أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2018
2531
التاريخ: 8-6-2021
3268
التاريخ: 6-2-2017
1947
التاريخ: 2023-04-05
1052
|
ولما عادت سرية عبداللّه بن جحش إلى المدينة في شهر شعبان، أمضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده في المدينة بقية شهر شعبان وشيئاً من شهر رمضان، ثم وصله (صلى الله عليه وآله وسلم) خبر رجوع قافلة قريش التي كان فيها أبو سفيان عائدة من الشام فخرج إليها مع أصحابه.
وكان خروجهم يوم السبت لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، على رأس تسعة عشر شهراً، وقيل: لثمان خلون منه.
واستخلف (صلى الله عليه وآله وسلم) على المدينة أبا لبابة، وعيّن للصلاة بالناس عبداللّه بن اُم مكتوم، وخرج معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)(1).
وذلك أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغه خبر العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان في أربعين رجلاً، وفيها أموال عظيمة لقريش، وهي التي خرج إليها عند فصولها من مكة، فلم يدركها، فندب في هذه المرة أصحابه إليها، فخف بعض أصحابه وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقى حرباً.
فخرج (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وهم اثنان وثمانون من المهاجرين، ومائة وسبعون من الخزرج، وواحد وستون من الأوس، وكانوا على سبعين بعيراً يعتقبونها، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرَسان: فرساً للمقداد، وفرساً للزبير بن العوام، فكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على بعير.
فلما بلغ أبا سفيان مسيره (صلى الله عليه وآله وسلم) أحجم عن الإقتراب من بدر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرة دنانير على أن يأتي قريشاً بمكة فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد اعترض لعيرهم في أصحابه.
فنهضوا مسرعين في قريب من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، ولم يتخلف أحد من أشرافهم، إلا أبا لهب وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة كان له دين بذلك، وحشدوا فيمن حولهم من العرب، ولم يتخلف من بطون قريش سوى عدي بن كعب.
وخرجوا من ديارهم كما قال اللّه تعالى: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] (2) وقالوا: أيظنّ محمّد وأصحابه أن نكون كعير ابن الحضرمي؟ فخرجوا سراعاً وأخرجوا معهم القيان يشربون الخمور، ويضربون بالدفوف.
إلى وادي ذفران:
وأقبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن خف معه من أصحابه قاصداً وادي ذفران، وقد عقد رايتين جعل إحداهما مع مصعب بن عمير، والاُخرى ـ وتسمّى العقاب ـ مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) وسلك طريقه من المدينة إلى ذفران ومنه إلى بدر على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على اولات الجيش، ثم على تربان، ثم على ملل، ثم على غميس الحمام، ثم على صخرات اليمام، ثم على السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، حتى إذا كان بعرق الظبية لقوا رجلاً من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبراً.
ونزل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سجسج وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة يساراً وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدراً، فسلك في ناحية منها حتى جزع وادياً يقال له: رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم علا المضيق ثم انصب به، حتى إذا كان قريباً من الصفراء بعث بسيس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار يتجسّسان الأخبار عن أبي سفيان وعيره، ثم رحل (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ ذات اليمين على وادي ذفران وجزع، ثم نزل ذفران.
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستشير أصحابه:
ولما نزل (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه ذفران أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، ونزل عليه جبرئيل فأخبره بأن العير قد أفلتت، وانّ قريشاً قد أقبلت لمنع عيرها وأمره بالقتال.
فاستشار أصحابه في ذلك وأخبرهم عن قريش وخروجهم إليهم، فقام المقداد بن الأسود وقال: يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه، فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24] (3) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالّذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ وهو موضع باليمن ـ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك.
فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً ودعا له بخير.
ثم قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا عليَّ أيها الناس، وانما يريد الأنصار، ثم أعادها ثانية وثالثة، ففهمت الأنصار انه يعنيهم، فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال: لكأنّك يا رسول اللّه تريدنا؟
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أجل.
