أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-11-2016
867
التاريخ: 12-11-2016
589
التاريخ: 12-11-2016
714
التاريخ: 12-11-2016
1647
|
لم يذكر هذه السوق أحد ممن تعرض لذكر أسواق العرب مع عظم شأنها, وقصد تجار العرب إليها. وليس من المعقول أن تقصد قريش وأهل الطائف، فارس للتجارة فيها ولا يكون لهم أسواق موسمية في العراق وهي طريقهم وأهلها عرب.
إلا أن في الأغاني ما يدلنا على أن بها سوقا عظيمة موسمية، قال أبو الفرج:
"خرج الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة"(1).
وبلدة كالحيرة بعيدة الصيت في جزيرة العرب، يتحدثون بخصبها وعظمتها ومنتزهها ... وأحداث ملوكها بني نصر، وعلائقهم مع من جاورهم من العرب، ويتحدثون عن الشعراء العظام الذين قصدوا ملوكها للنوال والهبات كالنابغة الذبياني والأعشى وحسان بن ثابت وغيرهم ... بلد كهذا لا بد أن يكون مرتبطا بما جاوره من الأقاليم ارتباطا تجاريا وثيقا، وهي أولى من بصرى وأذرعات بأن يكون فيها للعرب أسواق عامة.
ويطلعنا التعمق في التنقيب على أسواق ثانية تقام في أماكن من العراق ولا تقتصر على العرب وبضائعهم، بل يخالطهم فيها أجانب من فرس وغيرهم, ويحمل إليها متاع الهند وفارس كما يحمل إليها أمتعة الشام واليمن والبحرين. فقد جاء في الطبري عند كلامه على فتوح العراق:
سوق الخَنَافس سوق يتوافى إليها الناس ويجتمع بها ربيعة وقضاعة يخفرونهم ... قال رجل من أهل الحيرة للمثنى: "ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى والسواد وتجتمع بها في كل سنة مرة، ومعهم فيها الأموال كبيت المال؟ وهذه أيام سوقهم... " فصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف ... وأخذوا ما شاءوا. وقال المثنى: "لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ولا تأخذوا من المتاع إلا ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته. وهرب أهل الأسواق وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شيء... "(2).
الحيرة مدينة واسعة الشهرة منذ القديم. ذكروا أن بانيها بختنصر، وأنه بناها لتجار العرب الذين وجدوا بحضرته ثم صارت من بعده عاصمة ملوك العراق, حتى إن الطبري ليذكر أن لها قبل الإسلام أكثر من خمسة قرون(3). وموضعها إلى شمال الكوفة على ثلاثة أميال منها. طيبة الهواء كثيرة البساتين. ردد ذكرها الشعراء منذ الجاهلية وفتنوا بها وبخمرها وحاناتها وأديارها, فكانت بحق مقصف العرب عامة. ونسبوا إليها فقالوا: "حاري" على غير القياس، وقالوا: "حيري" على القياس؛ فمن الأول قول عمرو بن معد يكرب:
كأن الإثمد الحاريّ منها ... يسف بحيث تبتدر الدموع(4)
ومن الثاني قول بعضهم:
فلما دخلناه أضفنا ظهورنا... إلى كل حاريّ قشيب مشطب(5)
ولها تاريخ طويل يدل على قدمها وشهرتها قبل الإسلام, وأنها كانت ميدانا لحوادث جسام ليس هذا مقام سردها, فليرجع إليها في مظانّها.
وذكر ياقوت في سبب بنائها أن: "بختنصر قد جمع من كان في بلاده من العرب بها فسمتها النبط أنبار العرب ... فصار في الحيرة من جميع القبائل من مذحج وحمير وطيء وكلب وتميم وتنوخ ... فأهل الحيرة ثلاثة أصناف: فثلث: تنوخ وهم كانوا أصحاب المضال وبيوت الشعر, ينزلون غربي الفرات بين الحيرة والأنبار فما فوقها. والثلث الثاني: العِباد وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى تعبّدوا لملوكها وأقاموا هناك. وثلث: الأحلاف وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها". وأشار إلى بعض هؤلاء الشاعر:
وغزا تبع في حمير حتى... نزل الحيرة من أهل عدن
واشتهر في ظاهر الحيرة بناءان عظيمان هما: قصر الخورنق وقصر السدير. وبقيت مسكن ملوك العرب من بني نصر ولخم حتى كان آخرهم المناذرة الذين انقضى ملكهم بالإسلام.
