أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-9-2016
1378
التاريخ: 2024-07-24
401
التاريخ: 24-9-2016
1980
التاريخ: 24-9-2016
2129
|
إنسان ما قبل التاريخ في المنطقة العربية
أ- ملاحظات عامة:
كانت الثلوج الكثيفة وطبقات الجليد السميكة تغطي الجزء الأكبر من النصف الشمالي من سطح الكرة الأرضية خلال العصور الجليدية (البلايستوسين) (1) . ثم بدأت درجة الحرارة تسجل ارتفاعا ملحوظاً في بعض المناطق ، مما أدى الى ذوبان جزئي للثلوج والجليد على سفوح الجبال والمرتفعات الأخرى وتدفق المياه الى المنخفضات والوديان . ورافق ذلك ثم اعقبه تغير مناخي عنيف في بعض مناطق الكرة الأرضية ومنها انحاء حوض البحر المتوسط ، حيث أخذ مناخ هذه المناطق يميل الى الاعتدال النسبي (2) ، مما مكن الانسان من العيش في بعض بقاعها .
وقد اكدت الأبحاث التي اجريت حتى الآن في آثار ما قبل التاريخ في ليبيا (3) وسورية ان الانسان استوطن بعض هذه المناطق خلال الحقبة المبكرة من تاريخ حضارته وإنه كان يقتات بالحبوب البرية . اذ عثر المنقبون عن الآثار في تاريخها الى النصف الثاني من دهر البلايستوسين الحديث (4) .
ولا يزال تحديد الذي بدأ فيه الانسان يستقبل فيزيولوجياً عن بقية الأحياء الأخرى أمراً صعباً ، ولكن علماء الأحياء وآثار ما قبل التاريخ ، اعتادوا عند الاشارة الى ذلك – فيما يخص جنوب اوروبة مثلا – ان يضعوا له رقما تقريبيا يربو على نصف مليون عام (5) . وكان الانسان قبل أن يدخل المرحلة الأولى من تاريخ صناعته أدواته البدائية الحجرية يستخدم الحجارة المتوفرة في الطبيعة كوسيلة من وسائل الدفاع عن نفسه ضد الحيوانات البرية التي كانت تهدده بالانقراض (6) .
ب- السكن والحياة المعاشية:
قطن الانسان الأول في مناطق حوض البحر المتوسط الكهوف القائمة على سفوح الجبال والمرتفعات الأخرى ليتفادى خطر فيضانات المياه وليتحاشى شر الوحوش الكاسرة التي كانت تنتشر بكثرة في ادغال الأراضي المنخفضة وبالقرب من المستنقعات . ويؤكد لنا ذلك العثور على آثار انسان هذا العصر في مناطق عديدة نم مرتفعات اقطار البحر المتوسط مثل كهوف جبال الكرمل في فلسطين (7) ومغاور يبرود في سورية (8) وكهف (هوافطيح) في ليبيا (9) .
لقد عاش انسان البحر المتوسط خلال هذا العصر في مجموعات بشرية صغيرة ، كان افرادها يحصلون على قوتهم الضروري بواسطة جمع الغذاء الذي توفر حرا في الطبيعة ، وكان قوامه في بعض البقاع اللوز والزعرور وغيرها من الثمار البرية الأخرى (10) . واقتات الانسان في بعض المناطق الأخرى بالحبوب البرية ، بدليل استخدام انسان فلسطين المنجل الحجري في حصادها (11) وهذا يعني ان المواد المتوفرة حرة في الطبيعة كانت تحدد نوع الطعام الذي اقتات به الانسان الحجري .
وكانت ثمة جماعات بشرية اخرى عاصرت الجماعات السابقة الذكر ، ولكنها لم تبق مغلقة على نفسها مستقلة ضمن اطار محيطها الجغرافي . لقد كانت تنتقل خلال فترات من مراحل العصور الحجرية من منطقة الى اخرى ضمن اطار منطقتها الجغرافية الكبرى التي تفصلها عن الاخرى الحدود الطبيعية التي استحال عليها اجتيازها . ويدل على ذلك ايضا ما عثر عليه في بعض مغاور اواسط فرنسة من قواقع بحرية لا يتوفر نوعها الا على شاطئ البحر المتوسط (12) .
