أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-09-2015
9257
التاريخ: 11-3-2016
15260
التاريخ: 2024-09-18
154
التاريخ: 2024-09-18
283
|
نشا علم النحو و ترعرع في كنف القرآن الكريم، ودعت الحاجة الى تأسيسه بعد شيوع اللحن على السنة بعض قراء القرآن الكريم، فضلا عن الاجناس التي دخلت الإسلام، فكان لابد من توظيف أسس وقوانين تضبط اللسان، وتصون قراءة القرآن، اذ ان (النحو علم بقوانين يعرف بها أحوال التراكيب العربية من الاعراب والبناء وغيرهما)(1). فيكون المقصود الأهم من علم النحو: معرفة الاعراب الحاصل في الكلام بسبب التركيب والبناء، لتأدية اصل المعنى بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها ليحترز بها عن الخطأ(2). وعلى هذا يكون علم النحو من اهم الأسس الضابطة التي يوظفها المفسر في العملية التفسيرية، والتي يحتاج اليها بوصفها أدوات للكشف عن مراد الله تعالى من النص القرآني وفهمه، والوسيلة المبينة لدلالة ذلك النص.
وقد جعل الاخذ بمطلق اللغة والاحتراز عن صرف الآيات الا بدليل، والاخذ
بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع(3)، من الأسس التفسيرية التي تبتنى عليها قواعد التفسير.
ومن الثابت ان علم النحو من اهم علوم اللغة، التي يحتاج اليها المفسر في اجتهاده، ويظهر ذلك جليا في احد تقسيمي ابن خلدون (ت 808هـ) للتفسير الذي صنف فيه التفسير الى النقلي، والتفسير الذي يرجع به الى اللسان، وهو (الصنف الآخر من التفسير: وهو ما يرجع الى اللسان من معرفة اللغة والاعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب)(4).
ولما كان القرآن الكريم قد نزل على السنة العرب العرباء وارتبط فهمه بفهم ما ينحوه العربي بكلامه فكان لابد لمن تصدى لتفسيره ان يكون عارفا بعلل النحو والحجة في وجه اعرابه ليقف على مراده، فالنحو من مفاتيح فهم اللغة وظاهرها، والوقوف على سرها ومكنونها. ولذلك الارتباط نرى المفسرين يستشهدون كثيرا بأقوال اعلام النحاة كما ان كثيرا من المفسرين اهتموا ببيان الحجة في القراءات كابي علي الفارسي (ت 377هـ)، وآخرون عنوا بأواخر الكلم في الشكل الاعرابي في علاماته المختلفة في حالات الرفع والنصب، والجر والجزم. بل ان بعض النحاة قد فسر القرآن من وجهة نحوية كالفراء (ت 207هـ) في معاني القرآن والزجاج (ت 310هـ) في معاني القرآن أيضا، وابي جعفر النحاس (338هـ) في اعراب القرآن وغيرهم من النحويين، فافرغوا وسعهم في ذلك الباب بلحاظ ما يتعلق بالإعراب، وذلك وان كان منقوصا من نواح اخر الا انه على قدر من الأهمية من حيث استظهار المعنى من تراكيب النحو. فالحاجة الى اللغة في التفسير ضرورة عندما لا نجد ما يفسر لنا القرآن(5). اذ ان (التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن الكريم، ومدلولاتها واحكامها الافرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب)(6)، ويدخل في احكام الالفاظ العلم بحالات أواخر الكلم وهو علم النحو(7).
وتكون أهمية الاعراب لبيان معنى اللفظ، اذ ان المعاني تختلف باختلاف أواخر الكلم، اذ انه (بمعرفة حقائق الاعراب تعرف اكثر المعاني، وينجلي الاشكال، فتظهر الفوائد، ويفهم الخطاب، وتصح معرفة حقيقة المراد)(8).
والاعراب في اللغة : الابانة والافصاح، واعرب الرجل عن نفسه، اذا بين وأوضح(9)، و (اعراب الكلام أيضا من هذا القياس، لان بالإعراب يفرق بين المعاني في الفاعل والمفعول والنفي والتعجب والاستفهام، وسائر أبواب هذا النحو من العلم)(10)، ولا تخفى الرابطة الوثيقة بين معاني الالفاظ والاعراب، لذا قالوا: الاعراب فرع المعنى، ولا فائدة في قيام احد بإعراب نص يجهل معناه، فأعراب النص تجلية لمعانيه، وكشف لأحكامه. ومن الأسس اللغوية الضابطة، مراعاة الاعراب لتأدية المعنى لمن أراد اعراب القرآن ليتسنى له (ان يفهم معنى ما يريد ان يعربه مفردا او مركبا. قيل الاعراب، فانه فرع المعنى، ولهذا لا يجوز اعراب فواتح السور، اذا قلنا بانها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه)(11).
ويبتنى على هذا الأساس النحوي الاعرابي قواعد تفسيرية، عمل المفسرون على توظيفها لتأدية اصل المعنى، منها:
1- المعرفة بكلام العرب ووجوه مخاطباتهم.
2- الاطلاع على معاني الالفاظ التي قد تختلف باختلاف أواخر الكلم.
3- العمل بالغالب المطرد من قواعد الاعراب من دون الشاذ النادر.
4- صيانة بيان معاني القرآن بما كانت العرب تصون به لسانها من دون تكلف.
5- الاستحكام من وجوه الاعراب التي نحتها المدارس النحوية.
6- استنباط المقاييس الضابطة للأعراب، من خلال استقراء لغة العرب، لتجنب الوقوع في الخطأ.
