أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-10-2016
1638
التاريخ: 4-10-2016
2809
التاريخ: 4-10-2016
4664
التاريخ: 4-10-2016
2180
|
لمحة عن تنقيبات عصور قبل التاريخ في بلاد الشام:
ان الاهتمام بدراسة عصور ما قبل التاريخ في بلاد الشام بدأ في اوساط مجموعة من علماء اوربا وامريكا منذ بداية القرن العشرين حيث قام هؤلاء بوضع الاطار العام لدراسات عصور ما قبل التاريخ في هذه المنطقة(1). وتمخضت اعمالهم التنقيبية الفردية الأولى عن وضع تقارير بسيطة ذات معلومات محدودة، ومن اهم هؤلاء الذين وضعوا تلك الدراسات الأولية هو الانجليزي تورفيل بتري (Turville Petre) الذي اجرى حفرياته في مغارة الزطية في جبال الجليل بفلسطين عام 1925م، ثم تبعته في العمل بعثة امريكية-انجليزية مشتركة برئاسة كل من ت- جارود (T. Garoad) و ت. مكاون (T. Mc Cown) قامت بأجراء تنقيبات اثارية في كهوف الواد والسخول والطابون وقام في الوقت نفسه الفرنسي ر. نيوفيل (R. Newville) بإجراء حفريات اثارية في عدد من مواقع ما قبل التاريخ ومنها ام قطفة الذي يقع بين مدينة بيت لحم والبحر الميت في فلسطين، وكذلك الألماني الفرد رست (A. Rust) في ملاجئ يبرود الواقعة في منطقة جبال القلمون المتاخمة لجبال لبنان الشرقية ما بين عامي 1930- 1933م (2).
وبعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) زاد الأهتمام من قبل البعثات الآثارية للاستدلال على مواقع بلاد الشام في تلك العصور، ومن أهم تلك التنقيبات الاثارية في هذه المرحلة الزمنية هو ما قام به العالم الأمريكي روبرت بريدوود (R. Braidwood) من حفريات في سهل العمق في شمال غربي سوريا (3). كما قام كل من هنري دي كونتنسون (Henri de Contenson) وجيمس ميلارت (J. Mellart) في عام 1953م بإجراء حفريات ومسوحات اثارية في مواقع تل الشونة الشمالية وتل او هابيل وتل السعيدية في منطقة غور الاردن (4) ، كذلك قامت كاثلين كنيون (K. Kenyon) بتنقيبات اثارية في موقع تل السلطان بالقرب من اريحا(5).
ومع بداية الستينات من القرن العشرين بدأت مسوحات اثارية في منطقة شمالي وسوريا وقد كانت تحت اشراف الهولندي فان لير (Van Liere) حيث اكتشف عدد من مواقع قبل التاريخ وكان من أهمها موقع اللطامنة في حوض نهر العاصي (6)، كذلك ما قامت به الانجليزية ديانا كيركبرايد (D. Kirkibride) في تنقيبات عدد من مواقع غور الأردن (7).
لقد ازداد الاهتمام بدراسات عصور ما قبل التاريخ لمنطقة بلاد الشام خلال عقود السبيعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حيث اصبح هناك تركيز على تلك الدراسات وكان من نتيجة ذلك الاهتمام المتزايد اكتشاف عدد كبير من المواقع التي تعود الى العصور الحجرية في مناطق متعددة من بلاد الشام والتي احتوت على بقايا عظمية وحجرية تدل على معرفة سكان تلك المواقع بالزراعة وتدجين الحيوان(8)، ولعل أهم المشاريع الدراسية التي جرت في بلاد الشام هو ما قام به الفرنسيون بأشراف العالم جاك كوفان (J. Cuvan) في منطقة الكوم في البادية السورية والقرماشي في حوض نهر العاصي وفي منطقة حوض الزرقا وحوض الازرق في الاردن، وكان الهدف من تلك الدراسات التوصل الى ان منطقة بلاد الشام بمواقعها المختلفة والمنتشرة في (اقطارها) الحالية تقع في اطار حضاري واحد وهذه دلالة على تماسك الوحدة الحضارية للمنطقة باسرها (9).