ولم تكن هناك علاقة انتاجية تربط افراد المجموعة البشرية الواحدة بعضهم ببعض خلال الاحقاب المبكرة من تاريخ البشرية ، وانما وجدت روابط معاشية ارتكزت – كما ذكرنا – على جمع الغذاء من ثمار وحبوب برية . ويختلف هذا – في رأيي – عن العلاقات الانتاجية التي يشكل انتاج السلعة (قاعدتها الاساسية) .
وبالرغم من ان الانسان بذل جهوداً ضخمة في سبيل الحصول على قوته الضروري ، فإننا لا نستطيع ان نطلق على هذه العملية صفة (الانتاج) كما يفهمها بعض المؤرخين وعلماء الآثار (13) .
ولم يكن على انساننا القديم الا ان يبحث عن المواد الغذائية التي كانت متوفرة حرة في الطبيعة وان يقوم بجمعها . وهذا يجعل مفهوم (الجد المبذول) مختلفاً في جوهره عن مفهوم الانتاج والعلاقات الانتاجية التي تعتمد اساسا على انتاج سلعة ما من قبل الانسان نفسه . وقد حدث ذلك خلال عصور لاحقة عندما عرف الانسان الزراعة او تربية الحيوانات او مزاولة احدى الحرف. ولا نستطيع – كما هو معروف حتى الآن – تلمس بداية مثل هذه الحقبة الا خلال العصر الحجري الحديث عندما عرف الانسان تربية الحيوانات ومارس الزراعة .
وكانت هذه العلاقات المعاشية بطبيعتها محدودة جدا ومحصورة ضمن نطاق المجموعة البشرية الواحدة الجغرافي . ويعود ذلك الى ان الطبيعة كانت تقدم للإنسان ما لديها من خيرات . ولكن التجارب الانسانية المتعاقبة صقلت جانبا او أكثر من مدارك الانسان ودفعت فكرة خطوة الى الأمام : فأخذ يصنع بعض الأدوات التي يحتاجها من الحجارة – وخاصة الصوانية منها – مثل : المكاشط والأزاميل والفؤوس والمناجل .... وغيرها من الأدوات التي استخدمها في صيد الحيوانات البرية.
وبعد انقضاء عشرات الألوف من الأعوام على بداية حضارته المادية ، استطاع فكرة الانطلاق من قيود المنظورات المادية الملموسة الى مجال رسم بعضها وفي مقدمتها شكل الحيوان البري ، الذي كان يؤلف مصدراً هاماً من مصادر غذائه .
فرسم شكله على جدران كهوفه الصخرية احياناً ونقشه احيانا اخرى على بعض الصخور المتوفرة في مناطق اقامته . ثم كانت المرحلة التالية ، التي جسد الانسان خلالها بعض حيواناته في شكل دمى من الطين (14) .
اما الاكتشاف الحاسم في حياة انسان هذا العصر فكان معرفته النار ثم كيفية ايقادها . وهو اكتشاف مثل بداية مرحلة جديدة في تقدمه الحضاري ، وخاصة عندما اخذ يستخدم النار في انجاز عملية الطبخ والشيّ . ولابد ان تناوله للطعام الساخن كان قد اثر على تطوير خلايا دماغه . كذلك صارت النار مصدراً هاما للتدفئة عنده ، ووجد فيها بطريق الصدفة سلاحا رادعا يخيف الحيوانات الكاسرة ويبعدها عن مكان وجوده .
ج – تربية الحيوانات واكتشاف الزراعة وبداية عصر الاستقرار:
ودفع الجفاف والبرودة انسان كهوف الجبال وبعض المرتفعات في انحاء عديدة من مناطق غرب آسية وشمال افريقية الى الهجرة من ملاجئه والنزول الى المنخفضات والسهول المجاورة(15) ، للبحث عن مصادر جديدة للعيش بدلا من المصادر المنقرضة بفعل التبدلات المناخية في مناطق سكناه الأولى .