فقال سعد : بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه إنّا قد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق من عند اللّه، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّه لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرُّ به عينك، فسر على بركة اللّه، وصل من شئت، واقطع من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت.
فسرّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول سعد، وشكره والأنصار على ذلك.
ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): سيروا على بركة اللّه وأبشروا، فإن اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده، واللّه لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم، ثم ارتحل (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم ونزل قريباً من بدر.
استطلاع أخبار قريش:
ولمّا نزل (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه قريباً من بدر، ركب هو ورجل من أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم.
فقال : لا اُخبركما حتى تخبراني من أنتما.
فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أخبرتنا أخبرناك.
قال: أو ذاك بذاك؟
قال : نعم.
قال : فإنه بلغني أنّ محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا ـ المكان الذي به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، المكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): نحن من ماء، ثم انصرف عنه ورجع إلى أصحابه.
فلما أمسى بعث جماعة إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض بن يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما فسألوهما لمن أنتما؟ ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يصلّي.
فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء.
فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما حتى قالا إنهما لأبي سفيان فتركوهما، وذلك على عادتهم في الجاهلية حيث كانوا يأخذون الاعتراف بالتعذيب، فنهى الإسلام عنه نهياً باتاً وحرّمه أشد تحريم، وجعل الاعتراف المأخوذ بالتعذيب كالعدم، ولذا نرى انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) انفتل من صلاته والتفت إلى أصحابه معترضاً عليهم وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟ صدقا واللّه، إنهما لقريش.
ثم التفت إليهما وقال: أخبراني عن قريش.
قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، والكثيب: التلّ من الرمل.
فقال لهما رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): كم القوم؟
قالا: كثير.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما عدّتهم؟
قالا : ما ندري.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كم ينحرون كل يوم؟
قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً.
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): القوم ما بين التسعمائة والألف.
ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لهما: فمن فيهم من رؤوس قريش؟
قالا : عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، واُمية بن خلف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو.
فأقبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
هروب أبي سفيان:
وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا وأحرز العير كتب إلى قريش يخبرهم بهروبه وسلامة العير، فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهمّوا بالرجوع، فقال أبو جهل: واللّه لا نرجع حتى نقدم بدراً فنقيم به، فننحر الإبل ونطعم من حضرنا من العرب الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فتخافنا بعد ذلك.
وأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة، فلم يشهد بدراً زهري قط، فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً، وكان حليفاً لهم.
ليلة بدر:
ولما كانت ليلة بدر وهي ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية من الهجرة المباركة انتدب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه، وقد نزل بهم قريباً من بدر إلى الماء فسكتوا وأحجموا عن ذلك، فانتدب علياً (عليه السلام) فخرج، وكانت ليلة باردة ذات ريح وظلمة، فخرج (عليه السلام) بقربته، فلما كان إلى القليب لم يجد دلواً، فنزل في الجبّ تلك الساعة فملأ قربته ثم أقبل فاستقبلته ريح شديدة، فجلس حتى مضت، ثم قام، ثم مرت به اُخرى، فجلس حتى مضت، ثم قام، ثم مرت به اُخرى، فجلس حتى مضت، ثم قام، فلما جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: ما حبسك يا أبا الحسن؟
قال: لقيت ريحاً، ثم ريحاً، ثم ريحاً شديدة، فأصابتني قشعريرة.
فقال: أتدري ما كان ذاك يا علي؟ كان ذلك جبرئيل في ألف من الملائكة، وقد سلّم عليك وسلّموا، ثم مرّ ميكائيل في ألف من الملائكة فسلّم عليك وسلّموا، ثم مرّ إسرافيل في ألف من الملائكة فسلّم عليك وسلّموا، وهم مدد لنا.
