أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-11-2016
878
التاريخ: 12-11-2016
299
التاريخ: 12-11-2016
603
التاريخ: 12-11-2016
422
|
نسبت هذه المملكة العربية إلى تنوخ تارة، وإلى لخم تارة ثانية، وسمي ملوكها باسم بنى نصر تارة واسم المناذرة تارة أخرى, وكان لكل تسمية من هذه التسميات ما يبررها في مرحلة ما من مراحل تاريخ دولتها.
وكان لقبائل تنوخ دورها في قلب شبه الجزيرة العربية، كما انتشرت بطونها إلى ما بين بادية العراق وبادية الشام منذ القرون الميلادية الأولى. وتعين عليها خلال هذا الانتشار أن تحسب حساب دولة تدمر القوية التي أشرفت على طرق التجارة في الباديتين وحققت لنفسها شهرة كبيرة تجاوزنا عن دراستها هذا حيث هي أقرب إلى الدراسة مع تاريخ بلاد الشام لصلتها الوثيقة بأحداثها وثقافتها الأرامية التي جمعت بينها وبين أصولها العربية.
ويبدو أن الأمور لم تسر هيئة دائمًا بين الفريقين، التدمريين والتنوخيين، مما انعكس صداه على ما صورته الروايات العربية من تنافس ومكائد بين ملكة تدمر التي أطلقت عليها تجاوزًا اسم الزباء وبين ملك تنوخ جذيمة الأبرش. وأحاط الغموض بالتفاصيل الفعلية لهذا التنافس لا سيما وأن الروايات العربية قد اختلفت في تصويره وخلعت عليه ثوب الأساطير. ولكن التاريخ قد سجل إلي جانب هذا أن دولة تدمر أتت خاتمتها على أيدي الجيوش الرومانية في عام 273م. مما كان من شأنه أن يفسح السبيل أمام التنوخيين ليحاولوا القيام بدور التدمريين وأن بجربوا حظهم مع الدولتين المتسيطرتين على شئون الشرق حينذاك وهما دولة الفرس الساسانيين ودولة الرومان.
ودل على الحالة الأولى للتنوخيين. أي حالة انتشارهم في بادية الشام وبادية العراق مصدران. فذكر الجغرافي بطلميوس السكندري في القرن الثاني الميلادي اسم شعيب يشبه اسم التنوخيين وهو Tanuetiare or Thanuitae بين إمارات أو شعوب شمال غرب شبه الجزيرة العربية. كما عثر في قرية أم الجمال بشرق الأردن على نصب أقيم على قبر رجل يدعى فهر بن سلى تلقب بلقب مربي جذيمة ملك تنوخ.
وكان الملك جذيمة هذا الذي أشار النص إليه من أوائل ملوك تنوخ الذين احتفظ المؤرخون المسلمون بذكراهم، وجعلوا من قبله على رئاسة تنوخ مالكًا بن فهم الذي يحتمل أن يكون تلاه عمر بن فهم، أو تلاه جذيمة نفسه. ولقبوا جذيمة بالأبرش والوضاح ونسبوا إليه فتوحات واسعة، ووصفوه جذيمة نفسه. ولقبوا جذيمة بالأبرش والوضاح ونسبوا إليه فتوحات واسعة، ووصفوه بأنه كان ثاقب الرأي، بعيد المغار، شديد النكاية، ظاهر الحزم، وأول من غزا بالجيوش، فشن الغارات على قبائل العزب. ولو أن بعض الأوصاف قد خلعت أيضًا على غيره من كبار الملوك، أي أنه ليس من ضرورة إلى التسليم بحرفيتها. ثم جعلوا نهايته في مكيدة دبرتها له ملكة تدمر واحتفظ الأدب العربي بذكراها.