ونتيجة لعلاقات الانسان بالحيوانات البرية اثناء صيده لبعضها ، تمكن من تدجين انواع منها . وقد كان أولها (الكلب) ، الذي بحث بالقرب من كهوف الانسان ومغاوره عما يلتهمه من نفايات ، قذف بها الانسان خارج مسكنه . وهكذا الف الكلب الانسان وصار فيما بعد عونا له في رحلات صيده وحارسا لحيواناته ثم اكتشف الانسان طريقة اخرى في تدجين بعض الحيوانات البرية ، تختلف عن التدجين الغريزي للكلب , فقبل ان يعرف الانسان حياة الاستقرار الزراعي ، كان قد مضى حوالي نصف مليون عام على بداية تاريخ حضارته المادية . وخلال ذلك عرف الصياد الحيوانات البرية ولاحظ عملية تكاثرها في البراري ، وأثارت (مواليد) الحيوانات اللبون غير الكاسرة فضوله وانتاهه فنقلها الى كهفه ليقتات بلحومها . ولابد انه اكتشف مع مرور الزمن وعن طريق التجربة سر تربيتها والاستفادة من لحمها في المستقبل . ويدفعنا هذا الى القول انه لا يمكن ان يكون صحيحا ما يعتقده البعض عن الانسان الحجري من انه قتل اخاه الانسان سواء في الاسرة أو العشيرة الواحدة ليلتهم لحمه ، اللهم الا في حالات جد نادرة ، انحصرت في سني القحط الشديد ، ولكنه حتى في هذه الأوقات تحمل مشاق الهجرة الى بقاع اخرى أمنت له الغذاء الذي كان يبحث عنه , وكانت الأغنام والماعز والأبقار والخنازير أولى الحيوانات اللبون التي عرف الانسان القديم تربيتها (16) ، بدليل النقوش الفنية التي وصلتنا من مخلفات الألف الرابع قبل الميلاد ، والتي ترينا أن معظم قطعانه كانت من هذه الحيوانات . والشيء الأكيد ان انسان اقطار غرب آسية عرف الماعز البري ، الذي شكلت عظامه في عدة مناطق نسبة لا بأس بها بين كميات عظام الحيوانات البرية المكتشفة التي كان الانسان يصطادها قبل ان يتوصل الى اكتشاف طريقة تدجينها (17) . ولا شك في ان تربية الماعز والأغنام كانت قد انتشرت بشكل واسع في غرب آسية وخاصة في بلاد ما بين النهرين خلال الألف الرابع قبل الميلاد (18) . ولكنها كانت محدودة الأنواع والأعداد خلال هذه المرحلة . واذن فقد دخل الانسان هنا مرحلة جديدة اخرى هي مرحلة (انتاج الاطعمة) عن طريق تربيته الحيوانات بدلا من اعتماده الكلي على صيدها وجمع الطعام . وفي هذا الصدد يشير عالم الآثار (بريد وود) الى وجود (حقبتين مبكرتين لمرحلة انتاج الأطعمة) وكانت الاولى منهما حقبة (بداية الاستقرار وتربية الحيوانات) (19) .
ويرقى التاريخ التقريبي لبداية عصر الاستقرار الزراعي – كما هو معروف حتى الآن في غرب آسية – الى حوالي 8000 ق . م . حسبما دلت عليه اللقى الأثرية التي اكتشفت في منطقة (ده – لوران) في كوزخستان الإيرانية (20) . وعرف (العراق) بداية هذه المرحلة في عصر متأخر عن جارته الشرقية (21). غير أن عملية استقرار الانسان الزراعي لم تكن خلال هذا العصر ظاهرة عامة في جميع اقطار غرب آسية ، بل كانت محدودة الانتشرار واقتصرت على بعض الجماعات والبؤر البشرية ، في الوقت الذي ظلت الجماعات والبؤر الأخرى تعيش في بدائيتها داخل الكهوف والمغاور وتحت الملاجئ الصخرية أو تقوم برعي مواشيها متنقلة من منطقة الى اخرى بحثا عن الماء واكلأ . لذلك انتشرت مستوطنات هذين المجتمعين جنبا الى جنب خلال هذا العصر في معظم اقطار غرب آسية وشمال افريقية (22) . اما مصر والسودان فقد عرف الانسان فيهما الزراعة في عصر لاحق لظهورها في ايران والعراق وبلاد الشام ، بدليل اللقى من الحبوب التي عثر عليها في منطقة (الفيوم) ، ويعود تاريخها الى حوالي 4275 ق . م . وفي (ميريمدي بني سلامة) الى حوالي 3300 ق . م .