وسيعرض البحث جملة من الحالات الاعرابية للألفاظ التي استدعت من المفسرين بذل الوسع فيها لمعرفة مدى تأثيرها في تغير المعنى، والاشارة الى الأسس التي يمكن ان تبتني عليها هذه الحالات، فمنها:
المرفوعات
(المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية)(12)، او هو ما اشتمل على علم العمدة، لان الرفع في المبتدأ والخبر وغيرهما من العمد – أي ما لا يستغنى عنه في الكلام – ليس بمحمول على رفع الفاعل فقط، بل الرفع يثبت لكل عمدة في الكلام(13). وعلى أي الدعوتين فالمرفوع يكون عمدة في الكلام، ويترتب على ذلك فهم المراد في الخطاب من حيث استناد الفعل الى الفاعل او ما ينوب عنه، او حمل الخبر او ما يسد مسده على المبتدأ، اذ كون الاسم مرفوعا يجعله محطا او موضوعا يستند اليه الحدث او الوصف او غيره، فلو تغيرت حالته الاعرابية الى غير الرفع لما احتمل الرجوع اليه وتغير حينئذ مفاد الكلام، فلابد للمفسر من انعام النظر في ثبوت الرفع للاسم ليرتب عليه تفسيره، كما في المبتدأ والخبر من المرفوعات.
فالمبتدأ هو الاسم الصريح او المؤول به، المجرد من العوامل اللفظية غير الزائدة وشبهها مخبرا عنه، او وصفا رافعا لمستغنى به. والخبر هو الجزء المنتظم منه مع المبتدأ جملة مفيدة(14). ومع ما ذكر البحث من ان المرفوع عمدة في الكلام لا يستغنى عنه، فانه يجوز حذف المبتدأ او حذف الخبر اذا وجدت قرينة، حيث ان المقصود من الكلام هو المعنى وليس الوجود الكتبي او اللفظي، فبعد قيام القرينة على المحذوف يكون ذلك المحذوف بقوة المذكور في الكلام لوصول المعنى الى المخاطب حينئذ، قال ابن الحاجب (ت 646هـ): (وقد يحذف المبتدأ لقيام قرينة، جوازا)(15)، كما قد يحذف المبتدأ والخبر معا – لقيام قرينة عليهما – فيحذف كل من المبتدأ والخبر دل عليه دليل: جوازا، او وجوبا...(16).
ومن شواهد الرفع بالابتدأء وما يبتني عليه من تغير المعنى، رفع لفظ (لباس) في قوله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26].
فقيل انه مرفوع بالابتدأء كما عن بعض نحويي البصرة، وخبره في قوله: ذلك خير. وقال بعض نحويي الكوفة: ولباس يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل ذلك من نعته، أي ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه خير لكم يا بني آدم من لباس الثياب التي تواري سواءاتكم(17)، فقد يوجه الرفع بوجوه عديدة من الاعراب:
أولها: ان يكون (لباس التقوى) مبتدا أولا، و (ذلك) مبتدا ثانيا، و(خير) خبر المبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول(18).
ثانيا: ان يكون (ذلك) بدلا من (لباس التقوى)(19).
ثالثا: ان يكون (ذلك) نعتا للباس التقوى على ما هو مذهب جماعة و(خير) خبر المبتدأ الذي هو (لباس التقوى)(20).
وقيل لباس التقوى خبر مبتدا محذوف: أي وهو لباس التقوى ثم قيل ذلك خير(21).
ولكي تتم الجملة الخبرية لابد من استيفاء شروط الابتدأء والخبر، فاذا كان الخبر جملة فيشترط في الجملة التي تقع خبرا ثلاثة شروط:
1- ان تكون مشتملة على رابط يربطها بالمبتدأ.
2- الا تكون الجملة ندائية، فلا يجوز ان تقول: محمد يا اعدل الناس، على ان يكون محمد مبتدأ وتكون جملة (يا اعدل الناس) خبرا عن محمد.
3- الا تكون جملة الخبر مصدرة بأحد الحروف: لكن، وبل، وحتى.
وقد اجمع النحاة على ضرورة استكمال الخبر لهذه الشروط الثلاثة(22).
وزاد ثعلب (ت 291هـ) شرطا رابعا، وهو الا تكون جملة الخبر قسمية(23).
وزاد ابن الانباري (ت 328هـ) شرطا خامسا، وهو الا تكون انشائية(24).
والصحيح عند الجمهور صحة وقوع القسمية خبرا عن المبتدأ، كان تقول: زيد والله ان قصدته ليعطينك، كما ان الصحيح عند الجمهور جواز وقوع الانشائية خبرا عن المبتدأ، كان تقول: زيد اضربه(25).
وذهب ابن السراج (ت 401هـ) الى انه ان وقع خبر المبتدأ جملة طلبية فهو على تقدير قول، فالتقدير عنده في المثال: زيد مقول فيه اضربه، تشبيها للخبر بالنعت، وهو غير لازم عند الجمهور(26).
وفرقوا بين الخبر والنعت بان النعت يقصد منه تمييز المنعوت وايضاحه، فيجب ان يكون معلوما للمخاطب قبل التكلم، والانشاء لا يعلم الا بالتكلم، واما الخبر فانه يقصد منه الحكم، فلا يلزم ان يكون معلوما من قبل، بل الاحسن ان يكون مجهولا قبل التكلم ليفيد المتكلم المخاطب ما لا يعرفه(27).
فالرفع بالابتدأء في الآية الكريمة يحتمل معنى الكلام الجديد المستأنف فيكون المراد باللباس غير اللباس الأول، اذ قطع اللباس عن الأول واستأنف به، فمنهم من جعله مبتدا، وذلك صفة، او بدل، او عطف بيان(28)، فكانه سبحانه انتقل من ذكر لباس الظاهر الذي يواري سوءات الانسان فيتقي به ان يظهر منه ما يسوؤه ظهوره، الى لباس الباطن الذي يواري السوءات الباطنية التي يسوء الانسان ظهورها وهي رذائل المعاصي من الشرك وغيره(29).
وقد لا يكون كذلك كما تبين توجيهه، فيكون المراد من (اللباس) شيئا واحدا، بمعنى (ولباس التقوى المشار اليه خير)(30).
وقد كانت لهذه اللفظة في هذه الآية الكريمة بما احتملت من حالات الاعراب تفسيرات عديدة(31).