وإذا صح ما رواه بعض المؤرخين المسلمين من أن ملك جذيمة قد امتد فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر إلى الغمر والقطقطانة وخفية وما والاها، لدل ذلك على أن قومه قد بدأوا محاولتهم مع الفرس في عهده أو من قبيل عهده ليسمحوا لهم بأن يقيموا على أطراف العراق.
وأضاف المؤرخون المسلمون ما يعني أن هذه الإقامة لم تتم بسهولة حيث ضاق الفرس بكثرة من أتت تنوخ بهم من العرب، فضيقوا عليهم حتى كره بعضهم الإقامة، ومنهم قضاعة، فنزحوا، وبقي بعض آخر عملوا على أن يثبتوا أقدامهم فيما نزلوا عليه، وكان منهم لخم وترأسهم حينذاك ملوك بني نصر الذين جعل المؤرخون أولهم عمرا بن عدي، واعتبروه من أقرباء جذيمة وقد يكون بن أخته.
ومع هذه الرغبة في الاستقرار أخذ عمران الأنبار والحيرة في الاتساع، وكانت كل منهما مدينة حدودية دل اسمها على ما أنشلت في الأصل من أجله فنشأت الأنبار بمعنى المستودع كمركز حدودي لإمداد الحاميات العسكرية بالمؤن، منذ القرن الميلادي الأول، ثم اتسعت ودعمت أسوارها. وقامت الحيرة بدور مشابه ففسر اسمها الآرامي حيرته بنفس ما فسر به اسمها العربي الحيرة بمعاني المخيم والمعسكر والحصن وموضع الإقامة ... إلخ ويبدو أنها كانت أقدم عهدًا من الأنبار، كما قدر لها أن تصبح أكثر شهرة منها.
وصور انطلاقة هؤلاء القوم في مرحلتهم الثانية لكي يتزعموا من حولهم من العرب والأعراب ولكي يشغلوا في باديتي العراق والشام ما كانت تشغله من قبل دولة تدمر، ويستفيدوا من كل من الفرس والرومان ثم الروم، نص لملكهم امرئ القيس بن عمرو المتوفى في عام 328م، وجد منقوشًا بالخط الأنباطي المتطور على نصب أقين فوق قبره في منطقة النمارة إلى الجنوب الشرقي من دمشق، وقيل فيبه عن صاحبه: إنه كان ملكًا على العرب كلهم وأنه أحرز التاج وحكم الأسديين والنزاريين والمعديين، وشتت قبائل مذحج، وحاصر نجران مدينة شمر، وولى أولاده على القبائل واستعان بهم الفرس والروم أو جعلهم فرسانًا للروم.
و قد عاصر امرأ القيس هذا أواخر أيام ملك عربي جنوبي لا يقل عنه اقتدارًا وطموحًا وهو شمر يهرعش الثالث ملك سبأ وذوريدان، وكانت جيوش شمر قد انطلقت من نجران إحدى قواعده العسكرية فتحالفت مع قبائل مذحج في منطقة الأفلاج في وسط شبه الجزيرة العربية وعملت على التوسع في المنطقة الشرقية على الخليج العربي وأطراف العراق.
وعندما ظهرت قوة امرئ القيس شن هجومه المضاد فشتت قبائل مذحج حلفاء شمر يهرعش وحاصر نجران التابعة له. ولعله وجد العون أو وجد الخضوع من قبائل عربية متفرقة مما سمح له بأن يدعى في نصه حكم قبائل أسد ونزار معد.
وشيئًا فشيئًا اكتفى اللخميون بالولاء للفرس دون الرومان، وتقبل الفرس استقرارهم في الحيرة وفي الأنبار وما حولهما ليعدلوا الكفة في مقابل ملوك الطوائف في العراق، ويقوموا بدور الدولة الحاجزة لحماية الحدود وقوافل التجارة من شغب أبناء عمومتهم من بدو الصحاري.