وقد تأكدت هذه التواريخ بواسطة تحليل هذه اللقى من الحبوب بطريقة الراديو كاربون (14) (23) . واما في شمال افريقية وخاصة في ليبيا وكذلك في شبه الجزيرة العربية ، فما زالت ابحاث علم ما قبل التاريخ في بداية طريقها وهي تشترط بذل جهود ضخمة للقيام بتحريات اثرية مستمرة في الصحاري وفي المناطق المجاورة لها بحثا عن مستوطنات انسان ما قبل التاريخ . ومن ثم اجراء حفريات اثرية طبقية في بعضها لنتمكن – استناداً الى نتائجها – من تحديد بداية هذا العصر الانتقالي الهام في تاريخ تطور الحضارة الانسانية في هذه المناطق المترامية الأطراف .
وكما دلت حتى الآن الأبحاث الأثرية في ما قبل التاريخ ، فإن انسان غرب آسية القديم لم يعرف خلال المرحلة الأولى من بداية عصر الاستقرار الزراعي ، اي ما بين 8000 و 6000 ق . م. سوى زراعة الحبوب البرية كالقمح والشوفان (24).
بيد انه تمكن من خلال جمعه لها وزراعتها من تحسين انواعها واختيار الأجود من بينها لغذائه وبذار ارضه مثل القمح والشعير (25) ، وبعد ذلك انتشرت زراعتها لدى عدد كبير من المجتمعات البشرية والمستقرة في مناطق غرب آسية .
ويبدو أن مهنة تربية المواشي كانت قد رافقت بداية الزراعة في مراحلها الأولى. فقد عثر في " تل الصوان " الواقع الى الجنوب من مدينة (سامراء) في العراق على كميات كبيرة عن عظام الحيوانات الأهلية ، دلت تحريات الراديو كاربون (14) ان تاريخها يرقى الى حوالي 5500-5000 ق . م . (26) .
ولا شك في أن الانسان كان قد ذلل صعابا كثيرة وعقبات جمة في طريق تطوره قبل أن يبلغ هذه المرحلة من التقدم .
لقد فتك البرد القاسي بجسده وسبب له الأمراض الفتاكة ، واتى الجفاف الشديد في بعض المناطق على مصادر تمونيه الغذائي . وهددت الحيوانات الكاسرة والفيضانات وجوده بالزوال. كما حالت الغابات والمستنقعات بادئ الأمر دون استقراره في المناطق الخصيبة الدافئة . لذلك كان عليه أن يذلل جميع هذه الصعاب ليحفظ جنسه من الانقراض.
لقد عمد الانسان اولا لكسب ما يستطيع من مساحات الأراضي لزراعتها ولتأمين العلف لحيواناته . ولتحقيق هذا الهدف اخذ يقلع الأشجار في الغابات والأحراج ويهيئ أرضا للاستغلال . وكانت الأدوات الزراعية التي استخدمها بادئ الأمر ، بسيطة جدا مثل العصا الخشبية والفأس الصوانية والمنجل الصواني .
وجعل من بعض أنواع الحجارة رحى لسحق الحبوب ، اذ عثر على نماذج منها في (تل المريبط) الواقع على نهر الفرات في سورية (27) .
