكمة وليس التحقيق الابتدائي، كما أن قاضي التحقيق أن يباشر نوعاً معيناً من الأعمال التي لها طابع المحاكمة مثل الحكم على الشهود عند امتناعهم عن الحضور أو أداء اليمين (37) .
2 . شروط تطبق مبدأ الفصل بين وظيفة التحقيق والحكم :
من خلال العرض السابق لمضمون المبدأ تستطع تحديد شروط تطبيقه حيث من البديهي القول أن هذا المبدأ يحتاج الى أن تكون الأعمال للسلطتين تنصب في دعوى واحدة وليس في دعوتين، أي ليس هناك ما يمنع من أن يكون القاضي عضواً في قضاء الحكم لدعوى وهو محقق في دعوى أخرى أو العكس. لانتفاء علة الرفض له وهو الحفاظ على حياديته بعدم تكوين رأياً مسبقاً في الدعوى أو اتحاد سلطتين بيده التحقيق والحكم . فهذا شرط أساسي لابد من توافره إلا أن هناك شروط تتعلق بممارسة وظيفة التحقيق وأخرى بمباشرة وظيفة الحكم.
حيث لا يمكن لقاضي الحكم بأن يمارس أي عمل من أعمال التحقيق حتى وإن كان جزئياً، إلا إذ كان عملاً إدارياً حسب . وأن كان هناك نقاش حول عمل القاضي الجزائي الذي ظهر في قضاء فرنسا ومصر إلا أن واقع ما استقر عليه الحال هو عدم التفريق بين القاضي العادي والجزائي(38) .
وإن لمحكمة الجنايات بجانب الأعمال القضائية هناك إجراءات قضائية وأعمال إدارة قضائية لا تدخل ضمن مفهوم الفصل السابق ذكره . هذا في الفقه الفرنسي أما في مصر فأن الحال هناك مختلف حيث يمتنع على قاضي التحقيق أو المحقق التدخل في أي عمل من أعمال المحاكمة أياً كانت صفته حسب ما هو معمول به(39) . كذلك لابد من التحقيق التكميلي القضائي الذي تجربه المحكمة تدخلاً في الأعمال التحقيقية . أو قيام سلطة التحقيق بأمر من طبيعة وظيفة الحكم مثل الحكم على الشهود الممتنعين عن أداء اليمين(40) .
بقي أن نقول بأن مبدأ فصل وظيفة التحقيق عن الحكم الذي ينتج قاعدة تقيد المحكمة بقيود الدعوى الجنائية كان ولا يزال متبعاً بالقدر الذي يمكن القول عليه أنه مبدأ عام في نطاق قانون الإجراءات الجنائية وأن ظهرت عليه بعض الاستثناءات النادرة التي تسوغها الضرورات العملية ومبدأ حياد القاضي نفسه إذا ما فُسر بالشكل الصحيح .
ومن خلال ما تقدم تبين لنا ماهية النظم الإجرائية الرئيسة سواء في الاتهام أم في توزيع العلاقات بين الوظائف القضائية ، والتي أهمها بالنسبة إلينا هي مسألة الفصل بين وظيفة التحقيق عن وظيفة الحكم لكون هذا الفصل يمثل السببية التي تنشئه قاعدة تقيد المحكمة الجنائية بحدود الدعوى . فلا وجود للتقيد مع انعدام الفصل لانعدام وجود الاستقلالية بين المحُيل والمحال عليه وبالتالي انعدام الذات المميزة للسلطات الموجبة للتقيد فما بينها .
ومن هنا يظهر لنا أهمية هذا العرض وخطورة النتائج المتوصل إليها أعلاه كون عدم الفصل بين سلطة التحقيق والحكم يفضي الى إهدار قاعدة التقيد وبالتالي إهدار مبدأ حياد القاضي الذي يمثل أساس العدالة .