ونجح ملوك الحيرة في القيام بدورهم، وثبت أقدامهم ما يروى من أن يزدجرد ملك فارس قد ائتمن النعمان الأول ملك الحيرة 388 - 418م على تربية ولده بهرام جور في ظاهر الحيرة، فرباه مع ولده المنذر، وقيل: إنه أدبه بآداب العرب، وكانت فرصة ذهبية لتقارب البيتين الحاكمين. وازدادت من جرائها سلطة النعمان وزاد جيشه واتسع ثراؤه ونسب إليه إنشاء قصر الخورنق.
وزاد في الوقت نفسه ولاؤه للفرس وشن الغارات باسمهم على حدود أملاك الروم في بلاد الشام. وإن روى بعض المؤرخين أنه زهد في نهاية حياته وتنسك وترك لولده المنذر ملكًا مكينًا. وعندما توفي يزدجرد في عام 421م أراد عظماء الفرس أن يقصوا أولاده عن عرشه، فاستغل المنذر الفرصة وانتصر لبهرام جور وعاونه بفرقته العربية الضارية دوسر أو بفرقتين، على بلوغ عرشه، وحمد بهرام جور له هذه المبادرة وردها إليه مضاعفة وخلع عليه لقبين تشريفيين لابد أنهما اعتبرا مكرمة منه تزيد من سمعة المنذر بين الفرس والعرب وهما: رام أفزود يزدجرد بمعنى الذي أزاد سرور يزدجرد، ومهشت بمعنى أعظم الخول.
وأظهر عرب الحيرة كفايتهم في قتال جيوش الروم وحلفائهم، وحدهم تارة وفي صفوف الفرس تارة أخرى. وكان أشد ملوكهم ضرابًا ونجاحًا المنذر الثالث 512 - 554م الذي نسبه المؤرخون المسلمون إلى أمه ولقبوه بلقب ابن ماء السماء، ورأى بعض الباحثين أن اسم ماء السماء هذا محرف عن اسم ماوية أو مارية، كما أطلقوا عليه لقب ذي القرنين ربما لأنه كان يرسل ضفيرتين على جانبي رأسه، أو لرغبتهم في تشبيهه بذي القرنين نظرًا لاتساع فتوحه مثله.
وتتابعت حروب المنذر على فترات منقطعة منذ عام 519 حتى عام 554م، أي خلال 35 عامًا، ونستطيع أن نتجاوز عن تفاصيلها لنذكر ما يروى من أنه استطاع في أوائلها أن يكتسح بادية الشام من حدود العراق إلى أنطاكية، الأمر الذي جعل قيصر الروم يوفد إليه رسله من القساوسة ليفاوضوه في إطلاق بعض من أسرهم من قادته الكبار أو يقنعوه بقبول الهدنة أو يغروه بالانقلاب على الفرس والانضمام إلى صفوفهم.
واتصلت أسباب المودة بين المنذر وبين ذي نواس الحميري كما أسلفنا في الفصل العاشر، وابتغى هذا الأخير أن يحالفه، ولكن تصادف أن وصلت رسالته في حضور قساوسة الروم عند المنذر ففسروها بأنها تحريض منه ضد نصارى الحيرة، وألبوا العالم المسيحي عليه. وعندما احتفل أبرهة الحبشى بانتهاء العمل في إصلاح سد مأرب أوفد المنذر إليه مندوبًا عنه لحضور حفله في عام 543م.
وهكذا خرج عرب الحيرة بشهرتهم عن نطاق الإقليمية والتبعية.
والواقع أنه لم يفسد على دولة الحيرة أمرها في عهد المنذر الثالث إلا عداؤها لفريقين من العرب وهم الغساسنة وبنو كندة. فقد كان كل منهم أدرى بحرب الآخر، وكل منهم يعرف عن أسرار الصحراء ودروبها ما يعرفه الآخر.