وكان استغلال الانسان لقطعة الأرض الزراعية محدودا جدا ، لأنه لم يستثمر الا لعدة مواسم أو لدورات زراعية قليلة ، هجرها بعد ذلك وجد بالبحث عن منطقة اخرى صالحة لزراعته . ثم سوى جزءاً منها واستغله ايضا لعدة مواسم متعاقبة . وقد حدد عدد هذه المواسم قدرة الأرض على متابعة العطاء . ولما اصبحت كسابقتها هجرها وانتقل الى قطعة اخرى وهكذا دواليك (28) . وباستقرار الانسان على ضفاف الأنهار وفي الواحات وبالقرب من المستنقعات حصل على تربة خصبة وتمكن مع مرور الزمن من ريها بطرق اصطناعية . ونتيجة حصل الواقع الجديد تطورت خبرته ، فانتقل بأسلوب تهيئة التربة من طريقة (نكشها) الى (حفرها وقلبها) . وهذا يعني انه كان قد طوّر أدواته الزراعية المهيأة للاستغلال . وهكذا ارتفعت نسبة الانتاج الزراعي – بالقياس الى العصور السابقة – فازداد عدد السكان نتيجة لذلك وانعكس هنا بدوره على الانتاج الزراعي وتربية الحيوانات الداجنة ، التي زاد عددها وكثرت أنواعها عن ذي قبل ودخلتها سلالة جديدة هي (الأبقار) التي اصبحت منذ نهاية العصر الحجري الحديث وسيلة رئيسة من وسائل الانتاج اذ استخدمها الانسان في جر المحراث والعربات .
وقد علّمت الكوارث الطبيعية – كالجفاف مثلا – الانسان ان عليه ان يختزن بعض المواد الاستهلاكية ليسد بها النقص التمويني ، الذي قد ينتج عنها . اذ قبل ان يعرف الانسان اسلوب (الري الاصطناعي) كان – ومازال – يكفي أن يتأخر هطول الأمطار عن مواسمها الدورية أو يسبق وقت الحاجة إليها ليدمر معظم محاصيله الزراعية . وهكذا اكتشف اسلوب (تخزين) بعض الحبوب التي اصبحت تفيض عن حاجته اليومية والشهرية ثم السنوية . وعرف أيضاً انه بتربيته للحيوانات واحتفاظه بالإناث منها للتناسل يحفظ لحومها الى أوقات الشدة ، ولهذا السبب – على الأرجح – لم يكن يذبح الا الذكور من قطعان مواشيه . ولكنه لم يعرف اسلوب (التخزين) إلا بعد ان تمكن من اقامة المستودعات من الطين المجفف بأشعة الشمس أو الهواء لحفظ تموينه داخلها . ومن ناحية اخرى كانت اقامته لهذه المستودعات – من الوجهة الحرفية – بمثابة الخطوة التمهيدية لصناعة الفخار ، التي أصبحت تشكل العمود الفقري لحرفه اليدوية ما بين حوالي 5000 و 2000 ق . م . (29) في مناطق غرب آسية خاصة.
ونتيجة لاكتشاف الانسان في بعض المجتمعات هذين المصدرين التموينيين شبه الثابتين انحسرت أهمية الصيد وجمع الطعام كمصدرين تموينيين وحيدين له ، وأصبح بالتالي الانتاج الثابت للطعام العلامة الفارقة للمجتمع الانساني المتحضر .
وتلا ذلك اكتشاف المعدن ، الذي صنع منه الانسان أدواته ، التي اختلفت عن الأدوات الحجرية لسهولة تصنيعها وصلابتها . وهذا يعني أيضا ان الانسان سار الخطوة الاولى على طريق طويل من معارف (التفكير التقني) . لقد اكتشف الانسان في البداية اسلوب (طرْق) المعادن قبل أن يكتشف سر (صهْرها) . وكان النحاس أول المعادن ، التي عثر عليها العلماء بين اللقى الأثرية في (شاينبو) الواقعة الى الشمال من (ديار بكر) في سورية . وتتكون هذه اللقى المعدنية من قسم من (دبوس) و (رأس مثقب) ومن (عقد) . وقد صنعت جميعا بأسلوب (الطرْق) . وبرهنت تحريات الراديو كاربون (14) أن تاريخها يرقى الى حوالي 7000 ق . م . (30) .
على ضوء هذه الحقائق يمكننا أن نسمي بداية عصر استقرار الانسان الزراعي عصر نشوء (نواة) القرية . وتدلنا تحاليل الراديو كاربون (14) لعيّنات من اللقى الأثرية التي وجدت في اسفل الطبقات الأثرية في كثير من اطلال المدن القديمة ، ان تاريخ جميعها يعود الى احقاب العصر الحجري الحديث ، التي تمتد ما بين 7000 و 3500 ق . م . مثل (تبة سيالك) و (حجي فيروز) في ايران و (تل حسونة) في العراق و(تل الجديدة) في سورية بين 5600 و 5100 ق . م . (31) و (تقل الرماد) (32) و (تل حلف ) (33) في سورية و (تل الصوان) (34) و (تل العبيد) (35) في العراق بين 5000 و 3750 ق. م . وكذلك (الفيوم) 4275 ق. م. و (ميريمدي بني سلامة) في مصر 4100 ق . م . (36) .