العصور الحجرية:
واستناداً الى تلك الدراسات وما تم تحليله من ملتقطات ومتحجرات ودراسة تقنية صناعة الآلات والأدوات الحجرية التي عثر عليها ثم تقسيم العصور الحجرية في بلاد الشام الى عدة مراحل زمنية هي:
1. العصور الحجرية القديمة (Palaealithic):
أ. المرحلة الاولى (حوالي 1.500.000-100.000 سنة مضت)
ب. المرحلة الثانية (حوالي 100.000-40.000 سنة مضت)
ج. المرحلة الثالثة (حوالي 40.000-19.000 سنة مضت)
2. المرحلة الانتقالية بين الانسان الجامع للقوت وبين الانسان المنتج للقوت وبوادر الزراعة (Epi- palaeolithic) وتشمل الثقافات التالية:
أ. الثقافة الكبارية (حوالي 17.000-10.000 ق.م)(10)
ب. الثقافة النطوفية (حوالي 10.000-8.500 ق.م)(11)
3. مرحلة القرى الزراعية (Neolithic):
وتقسم الى مرحلتين فرعيتين.
أ. العصر الحجري الحديث المبكر (حوالي 8500-5500 ق.م)
ب. العصر الحجري الحديث المتأخر (حوالي 5500- 4000 ق.م)
4. القرى الزراعية الحرفية في العصر الحجري النحاسي (حوالي 4000-3200 ق.م)(12).
أما بخصوص اقدم بقايا الأنسان العظمية في بلاد الشام فكان يعتقد سابقاً انها تعود لأنسان من نوع نياندرتال وهي التي وجدت في كهوف جبل الكرمل مثل مغارة الطابون ومغارة السخول في فلسطين(13)، ولكن التنقيبات الحديثة التي جرت في سوريا ابانت ان أقدم بقايا عظمية لأنسان عاش في هذه المنطقة تعود لأنسان من النوع المعروف باسم الهومو- ايركتوس (Homo - Erectus) والذي وجدت اثاره في حوض نهر الكبير الشمالي على الساحل(14) وكذلك عثر على بقايا هذا النوع من الانسان في تل العبيد(15) في فلسطين وكانت عبارة عن جمجمة بشرية واثنين من الاسنان كبيرة الحجم(16)، كما عثر في حوض نهر العاصي على ادوات حجرية تمثل قواطع وفؤوس يدوية وشظايا يعود تاريخها الى الدور الاشولي من العصر الحجري القديم الادنى، ولكن ليس لدينا دليل أخر من مواقع سورية اخرى على ان مثل هذا النوع من الانسان قد سكنها(17). ومما تجدر الاشارة اليه هنا الى انه لم يعثر لحد الان على بقايا انسانية عظمية في العراق تعود لهذا العصر، ولكن عثر على ادوات حجرية تعود الى الدور الاشولي وهو الدور الثالث من ادوار هذا العصر في الموضع المعروف باسم برده بلكا في شمال العراق قرب جمجمال(18).
وفي العصر الحجري القديم الأوسط (حوالي 100.000-40.000 سنة مضت) حل انسان من نوع نياندرتال محل انسان (الهومو-ايركتوس) حيث كشف عن بقاياه في مغاور جرف العجلة والدوارة في تدمر وفي موقع ام التلال في حوض الكوم وملاجيء يبرود في ضواحي دمشق(19) وفي مغارة الديرية في وادي عفرين شمال غرب حلب اذ عثر في هذه المغارة على اكمل الهياكل النياندرتالية التي تم العثور عليها غي بلاد الشام لحد الان(20).
وقبل ان ينتقل الانسان في بلاد الشام الى العصر الحجري الحديث انتقل من العصر الحجري القديم الى مرحلة زمنية فاصلة بين العصرين (القديم والحديث) وهي المرحلة المعروفة في تاريخ العراق القديم باسم العصر الحجري الوسيط، بينما اطلق عليه في بلاد الشام اسم الدور (النطوفي) وتعاصره قرية زاوي-جمي في الشمال العراقي(21).