وكان على رأس بني غسان فيما يعاصر عهد المنذر، الحارث بن جبلة، ولم يكن أقل جرأة واقتدارًا منه، فاتصلت الحروب بينهما للأسف أكثر مما اتصلت بين الروم وبين الفرس، وعقد الروم والفرس أكثر من هدنة وصلح، ولكن المنذر والحارث لم يعترفا بهدنة أو صلح، وكما غزا المنذر أرض الشام غزا الحارث أرض الجزيرة في العراق، وهكذا أعمت المطامع بصيرة هذين الزعيمين. وانتهى الأمر بقتل المنذر حوالي عام 554م في موقعة حليمة أو موقعة الحيار قرب قنسرين كما سيرد تفصيله بعد قليل.
أما قبائل كندة فقد غدوا حينذاك قوة يخشى بأسها في قلب شبه الجزيرة العربية ، فاستغل الفرس طموحهم لإضعاف شوكة ملك الحيرة بعد أن ارتفع شأنه، وتوقعوا أن يؤدي به طموحه إلى الإضرار
بمصالح دولتهم أو الخروج عن طاعتها، فتركوه يستنفذ قواه ضد الحارث بن عمرو ملك كندة ثم عزلوه، وولى قباذ ملك فارس الحارث الكندي على الحيرة في حوالي عام 524م-ولجأ المنذر إلى بعض القبائل العربية التي بقيت على الولاء له وخرجت عن نفوذ كندة. ثم استرجع حكم دولته بعد أربع سنوات، وظل العداء قائمًا بينه وبين كندة بعد فشل الحركة المزدكية.
وتعاقب على حكم الحيرة عدة ملوك اشتهر منهم عمرو بن هند 554 - 574م الذي ألمح الأعشى في شعره إلى أن نفوذه امتد ما بين عمان وبين ملج في أرض اليمامة من بلاد بنى جعدة. وكان قد استغل ضعف كندة فوسع نفوذه على حسابها وتحاربت قواته مع تميم وطيء وتغلب وغيرها.
واشتهر كذلك النعمان بن المنذر 583 - 605م الملقب بلقب أبي قابوس، واشتهر أمره عند المؤرخين العرب بأقاصيص كثيرة ووصفوه بفصاحة اللسان على الرغم من دمامة خلقته، وكان بلاطه مجمعًا للشعراء فمدحه المقربون إليه منهم وأهمم النابغة الذبياني وهجاه المبعدون عنه. وحاول أن يمد نفوذه من البحرين شرقًا إلى جبل طيء غربًا. غير أن الحروب التي شنها لم يكتب له التوفيق في أغلبها سواء ضد الغساسنة، أم ضد القبائل العربية الأخرى. فذكرت الروايات أن جيوشه انهزمت أمام بني يربوع مرة، وأمام بني عامر مرة، وأمام تغلب مرة أخرى. وكذلك كان حظه سيئًا مع كسرى ملك الفرس بعد أن أوقع خصومه بينه وبينه، فتمكن كسرى منه وسجنه، وتغرق أنصاره عنه، ومات في سجنه.
كان النعمان الثاني هو آخر الملوك العظام في الحيرة، وقد اختلف أولاده على الحكم بعد موته، واستغل كسرى ملك الفرس اختلافهم فولى على الحيرة ملكًا من غير أسرتهم وهو إياس بن قبيصة الطائي وكان من كبار عرب العراق الذين أقطعهم الفرس إقطاعيات واسعة، ووثق به كسرى كما وثق به النعمان نفسه وجعله نائبه، فلما ولي الحيرة في عام 605م عاون جيوش الفرس ضد جيوش الروم ليثبت أنه ليس أقل كفاية من المناذرة في نصرتهم، ولكن التوفيق جانبه في علاقاته بأهل الحيرة وجيرانها بحيث قيل: إنه أمضى أغلب عهده القصير الذي لم يزد عن تسع سنوات حتى 614م خارجها، وتجرأت القبائل العربية على حدود العراق في عهده سواء بتحريض أنصار المناذرة أو لاضطراب الأمور في فارس نفسها.