وقد احتاج الناس في مناطق استقرارهم الجديدة مقرات لهم وزرائب لماشيتهم تقيهم أخطار العوامل الطبيعية وشر الحيوانات الكاسرة في البيئة الجديدة بدلا من الكهوف والمغاور التي اتخذوها مساكن لهم على مر مئات الالوف من الأعوام . لقد بنوها بادئ الأمر على شكل أكواخ من الأخشاب المتوفرة آنذاك في هذه المناطق (37).
وبعد أن تطورت معارف الانسان ونمت مداركه اكتشف من خلال التجربة والمعاناة ان الأخشاب لا تصمد أمام العوامل الطبيعية كالحجارة والطين ، ولذا عمل على استبدالها في كثير من مواطنه بهاتين المادتين . وتكونت جدران بعض هذه المنازل من (الطين) ، وكانت تقوم على أساسات من الحجارة ، كما كان الحال في قرية (جرمو) و (تل حسونة) في العراق و (اوغاريت) و (تل الجديدة) و (مرسين) في وسورية و(تل السطان) في فلسطين و (البيضاء) في الاردن و (جبيل) في لبنان . وتدل تحريات الراديو كاربون (14) ، ان تاريخها يعود الى حوالي نهاية الألف السابع وبداية الألف السادس قبل الميلاد (38) .
وهناك ايضا مناطق اخرى قام سكانها منازلهم من الحجارة الكلسية المشذبة كما في (تل المريبط) (39) لقد كانت جدران الغرف تقوم على أساسات مربعة الشكل لا يتجاوز طول الضلع الواحد منها 1.5 م . وظهرت ايضا في نفس التل منازل دائرية الشكل تعرف باسم (تولون) (40) ، وهي منازل اكشفت ايضا في مناطق اخرى عديدة من غرب آسية وشمال افريقية واوروبة . وكانت قرية هذا العصر ضيقة الرقعة لا تتجاوز مساحتها 1500 مترا مربعا. لهذا يقدر ان عدد سكان قرية (جرمو) كان قد بلغ حوالي 150 انساناً (41) .
د- الحرف اليدوية:
لقد كانت الأدوات الحجرية مثل المكاشط والمخارز والنبال والمطارق والفؤوس والمناجل وغيرها من الأدوات الاخرى أول انتاج للإنسان في بداية العصر الحجري القديم . وبالرغم من أن هذا الانتاج اتخذ طابع الحرفة ، فإن الانسان لم يستطع تطويرها الا ببطء شديد جدا استغرق مئات الألوف من الأعوام وذلك لصعوبة نحت الحجر من جهة ، ولعدم امتلاكه ادوات حادة قاطعة تلزم لهذا النحت من جهة اخرى . لذلك ظلت هذه الصناعة طوال العصور الحجرية ذات خصائص جد متشابهة . وقد تراوحت حجومها بين الضخامة في العصر الحجر القديم وبين النحافة والنعومة خلال العصر الحجري والوسيط . ثم تقهقرت وعادت الأدوات الى خشونتها خلال العصرين الحجري الحديث والحجري – النحاسي ، حين بدأ المعدن يحتل تدريجيا مكان الحجر في صناعة معظم الأدوات التي احتاجها الانسان في حياته اليومية .
لقد ذكرنا ان اقامة الانسان مستودعات الحبوب من الطين المجفف بأشعة الشمس والهواء كانت قد شكلت خطوة اولى في سبيل معرفته صناعة الفخار العادي ، الذي أخذ يصنعه باليد ثم اكتشف طريقة تلوينه في بعض مناطق بلاد ما بين النهرين وغرب ايران مثل (تل حلف) و (سامراء) و (تل حسونة) و(سوسا) (42) . واستخدم الانسان بادئ الأمر حرارة الشمس والهواء لتجفيف الفخار ثم استغل النار المكشوفة لهذا الغرض ، وبعد ذلك اخترع الفرن ، الذي لم تقل درجة حرارته عن 600 د مئوية ، التي احتاجتها صناعة الفخار الجيد . ولم تقتصر الصعوبة فقط على بلوغ هذا الارتفاع لدرجة الحرارة داخل الفرن، وإنما شملت أيضاً قدرة الانسان على المحافظة على استمراريتها ثم الحيلولة دون توضع الدخان على سطح الاناء . وقد بلغ الانسان هذا المستوى من التقدم التقني الرفيع خلال فجر عصر النحاس في مناطق قليلة من غرب آسية .