لقد عثر على اولى البقايا الاثارية والادوات الصوانية الخاصة في هذا الدور في كهف الشقبة الواقع في وادي النطوف بالقرب من القدس(22)، مما حدا بالباحثين ان يعتبروا هذا الدور خاصاً بفلسطين وحدها دون غيرها من مناطق بلاد الشام، ولكن هذا الرأي لم يعد مقبولاً الآن خاصة بعد اعمال التحريات والتنقيبات الآثارية الحديثة والتي اظهرت ان لهذا الدور انتشاراً واسعاً امتد من سواحل البحر الابيض المتوسط الجنوبية وحتى بلاد الاناضول في الشمال مروراً بمناطق الاردن والبادية السورية وحوض الفرات(23)، ومن مواقع هذا الدور تلك التي تقع في البقاع (جبل السيدية) ومريبط على الضفة الشرقية من نهر الفرات شرق حلب ووادي فلاح(24).
استطاع الانسان في نهاية هذا الدور من تحقيق الانجاز العظيم بمعرفته للزراعة وتدجين الحيوان مع بداية الالف التاسع ق.م حيث كانت بلاد الشام احد مراكز العالم القديم التي شهدت ظهور القرى الزراعية الأولى في العصر الحجري الحديث(25) وبقي الباحثون وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، يستشهدون بوادي النطوف فقط عند الحديث على تلك الحقبة التاريخية التي شهدت معرفة الزراعة وتدجين الحيوان والواقعة ما بين الألف العاشر والألف الثامن ق. م متجاهلين مواقع اخرى احتوت على بيوت دائرية مثل (عين الملاحة) في فلسطين و(رأس زين) و(رأس حريسة) في صحراء النقب وهي قرى مضاهية الى ما عثر عليه لاحقاً في مريبط وبقرص وابي هريرة في سوريا(26). في حين ادى التعرف الى عمارة مستوطن نمريك في اعالي نهر دجلة بالقرب من ناحية فايدة شمالي العراق الى حدوث تجديد في الافكار السابقة حول الحضارة النطوفية باعتبارها حضارة محلية خاصة بفلسطين حيث ابان هذا الموقع بانه موقع له علاقة في المرحلة التي شهدت الانتقال من جمع القوت الى بدايات انتاجه وكذلك الأمر ينسحب على موقع (قرمز دره) قرب تلعفر في الموصل والذي هو يضاهي في زمنه المرحلة التي سبقت انتاج القوت، ولذلك كان هناك تشابه وتقارب زمني واضح بين المواقع الشامية في فلسطين وبين مواقع شمال العراق(27).
ومع بداية دخولنا الى العصر الحجري الحديث في بلاد الشام يظهر لنا موقع اريحا (تل السلطان) الواقع الى الشمال من منطقة البحر الميت والذي نقب من قبل عدة بعثات اجنبية ولمرات عديدة وكان من أهم نتائج تلك التنقيبات هو تثبيت العصر الحجري الحديث في المنطقة وتم التمييز بين مرحلتين مختلفتين في صناعة الفخار مع رصد سور دفاعي بالقرب من المستوطن(28)، والحقيقة ان موقع اريحا يمثل ثقافة لها خصوصيتها وسماتها المميزة وقد انتشرت هذه الثقافة الى مواقع تقع الى الشرق منها والى جنوب شرق اسيا الصغرى(29).
لقد قسم العالم جاك كوفان (J.Cuvan) العصر الحجري الحديث في بلاد الشام تقسيما خاصاً يعتمد على ثلاث مراحل تاريخية وكما يلي:
1) العصر الحجري الحديث (القديم): وزمنه حوالي (8700-8200 ق.م)
2) العصر الحجري الحديث (الاوسط): وزمنه حوالي (8200-7500 ق.م)
3) العصر الحجري الحديث (الحديث): وزمنه حوالي (7500-7000 ق.م)
وتعاصر هذه المرحلة الاخيرة من هذا العصر قرية جرمو الزراعية في شمال العراق اذ شهدت هذه المرحلة التحول الكبير الى الزراعة وتدجين الحيوان والتي امتدت الى المناطق الساحلية والمعتدلة المناخ من سوريا الشمالية والى البادية الداخلية(30).
لقد تمثل هذا العصر في عدة مواقع ومنها مريبط وتل ابو هريرة وتل الرماد في سوريا ومجدو (تل المتسلم) الواقع في شمال جبل الكرمل في فلسطين حيث اوضحت التنقيبات التي تم اجراؤها في تلك المواقع خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي(31) عن حدوث تغيرات جذرية في البنية الاقتصادية للإنسان في انتاجه للقوت أو في الممارسات الطقسية مثل عبادة (الألهة الام) و(الثور المقدس)(32)، وكذلك في ممارسة عقيدة عبادة الاجداد او ما تسمى (عبادة الجماجم)(33).