وحدث أن نشبت حينذاك موقعة خالدة بين عرب شبه الجزيرة العربية وبين أعوان الفرس، وكان إياس هو مندوب كسرى في قيادة أعوانه من الفرس والعرب الخاضعين له، فانهزم هو وجنوده، وكانت هزيمتهم بمثابة ضربة لسمعة فارس نفسها، ولعلها كانت من الآيات المبشرة للعرب بأن الاستبسال يمكن أن يعوض قلة العدد في مقاومة إحدى الدولتين الكبيرتين اللتين حكمتا الشرقين الأدنى والأوسط في ذلك الحين وهي دولة الفرس.
موقعة ذي قار:
اشتهرت واقعة هذه الحرب باسم واقعة ذي قار، وقص المؤرخون المسلمون من أخبارها أن النعمان الثاني حينما تخوف من غدر كسرى به ترك بعض ودائعه من الأموال والأسلحة عند هانئ بن مسعود الشيباني، أو هو هانئ بن قبيصة بن مسعود في رواية الطبري، أحد رجالات ربيعة وبكر بن وائل، فلما مات النعمان في سجن الفرس كلف كسرى إياسًا بن قبيصة عامله على الحيرة بأن يستردها من هانئ فرفض هذا الأخير أن يفرط فيما اؤتمن عليه. فأمر كسرى بإعداد جيش من الولايات الفارسية والعربية الحدودية وأمر عليه إياسًا بن قبيصة كما ذكرنا.
وتلاقى هذا الجيش مع قبائل بكر وحلفائها في منطقة ذي قار على مبعدة قليلة من الحيرة. واستظهر الفرس وأعوانهم على العرب في يومهم الأول نظرًا لكثرة أعدادهم وما استعانوا به من الفيلة، ولتهيب بعض العرب منهم، ولكنهم ما لبثوا حتى جزعوا من شدة الهجير واحتمال تعرضهم للعطش فتقهقروا وكانت بداية النصر للعرب فتبعوهم وشاركت النساء الرجال في شحذ العزائم، بل وصحت ضمائر بعض القبائل العربية المظاهرة للفرس فاستعدت للتخلي عنهم حين يجد الجد، وفي بطحاء ذي قار توالت أيام قليلة وجليلة تحطمت فيها عزائم جيوش الفرس وأتباعهم من شدة هجمات العرب وشدة العطش حتى هزموا هزيمة منكرة في عام تفاوتت آراء المؤرخين في تحديده بين 609م و 611م. وعن هذه الموقعة قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "هذا أول يوم انتصفت العرب فيه من العجم وبي نصروا".
وليس ما يعرف عن مصير إياس بن قبيصة بعد هذه الموقعة إن كان قد استمر على حكم الحيرة لفترة بعدها أم عزله كسرى بعد أن خاب أمله في إخلاص العرب لحكمه. وعلى أية حال فقد حكمت الحيرة17 عامًا أو نحوها 614 - 631م بحكم فارسي مباشر. ووليها فارسي يدعى آزادبة عجز عن أن يبسط نفوذه على ما في خارجها، كما نافسه في عامه الأخير شاب من نسل المناذرة يدعى المنذر ويلقب بالمغرور، ثم أتت نهايتهما معًا بالفتح الإسلامي في عام 632م أو 633م.
تلك كانت الخطوط العامة للاتجاهات السياسية والحربية لدولة الحيرة.
الحياة الاجتماعية في الحيرة:
أما حياتها الاجتماعية، فأهم ما يذكر لها أنها جمعت بين تقاليد العرب وبين رفاهة الفرس، فتتوج ملوكها بالتيجان على عادة الأكاسرة، وأمروا بالحجاب بينهم وبين الناس مثلهم، واتخذوا الروادف أشبه الوزراء أو النواب، وفتحوا بلاطهم للأدباء والشعراء. أما عاصمتهم فاتسعت هي وما حولها لطوائف شتى، من اللخميين أهل الطبقة العليا، والأحلاف الذين لحقوا بهم، والعباد من النصارى، وجماعات من أهل العراق الأصليين، وجاليات وموظفين كبار من الفرس، فضلًا على أعراب الضاحية أصحاب المضال ومضارب الشعر والوبر والأخبية الذين لم يسكنوا بيوت المدر في الحيرة وانتشروا حولها.