وعلى ذلك فلابد للمفسر من الاستحكام من وجوه الاعراب في حالة الرفع التي نحتها المدارس النحوية والعمل بالغالب المطرد من قواعد الاعراب من دون الشاذ النادر من اوالهم، والاحاطة بما اشترط في صحة توجيه الحالة الاعرابية، ثم النظر في الوجه الواحد وما يستتبعه من المعنى.
المنصوبات
(المنصوبات هو ما اشتمل على علم المفعولية)(32). والمنصوب في الأصل فضلة لكن يشتبه بها بعض العمد، كاسم (إن) وخبر (كان) واخواتها، وخبر (ما) و (لا). وعلم الفضلة: الفتحة والكسرة والالف والياء، نحو: رأيت زيدا، ومسلمات، واباك
ومسلمين، ومسلمين، ويقال النصب علامة الفضلات في الأصل، فيدخل فيها المفعولات الخمسة والحال والتمييز، والمستثنى، واما سائر المنصوبات فعمد، شبهت بالفضلات كاسم (إن) واسم (لا) التبرئة، وخبر (ما) الحجازية، وخبر كان واخواتها(33).
وقد قسم النحاة المنصوبات على قسمين:
1- الأصل في النصب، يعنون به المفعولات الخمسة، من المفعول المطلق، والمفعول به، والمفعول فيه، والمفعول معه، والمفعول له(34).
2- المحمول على الأصل في النصب، وهو غير المفعولات من الحال والتمييز ونحوهما.
ثم الذي جعلوه غير المفعولات يمكن ان يدخل بعضها في حيز المفعولات فيقال للحال: هو مفعول مع قيد مضمومنة، اذ المجيء في جاءني زيد راكبا: فعل مع قيد الركوب الذي هو مضمون راكبا، ويقال للمستثنى: هو المفعول بشرط إخراجه، وكأنهم آثروا التخفيف في التسمية، والمفعول بلا قيد شيء آخر هو المفعول المطلب، ففي جعل المفعول معه، والمفعول له أصلا في النصب لكونهما مفعولين، وجعل المستثنى والحال فرعين مع انهما أيضا مفعولان، نظر، وان كان الأصل في النصب بسبب كون الشيء من ضرورات معنى الفعل، فالحال كذلك من دون المفعول معه والمفعول له، اذ رب فعل بلا علة ولا مصاحب، ولا فعل الا وهو واقع على حالة من الموقِع والموقَع عليه.
ولابد من بيان نوع المفعول لما يترتب على ذلك من تغير المعنى وان عين المفعول فيه – فقيل: ظرف زمان او مكان – فحسن ولابد من بيان متعلقه، وان كان المفعول به متعددا عين كل واحد منها من مفعول اول، او ثان، او ثالث(35)، لتغير التفسير على اختلاف الانحاء، اذ المراد بوقوع الفعل على المفعول هو تعلقه بما لا يعقل الا به – من دون توسط حرف جر- ، وقد يكون هذا التعلق بنحو من الارتباط غير وقوع الفعل عليه على وجه الحقيقة بل هو ما يتعلق به المفعول الحقيقي، فان المفعول به الذي هو محل الفعل وموقعه فلما كان تعلقه به ووقوعه عليه على انحاء مختلفة حسبما يقتضيه خصوصيات الأفعال بحسب معانيها المختلفة فان بعضها يقتضي ان يلابسه ادنى ملابسة، اعتبر في كل نحو من انحاء تعلقه به كيفية لائقة بذلك النحو مغايرة لما اعتبر في غيره، وقد يكون لفعل واحد مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالآخر على الثانية او الثالثة كما في قولك حدثني الحديث وسألني المال فان التحديث مع كونه فعلا واحدا قد تعلق بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فانه فعل واحد وقد تعلق بك على الكيفية لثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب في ان اختلاف الكيفيات وتباينها واختصاص كل من المفعولات بما نسب اليه منها، وان كان لا يتضح حق الاتضاح الا عند التفسير(36)، وكذا الامر في تعلق العامل بسائر المنصوبات(37).
ولابد من الالتفات الى ان المفعولات، اذا وليتها الصفات، امكن ان تذكر الصفات بالجمع او التأنيث، وتترك المفعولات على احوالها، يقال: هو مغضوب عليه، وهي مغضوب عليها، كما لابد من الانتباه الى ان المفعولات يزاد عليها اللام(38)،
كقوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] ، أي ردفكم(39)، وقد تحذف من بعض المفعولات المفتقرة اليها كقوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] ، أي قادرنا له(40).
وقد يحتمل لفظ واحد وجوها في انتصابه، فلابد من مراعاة كل وجه والنظر لما يحتمله من التفسير، كما في انتصاب (يوم) في قوله تعالى:
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } [المائدة: 109].
فذكر المفسرون لانتصابه وجوه عديدة، منها:
1- انه منصوب بإضمار اذكروا، تقديره اذكروا يوم يجمع الله الرسل. ومثله تذكروا، واذكر، أي اذكر لهم يوم يجمع الله الرسل(41).
2- انه منصوب باضمار احذروا، تقديره احذروا يوم يجمع الله الرسل(42).
3- انه منصوب باتقوا. أي اتقوا يوم يجمع الله الرسل(43).
4- انه منصوب باسمعوا. على حذف المضاف أي واسمعوا خبر يوم جمعهم(44).
ويكون الكلام مستأنفا والعامل المقدر من اذكروا واحذروا او المذكور من اتقوا واسمعوا، وهو مما حسن اختصاره لعلم السامع، وتكون الإشارة بهذا اليوم الى يوم القيامة(45).
5- انه منصوب بـ(لا يهدي)، أي لا يهديهم في ذلك اليوم طريق الجنة، او لا يهديهم في ذلك اليوم الى الحجة(46).