ثالثاً : مدى تأثر مبدأ التقيد بنطاق الدعوى الجزائية بنوع النظام الإجرائي الذي يحكم عمل السلطات القضائية :
أصبح واضحاً الآن وبعد ما تقدم من عرض للسلطات القضائية التي تدخل في تعاملها مع الخصومة الجنائية كما أن هناك أكثر من نظام يعالج توزيع العلاقة بينها من حيث فصل أو جمع السلطات مع بعضها . ونحن ابتداء قد حصرنا توزيع السلطات بالسلطات الثلاث الأولى وهي الاتهام والتحقيق والمحاكمة بعد استبعدنا الرابعة وهي سلطة تنفيذ العقوبة .
... أن توزيع السلطات يقوم أساساً على نظامين أحدهما ينظم عمل سلطتي الاتهام مع التحقيق والآخر ينظم توزيع السلطات بين سلطة التحقيق والمحاكمة .
أما بالنسبة للأول فقد كان ... هناك سياقين في نوع التنظيم دأيت النظم الإجرائية عليها أولها أخذ بفصل سلطة الاتهام عن التي يقوم بالتحقيق ومثالها العراق ، هنا نقول بأن مبدأ تقييد الدعوى الجنائية وهو يرتكز على حقيقة انفصال سلطة الإحالة عن السلطة المختصة بالحكم . فأن تجاه هذا السياق لا يظهر ذلك التأثير الكبير من حيث مدى الأخذ بالفصل أو الجمع ما دام التكوين الناتج في الحالتين يعد من تكوين جهة هي تحيل الى المحكمة. هذا وأن كانت نتاج جمع السلطتين كما هو حاصل في مصر . إذ أن مبدأ تقييد الدعوى معروف في نظام الإجراءات الجنائية المصري مع أخذها بمبدأ الجمع .
أما المبدأ الآخر وهو النظام الذي يعالج الفصل بين سلطة التحقيق والمحاكمة. ويمكن ملاحظة أنه قد ورد تعبير الفصل دون الجمع لكون الجمع بين هاتين السلطتين يمثل خروجاً صريحاً عن كل مفاهيم العدالة وبالخصوص إذا كان هناك جمع بين سلطة الاتهام والتحقيق أساساً .فمبدأ تقييد الدعوى يتأثر ويظهر تأثره بشكل كبير من هذه الناحية بل يمكن القول أن السبب الحقيقي وراء درج هذا الموضوع أي فصل السلطة هو الوصول الى هذه النقطة أي حد الفصل بين التحقيق والمحاكمة أو الفصل فيما بين المحاكمة وما يسبقها من سلطات مختصة بعمليات معينة سواء اتهامية أو تحقيقية .
أي أن مبدأ تقييد الدعوى يتأثر بهذا الفصل ويعتمد عليه في تكوين مضمون مبدأ التقيد. ولا يمكن القول بأن هناك مجال منطقي للجمع بين السلطة التي تتولى مرحلة المحاكمة بما يسبقها من سلطات وفي كل الأنظمة الإجرائية المعروفة .
إذن فقد تحقق التأثير بين مبدأ فصل الوظائف أو السلطات القضائية وتطبيق مبدأ تقييد الدعوى بتمام الفصل بين السلطة التي تقوم بالمحاكمة وباقي السلطات .
_________________
1- يرتبط مصطلح فصل السلطات مع اسم المفكر الفرنسي (مونتسكيو) الذي لم يكن أول من قال به لكنه أول من وضع دعائمه في كتابه (روح القوانين) الذي قال بتقسيم وعدم جمع وظائف الدولة الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) في جهة واحدة، للتفصيل يراجع: د. محمد سليمان الطماوي: السلطات الثلاث في الدساتير العربية المعاصرة وفي الفكر السياسي الاسلامي، ط5 ، بدون مكان الطبع ، 1986، ص518 وما بعدها.
2- إن مبدأ الفصل بين وظائف القضاء الجنائي لم يكن معروفاً إلا بعد قيام الثورة الفرنسية لعدم تبلور فكر وظائف القضاء الجنائي نفسها ولعدم معرفة مبدأ فصل السلطات الأم، علماً أن فكرة وظائف القضاء قد ظهرت في قانون 7 بلوفيوز السنة التاسعة، يراجع د. أشرف رمضان عبد الحميد، مرجع سابق، ص99.