ارتباط هذه البلدة بفارس وخضوع أمرائها لهم وكثرة العلائق بين البلدين، وسّع أفقها التجاري, وأكثر فيها الغنى والترف, وأحدث فيها نوعا من الثقافة ليس في غيرها. أن قريشا تعلمت الكتابة من أهل الحيرة, وأن الذي قرأ صحيفة المتلمس غلام حيري، وأن النضر بن الحارث شيطان قريش تعلم من الحيرة أخبار ملوك فارس وأحاديث دياناتهم وأساطيرهم, فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يدعو قريشا إلى الإسلام ويحذرهم، خلفه في مجلسه فقص عليهم من أحاديثه التي نقلها من الحيرة، وعلمت أن لقريش رحلات وقوافل تجارية إلى الحيرة، وأن للنعمان ملك الحيرة لطائم يجهزها إلى عكاظ كل سنة. وهذا الاختلاط الشديد بين أهلها والفرس والأنباط جعل أنساب الحيريين في منزلة دون منزلة بقية أنساب العرب، حتى إن من العرب من يعير بالنسب إلى الحيرة. وانظر -إن شئت- ما كان بين قيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم فقد جاء في الأغاني أن قيس بن عاصم قال في عمرو: "والله يا رسول الله ما هم منا، وإنهم لمن أهل الحيرة!! " وقال فيه:
لولا دفاعي كنتمُ أعبدا... مسكنها الحيرة فالسيلحون
فقال عمرو بن الأهتم متأثرا بهذا التعبير الذي لم يجد له ما يفي به, إلا أن ينسب خصمه إلى الروم: "بل هو يا رسول الله من الروم, وليس منا". ثم قال:
إن تبغضونا فإن الروم أصلكم... والروم لا تملك البغضاء للعرب(6).
هذا, وإن نحن استرشدنا بنتف من الأخبار تأتي عرضا في مطاوي الكلام، عرفنا أن للحيرة شأنا تجاريا ممتازا، وأن عادة العرب جرت منذ القديم بالمتاجرة إلى الحيرة، وأنها كانت تؤمها القوافل الكبرى التي تقصد البر حاملة متاجر الهند من عمان إلى الشام، فكانت الحيرة محطة كبرى لتلك القوافل المحمّلة, وكان أكثر الطُّرَّاء عليها تجارا يختلفون إليها(7).
ولما قتل الشيظم بن الحارث الغساني رجلا من قومه, وهرب إلى الحيرة تظاهر بأنه "رجل من خيبر أقبل إلى هذه البلدة بتجارة"(8).
وخرج خمسة نفر من طيء من ذوي الحجا والرأي يريدون سواد بن قارب الدوسي ليمتحنوا علمه ... "فأهدوا إليه طرفا من طرف الحيرة, فضرب عليهم قبة ونحر لهم ... "(9).
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الأعشى باع في سوق الحيرة "كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا بثلاثمائة ناقة حمراء"(10).
مما تقدم, يتبين أن للحيرة مع شأنها التجاري شأنا صناعيا راقيا حتى صارت طرفها مما يتهادى به، وليس هذا بغريب؛ فإن اختلاطها الواسع بفارس جعل أهلها يحذقون صناعات كثيرة مما أفادوه من الإيرانيين "والمعروف أن سجاجيد ذات زخارف حيوانية كانت تصنع في الحيرة قبيل الإسلام"(11).
يعرض في هذه السوق الأدم والعطر والبرود والجواهر والخيل والأموال, وسائر ما يعرض في بقية أسواق العرب مما يحمل من الشام أو اليمن أو عمان أو الحجاز أو البحرين أو الهند وفارس, عدا ما يحمل الأعراب إليها من إبل وشياه وقرود أحيانا(12).