وإليه أشار السيد الحميري في قصيدته المعروفة يمدح بها علياً (عليه السلام) ويقول:
اقسم باللّه وآلائه والمرء عما قال مسؤول
ان علي بن أبي طالب على التقى والبرّ مجبول
كان إذا الحرب مرتها القنا وأحجمت عنها البهاليل
يمشي إلى القِرن وفي كفّه أبيض ماضي الحدّ مصقول
مشي العفرنا بين اشباله أبرزه للقنص الغيل
ذاك الذي سلم في ليلة عليه ميكال وجبريل
ميكال في ألف وجبريل في ألف ويتلوهم سرافيل
ليلة بدر مدداً اُنزلوا كأنهم طير أبابيل
التشاور يهدي إلى التفوّق:
ثم سار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل مياه بدر، وكانت منطقة بدر واسعة، جنوبها العدوة القصوى، وشمالها العدوة الدنيا، وفيها عدّة آبار وعيون للماء، تنزل فيها القوافل.
فسبق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشاً إلى بدر، ومنع قريشاً من السبق إليه مطر عظيم أرسله اللّه تعالى مما يليهم ولم يصب منه المسلمين إلا ما لبّد لهم دهس الوادي وأعانهم.
ولما نزل (صلى الله عليه وآله وسلم) مياه بدر مما يلي المدينة أتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنزل هو منزل أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه، أم هو الرأي في الحرب؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في جوابه: بل هو الرأي.
فقال : يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوّر ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فيكون الماء في متناولنا فنشرب ونروى.
فاستحسن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الرأي وفعله، فكان سبباً من أسباب تفوّقهم على المشركين.
ومشى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن استقرّ هو وأصحابه في مواقعهم على موضع الوقعة فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعاً مصرعاً وهو يقول: هذا مصرع فلان إن شاء اللّه، وهذا مصرع فلان إن شاء اللّه، وهكذا.
الجمعان يلتقيان:
وفي صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة انحدر المشركون من وراء الكثيب إلى وادي بدر، فلما رآهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينحدرون من وراء الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي رفع يديه بالدعاء وقال:
(اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخُيَلانها وفخرها، تحادّك وتكذِّب رسولك، اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني به، اللّهمّ أحِنهم الغداة) ثم عبّأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه وقال: غضّوا أبصاركم، ولا تبدأوهم بالقتال، ولا يتكلّمن أحد.
فلمّا نزل المشركون الوادي أقبل نفر منهم حتى وردوا حوض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأراد بعض أن يمنعوهم. فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوهم، فشربوا منه.
وقال أبو جهل لما رأى قلّة المسلمين وبساطة أسلحتهم: ما هم إلا أكلة رأس، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد.
فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً ومدداً؟
فبعثوا عمرو بن وهب الجمحي وقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد، وكان فارساً شجاعاً، فجال بفرسه حول العسكر، ثم صعد في الوادي وصوّب ثم رجع إلى قريش فقال: ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصونه، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد، فضرب في بطن الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً، فرجع اليهم فقال: ما رأيت شيئاً، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، أما ترونهم خرس لا يتكلّمون، يتلمضون تلمض الأفاعي، انهم قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، واللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فارتأوا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فأشار عليه أن يرجع الناس ولا يكون بينهم حرب، فوافقه عتبة بن ربيعة، وقام عتبة في الناس خطيباً وأشار عليهم بالرجوع، فأبى أبو جهل ذلك وساعده عليه المشركون.
بوادر الهزيمة في المشركين
ولما كان من دأب الإسلام وسيرة رسوله العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، أن لا يبدأوا أحداً بالقتال، لذلك بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قريش من يقول لهم: يا معشر قريش ما أحد أبغض إليَّ من أن أبدأ بكم، فخلّوني والعرب، فإن أك صادقاً فأنتم أعلى بي عيناً، وإن أك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمري فارجعوا.
فقال عتبة: واللّه ما أفلح قوم قطّ ردّوا هذا.
ثم ركب جملاً له أحمر، فنظر إليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يجول في العسكر وينهى عن القتال، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا.