6- انه منصوب على البدل من المنصوب في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا } [المائدة: 2] ، وهو بدل اشتمال، كانه قيل واتقوا الله يوم جمعه، أي بدل اشتمال من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة فان مدار البدلية ليس ملابسة الظرفية والمظروفية ونحوها فقط بل هو تعلق ما، مصحح لانتقال الذهن من المبدل منه الى البدل بوجه اجمالي(47)، وقيل ان فيه بعد لطول الفصل بالجملتين(48).
7- انه منصوب على الظرف والعامل فيه مؤخر تقديره: (يوم يجمع الله الرسل، كان كيت وكيت)(49).
8- انه منصوب كونه معمولا لـ(قالوا) أي قال الرسل وقت جمعهم..(50).
وقد اغنى المفسرون الكلام في توجيه النصب هنا حيث امكن ان تكون مفعولا من المفعولات او بدلا او حالا او ظرفا، ويستتبع هذه التوجيهات تفسيرات، فلابد من
انعام النظر فيها لما يحتمله كلام العرب ووجوه مخاطباتهم. وما يلحقه من معاني الالفاظ التي تختلف باختلاف التوجيه، بعد الاستحكام من هذه الوجوه الاعرابية على وفق المقاييس الضابطة للإعراب، من خلال استقراء لغة العرب، للوقوف على تمام المراد.
ويجري ذلك في سائر المنصوبات الاخر، اذ لا سبيل الى استيعابها بهذا البحث التنظيري في استكناه الأسس للتفسير، والاستيعاب يقتضي التفسير. والبحث غيره.
المجرورات
المجرورات: هو ما اشتمل على علم المضاف اليه، مرورا بواسطة حرف، لفظا، او تقديرا، والاضافة مقتضية للجر، كما ان الفاعلية مقتضية للرفع، والمفعولية للنصب، وعلم المضاف اليه، ثلاثة: الكسر، والفتح، والياء(51).
والجر تفيده الإضافة وهي في الكلام على ضربين:
احدهما ضم اسم الى اسم هو غيره بمعنى اللام، وليس منه المضاف اليه إضافة لفظية، اذ ليس (الوجه) في قولنا: (زيد حسن الوجه)، مضافا اليه (حسن) بتقدير حرف الجر، بل: هو هو، وليس غيره.
والآخر هو ضم اسم الى اسم هو بعضه بمعنى من الأول، فالمضاف اليه كل اسم نسب اليه شيء بواسطة حرف جر لفظا كـ(مررت بزيد)، او تقديرا كـ(غلام زيد)، مقدرا مرادا، فليس منه المفعول فيه، والمفعول له، فان الحرف مقدر فيهما، لكنه غير مراد.
وعلى ذلك اختلفوا في الجار للمضاف اليه، فقيل: هو مجرور بحرف مقدر، وقيل: هو مجرور بالمضاف، وقد يكتسي المضاف من المضاف اليه جملة من احكامه(52).
وهناك أمور تستدعي عناية المفسر في توظيف حروف الجر او ما يتعلق بالجر عموما، منها:
1- تفهم معاني حروف الجر من سياق الكلام، فان معانيها لا تظهر بنفسها في نفسها وانما تظهر بغيرها، فلا يطرا على معانيها شيء لذاتها، بل معانيها طارئة على معاني الفاظ اخر(53).
وذلك ان وجود الحرف وجود رابط بين موجودين، فان كل كلام مركب من كلمتين او اكثر اذا القيت كلماته بغير ارتباط بينها، فان كل واحدة منها كلمة مستقلة في نفسها لا ارتباط لها بالاخرى، وانما الذي يربط بين المفردات ويؤلفها كلاما واحدا هو الحرف، او احدى الهيئات الخاصة، وذلك ما يعنيه النحاة بقولهم: ان الحروف لا تظهر معانيها بنفسها، وانما في غيرها، لا انها لا معنى لها في ذاتها، فلكل حرف معناه الخاص به، فعلى للاستعلاء مثلا، والباء للتبعيض، ومن للابتدأء، والى للغاية، وهكذا(54).
وبناء على هذا فالحروف هي روابط المفردات المستقلة والمؤلفة للكلام الواحد والموحدة للمفردات المختلفة، شانها شان النسبة بين المعاني المختلفة والرابطة بين المفاهيم غير المربوطة. فكما ان النسبة رابطة بين المعاني ومؤلفة بينها فكذلك الحرف الدال عليها رابط بين الالفاظ ومؤلف بينها. والى هذا أشار سيد الاولياء امير المؤمنين (عليه السلام) بقوله المعروف في تقسيم الكلمات: (الاسم ما انبا عن المسمى، والفعل ما انبا عن حركة المسمى، والحرف ما اوجد معنى في غيره)..(55).
وهكذا حروف الجر فوجود معناها في طرفيها من الكلام، فلابد للمفسر من مراعاة وضع الحروف في فهم المراد من كلام الله تعالى في القرآن الكريم.
2- ان الجار والمجرور مطلقا قد يسمى ظرفا، لان كثيرا من المجرورات ظروف زمانية او مكانية(56).
3- قد يحذف المضاف، اذا امن اللبس، وقد يحذف مع اللبس أيضا، كما في الشعر(57)، وقد يحذف المضاف والمضاف اليه لقيام القرينة عليهما(58)، كما في قوله تعالى:
{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
أي (اذا سلمتم ما اتيتم نقده، او اتيتم سوقه (بع (آتيتم))(59)، فحذف المضاف والمضاف اليه وهو (نقده) او (سوقه) لقرينة السياق عليهما.
4- يتسامح في المجرورات ما لا يتسامح في غيرها، لأنه يسوغ في المجرورات والظروف ما لا يسوغ في غيرها(60).
5- قد يرد الجمع بين المجرورات، كما في قوله تعالى:
{ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } [الإسراء: 69].
فانه قد توالت المجرورات بالأحرف الثلاثة: اللام في (لكم) وعلى في (علينا)، والباء في (به)، وهذا وان كان الاحسن الفصل بينها في سائر الكلام الا ان مراعاة
الفاصلة اقتضت عدم الفصل(61).
