الاتحاد: هو أن يصير شيئان أو أكثر شيئاً واحداً من غير زيادة ولا نقصان. هذا علمياً.
واعتقاداً: هو الايمان باتحاد ولي من أولياء اللّه نبياً كان أو إماماً أو غيرهما باللّه تعالى.
و ممن قال به من المسلمين:
1 - النُّصيرية:
قالوا: إن اللّه اتحد بعلي(1).
واستدلوا على ذلك بأن «ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل.
أما في جانب الخير فكظهور جبرئيل (عليه السلام) ببعض الاشخاص والتصور بصورة اعرابي، والتمثل بصورة البشر.
وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة انسان حتى يعمل الشر بصورته، وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه.
فكذلك نقول: ان اللّه تعالى ظهر بصورة اشخاص.
ولما لم يكن بعد رسول اللّه (صلى الله عليه واله) شخص أفضل من علي (عليه السلام) وبعده أولاده المخصوصون، وهم خير البرية، فظهر الحق بصورتهم، ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم.
فعن هذا أطلقنا اسم الالهية عليهم.
وإنما اثبتنا هذا الاختصاص لعلي (عليه السلام) دون غيره، لانه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند اللّه تعالى فيما يتعلق بباطن الاسرار، قال النبي (صلى الله عليه واله): «أنا أحكم بالظاهر واللّه يتولى السرائر».
وعن هذا كان قتال المشركين الى النبي (صلى الله عليه واله) وقتال المنافقين الى علي (عليه السلام).
وعن هذا شبهه بعيسى بن مريم (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه واله): «لولا أن يقول الناس فيك ما قالوا في عيسى بن مريم (عليه السلام) لقلت فيك مقالاً»(2).
2 - الصوفية:
قالوا: إن اللّه اتحد بالعارفين(3).
والاتحاد عندهم يعني وصول العارف الى مرحلة الفناء التي يريدون بها فناء العارف في اللّه وفناءه عما سوى اللّه.
وهذه المرحلة أعلى مقامات النفس عندهم.
وعرّفه العارف السهروردي بقوله: «الفناء المطلق: هو ما يستولي من أمر الحق
سبحانه وتعالى على العبد فيغلب كون الحق سبحانه وتعالى على كون العبد»(4).
ويقصد السهرودي بتعريفه هذا ما عناه بعضهم بتعريفه (الاتصال) من أنه «أن لا يشهد العبد غير خالقه ولا يتصل بسره خاطر لغير صانعه»(5).
ونلمس انعكاس هذه الفكرة ليس على سلوكهم فقط، وانما حتى في ادبهم الشعري، ومنه:
- قول الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حللنا بدنا
فاذا أبصرتني أبصرته*** واذا أبصرته أبصرتنا
- قول ابن الغارض:
من لي بإتلاف روحي في هوى رشأ *** حلو الشمائل بالأرواح ممتزجِ
لم أدرِ ما غربة الاوطان وهو معي *** وخاطري أين كنا غير منزعجِ
فالدار داري وحبي حاضر ومتى *** بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي
- قول الآخر:
قد تحققتُكَ في السر فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعان وافترقنا لمعاني
ان يكن غيّبك التعظيم عن لحظ عياني
فلقد صيّرك الوجد من الاحشاء داني
والاتحاد غير معقول، أي أنه مستحيل في نفسه.
ولأنه مستحيل في نفسه يستحيل اثباته لغيره.
والدليل على استحالته في نفسه: ان الشيئين المتحدين - بعد فرض اتحادهما - إن بقيا موجودين فلا اتحاد بينهما، لانهما - والحالة هذه - إثنان متمايزان لا واحد.
وان لم يبقيا موجودين بأن انعدما معاً، ووجد شيء ثالث غيرهما أيضاً لا اتحاد هنا لان المعدوم لا يتحد بالمعدوم.
وإن انعدم أحدهما وبقي الآخر، فلا اتحاد بينهما أيضاً لان المعدوم لا يتحد بالموجود.
أما الدليل على استحالة اثباته لغيره فكما يقرره الشيخ المفيد بقوله: «ان الواجب لو اتحد بغيره لكان ذلك الغير إما واجباً أو ممكناً:
فان كان واجباً لزم تعدد الواجب، وهو محال.