وفيها أيضا إلى هذا، أدب وشعر وخطابة ومنافرات ومماجدة كما يكون في غيرها من الأسواق، فلما كان الإسلام تضاءل شأنها التجاري، وانصرف الناس إلى الفتوحات فلم يمض القرن الأول للهجرة حتى صارت الحيرة ذات لون أخّاذ يفتن الشبان وأهل اللهو والمجون. فطار لها صيت بعيد ساحر في منازهها وخمرها وحاناتها(13) وأديارها، وصرنا بعد هذا الزمن لا نجد ذكرا للحيرة إلا حيث مجلس شراب، وجماعة قصف وبذخ، وخليفة يخرج للترويح عن النفس، وفتيان سئموا حياة الجد فخرجوا إلى الحيرة فنزلوا أحد أديرتها أو إحدى حاناتها, فذبحوا وطعموا وشربوا وغنوا وأنشدوا. وأثري أصحاب الحانات من وراء ذلك إثراء عظيما, فصاروا يتنافسون بتجويد الخمر، وجذب الزائرين حتى كثر الذين ذهبت ثرواتهم وفدحهم الدين من جراء خمرة الحيرة.
"ولما حرّم بعض أمراء الكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة وركب فكسر نبيذهم, جاء بكر بن خارجة يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق، فبكى طويلا وقال شعرا(14). ويظهر أن الأمراء لم يشددوا على الخمارين حتى رأوا من إقبال الفتيان عليهم الشر المستطير، وحتى كان رجال كأبي حية النميري يشربونها في الحيرة بنسيئة، وصارت السكرة في الحيرة إحدى المنى الغالية:
هل إلى سكرة بناحية الحيـ... ـرة يوما قبل الممات سبيل؟!
أما بساتين الحيرة فحدث ولا حرج عما فيها من منازه نضرة وفتنة تحير اللب وتأسر العقل، وحسبك أن تعلم أن إبراهيم الموصلي خرج في ركب الرشيد إلى الحيرة، فلما نام الرشيد اغتنم غفلته فركب يدور في ظهر الحيرة, فنظر إلى بستان فقصده, فإذا على بابه شاب حسن الوجه ... وإذا جنة من الجنان في أحسن تربة وأغزرها ماء.. فقال فيه:
جنان شمارى ليس مثلك منظر ... لذي رمد أعيا عليه طبيب
ترابــك كافــور ونورك زهرة ... لها أرج بعد الهدوء يطيب
ثم صنع فيه لحنا وغناه الرشيد، فأعطاه ثمن البستان أربعة عشر ألف دينار.
لم نهتد إلى الزمن الذي تقوم فيه هذه السوق. أما ريع الطريق فقد جعله النعمان طعمة لبني لام من طيء؛ لأنهم أصهاره(15). ونظرا لوقوع هذه السوق في سلطة المناذرة كانت عشورها إليهم لأنهم هم المسيطرون عليها. والأمر فيها على كل حال أكمل وأتم من بقية الأسواق من حيث النظام والأمن؛ لأنها في أرض مملكة.
__________
(1) الأغاني 16/ 95.
(2) تاريخ الطبري 1/ 2203 طبع أوروبا.
(3) تاريخ الطبري 1/ 748 طبع أوروبا.
(4) الإثمد: حجر للكحل. وأسفّ الجرح دواء: أدخله فيه.
(5) الحاريّ: السيف، والمعنى: أنهم احتبوا بالسيوف. لسان العرب، مادة "حير".
(6) الأغاني 12/ 150.
(7) الطبري 1/ 2677.
(8) الأمالي: النوادر ص179, طبعة دار الكتب المصرية.
(9) المصدر نفسه 2/ 289.
(10) الأغاني 9/ 125, دار الكتب.
(11) زكي حسن "مجلة المقتطف، عدد يوليو سنة 1938 ص233".
(12) الأمالي 2/ 44. وانظر تاريخ ملوك الحيرة للأعظمي ص136.
(13) عقد صاحب مسالك الأبصار فصلا في كتابه عن حانات الحيرة, فارجع إليه في 1/ 389-391 وكذلك فعل في أديارها.
(14) الأغاني 20/ 87.
(15) المصدر نفسه 16/ 95.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|