ومن بين الاختراعات الهامة التي توصل اليها الانسان خلال هذا العصر (عجلة الفخار) ، التي اخذ يصنع بواسطتها اعداداً ضخمة من الأواني الفخارية وبذلك اصبحت صناعة الفخار تشكل العمود الفقري في اطار حرفه ، لأن صناعة الفخار باليد وحدها كانت تستهلك وقتا طويلا لانتاج بضعة قدور من الفخار خلال عدة أيام . وقطع الانسان ايضا شوطا كبيراً في طريق صناعة الدمى من الطين والعظام . واوجد مبدأ النسيج باكتشافه نبات الليف البري ، الذي اشتهرت به مناطق حوض البحر المتوسط . وبذلك أصبحت الالبسة المنسوجة من نبات الليف تحتل – تدريجيا – لدى بعض المجتمعات البشرية مكان قطع الجلود ، التي كان الانسان يربط فيما بينها بقطع دقيقة من العظام ليستر بها جسده .
وقاد اختراع الانسان لـ " عجلة الفخار " الى اختراع آخر هو (عجلة) الجّر ، التي ساهمت بشكل فعال في سرعة الاتصال بين القرى والمستوطنات وخلقت مجالات جديدة واسعة في عالم النقل . ورافق هذه الخطوة بالتالي معرفة الانسان لحيوانات الجر كالثور والحمار . وبالإضافة الى ذلك كله فقد طور الانسان اسلحته (الهجومية ! ) مثل القوس والنبال ، التي عرفها خلال عصر الصيد .
بعد هذه اللمحة الموجزة عن اهم منجزات الانسان الحرفية واختراعاته (التقنية) خلال استقراره الزراعي والتي شكلت اسس تطور الانتاج المادي خلال العصور اللاحقة ، نستطيع ان نستعرض أهم افكاره الغيبية خلال هذه المرحلة من تاريخ تطوره الحضاري .
_____________
1) Hamann, R, Geschichte der kunst (Von der Vorgeschichte bis zurSpätatlke), 1957, Bd, I, S. 41.
2) Hamann, op. cit. S. 41.
3) Mcbumey C, B, M, Stone Age of Northem Africa, p. 192 ff.
راجع ايضا " طه باقر " : عصور ما قبل التاريخ في ليبيا ... (ليبيا في التاريخ . القسم العربي، ص 1 -41).
4) Van Liere, W, J., The Plestocene and Stone: (Age of the Orentes Rlver, Syria), in AAAS, Xvi, 2, p. 13-14.
5) Jirku, A., Dia Ausgrabungen in Patästina + Syrien, 1956, S, 5.
6) Solyman, T., Die Entstehung und Entwicklung der Gotterwaffen im alten Mesopotam ein und thre Bedeutung, 1968, S. 12.
7) Kenyon, k., Archaeology in the holy land, 1960, P. 38.
8) Hooljer, D. and de Heinzelin, J., The Dicerorhinas Hemitoechus (falconen) It Jabroud, in AAAS, XVI, 2, P. 155.
9) طه باقر ، نفس المرجع السابق ص 27 من القسم العربي ، وانظر في نفس المرجع ايضاً
Mcbumey, C. B. M., Libyan Role in Prehistory, p. 1-31.
10) Van Zeist, W. And Bottema, S., Palaeobtonical Investigation at Jabroud, in AAAS, XVI, 2, P. 188.
11) Kenyon, k., Archaeology in the Holy Land, 1960, p. 37.
12) Childe, G., Der Mensch schafft sich selbst, S. 66.
13) نشير هنا في هذا الصدد الى احداث المؤلفات السوفييتية وهو (تاريخ العالم : الجزء الأول).