6- تتعاور حروف الجر في معانيها فقد يستعمل احدها مكان الآخر، وهذا امر مهم حيث لا يمكن ان يجزم باستعمال حرف مكان حرف الا بدليل (لان لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره، فلا يصلح تحويل ذلك عنه الى غيره الا بحجة يجب التسليم لها)(62).
فلابد من التأمل طويلا في معاني حروف الجر كسائر حروف المعاني قبل الحكم بتبادل حرفين منها، فقد (يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة ان معناهما واحد وليس بذلك)(63)، وانما تتعاور الحروف بمتعلقات معانيها بما يعبر عنها عند تفسيرها مثل قولنا (من) معناها ابتدأء الغاية، (على) معناها انتهاء الغاية، فالمراد متعلقات معانيها: أي اذا أفادت هذه الحروف معان في غيرها(64).
ولاشك ان ذلك مما يستدعي مزيد عناية في التفسير، لما يترتب عليه من آثار مهمة جدا، كما في تفسير قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6].
لما له من اثر كبير في تغير المعنى وما يترتب عليه من الاحكام، فربما قدر النحويون حرف جر لمن قرا (وارجلكم) بالجر، عطفا على (رؤوسكم)، فمن قراها بالجر عطفها على الرؤوس، ومنهم من قال بالجر بالمجاورة، وهو مردود بانه لم تتكلم العرب بـ(خرب) الا ساكنا فانهم لا يقفون الا على الساكن، فلا يستشهد به، وذلك في قولهم (حجر ضب خرب).
وهذا مما لابد من التنبيه عليه، حيث ان استنباط المقاييس الضابطة للإعراب، من خلال استقراء لغة العرب، يجنب الوقوع في الكثير من الخطأ. فمن قال بالجر بالمجاورة، فانه لم يراع كلام العرب وقد خالف المقاييس، كما أشار الطوسي الى ذلك بما حاصلة:
1- قال الزجاج (ت 310هـ) ان الاعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف، وفي الآية حرف العطف الذي يوجب ان يكون حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، وما ذكروه ليس فيه حرف العطف.
2- ان الاعراب بالمجاورة انما يجوز مع ارتفاع اللبس، ولا يلتبس على احد ان (خرب) صفة جحر لا ضب، وليس كذلك في الآية، لان الارجل يمكن ان تكون ممسوحة ومغسولة.
3- ومن قال القراءة بالجر يقتضي المسح على الخفين. فقوله باطل، لان الخف لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع، والله امر بإيقاع الفرض على ما يسمى رجلا على الحقيقة(65).
ويلحظ في الآية انه وقع الكلام في تناوب حروف الجر فيما بينها، وهو مجيء (الى) بمعنى (مع) في قوله تعالى : {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6].
كما في قوله تعالى : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] ، يريد مع الله(66)، فيدخل المرفق ضرورة(67).
في حين انكر بعضهم ذلك وقيل ان (الى) على حقيقتها، وهو انتهاء الغاية، فقيل: بدخول المرفق أيضا، لأنه لما لم تتميز الغاية عن ذي الغاية بمحسوس وجب دخولها(68).
ولدى النظر المجرد لحرف الجر هنا، وهو (الى)، يظهر انها للغاية، وليس بالضرورة ان تقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها، ولا خروجه، لوروده مع الدخول ومع الخروج.
اما الدخول فكقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1].
واما الخروج، فكـ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، و {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة: 280] ، وحينئذ لا دلالة على دخول المرفق، وكذا لا دلالة على الابتدأء بالمرفق، ولا الأصابع، لان الغاية قد تكون للغسل، وقد تكون للمغسول، وهو المراد هنا(69).
فلابد للمفسر ان يبحث في مثل هذه الحالة عن بيان معنى الحرف من خارج الكلام كالسنة الشريفة المختصة بالمسالة ذاتها، او ما يماثلها، فقضية الابتدأء والدخول
في الآية مستفاد من بيان النبي (صلى الله عليه واله)، فانه توضأ، وابتدأ بأعلى الوجه وبالمرفقين، وادخلهما(70)، فبما (انه عليه الصلاة والسلام غسل يديه حتى جاوز المرفق، وفعله (صلى الله عليه واله) مبين، فلما ادخل المرفقين دل على وجوب غسلهما)(71).
وهذا ما أشار اليه البحث بعدم صحة الجزم في اثبات معنى معين الا بدليل.
وكذا الكلام في الباء من قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم).
فقيل: الباء للتبعيض، لوضوح الفارق بين (مسحت بالمنديل) وبين (مسحت المنديل)(72).
وقيل: زائدة، لان المسح متعد بنفسه، ولذلك انكر اهل العربية افادة التبعيض(73)، ويرى البحث ان لا زوائد في الحروف المستعملة في القرآن الكريم، اذ لكل دلالته في معنى الكلام وجزيل بلاغته.
وقيل انها تدل على تضمين الفعل معنى الالصاق فكانه قال: (الصقوا المسح برؤوسكم)(74)، وذلك لا يقتضي الاستيعاب ولا عدمه، بخلاف (امسحوا رؤوسكم)، فانه كقوله (فاغسلوا وجوهكم).
فاتباع احد هذه الاقوال لابد من اخضاعه للضوابط التي ذكرها البحث بعنوان امر و تستدعي عناية المفسر في توظيف حروف الجر او ما يتعلق بالجر عموما. وكذا
الامر في مجيء بعض حروف الجر زائدة، وبعضها للتبعيض، ومنها ما تاتي لابتدأء الغاية، او للتبيين، لبيان الجنس، والتثبت قبل الجزم في بيان المتعلق كتعلق الفعل بالجار والمجرور، وتعلق الجار والمجرور بمحذوف او بفعل مضمر، وجواز تقدير حرف الجر وحذفه، واحقية تقديم حروف الجر على بعضها وغير ذلك من معاني حروف الجر وما يتعلق بها، او الإضافة من حذف المضاف او المضاف اليه او كليهما بحسب ما يتطلبه البيان التفسيري في الآية التي يتصدى المفسر لبيان مراد الله تعالى فيها.
