المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

نبيّ اللّه إلياس عليه السّلام
23-1-2023
حرف النون معجزة قرآنية
5-6-2016
وفاة آخر الانبياء (صلى الله عليه واله) على الارض
7-2-2019
اللبن المحمض مباشرة Direct Acidified Yoghurt
31-1-2018
جميع اهل المحشر يلعنون الزناة
3-9-2019
وظائف العلاقات العامة
2023-04-27


القصة  
  
3186   12:13 مساءاً   التاريخ: 4-7-2016
المؤلف : عثمان موافي
الكتاب أو المصدر : من قضايا الشعر والنثر في النقد العربي الحديث
الجزء والصفحة : ج2،ص:75-93
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / النثر /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-7-2019 6978
التاريخ: 25-12-2015 9585
التاريخ: 8-10-2015 20404
التاريخ: 30-09-2015 17947

لعل من أوضح الدلائل على طغيان النثر على الحياة الأدبية والاجتماعية، انتشار بعض فنونه وموضوعاته في البيئة الأدبية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة انتشاراً لم يسبق له مثيل، وذلك بالقيام، إلى بعض الفنون الأدبية الاخرى كالشعر، وتحظى القصة بجانب كبير من هذا الذيوع والانتشار ، الذي حققه النثر الفني في هذا العصر، سواء في أدبنا العربي، أم في الآداب الأوربية.

يقول هيكل (تكاد القصة اليوم في الغرب تستأثر بالأدب المنثور كله، وهي لا ريب تتقدم كل ما سواها من صور هذا الأدب، فالرسائل التي كانت ذات مكانة سامية في زمن الأمان، قد اختفت أو كادت ، والقطع الوصفية القائمة بذاتها، والمكاتبات الأدبية الطريفة الأسلوب ، وما إلى ذلك من انواع النثر قد اندمج في القصة وأصبح بعض ما تشتمله )(1).

ويقول أستاذنا الدكتور محمد حسين، مؤكداً صحة شيوخ هذا الفن في أدبنا العربي الحديث (فقد كانت القصة أبرز ما استحدث من فنون الأدب بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تلبث أن طغت على سائر فنون الأدب، حتى اهملت الشعر، أو كادت.

ورحبت بها الصحف على اختلاف ألوانها، وجعلت الكثير منها بابا من أبوابها الثابتة، استجابة لرغبات القراء الذين أقبلوا عليها إقبالاً شديداً.

وساعد على رواجها نهضة المسرح، في صدر هذه الفترة، ثم ظهور الخيالة ــ السينما ــ وتقدم صناعتها في مصر بعد أن لقى انتجاها رواجاً في سائر البلاد العربية (2).

والقصة والمفهوم الفني الحديث، لون من ألوان الأدب الغربي (3) ، وقد على أدبنا العربي في مطلع ، نهضتنا الأدبية الحديثة.

ولا يعني هذا أن أدبنا العربي القديم، قد خلا من الفن القصصي، وإنما هو على العكس من هذا التصور، عرف ألواناً من القصص والحكايات المترجمة، عن بعض الآداب الأجنبية، مثل كليلة ودمنة ، وألف ليلة وليلة، وبعض القصص الديني الذي جاء على سبيل العظة والعبرة في سور من القرآن الكريم، كما سجلت بعض كتب الأدب نوادر وأخبار بعض أعراب البادية، وقصص العذريين وأخبارهم. وقد حفلت المقامات، وهي لون من الألوان القصصية بكثير من الحكايات والنوادر (4). ولكن هذه الألوان القصصية ، لم تكن تتمثل فيها الأصول الفنية للقصة الحديثة كالحبكة، والتسلسل المنطقي للأحداث، والتصوير الفني للشخصيات (5) ، وذلك باستثناء بعض المقامات، التي تقترب في موضوعها وصياغتها الفنية، من القصة الحديثة (6).

يضاف إلى ذلك، أن كثيرا من هذه الألوان القصصية القديمة ، كانت تختلط فيها الحقائق الإنسانية بالأمور الغيبية، وهذا على العكس من القصة الحديثة، التي أبرز ما يميزها واقعيتها ، وتحليلها النفسي للشخصيات وعرض بعض المواقف الإنسانية أو الاجتماعية (7).

ولذا فإن بعض نقادنا المعاصرين، بعدها أقرب نوع أدبي إلى واقعنا الاجتماعي (8).

ويبدو أنه لهذا السبب، ذاعت القصة وانتشرت في أدبنا العربي الحديث، وحققت بذلك تفوقا للنثير على الشعر، ورأى فيها كثير من الشباب مرآة لأحلامهم وأمانيهم العذبة.

ومن ثم، فقد نظر إليها بعض ذوي الأصالة الفكرية، من كتابنا المعاصرين على أنها سلاح ذو حدين، إذ من الممكن أن تتخذ وسيلة لتربية النشء تربية صالحة، وذلك بتناولها لموضوعات تحت على الفضيلة، وتعلى من القيم الخلقية والاجتماعية، وقد تكون على العكس من ذلك، وسيلة هدم وإفساد للنشء والمجتمع، إذا ما انحرفت عن هذا المضمون الاخلاقي والاجتماعي (9).