14) Hamann, R., Geschichte der kunt (Von der Vorgeschichte bis zur Spätantike), 1957, S. 43-46.
15) Van LIere, W. J., The Pleistocene an Stone Age of the Orentes Syria, ia AAAS, XVI, 2, P. 13-14.
16) Awdijew, W. L, Geschichte des Alten Orlents, 1953, Benl-Salami und Badari, S. 13.
17) Hooijer, D. A., Prelimtnary notes on the animal found at Bouqras and in 1965, AAAS, XVI, 2, P. 194.
18) Moorigat, A. VR, 1940, Nr. 9.
على الرغم ان تاريخ هذا الختم الاسطواني يعود الى الرابع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد الا انه لابد ان تكون عدة قرون زمنية قد مضت على معرفة الانسان لتدجين الماعز قبل وصوله الى مرحلة نقش اشكال هذه الحيوانات على الأختام الاسطوانية .
19) Braidwood, R. J., Prehistoric men, seventh edition, 1967, p. 194.
20) Braidwood, R. J., op. cit. p. 94.
21) Braidwood, R. J., op. cit. p.
22) Solyman, T., Introduction, in AAAS, 1966, XVI, 2.
23) Braidwood, R. J., op. cit. p. 94.
24) Braidwood, R. J., op. cit. p. 127. Op. cit. p. 127.
25) Van Loon, M., Results of the Ist Excavations at Mreibet, in AAAS, XVI, 2, P. 215.
ويعتقد في هذا الصدد ان المرأة كانت المسؤولة الوحيدة عن اكتشاف الزراعة ، لأنه كان لديها الوقت الكافي لمراقبة بذور النباتات ونموها ، عندما كانت تقضي كل وقتها في الكهف وفي المنطقة القريبة منه .
26) Abu-es Soof, Excavation at tell es- Sawwan, in Sumer, XXIII, No. 1a, III, 1967, P. 179-182.
27) Van Loon, M., Results of 1st Excavation at Mreibet, in AAAS, VI, 2, fig. 4.
28) Rachel, H, Kulturvolker und Staaten von Urbeginn bis heute, 1931, S. 4-5.
29) كان التخزين نتيجة طبيعية لحاجة المجتمع الضرورية للتموين الاحتياطي من أجل البقاء وليس نتيجة لـ (فائض القيمة) أو (نشوء الدولة) كما قد يظن لأول وهلة.
30) Braidwood, R. J., op. cit. p. 125.
31) Braidwood, R. J., op. cit. p. 126.
32) de Contenson, H, et Van L iere, W. J., Premiers pas vers UN Chronologie Absilut a tell Ramad in AAAS, XVI, 2, P. 175-176.
33) Braidwood, R. J., op. cit. p. 144.
34) Abu es-Soof, Excavations at tell es-Sawwan, in Sumer, XXI, 1,2,P: 17-32.
35) Braidwood, R. J., Prehistoric men, P. 148.
36) Braidwood, R. J., op. cit. p. 147.
37) Moorigat, A., Die Entsehung der sumerischen Hochkultur, A0 43, 1945, S. 16; Heinrlch, E. Bauwerke in der an ltsumerischen Bildkunst, 1957. S, 15, Abb, 8, S. 16, Abb. 9 u. 10, S. 19, Abb. 12 usw.
38) Braidwood, R. J., op. cit. p. 118-121.
39) Van Loon, M. and Solyman, T., JNES, vol. 27, No. 4, October 1968, fig. 6,pl. IV-VI,P.271.
40) Van Loon, M., op. cit p. 267, fig. 2.
41) Braidwood, R.J., op. cit. p. 120.
42) Moortgat, A., die Entstehung der sumerischen Hochkultur, A0 43. S. 19 ff. Lesie, Ch., style tradition and change: An analysis of the earllest pottery from north Iraq, JNES, vol. XI,No 1,p. 57 ff.-) Lioyd, S. andSafar, F., with prefatory remarks by Braidwood, R.J., Excavation at tell- Hassuna, by the Iraq Movement Directorate General of antiquities in 1943 and 1944, JNES, vol. IV, No. 4, p. 255-284
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|