المجزومات
الجزم لغة بمعنى القطع(75)، وفي الاصطلاح النحوي: قطع الحركة بالسكون، او بحذف حرف العلة، والحرف الجازم كالشيء القاطع للحركة او الحرف، وهو اللام الدالة على الامر، ولو في بعض الموارد، ولم، ولما، وهما للنفي وهو مختص بالفعل المضارع المعرب، اذ اختصت الجوازم بالأفعال، لأنه لا جزم في الأسماء، والجزم على ضربين: ما يجزم فعلا واحدا. والثاني: ما يجزم فعلين، وهو: إن، من، وما، ومهما، وأي، ومتى، وأيان، وأينما، وإذ ما، وحيثما، وأنى. وهذه الأدوات – التي تجزم فعلين – كلها أسماء، إلا (إن، وإذ ما)، فانهما حرفان، وكذلك الأدوات التي تجزم فعلا واحدا كلها حروف(76)، وكذا ما يتضمن معنى الشرط او الطلب، ويجزم حينئذ بـ(إن) مقدرة بعد الامر والنهي والاستفهام والتمني والعرض، اذا قصد السببية، مثل: اسلم تدخل الجنة، وامتنع: (لا تكفر تدخل النار) لان التقدير: ان لا تكفر، فان كل ما يجاب بالفاء فينصب المضارع بعد الفاء، يصح ان يجاب بمضارع مجزوم، الا النفي، لان غير النفي منها طلب، والنفي خبر محض، وذلك لان كل كلام لابد فيه من حامل للمتكلم به عليه وحامله على الكلام الخبري: افادة المخاطب بمضومونه، ضرب زيد، او: ما ضرب زيد، اذا قصد افهام المخاطب ضرب زيد او عدمه، اما الحامل على الكلام الطلبي، فكون المطلوب مقصودا للمتكلم اما لذاته، او بغيره، ومعنى كونه مقصودا لغيره: انه يتوقف غيره على حصوله، وهذا هو معنى الشرط، اعني توقف غيره عليه، فاذا ذكر الطلب ولم يذكر بعده ما يصح توقفه على المطلوب، جوز المخاطب كون ذلك المطلوب مقصودا لذلك المذكور بعده، لا لنفسه، فيكون اذن معنى الشرط في الطلب مع ذكر ذلك الشيء ظاهرا، واما الخبر فانه اذا ورد ، حمله المخاطب على انه انما تكلم به المتكلم لافادة المخاطب مضمونه، لا على ان مضمونه مقصود لنفسه او لغيره، اذ قد يخبر بشيء مع ان ذلك الشيء غير مقصود للمخبر، كما في: ضرب زيدا، مع كراهته لضربه، لفو جاء أيضا بعد الخبر، بما يصلح ان يكون جزاء لمضمونه، لم يتبادر فهم المخاطب الى انه جزاؤه، اذ ذلك في الطلب انما كان لتبادر فهمه الى ان الطلب مقصود اما لذاته او لغيره، ومع ذكر الغير فالأولى ان يكون له، فلما تقرر ان في الطلب مع ذكر ما يصلح جزاء له معنى الشرط، جاز ان يحذف فاء السببية وتجزم به الجزاء كما يجزم بـ(إن)، ويجوز جزم الجواب بعد الامر المدلول عليه بالخبر(77).
ومسائل الجزم مهمة جدا لشدة تأثيرها في تغير المعنى المراد، بيد ان بعض ابحاثه التي لها الدخل في هلم الخطاب ذكرت في كتب المعاني من دون كتب النحو(78)، فلابد للمفسر من النظر في وجوه الجزم والتثبت من ادواته(79)، فقد تحتمل أداة واحدة أمور عديدة كما في (إن) المكسورة الخفيفة وهي احدى أدوات الجزم، وهي ترد لمعان منها:
الشرطية: بمعنى توقف الجزاء على الشرط، نحو:
{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].
وقد تدخل على المتيقن وجوده اذا ابهم زمانه، كقوله:
{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34].
وقد تدخل على المستحيل، نحو:
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81].
ومن احامها انها للاستقبال، وانها تخلص الفعل له وان كان ماضيا، كقولك:
ان اكرمتني اكرمتك، ومعناه ان تكرمني. واما قوله:
{إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26].
فقيل: ان ثبت كان قميصه قد من قبل يكون سببا للأخبار بذلك.
وهي – أي (إن) عكس (لو) فإنها للماضي، وان دخلت على المضارع. وان دخلت (إن) على (لم)، يكن الجزم بـ(لم) لا بها، كقوله تعالى:
{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا } [المائدة: 73].
وان دخلت على (لا) كان الجزم بها لا بـ(لا)، كقوله تعالى:
{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} [هود: 47].
وذلك ان (لم) عامل يلزم معموله، ولا يفرق بينهما بشيء، و (إن) يجوز ان يفرق بينها وبين معمولها معمول معمولها، نحو: ان زيادا يضرب اضربه. وتدخل أيضا على الماضي فلا تعمل في لفظه، ولا تفارق العمل، واما (لا) فليست عاملة في الفعل، فأضيف العمل الى (إن)(80).