فأقبل عتبة يقول: يا معشر قريش اجتمعوا واسمعوا، ثم خطبهم فقال: يمن مع رحب، ورحب مع يمن، يا معشر قريش أطيعوني اليوم، واعصوني الدهر، وارجعوا إلى مكة واشربوا الخمور، وعانقوا الحور، فإنّ محمّداً له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم، فارجعوا ولا تردّوا رأيي، وانما تطالبون محمّداً بالعير التي أخذها بنخلة ودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعليَّ عقله.
فلما سمع أبو جهل ذلك غاظه وقال: ان عتبة أطول الناس لساناً وأبلغهم في الكلام، ولئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيّد قريش إلى آخر الدهر.
ثم قال: يا عتبة نظرت إلى سيوف بني عبدالمطلب وجبنت، وتأمر الناس بالرجوع؟
فأخذه عتبة بشعره، وكان أبو جهل على فرس، فقال الناس: يقتله، فعرقب فرسه فقال: أمثلي يجبن؟ وستعلم قريش اليوم أيّنا الألئم والأجبن، وأينا المفسد لقومه، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عياناً، ثم أخذه بشعره يجرّه.
فاجتمع الناس إليه وقالوا: يا أبا الوليد لا تفتّ في اعضاد الناس تنهى عن شيء تكون أوله، فخلصوا أبا جهل من يده.
فبعث من فوره إلى عامر أخي عمرو بن الحضرمي الذي قتل بنخلة وقال له: هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس، فقم وانشد خفرتك ودم أخيك.
فقام عامر وكشف عن رأسه وصاح: واعمراه، فهاج الناس وأجمعوا على الحرب.
الحرب: القرار الأخير
ولما انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه، نظر عتبة إلى أخيه شيبة وإلى ابنه الوليد وقال لهما: قوما ثم لبس درعه وطلبوا له بيضة تسع رأسه فلم يجدوها لعظم هامته، فاعتجر بعمامتين ثم أخذ سيفه وتقدّم هو وأخوه وابنه حتى انفصلوا من الصف ونادوا: ليخرج إلينا أكفاؤنا من قريش.
فخرج إليهم فتية من الأنصار وهم: عوف، ومعوذ، ابنا حارث ـ واُمهما عفراء ـ وعبداللّه بن رواحة .
فقالوا: من أنتم؟
قالوا: رهط من الأنصار.
قالوا : ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : قم يا عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وكان له سبعون سنة، وقم يا حمزة بن عبدالمطلب، وقم يا علي بن أبي طالب، وكان أصغرهم سنّاً، فقاموا بين يدي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بسيوفهم.
فقال لهم: اطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفيء نور اللّه، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] (4).
ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة، ويا حمزة عليك بشيبة، ويا علي عليك بالوليد بن عتبة.
فمرّوا حتى انتهوا إلى القوم.
فقال عتبة: من أنتم انتسبوا حتى نعرفكم؟
فعرّفوا أنفسهم.
فقالوا : أنتم أكفاء كرام.
فبارز عبيدة ـ وكان أسنَّ القوم ـ عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي (عليه السلام) الوليد.
فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله.
وأمّا علي (عليه السلام) فلم يمهل الوليد أن قتله.
واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فدفّفا عليه، واحتملا صاحبهما حتى أتيا به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبه رمق، فلما نظر إليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) استعبر.
فقال عبيدة: بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه ألستُ شهيداً؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بلى أنت أول شهيد من أهل بيتي.
فقال : أما لو كان عمك حياً لعلم اني أولى بما قال.
قال: وأيّ أعمامي تعني؟
قال: أبو طالب (عليه السلام) حيث يقول:
كذبتم وبيت اللّه نبزى محمداً *** ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلم**ه حتى نصرّع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): أما ترى ابنه كالليث العادي بين يدي اللّه ورسوله، وابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة؟
جنود الرحمن وجنود الشيطان يتقابلان:
واصطف الجيشان وجاء إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إليَّ رايتكم، فدفعوها إليه وجاء بشياطينه يهول بهم على أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتزاحف الناس على أثره ودنا بعضهم من بعض.
فأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وأن يكتفوا برمي القوم بالنبال حتى لا يقتربوا منهم، ثم رفع يده إلى السماء يناشد ربّه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول:
(اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض أبداً، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد).
فأنزل اللّه تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] (5) فأمدّه اللّه بالملائكة، حتى سمع الناس قعقعة السلاح من الجوّ، وقائل يقول: اقدم حيزوم، اقدم حيزوم، وكان ذلك جبرئيل في ألف من الملائكة مردفين، فلما نظر إبليس إلى جبرئيل تراجع ونكص على عقبيه ورمى باللواء، فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال: ويلك يا سراقة تفتّ في أعضاد الناس، فركله إبليس ركلة في صدره وقال: اني أرى ما لا ترون، حيث انه كان يرى جبرئيل يلاحقه بحربة معه يريد أن يطعنه بها.
المشركون ينهزمون:
ثم حرض رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس على القتال وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله اللّه الجنّة.
فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهنّ: بخ بخ، فما بيني وبين أنْ أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (رحمه اللّه).
ثم إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ حفنة من الحصى فاستقبل بها قريشاً ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال: شدوا، فكانت الهزيمة.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد رفع يديه إلى السماء: (اللّهمّ لا يفلتنّ فرعون هذه الاُمّة أبو جهل بن هشام) فقتل فيها مع من قتل من صناديد قريش، واُسر فيها من اُسر من رؤوسهم، فكان الذين قتلوا سبعين، والذين اُسروا سبعين أيضاً.
مصير أبي جهل:
روي عن بعض من شهد بدر انه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، إذ التفتّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السنّ، فكأنّي لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرّاً من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل.
فقلت: يا ابن أخي فما تصنع به؟
قال : اُخبرت أنه يسبّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أردف يقول: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا، فتعجّبت لذلك.
قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه.
قال: فابتدراه بسيفهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أيّكما قتله؟
فقال كل واحد منهما : أنا قتلته.
قال : هل مسحتما سيفيكما؟
فقالا: لا.
فنظر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السيفين فقال: كلاّ كلاكما قتله.
وقضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.
وفي رواية : ان معاذ بن عفراء ضرب أبا جهل هو وأخوه عوف بن الحارث حتى أثبتاه، فعطف عليهما فقتلهما، ثم وقع صريعاً، فدفّف عليه ابن مسعود وذلك كما قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو يتشحّط في دمه فقلت: الحمد للّه الذي أخزاك.
فرفع رأسه فقال: انما أخزى عبد ام عبد، أخبرني لمن الدائرة اليوم؟
قلت : للّه ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، واني قاتلك، ووضعت رجلي على عاتقه.
فقال : لقد ارتقيت مرتقاً صعباً، أما انه ليس واللاّت والعزّى شيء أشدّ من قتلك إيّاي يا رويعيّ الغنم، ألا تولّى قتلي رجل من المطّلبين أو رجل من الأحلاف، فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول اللّه البشرى هذا رأس أبي جهل، فسجد للّه شكراً.
لما ألقت الحرب أوزارها:
ولما انقضت الحرب أقبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى وقف على قتلى المشركين فقال: جزاكم اللّه من عصابة شراً، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيّكم، كذّبتموني وصدّقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي جهل فقال: ان هذا أعتى على اللّه من فرعون، انّ فرعون لما أيقن بالهلاك وحّد اللّه، وانّ هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللاّت والعزّى.
ثم أمر بهم فاُلقوا في القليب، فلما اُلقوا فيه وقف عليهم وقال: (يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا اُمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، وذكر أهل القليب واحداً واحداً، ثم قال: هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقاً).
فقال رجل من الصحابة: أتكلّم قوماً موتى؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يُجيبوني).