3- ينظر : د. . حسن جوخدار ، أصول المحاكمات الجزائية ، ج3 ، جامعة دمشق ، دمشق ، 1987 ، ص65.
4- تنص الفقرة ( أولاً ) من المادة (2) من قانون الإدعاء العام رقم 159 لسنة 1979 على أن : ( للإدعاء العام وبالإضافة الى جهات أخرى التي يعينها القانون ... أولاً إقامة الدعوى بالحق العام ما لم يتطلب تحريكها شكوى أو إذناً من مرجع مختص ) .
5- ينظر نص المادة (3) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي .
6- وتنص الفقرة ( أ ) من المادة (1) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي على أن : ( تحرك الدعوى الجزائية بشكوى شفوية أو تحريرية تقدم الى قاضي التحقيق ... من المتضرر من الجريمة أو من يقوم مقامه قانوناً أو أي شخص علم بوقوعها أو بأخبار يقدم الى أي منهم من الإدعاء العام ما لم ينص القانون على خلاف ذلك).
7- ينظر : جواد الرهيمي: أحكام البطلان في قانون أصول المحاكمات الجزائية، بلا مكان ، 2003، ، ص109.
8- ينظر : د. حسن جوخدار ، المرجع السابق، ص66.
9- تنص فقرة (ب) المادة (3) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أن : ( لا يجوز تحريك الدعوى الجزائية في الجرائم الواقعة خارج جمهورية العراق إلا بإذن من وزير العدل ) ، علماً أنه قد حلت كلمة رئيس مجلس القضاء الأعلى محل وزير العدل بحسب أمر مدير سلطة الإئتلاف بول بريمر رقم (12) .
10- ينظر: - Hamton (c): Criminal procedure, 2nd edition, 1977, London,Sweet
and Maxmen, p.18
11- ففي بعض الأنظمة الإجرائية قد يعطى حق الاتهام إلى النائب العام في الجرائم السياسية، أو إلى مدير الادعاء العام في الجرائم ذات الحساسية العائلية، أو إلى وزير الداخلية في الجرائم التي يدخل فيها عنصر أجنبي. للتفصيل ينظر : د . أشرف رمضان عبد الحميد ، قاضي التحقيق في القانون الجنائي المقارن، دار النهضة العربية ، بيروت، 2004 ، ص300 .
12- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد ، قاضي التحقيق في القانون الجنائي المقارن، دار النهضة العربية ، بيروت، 2004 ، ص301.
13- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد، مرجع سابق، ص302.
14- يرد تعبير النائب العام في إنكلترا ليعكس مضموناً يختلف عن مضمونه في النظام اللاتيني، فهو ذو طابع سياسي أكثر من إداري، حيث يتواجد في حالة انتهاك مصلحة التاج فقط. للتفصيل يراجع د. أشرف رمضان عبد الحميد: مرجع سابق، ص300 وما بعدها.
، ص613 . ينظر : د. محمود نجيب حسني ، شرح قانون الإجراءات الجنائية ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1996 ، ص501.
16- تنص المادة (51) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي على أن : ( يتولى التحقيق الابتدائي قاضي التحقيق... ) .
17- ينظر : د . محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص300 – 305 .
18- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد ، مرجع سابق، ص169، وما بعدها.
19- تنص الفقرة (ب) من المادة (203) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي على أن : ( إذا اقتنعت المحكمة... بأن المتهم ارتكب الجريمة المسندة إليه فتصدر حكماً بإدانته...) .وتنص الفقرة (ج) من المادة (203) من القانون ذاته على أن : ( إذا اقتنعت المحكمة بأن المتهم لم يرتكب الجريمة المسندة إليه أو أن الأدلة لا تكفي لإدانته عنها أو أن الفعل الذي ارتكبه لا يقع تحت أي نص عقابي فتصدر قراراً بالافراج عنه ) .