والكلام حول حروف الجزم: لم ولما وألم وألما ومتى وأين وغيرها، لا يقل عما في (إن) من حيث الاحكام والمعاني(81)، كالنظر الى العلاقة بين إن وإذا ولو، لان فيها ابحاثا كثيرة تتعلق بالمعنى، فـ(إن وإذا) للشرط في الاستقبال لكن اصل (إن) عدم الجزم بوقوع الشرط فلا يقع في كلام الله تعالى على الأصل الا حكاية او على ضرب من التأويل، واصل (إذا) الجزم بوقوعه فـ(إن وإذا) يشتركان في الاستقبال بخلاف لو، ويفترقان بالجزم بالوقوع وعدم الجزم به واما عدم الجزم بلا وقوع الشرط فمشترك بين إذا وإن، ولان اصل (إن) عدم الجزم بالوقوع كان الحكم نادرا لكونه غير مقطوع به في الغالب موقعا لـ(إن)، ولان اصل (إذا) الجزم بالوقوع غلب لفظ الماضي لدلالته على الوقوع قطعا نظرا الى نفس اللفظ وان نقل الى معنى الاستقبال مع (إذا)، مثل: (فاذا جاءتهم) أي قوم موسى (الحسنة) كالخصب والرخاء (قالوا لنا هذه) أي هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها (وإن تصبهم سيئة) أي جدب وبلاء (يطيروا) أي يتشأموا (بموسى ومن معه) من المؤمنين، وذلك في قوله تعالى:
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131].
فجيء في جانب الحسنة بلفظ الماضي مع (إذا) لان المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به، ولهذا عرفت الحسنة تعريف الجنس – أي الحقيقة – لان وقوع الجنس كالواجب لكثرته واتساعه لتحققه في كل نوع بخلاف النوع، وجيء في جانب السيئة بلفظ المضارع مع (إن) لان السيئة نادرة بالنسبة الى الحسنة المطلقة ولهذا نكرت السيئة ليدل على التقليل، وقد تستعمل (إن) في مقام الجزم بوقوع الشرط تجاهلا، كما اذا سئل العبد عن سيده هل هو في الدار وهو يعلم انه فيها، فيقول: ان كان فيها اخبرك، يتجاهل خوفا من السيد، او لعدم جزم المخاطب بوقوع الشرط فيجري الكلام على سنن اعتقاده كقولك لمن يكذبك (إن صدقت فماذا تفعل)، مع علمك بانك صادق. او تنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط منزلة الجاهل لمخالفته كما يفرض المحال لغرض من الأغراض كما في قوله تعالى:
{ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ } [الزخرف: 5].
أي انهملكم فنضرب عنكم القرآن، وما فيه من الامر والنهي والوعد والوعيد ((صفحا)) أي اعراضا او للأعراض او معرضين ((ان كنتم قوما مسرفين)) في من قرا ان بالكسر، فكونهم مسرفين امر مقطوع به لكن جيء بلفظ (ان) لقصد التوبيخ. وتصوير ان الاسراف من العاقل في هذا المقام يجب ان لا يكون الا على سبيل الفرض والتقدير كالمحالات لاشتمال المقام على الآيات الدالة على ان الاسراف مما لا ينبغي ان يصدر عن العاقل أصلا فهو بمنزلة المحال وان كان مقطوعا، بعدم وقوعه لكنهم يستعملون فيه ان لتنزيله منزلة ما لا قطع بعدمه على سبيل المساهلة وارخاء العنان لقصد التبكيت كما في قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] ، وغير ذلك مما تحتمله الجوازم من المحل الاعرابي وما يترتب عليه من تغير المعنى(82).
وهناك موارد كثيرة من المجزومات، مثل: تقدير لام الامر، ولا الناهية، وتقدير الشرط، تقدير جواب الشرط، وان شرط الجزاء جملة يوصف بها كما يوصل، وجواز ذكر جواب الشرط اذا صح تقدير الشرط، لا تنفك عن الدخالة في تغير المعنى، وكذا الحال في المبنيات، كالأسماء الموصولة وأسماء الإشارة والضمائر.
فيلزم المفسر الالمام بما وجهه النحويون، لدى التفسير في توظيفها للوقوف على المراد من خطاب الله تعالى في كتابه العزيز للاستحكام من وجوه الجزم او البناء وما يتعلق بها، لدى استنباط المقاييس الضابطة للاعراب، التي توظف لفهم المراد من خلال استقراء آراء النحويين ولغة العرب، لتجنب الوقوع في الخطأ لصيانة بيان معاني القرآن بما كانت العرب تصون به لسانها من دون تكلف.
ولابد من كلمة أخيرة في الموضوع وذلك ان مفردات العربية في النحو كثيرة وتشعبة وذات دلالات مختلفة، والقرآن الكريم جاء بلغة العرب، والرجوع اليه هو الاصح في استنباط القاعدة النحوية، فيكون القرآن الكريم بذلك حاكما على العربية، وبذلك يذرا الشاذ وغير الفصيح، ورداءة لغة ما عن العربية، ولا يتم لنا ذلك الا بعد القرآن الكريم هو الأساس لمعرفة مخارج علم النحو ومداخله.
ــــــــــــــــــــ
1) الشريف الجرجاني – التعريفات: 1/ 79.
2) ينظر: السكاكي – مفتاح العلوم: 1/ 33 والرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 1/ 31.
3) ينظر: الزرقاني – مناهل العرفان: 2/ 37.
4) ينظر: مقدمة ابن خلدون: 1/ 440.
5) ينظر: محمد حسين علي الصغير – المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 77 – 79.
6) أبو حيان الاندلسي – تفسير البحر المحيط: 1/ 121.
7) ينظر: المصدر نفسه.
8) مكي بن ابي طالب القيسي – مشكل اعراب القرآن: 1/ 63.
9) ينظر: ابن فارس – معجم مقاييس اللغة: 4/ 299 وابن الاثير – النهاية في غريب الحديث: 3/ 200. وابن منظور – لسان العرب: 1/ 588 والزبيدي – تاج العروس: 2/ 217.
10) ابن فارس – معجم مقاييس اللغة: 4/ 300.
11) الزركشي – البرهان: 1/ 302 وينظر: السيوطي – الاتقان: 1/ 528.
12) الشريف الجرجاني – التعريفات: 1/ 68.
13) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 1/ 184.
14) ينظر: ابن عقيل – شرح الالفية: 1/ 201.
15) الكافية (بشرح رضي الدين الاسترابادي): 1/ 272.
16) ينظر: ابن عقيل – شرح الالفية: 1/ 246.