وان كان ممكناً فالحاصل بعد الاتحاد ان كان واجباً صار الممكن واجباً، وان كان ممكناً صار الواجب ممكناً، وكلاهما خلاف المفروض، وباطل. فثبت بطلان اتحاد الباري بغيره»(6).
ولأننا نعلم أن للتصوف لغته الخاصة التي تسمى ب(الاشارات) تدور في محاورات الصوفية شفهياً وتحريرياً.
وفحوى هذه اللغة: انهم لا يريدون بالألفاظ الخاصة التي يستعملونها مداليلها اللغوية أو ظواهرها الاستعمالية، وانما يرمزون بها الى معان خاصة ذات مدلولات خاصة قد تعارفوا وتواضعوا عليها.
لا نقوى على اتهامهم بالقول بالاتحاد الباطل الا اذا لمسناه واضحاً في لغتهم وببيانهم.
وممن احتاط في المسألة الفاضل المقداد، قال: «فان عنوا غير ما ذكرناه فلا بد من تصوره أولاً ثم يحكم عليهم، وان عنوا ما ذكرناه فهو باطل قطعاً»(7).
والذي يظهر من تصريحات بعضهم: انهم لا يعنون بالفناء الاتحاد المحال.
جاء في عوارف المعارف(8): «وقال ابراهيم بن شيبان: علم الفناء والبقاء يدور على اخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة».
وعليه لا بد من تحليل عباراتهم في هدي اشاراتهم ثم الحكم لهم أو عليهم.
ومع هذا قد نجد في عبارات بعضهم - وهم الغلاة منهم - ما يشطح الى الاتحاد كما سيأتي.
وأما الاتحاد بمعنى التجلي أو ظهور الروحاني بالجسماني لها ما يشبهها عند بعض النصارى، فربما كان في البين تأثر.
فمن النصارى - كما يقول الشهرستاني - «من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت، فصار ناسوت المسيح مظهر الجواهر، لا على طريق حلول جزء فيه، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة، بل صار هو هو.
وهذا كما يقال: (ظهر المَلَكُ بصورة انسان) أو (ظهر الشيطان بصورة حيوان)...»(9).
كما أنه من المؤسف أن نجد في الصوفية أمثال الحلاج الذي «قال بوجود روح ناطقة غير مخلوقة تتحد بروح الزاهد المخلوقة، فيصبح الولي الدليل الذاتي الحي على اللّه (هوهو).
ومن ثم يقول الحلاج: أنا الحق»(10).
ومثله ما نقل عن أبي يزيد البسطامي: أنه كان يقول: (لا إله الا أنا فاعبدوني) و (سبحاني ما اعظم شأني)(11).
والفكرة الحلاجية هذه - كما ترى - متأثرة ومن غير ريب بفكرة الاتحاد المسيحي التي قال بها اكثر اليعاقبة، فقد «زعم اكثر اليعقوبية أن المسيح جوهر واحد، أقنوم واحد، الا أنه من جوهرين.
وربما قالوا: طبيعة واحدة من طبيعتين. فجوهر الإِله القديم، وجوهر الانسان المحدث، تركبا تركيباً كما تركبت النفس والبدن فصارا جوهراً واحداً، أقنوماً واحداً، وهو انسان كله وإله كله.
فيقال: الانسان صار إلهاً، ولا ينعكس، فلا يقال: الإِله صار إنساناً. كالفحمة تطرح في النار فيقال: صارت الفحمة ناراً، ولا يقال: صارت النار فحمة. وهي في الحقيقة لا نار مطلقة ولا فحمة مطلقة، بل هي جمرة»(12).
وهذه هي الفكرة التي شجبها القرآن الكريم وكفّر من قالوا بها، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] .
________________
(1) النافع يوم الحشر 36 .
(2) الملل والنحل 1/188.
(3) النافع يوم الحشر 36 .
(4) عوارف المعارف 363 .
(5) م . ن 359 .
(6) النكت الاعتقادية 396 .
(7) النافع ليوم الحشر 36 .
(8) ص 362.
(9)الملل والنحل 1/226.
(10) الموسوعة العربية الميسرة: مادة حلاج.
(11) م . ن: مادة بسطامي.
(12) الملل والنحل 1/226