ثم دفنوا شهداء المسلمين وكانوا تسعة رجال فيهم سعد بن خيثمة، وكان من النقباء بعد أن صلّوا عليهم، ثم صلّى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس صلاة العصر ورحلوا من بدر.
في طريق العودة:
ولما غادر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه منطقة بدر متّجهاً نحو المدينة حمل معه الاُسارى من المشركين وفيهم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، وحمل أيضاً معه الغنائم التي اغتنموها، والنفل الذي اُصيب من المشركين، وجعل على النفل عبداللّه بن كعب بن عمرو بن عوف المازني من بني النجار، حتى إذا كان بالصفراء قسم الغنائم بين أصحابه بالسويّة وادّخر سهم الشهداء ليُسلّمها إلى ذويهم.
ثم دخل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة مع أصحابه مؤيداً مظفراً منصوراً قد هاب جانب المسلمين كل عدوّ لهم بالمدينة وحولها، كما وأسلم بشر كثير من أهل المدينة ممّن لم يكن أسلم بعد، وحينئذ دخل عبداللّه بن اُبيّ رأس المنافقين وأصحابه في الإسلام.
مع أسرى بدر:
ثم انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أقبل بالأسارى فرّقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بالأسارى خيراً..
فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه واُمّه في الاُسارى، وكان يحمل أحد ألوية قريش، وكان يقول بعد أن اُطلق سراحه بالفداء: كنتُ أسيراً في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم أو عشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر، والخبز عندهم قليل، والتمر زادهم، وذلك لوصية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنا.
وما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها. فأستحي فأردها عليهم، فيردها عليَّ ما يمسّها، كما انهم كانوا لقلّة مراكبهم يحملوننا على ما عندهم من مركب ويمشون هم بأنفسهم.
مع العباس بن عبد المطلب:
ولما جنّهم الليل وولي بعض الصحابة وثاق الأسرى فشدّ وثاق العباس، فسمعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يئن فلم يأخذه (صلى الله عليه وآله وسلم) النوم، فبلغ الأنصار فأطلقوا العباس، فكان الأنصار فهموا رضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بفك وثاقه، وسألوه أن يتركوا له الفداء، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن اُختنا عباس فداءه.
وفي حديث ابن عباس : انه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا عباس افد نفسك وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر.
فقال : إنّي كنتُ مسلماً، ولكن القوم استكرهوني.
قال: اللّه أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقاً فاللّه يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا.
قال : ما ذاك عندي يا رسول اللّه.
قال : فأين المال الذي دفنته عند اُم الفضل فقلت: إن أصبت فالمال الذي دفنته للفضل وعبداللّه وقثم.
قال : واللّه يا رسول اللّه إني لأعلم أنك رسول اللّه، انّ هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير اُم الفضل، فاحسب لي يا رسول اللّه ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي.
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ذاك شيء أعطانا اللّه منك، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل اللّه فيه: (يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم)(6).
بين المنّ والفداء:
وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفي درهم إلى ألف درهم، إلى قوم لا مال لهم منّ عليهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأسر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر سبعين أسيراً، وكان يفاديهم على قدر أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلّمهم، فإذا حذقوا فهو فداؤه.
وممّن منّ عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): المطلب بن حنطب، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجمحي، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحداً، وكان محتاجاً ذا بنات، فقال: يا رسول اللّه لقد عرفت مالي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ، فمنّ عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحداً.
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستوهب فداء صهره:
وممّن منّ عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو العاص بن الربيع زوج زينب ابنته بعد أن بعثت زينب بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بفدائه، وكان فيما بعثت به: قلادة كانت خديجة اُمّها أهدتها لها ليلة زفافها، فلمّا رأى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) القلادة تذكّر زوجته الوفيّة خديجة(عليه السلام) فرقّ لها وبكى.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسلمين وقال: إن رأيتم أن تطلقوا سراح أسيرها وتردّوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا.
أي: انه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفرض رأيه عليهم مع ان القرآن يقول: (النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(7) وبذلك أعرب عن حرية الإسلام ورسم سياسته الحكيمة.