ومع بداية التسعينات من القرن العشرين تم اجراء تنقيبات جديدة في مواقع اثارية تقع في وادي الفرات السوري ومنها ما قامت به بعثة اسبانية سورية مشتركة عملت في موقع (حالوله) الذي يقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات قرب مدينة جرابلس الحالية. واظهرت نتائج تلك التنقيبات على ان حالولة كانت موقعاً استمر فيه السكن بين الألف العاشر وحتى دور حلف في الالف السادس ق.م وقدم هذا الموقع معطيات جديدة منها اقتصادية في معرفته للزراعة والتدجين، ومنها تقنية في طريقة صناعة ألات وادوات حجرية جديدة تستخدم في الحياة اليومية بعد معرفة الأنسان للعملية الزراعية في هذا الموقع(34).
واذا ما انتقلنا الى موقع (أم التلال) في حوضة الكوم في سورية الوسطى بين تدمر والفرات نرى ان هناك تسلسلاً نموذجياً في الطبقات الآثارية يعطيه هذا الموقع من خلال تتابع السكن فيه منذ العصر الحجري القديم الادنى وحتى ظهور الرعاة الاوائل والفلاحين في العصر الحجري الحديث وقد اتاح هذا التسلسل الزمني الاستثنائي والطويل للموقع دراسة تطور المهارات التقنية للإنسان في صنع آلاته وأدواته الحجرية ومعرفة السلوك الأقتصادي للجماعات التي عاشت فيه منذ السكن الأول وحتى ظهور الأنسان العاقل فيه(35).
يمثل تل بقرص (6400-5900 ق.م) الواقع على بعد 40 كم جنوبي مدينة دير الزور على الضفة اليمنى للفرات الاوسط مستوطنا مثالياً من مستوطنات العصر الحجري الحديث حيث عثر في هذا الموقع على اسس لبيوت سكنية عديدة مبنية بالطين وتشكل صفين متقابلين مع بعضها وفي داخل تلك البيوت عثر على مواقد للطبخ وتنانير للخبر ومجموعة من الاقداح الحجرية التي تتشابه بطرازها الفني والتقني على ما عثر عليه في تل الصوان وأم الدباغية في بلاد الرافدين(36) اذ يميل بعض الباحثين الى الاعتقاد بأن مثل هذه الصناعة الحجرية هي صناعة ينفرد بتقنيتها صناع بقرص وانتقلت منهم الى مواقع بلاد الرافدين السالفة الذكر. ومهما يكن من امر فان تلك الصناعة اعطتنا دليلا اكيداً وثابتا على وجود صلات حضارية وعلاقات تجارية ما بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في هذه المرحلة الومنية المبكرة من التاريخ وخصوصاً مع قرية جرمو من خلال تشابه اشكال الآلات والأدوات الحجرية المكتشفة فيها مع مثيلاتها في بقرص(37). فضلاً عن ذلك فان مستوطنة تل الدامشلية في وادي البليخ في سوريا الشمالية وموقع تل اسود المجاور لها تعطي لنا تشابهاً واضحاً في فخارياتها مع فخار يارم تبه وام الدباغية شمال العراق(38)، كما ان نماذج لأشكال فخارية أخرى عرفت في شمال سوريا واعالي الفرات في وادي الرافدين تعود فتظهر في الساحل الفلسطيني مما يدلل على وجود تأثير واضح لهذه النماذج امتد الى مواقع لبنان حيث عثر على اشكال منها في جبيل تعود بزمنها الى العصر الحجري الحديث واستمرت في الاستعمال في عصر فجر السلالات(39).