وتعددت الحرف بتعدد هذه الطوائف بين الزراعة والرعي والتجارة والصناعة ومنها صناعات النسيج المتنوعة، وكان أفخرها يطرز بالقصب وسلوك الذهب، وصناعات الحلي والأسلحة وما عداها.
وتعددت المذاهب الدينية بين الوثنية والمجوسية والزرادشتية الفارسية واليهودية والمسيحية. ووجدت المسيحية مجالًا رحبًا بين هذه الديانات وأخذت بالمذهب النسطوري أكثر من المذهب اليعقوبي، وأقيمت من أجلها أديرة عدة، وعرف أتباعها باسم العباد أو العباديين ربما نسبة إلى لفظ عبد الذي يربط بين الإنسان وبين ربه أو نسبة إلى كلمة عابد.
وكان لموقع الحيرة واتصالاتها التجارية والظروف التي أدت إلى احتكاك أهلها بغيرهم من الإمارات والجماعات سلمًا وحربًا، أثر في انتفاعها بالثقافات العراقية والآرامية السريانية والفارسية والبيزنطية فضلًا على العربية، وكان فيها كتبه كثيرون يكتبون بالخط الشرقي، وكتاتيب تعلم الصبية ويلحق بعضها بالأديرة.
ونسب المؤرخون المسلمون إلى ملوك الحيرة كثيرًا من القصور، فنسبوا إلى أحد النعمانيين النعمان الأول أو الثاني بناء قصر الخورنق بظاهر الحيرة كما تقدم، بينما رد بعض الباحثين المحدثين تشييده إلى عصر أقدم من عصر استقرار اللخميين في الحيرة، ثم زاد عليه ملوكهم، وقيل: إن بعض أجزائه وقبابه ظلت قائمة لفترة طويلة في العصور الإسلامية بعد أن جددت أكثر من مرة, ونسبوا إليهم قصر السدير ويمثل بقبابه الثلاثة المتجاورة نموذجًا لفن البناء الحيري، ويتألف مجلسه الرئيسي من إيوان يحف به كمان أو قاعتان، ونسبوا إليهم قصورًا كثيرة أخرى تتفق مع ما علموه عن ثرائهم وتحضرهم، ولم يتركوا قصرًا منها دون قصة أو أسطورة دارت حوله وميزته عن غيره. ونسبوا إلى أحد النعمانيين قصة سنمار البناء وجزائه المشؤم، وقصة يوم السعد ويوم البؤس، وتحدثوا عن مقتل عبيد بن الأبرص في يوم البؤس، ونجاة حنظلة الطائي في اليوم نفسه، وما إلى ذلك مما زخرت به كتب الأدب العربي وعبرت فيه بالشعر والنثر عن كثير من النواحي الطيبة والنواحي السيئة في الحياة العربية قبل الإسلام. ورووا أن النعمان الأول تنسك وساح في الأرض. وأن المنذر بن ماء السماء تنصر، وأن النعمان الثاني ولد من أم ذات أصل يهودي.
وعلى الجملة ظلت أيام ملوك الحيرة مجالًا خصبًا لرواة العرب يمزجون فيها بين الواقع وبين الخيال، نظرًا لما تواتر إليهم عن ثرائهم ورفاهيتهم وقوة جيوشهم وقوافلهم، واتصالاتهم بالدولتين الكبيرتين دولة الفرس بالتبعية ودولة الروم بالعداء، وهي صفات لم يكن ينافسهم فيها من ملوك العرب الشماليين أكثر من ملوك بني غسان.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|