فقال المسلمون : نعم يا رسول اللّه نفديك بأنفسنا وأموالنا، فردّوا عليها ما بعثت به، وأطلقوا سراح أبي العاص بغير فداء، فشكرهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك.
هذا، وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخذ عليه، أو انه وعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخلي سبيل زينب، فلما خرج أبو العاص إلى مكة بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها. فخرجا نحو مكة، وذلك بعد بدر بشهر.
فلما قدم أبو العاص مكة أمرها بالحوق بأبيها، فتجهّزت وخرجت، فتعرّض لها هبار بن الأسود وروّعها بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملاً، فألقت ما في بطنها، فأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتله، فلم يظفروا به حتى إذا كان يوم الفتح هرب ثم قدم مختفياً، فلما مثل بين يدي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسلم، فقبل (صلى الله عليه وآله وسلم) اسلامه وعفا عنه.
النهي عن التعذيب والمُثلة:
وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، وفداه بأربعة آلاف درهم.
وذكر ابن اسحاق أنّ رجلاً من الصحابة قال: يا رسول اللّه دعني انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.
فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): لا اُمثل به، فيمثل اللّه بي وإن كنت نبياً.
وفي حديث : انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في جوابه: انه عسى أن يقوم مقاماً لا نذمه.
بؤرة التآمر والبخل:
اشترك في بدر لأبي سفيان ولدان: حنظلة وعمرو ابنا أبي سفيان، أما حنظلة فقد قتل، وأما عمرو فقد وقع أسيراً في يدي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقيل لأبي سفيان: افد عمرواً ابنك.
فقال: يجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة، واُفدى عمرواً، دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم.
فبينما هو كذلك إذ خرج سعد بن النعمان أخو بني عمرو بن عوف معتمراً، فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، وقد كان عهد قريش لا يتعرضون لأحد جاء حاجاً أو معتمراً إلا بخير.
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه خبره وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان، فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
المشركون وأنباء الحرب:
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحيسمان بن عبداللّه الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟
قال : قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، واُمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام.
فلما جعل يعدّ أشراف قريش قال صفوان بن اُمية وهو قاعد في الحجر مستنكراً عليه ذلك: واللّه إن يعقل هذا فاسألوه عنّي.
قالوا : ما فعل صفوان بن اُمية؟
قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد واللّه رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
مصير أبي لهب:
وفي حديث أبي رافع ـ وكان غلاماً للعبّاس ـ انه قال: لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر سررنا بذلك، لأنا كنا قد أسلمنا من قبل، وكنت جالساً في حجرة زمزم أنحت السهام وأصنعها، وعندي اُم الفضل جالسة، إذ أقبل أبو لهب وهو يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس.
فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا ابن أخيك أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب قدم من بدر.
قال: فقال أبو لهب: هلم إليَّ، فعندك لعمري الخبر.
قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال : واللّه ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، واللّه ما تبقى شيئاً ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة ثم قلت ـ وكان الإسلام قد دخلنا وسرّنا ذلك ـ: تلك واللّه الملائكة.
فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة.
فقامت اُم الفضل إلى عمود فضربت به في رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيّده؟
قال : فواللّه ما عاش أبو لهب بعدها إلا سبع ليال حتى رماه اللّه بالعدسة ـ وهي قرحة تتشاءم بها العرب ـ فتباعد عنه بنوه حتى هلك، وبقي ثلاثة أيام لا يقرب أحد جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.
وكان فراغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدر في عقب رمضان وأوائل شوّال، وفي أول شوّال صلّى (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاة الفطر.
__________
1 ـ الأنفال : 42.
2 ـ الأنفال : 47.
3 ـ المائدة : 24.
4 ـ التوبة : 32.
5 ـ الأنفال : 9.
6 ـ الأنفال : 70.
7 ـ الأحزاب : 6.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|