17) ينظر: الطبري – جامع البيان: 8/ 197.
18) ينظر: محيي الدين عبد الحميد – هامش شرح ابن عقيل: 1/ 204.
19) ينظر: المصدر نفسه.
20) ينظر: المصدر نفسه.
21) ينظر: الزمخشري – الكشاف: 2/ 75.
22) ينظر: محيي الدين عبد الحميد – هامش شرح ابن عقيل: 1/ 203 – 204.
23) ينظر: المصدر نفسه.
24) ينظر: المصدر نفسه.
25) ينظر: المصدر نفسه.
26) ينظر: المصدر نفسه.
27) ينظر: المصدر نفسه.
28) ينظر: الطبرسي – مجمع البيان: 4/ 236.
29) ينظر: محمد حسين الطباطبائي – الميزان في تفسير القرآن: 8/ 69 – 70.
30) ينظر: الزمخشري – الكشاف: 2/ 74.
31) ينظر: الطبري – جامع البيان: 8/ 197 والسلمي – تفسير السلمي: 1/ 225 والثعلبي – تفسير الثعلبي: 4/ 226 والطوسي – التبيان: 4/ 378 – 379 والطبرسي – جوامع الجامع: 1/ 649.
32) الشريف الجرجاني – التعريفات: 1/ 77.
33) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 1/ 183 و 294 – 295.
34) ينظر: ابن عقيل – شرح الالفية: 1/ 557.
35) ينظر: ابن هشام – مغني اللبيب: 2/ 666 – 667.
36) ينظر: أبو السعود – تفسير ابي السعود: 1/ 11 – 12.
37) ينظر: المصدر نفسه: 7/ 202.
38) ينظر: ابن هشام – مغني اللبيب: 1/ 220.
39) ينظر: الطبري – جامع البيان: 3/ 426 والطوسي – التبيان: 2/ 501.
40) ينظر: الزركشي – البرهان: 3/ 216.
41) ينظر: الطوسي – التبيان: 4/ 52.
42) ينظر: الطبرسي – مجمع البيان: 3/ 446.
43) ينظر: السمرقندي – تفسير السمرقندي: 1/ 448.
44) ينظر: الشوكاني – فتح القدير: 2/ 90.
45) ينظر: الآلوسي – تفسير الآلوسي: 7/ 54 – 55.
46) ينظر: أبو حيان الاندلسي – البحر المحيط: 4/ 52.
47) ينظر: أبو السعود – تفسير ابي السعود: 3/ 93.
48) ينظر: الآلوسي – تفسير الآلوسي: 7/ 54.
49) ينظر: الطبري – جوامع الجامع: 1/ 543.
50) ينظر: أبو حيان الاندلسي – البحر المحيط: 4/ 52.
51) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 2/ 201 – 204.
52) ينظر: ابن جني – اللمع في العربية ج1/ 80 والرضي الاسرابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 2/ 201 – 202 وابن عقيل – شرح الالفية ج2/ 43.
53) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 1/ 64.
54) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 4/ 341 وابن هشام – مغني اللبيب: 1/ 319.
55) ينظر: محمد رضا المظفر – أصول الفقه: 1/ 62 – 63، وتخريج القول: المرتضى – الفصول المختارة: 91.
56) ينظر: الشريف الجرجاني – الحاشية على الكشاف: 47 – 48.
57) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 2/ 254.
58) ينظر: العكبري – التبيان في اعراب القرآن: 1/ 98.
59) ينظر: ابن عطية الاندلسي – المحرر الوجيز: 1/ 313 والطبرسي – مجمع البيان: 2/ 111 وابن الجوزي – زاد المسير: 1/ 243 وأبو حيان الاندلسي – البحر المحيط: 2/ 229.
60) ينظر: محيي الدين عبد الحميد – هامش شرح ابن عقيل: 1/ 301.
61) ينظر: السيوطي – الاتقان: 2/ 270.
62) الطبري – جامع البيان: 1/ 190.
63) الآلوسي – تفسير الآلوسي: 3/ 175.
64) ينظر: السكاكي – مفتاح العلوم: 1/ 168.
65) ينظر: التبيان: 3/ 453.
66) الطبري – جامع البيان: 1/ 189.
67) ينظر: المقداد السيوري: كنز العرفان: 1/ 55.
68) ينظر: السيوطي – الاتقان: 1/ 444.
69) ينظر: المقداد السيوري: كنز العرفان: 1/ 55.
70) ينظر: المصدر نفسه: 1/ 54 – 55.
71) ينظر: الحطاب الرعيني – مواهب الجليل: 1/ 276 ومستنده ما روي في بيان وضوء الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله). ينظر: مسلم – صحيح مسلم: 1/ 149 والبيهقي – السنن الكبرى: 1/ 77.
72) ينظر: الرازي – المحصول: 1/ 380.
73) ينظر: العنين – عمدة القاري: 3/ 71.
74) ينظر: السيوطي – الاتقان: 1/ 462.
75) ينظر: ابن منظور – لسان العرب: 12/ 97.
76) ينظر: ابن عقيل – شرح الالفية: 2/ 364 – 366.
77) ينظر: ابن عقيل – شرح الالفية: 2/ 356 – 377 وابن هشام – مغني اللبيب: 1/ 225 – 227 والرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 1/ 70 وج4/ 116 – 123.
78) ينظر: التفتازاني – مختصر المعاني: 89 – 91.
79) ينظر: الزركشي – البرهان: 2/ 359 – 366 وج4/ 215 – 216 والسيوطي – الاتقان: 1/ 449.
80) ينظر: الزركشي – البرهان: 2/ 359 – 366 وج4/ 215 – 216 والسيوطي – الاتقان: 1/ 449.
81) ينظر: الفيروز آبادي – القاموس المحيط: 4/ 177.
82) ينظر: الرضي الاسترابادي – شرح كافية ابن الحاجب: 4/ 6 – 7 والتفتازاني – مختصر المعاني: 89 – 91.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|