20- تعد هذه المعاني هي القواعد التي تدخل ضمن مفهوم الانفصال، وبها يتحدد وجوده من عدمه وسوف تتم مناقشتها بشكل كامل عند مناقشة موقف الأنظمة الإجرائية من الفصل أو الجمع بين السلطات أو الوظائف القضائية، وأثر اختلاف تلك الأنظمة على قاعدة التقييد، للتفصيل ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد، المرجع السابق، ص77.
21- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد، المرجع السابق، ص94.
22- للتفصيل ينظر : د. مرقص سعد ، الرقابة القضائية على التنفيذ العقابي، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 1972، ص127 وما بعدها، أشار إليها د. أشرف رمضان عبد الحميد، المرجع السابق، ص90. وكذلك أشار إليها د. عبد العظيم مرسي وزير، دور القضاء في تنفيذ الجزاءات الجنائية، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، 1978، ص125، وما بعدها.
23- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد ، المرجع السابق، ص101.
24- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد ، المرجع السابق، ص103.
25- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد، المرجع السابق، ص104.
26- ينظر : الأستاذ عبد الأمير العكيلي ، أصول الإجراءات الجنائية في قانون أصول المحاكمات الجزائية ، ج1 ، مطبعة المعارف ، بغداد ، 1975 ، ص286.
27- ينظر : د. محمد عيد الغريب، شرح قانون الإجراءات الجنائية، ج2، ط2، القاهرة، 1997، ص1073.
28- ينظر : د. رؤوف عبيد ، مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري ، ط8 ، مطبعة النهضة العربية ، القاهرة ، 1970 ، ص387-388.
29- ينظر نص المادة (17) من قانون الإدعاء العام العراقي . تجدر الإشارة إن أعضاء الإدعاء العام منحوا لقب قاضي .
30- تنص المادة (63) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أن : ( للنيابة العامة في مواد الجنح والجنايات أن تطلب ندب قاضي التحقيق طبقاً للمادة(64) من هذا القانون أو أن تتولى هي التحقيق طبقاً للمادة (199) ومابعدها من هذا القانون ) .
31- ينظر : د. أشرف رمضان عبد الحميد، المرجع السابق، ص78-79 .
32- ينظر: د. محمد عيد الغريب ، شرح قانون الإجراءات الجنائية ، ج2 ، ط2 ، القاهرة ، 1997 ، ص1074 .
33- إن مبدأ فصل الحكم عن التحقيق في الوظائف يجد له منعاً متأصلا في النظام الاتهامي أكثر من النظام التنقيبي .
34- ترد كلمة الاتهام في الأصول التاريخية للأنظمة الإجرائية دون كلمة تحقيق ذلك أن مرحلة التحقيق تعتبر نتاج التطور الحديث للإجراءات الجنائية ولم تكن معروفة في العصور التاريخية المتأخرة .
35- تشترط المادة (244) من قانون الإجراءات الجنائية المصري أن يكون اكتشاف الجرائم الخاصة بالجلسات أثناء المرافعة وليس بعدها وأن تتبع القواعد الاعتيادية وليس قواعد جرائم الجلسات.
36- ينظر : د. محمد عيد الغريب: المرجع السابق، ص1076.
37- ينظر : د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق، ص1078.
38- أعمال القاضي الجزائي هي تلك التي لا تنصب على جوهر الدعوى مثل التقدم في مرحلة التحقيق بطلب الى قاضي المحكمة للنظر في الإفراج المؤقت أو الحبس الاحتياطي. وهذا قد رفض بشكل قوي من قبل الفقه. للتفصل يراجع: د .أشرف رمضان عد الحميد، المرجع السابق، ص85 .
39- ينظر : المواد (248) ، (247) ، (151 / 2) من قانون الإجراءات الجنائية المصري .
40- للتفصل ينظر : د . أشرف رمضان عبد الحميد ، المرجع السابق ، ص88 – 90 .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|