ان انتشار الفخار ذو الصفات المشتركة في مناطق عديدة من بلاد الرافدين وبلاد الشام لم يكن بمحض صدفة انما هو دليل مادي على قيام صلات بين التجمعات السكنية في هذه المنطقة منذ العصور الحجرية القديمة حيث بدأت تتوضح الدلائل المادية على وجود وشائج وصلات بين تلك التجمعات اعتباراً من العصر الحجري الحديث بعد تزايد الفعاليات البشرية نتيجة الاستقرار الذي حتمه الاهتداء للزراعة وتدجين الحيوان وبالتالي نشوء المجتمعات الزراعية(40)، وهذا ما توضحه التنقيبات الحديثة التي بدأت عام 1991م في تل خزنة II الواقع على بعد 25 كم شمال شرق الحسكه، فمن خلال النماذج الفخارية المكتشفة في هذا التل تتوضح لنا الصلات الحضارية بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في هذه المرحلة الزمنية واكدت لنا نتائج التنقيبات على وجود حلقة وصل بين ما يسمى بـ (حضارة تل سوتو)(41) والتي كانت تسبق زمنياً دور حسونة مع مراكز الحضارات الزراعية في شرق سوريا حيث ان نشوء المجتمعات الزراعية متصلة ببعضها من هذا الموقع حتى شمال بلاد الرافدين يبرهن على تكون نظم للاتصالات التجارية والحضارية فيما بين تلك المراكز(42).
لقد جلبت بعض المواد الاولية التي كانت تفتقر اليها بيئة بلاد الرافدين من بلاد الشام مثل المرمر وبعض الاحجار مثل الفيروز وبعض انواع من اصداف البحر المتوسط والتي وجدت كميات منها في بعض من قبور الدفن في بلاد الرافدين، كما وجدت انواع من الحجارة الخضراء ومواد أخرى كالأخشاب التي كانت متوفرة في بيئة بلاد الشام، ومن المعتقد ان الطريق الذي كانت تنقل عبره تلك المواد كان يمر في السهول الداخلية ماراً بمنطقة اعالي الجزيرة في الاماكن الواقعة بين تلول بقرص ومريبط وطابات الحمام على الفرات الاعلى باتجاه نينوى وحسونة وام الدباغية في جزيرة العراق الشمالية، لذلك كانت تلك المواد في تل الرماد بسوريا وفي اريحا الفلسطينية وقرية جرمو العراقية من نفس الدور تتشابه مع بعضها البعض من حيث طرازها وصناعتها(43).
أما على صعيد المعتقدات الدينية في العصر الحجري الحديث فقد دلت المكتشفات الآثارية التي جرت منذ الستينات من القرن الماضي ان هناك اهتماما واضحاً بالجماجم البشرية حيث اصبحت تلك الجماجم لا تدفن وانما كانت تفصل عن الرأس وتعامل بالجص وتثبت على تماثيل طينية ويحتفظ بها بتقديس داخل بيوت السكن. لقد وجدت مثل هذه الجماجم في مواقع عديدة مثل اريحا والبيضا وبيسامون وابو غوش في فلسطين وقرمز ديره في العراق وابو هريرة وتل الرماد في سوريا وهذا يؤكد على ان هذه العقيدة (عبادة جماجم الأموات) قد سادت على امتداد المواقع الشامية وصولاً الى مواقع اعالي دجلة في شمال العراق ما بين الالف التاسع والسابع ق. م، وهذا دليل آخر على الصلات الحضارية فيما بين المنطقتين في مجال العقائد والطقوس الدينية(44).
وينبغي علينا القول هنا ان النتاج الحضاري وابتداءاَ من العصر الحجري الحديث وبوجه عام في منطقة الشرق القديم بدأت تتضح فيه ظاهرة الاتصال الحضاري بين مختلف اقاليمه بعد ان بدأ الانسان يخرج من نطاق دائرته المحلية ويتصل بالتجمعات السكانية المجاورة له فاكتسب تجارب اوسع وتأثرت التجمعات السكانية لهذه المرحلة بعضها مع بعض مما أدى الى بلورة مجتمعات في اطار مقومات حضارية خاصة بها حيث ظهرت مثل هذه الخصوصية الحضارية جلية في بداية العصور التاريخية فيما بعد.
العصور الحجرية المعدنية:
ينتهي العصر الحجري الحديث في العراق في حدود عام 5600 ق. م ليبدأ العصر الحجري المعدني والذي تشير تسميته الى حقيقة ان سكان وادي الرافدين بدأوا يعرفون استعمال المعادن(45)، في حين تشير الأدلة الآثارية الى ان معرفة المعادن قد تأخر نسبياً في بلاد الشام الى حدود 4000 ق.م(46) فكان التقدم الحضاري خلاله تدريجياً ولم يظهر مرة واحدة وبصورة واضحة في كل مكان، ووضح هذا التقدم في منطقة البحر الميت وشمال النقب وساحل البحر المتوسط(47) وعمت في اكثر المناطق الشامية حضارة متماثلة عرفت باسم (الحضارة الغسولية) نسبة الى اسم (تليلة الغسول في السهل الممتد شمال البحر الميت وشرق نهر الاردن)(48) .
لقد اجريت اعمال التنقيبات في مواقع متعددة للكشف عن الحضارة الغسولية، فوجدت اثارها في اريحا ومجد و(تل المتسلم) والعفولة وبيت شان (بيسان) ولاخيش (تل الدوير) واوغاريت وجبيل (بيبلوس)(49) حيث اتضح من نتائج اعمال التنقيبات ان الحضارة الغسولية في فلسطين تقابل حضارة حلف في بلاد الرافدين والبداري في مصر(50).
حدثت في هذا العصر سلسلة من التطورات الحضارية وامكن حصرها في ادوار تتميز بطرز صناعة اوانيها الفخارية، وكذلك فان هذا العصر قد تميز بازدياد القرى الفلاحية واتساعها وكانت نواة للمدن التي برزت لنا في العصور التأريخية التالية وكانت السمة المهمة لهذه العصر ان الزراعة اصبحت تعتمد على الري(51).
تعد منطقة نهر الخابور هي الميدان الاول والمهم لأحداث هذا العصر في سوريا، في حين كانت مواقع حسونة وسامراء وحلف شمالاً والعبيد والوركاء وجمدة نصر جنوباً هي أهم مواقع هذا العصر بالنسبة لبلاد الرافدين(52)، وقد اثبتت الابحاث الآثارية والأنثروبولوجيا عن وجود صلات حضارية بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في دور حسونة اذ اشارت الدراسات الأنثروبولوجية الى ان الجماجم التي تمت دراستها من موقع حسونة تشبه تلك الجماجم التي عثر عليها في جبيل (بيبلوس) وأريحا والتي تكون اسنانها طويلة وهي صفة يتميز بها جنس البحر المتوسط ذي الرؤوس الطويلة ايضاً وهذا يبرهن لنا على وجود نوع من الصلات البشرية بين سكان المنطقتين(53)، ولا يستبعد ان تكون المنطقة الممتدة من البحر المتوسط الى المنطقة الشمالية من العراق قد سكنت من قبل جماعات ذات أصل عرقي واحد او حصلت تنقلات بين المجاميع السكانية من منطقة الى اخرى(54).
ويقدم لنا موقع جوخه مامي(55) الذي يعود الى دور سامراء دليلاً حضاريا أخيراَ يشير الى الصلات الحضارية القوية بين شمال العراق وسوريا ويتمثل هذا الدليل بالرؤوس المصبوغة ذان العيون التي تشبه حبة القهوة وتكون اهدابها ملونة، فضلاً عن القبعة المخروطية وبعض انواع الحلي مثل سدادات الأنف او الشفه ومثل هذا الطراز الفني للتماثيل نجده شائعاً في مواقع سورية مثل شاغار بازار وتل حلف وفيما بعد وجدت مثل هذه النماذج في مواقع بعيدة اخرى مثل جطل هيوك في اسيا الصغرى وتبه سراب في غرب ايران وهذا يؤكد الصلات الحضارية بين شمال العراق والاقطار المجاورة له(56).
كما زودتنا نتائج التنقيبات التي جرت في موقع حمام التركمان وصبي ابيض على البليخ في عام 1986 بفخاريات ذات تقنية صناعية متأثرة بفخاريات سامراء العراقية واوضحت صلة منطقة البليخ الشامية مع بلاد الرافدين في هذا الدور الحضاري(57).
____________
(1) كفافي، زيدان، الاردن في العصور الحجرية، ص72.
(2) كفافي، زيدان، بحوث المؤتمر الخامس عشر للأثار والتراث الحضاري في الوطن العربي، ص 51.
(3)Braidwood, R. and Braidwood, L., Excavation In The plan of Antioch (Chicago, 1960).
(4)Contenson, H., “Three soundings in the Jordan valley”, Annual of Department of Antiquities of Jordan, 4-5 (1960), p. 12 ff.
(5) Kenyon, K., Digging up Jericho, (London, 1957).
(6) لير، فان وكونتانسون، "مذكرة عن خمسة مواقع من اول الدور الحجري الحديث في سوريا"، ترجمة عدنان البني، الحوليات السورية، (م13، 1963) ص 272 وما بعدها.
(7) Kirkbride, D. A. “Neoltithic site at wadi el – Yabis”, Annual of Department of Antiquities of Jardan, 3, (1959), p. 56 f.
(8) كوفان، جاك، الالوهية والزراعة ثورة الرموز في العصر النيوليثي، ترجمة موسى الخوري، (دمشق، 1999)، ص 31 وما بعدها.
(9) كفافي، زيدان، المؤتمر الخامس عشر للاثار والتراث الحضاري في الوطن العربي، ص 53.
(10) سميت بهذه التسمية نسبة الى مغارة كبارا على بعد 15 كم الى الجنوب من جبال الكرمل في فلسطين.
(11) نسبة الى وادي النطوف في فلسطين.
(12) كفافي، زيدان، الاردن في العصور الحجرية، ص 72.
(13) باقر، طه، مقدمة…، ج 2، ص 228.
(14) محيسن، سلطان، "سورية في عصور ما قبل التاريخ"، معرض الاثار السوري الاوربي، (دمشق، 1996)، ص 21.
(15) يقع هذا التل في منتصف الضفة الغربية لوادي الاردن تقريبا عند التقاء وادي العمود بنهر اليرموك على بعد 3 كم جنوب بحيرة طبرية. انظر
غريبة، عز الدين اسماعيل، "الحضارة العبيدية في فلسطين"، سومر، (م 45، 1987-1988)، ص99 وما بعدها.
(16) المصدر نفسه.
(17) محيسن، سلطان، معرض الاثار السوري الاوربي، ص 21.
(18) باقر، طه، مقدمة، ج1، ص 152.
(19) محيسن، سلطان، معرض الاثار السوري الاوربي، ص 21.
(20) بوناتز، دومينيك، وآخرون، الأنهار والبوادي-التراث الحضاري للجزيرة السورية وما حولها، ترجمة هلا عطورة، (دمشق، 1999)، ص 17.
(21) كفافي، زيدان، المؤتمر الخامس عشر للآثار والتراث الحضاري في الوطن العربي، ص 65.
(22) باقر، طه، مقدمة…، ج2 ، ص229.
(23) كوفان، جاك، الألوهية والزراعة…، ص 39.
(24) الدباغ، تقي ووليد، الجادر، عصور قبل التاريخ، (بغداد، 1983)، ص 164.
(25) محيسن، سلطان، معرض الاثار السوري الاوربي، ص 22.
(26) سعيد، مؤيد، "العصر الحجري الحديث-فترة ما قبل الفخار في العراق وبلاد الشام"، بحوث المؤتمر الخامس عشر للأثار والتراث الحضاري في الوطن العربي، (دمشق، 2000)، ص 160.
(27) المصدر نفسه. وحول نتائج التنقيبات في نمريك وقرمز دره انظر:
Stefan, K. and Kozlowski ET. al., “A preliminary report on the third season 1987 of polish excavations at Nemrik 9, Saddam dam salvage project”, (Sumer, 46, 1989-1990), P. 19 ff.
(28) الدباغ، تقي ووليد، الجادر، عصور قبل التاريخ، ص 162-163.
(29) كوفان، جاك، الألوهية والزراعة…، ص 124.
(30) كوفان، جاك، الألوهية والزراعة…، ص 124وما بعدها.
(31) اوتس، ديفيد وجون، نشوء الحضارة، ترجمة لطفي الخوري، (بغداد، 1988)، ص 35 وما بعدها.
(32) محيسن، سلطان، معرض الاثار السوري الاوربي، ص 22.
(33) كوفان، جاك، الألوهية والزراعة…، ص 124.
(34) موليست، ميغيل، "العصر الحجري في الالف التاسع والثامن ق. م في شمال سورية- نتائج التنقيبات في تل حالولة (وادي الفرات، سورية)"، الحوليات السورية، (م 43، 1999)، ص 253 وما بعدها.
(35) من تقارير البعثة السورية- الفرنسية- الاسبانية المشتركة العاملة في موقع حالولة والمحفوظة في قسم التنقيبات-المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية.
(36) شترومنغر، ايفا، "جولة في تاريخ الحضارة السورية"، الآثار السورية، (فينا، 1985) ص19 وما بعدها.
(37) كونتنسون، هـ وفان، ليري، "تقرير أولي عن اول عملية سبر جرت في بقراس سنة 1965"، الحوليات السورية، (م16، 1966)، ص 72.
(38) اكرمانز، بيتر، "التنقيبات الأثرية في (تل الدامشلية)، مستوطنة من العصر الحجري الحديث في وادي البليخ-سوريا الشمالية"، ترجمة شوقي شعث، الحوليات السورية، (م26-37،1986-1987)، ص 216.
(39) فرانكفورت، هنري، فجر الحضارة في الشرق الادنى، ترجمة ميخائيل خوري، (بيروت، 1959)، ص 40.
(40) فرانكفورت، هنري، فجر الحضارة في الشرق الادنى، ص41.
(41) يمثل هذا التل اقدم الحضارات الزراعية المعروفة في السهول الاشورية والتي أرخ اقدم اطوارها من قبل منقبيها الروس الى حوالي 6000 ق.م وتمثل بقايا التل قرية صغيرة متأخرة. انظر:
ساكز، هاري، قوة آشور، ص 26-27.
(42) منشاييف، رؤوف ونيقولاي، ميربرت، "أصول اقدم الحضارات الزراعية في شمال شرقي سورية وتطورها"، تعريب هالة مصطفى، الحوليات السورية، (م 43، 1999)، ص 267 وما بعدها.
(43) عبد الله، محمد صبحي، العراق وبلاد الشام الصلات الحضارية والسياسية منذ عصور ما قبل التاريخ حتى نهاية العصر البابلي، ص 148.
(44) محيسن، سلطان، "الوحدة الحضارية في الوطن العربي القديم-عصور ما قبل التاريخ"، بحوث المؤتمر الخامس عشر للآثار والتراث الحضاري في الوطن العربي، (دمشق، 2000)، ص 17-18. كذلك انظر: كول، سونيا، ثورة العصر الحجري الحديث، ترجمة تقي الدباغ ونادية الدبوني، (بغداد، 1988)، ص 39. وللتوسع حول عبادة جماجم الاموات انظر: سعيد، أحمد، "عقائد الدفن وعبادة الاسلاف فيما قبل التاريخ في الشرق الادنى القديم"، دراسات في اثار الوطن العربي، ج1،(القاهرة، 2000)، ص 7 وما بعدها.
(45) باقر، طه، مقدمة…، ج1، ص 207.
(46) غريبة، عز الدين، فلسطين تأريخها وحضارتها، (بغداد، 1981)، ص 76.
(47) الأحمد، سامي سعيد، تاريخ فلسطين القديم، ص 68.
(48) باقر، طه، مقدمة…، ج2، ص 231
(49) حتي، فيليب، تأريخ سورية ولبنان وفلسطين، ج1، ص27.
(50) غريبة، عز الدين اسماعيل، فلسطين تأريخها وحضارتها، ص 79.
(51) باقر، طه، مقدمة…، ج2، ص 207-208.
(52) العطار، نادر، "منطقة الخابور الأثرية"، الحوليات السورية، (م2، 1952)، ص 108 وما بعدها.
(53) رو، جورج، العراق القديم، ص 90.
(54) الأحمد، سامي سعيد، العراق القديم، ج1، ص182.
(55) تقع هذه القرية في محافظة ديالى على مسافة قريبة الى الشمال من قضاء مندلي الحالي. أنظر:
Oates, J. “Prehestoric invistigation near Mandali”, IRAQ, vol 30, 1968, P.3.
(56) لويد، ستين، اثار بلاد الرافدين، ترجمة سامي سعيد الأحمد، (بيروت، 1980)، ص 95.
(57) Akkermans, P., “Tell Sabi Abyad”, P. 36f and Meijer, D., Tell Hammam AL-Turkman, 1992 P. 109f in chronique Archeologique en Syrie, vol I, (Damas, 1992).
كذلك انظر:-
لون، موريتس فان وآخرون، "نتائج حفريات موسم 1986 في حمام التركمان وصبي ابيض"، الحوليات السورية، م36-37، 1986-1987، ص 203.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|