ويظهر أن بعض كتاب القصة الحديثة، قد انحرفوا عن هذا المضمون الاخلاقي والاجتماعي، وجنحوا إلى طريق وعر، استمالوا نحوه غرائز الشباب وتبع هذا ظهور طرفان من القصص الجنسية، مما حمل بعض الكتاب المحافظين على مهاجمة هذا اللون من الفن القصصي ، والتحذير من خطر انتشاره في الحياة الأدبية ، وقد تدوا ذلك إلى الهجوم على القصة بوجه عام (10).

وإن المرء ليحس من خلال هذا الهجوم ، بما حققه هذا الفن النثري من ذيوع وانتشار، جعله يتصدر موضوعات النثر وفنونه، وليس هذا وحسب بل سائر الأنواع الأدبية والشعر بنوع خاص.

ويبدو هذا بوضوح بعد ان تحددت معالم هذا الفن في أدبنا العربي الحديث، ومال كثير من كتابه إلى تصوير مشكلات الإنسان المعاصر وقضاياه الاجتماعية والفكرية، دون إسفاف أو ابتذال في الموضوع أو الصياغة الفنية (11).

ومن ثم، فليس بغريب ان نجد بعض رواد الشعر العربي الحديث، يحذون حذو كتاب النثر، في كتابة القصة بالمفهوم الفني الحديث متخذين من بعض القضايا والمواقف الاجتماعية ، والتحليل النفسي لبعض الشخصيات المعاصرة لهم موضوعات لقصصهم. ومن هؤلاء الشعراء الذين تناولوا هذا الفن في أشعارهم شوقي.

ومما يصور ذلك في شعره، هذه الحكايات الكثيرة التي تضمنها الجزء الرابع من ديوانه، ونهج في بعضها نهجاً قريباً من نهج لافونتين (12) ، في حكاياته التي صاغها على ألسنة الحيوان والطير.

من ذلك مثلاً قصة الكلب والفأر، وهي قصة رمزية يصور لنا من خلالها وعلى لسان بعض هذه الحيوانات المنزلية، بعض صفات هذه الحيوانات، والصراع الدائم بينها الذي ينتهي غالباً ، بانتصار القوي على الضعيف : ويحكي هذه القصة على هذا النحو :

 

فأر رأى القط على الجدار                     معذباً في أضيق الحصار

والكلب في حالته المعهودة                    مستجمعاً للوثبة الموعودة

فحاول الفأر اغتنام الفرصة                   وقال أكفى القط هذى الغصه

لعله يكتب بالأمان                             لي ولأصحابي من الجيران

فار الكلب على يديه                           ومكن التراب من عينيه

فاشتغل الراعي عن الجدار                    ونزل القط على بدار

مبتهجاً لخطبه علامه                          يذكرها فيذكر السلامة

فجاء ذلك الفأر في الأثناء                     وقال عاش القط في هناء

رأيت في الشدة من إخلاصي                 ما كان منها سبب الخلاص

وقد أتيت أطلب الامانا                فأمنن به لمعشري إحساناً

فقال حقاً هذه كرامه                           غنيمة وقبلها سلامه

يكفيك فخراً يا كريم الشيمة                   أنك فأر الحطب والوليمة

وانقض في الحال على الضعيف              يأكله بالملح والرغيف (13)

فقلت في المقام قولا شاعا                     من حفظ الأعداء يوماً أضاعا

 

والواقع أن هذ الحكاية لا تنطبق على عالم الحيوان غير العاقل وحده، ولكنها تتجاوزه إلى الإنسان العاقل، وما يدور بين بينه من صراع وحروب، تنتهى بانتصار القوى على الضعيف، سواء أكان مبعث قوته ، عقله ، أم سلاحه ، أم ماله ...

وشبيه بهذه الحكاية، ما يحكيه "شوقي" عن لقاء  ثم بين الليث والذئب في سفينة وكان الليث في شدة فأنقذه الذئب منها لقاء وعد من الليث له بمكافأة مجزية على ذلك :

يقال إن الليث في ذي الشدة                   رأى من الذئب صفا الموده

فقال يا من صان لي محلى                   في حاليتي ولايتي وعزل

‘ن عدت للأرض بإذن الله                    وعاد لي فيها قديم الجاه

أعطيك عجلين وألف شاه                     ثم تكون وإلى الولاة

وصاحب الدواء في الذئاب                    وقاهر الرعاة والكلاب

حتى إذا ما تمت الكرامه                      ووطئ الأرض على السلامة

سعى إليه الذئب بعد شهر                     وهو مطاع التهى ماض الأمر

فقال : يا من لا تداس أرضه                  ومن له طول الفلا وعرضه         

قد نلت ما نلت من التكريم                    وذا أوان الموعد الكريم

قال : تجرأت وساء زعمكما                  فمن تكدن يا فتى ؟ وما اسمكا ؟

أجابه إن كان ظني صادقاً                    فإنني وإلى الولاة سابقاً (14)

 

وبالرغم من أن شاعرنا يحاول من خلال سرد هذه الحكاية إيهامنا بأن أحداثها تجري في عالم الحيوان، فإن المتأمل الفطن لها، يدرك ان الحيوان هنا رمز للإنسان الذي يسلك مسلك هذا الليث في حياته ، وكذا الذئب رمز لإنسان آخر، يسلك مسلكاً غيري سوى كذلك في حياته. وعلاوة على هذا فقد نهج شوقي في قصص أخرى نهجا شبيها بالنهج الفني القصة الحديثة والقصيرة ينزع خاص.

من ذلك مثلاً هذه القصة التي يصور فيها شخصية رجل إمعة، لا رأى له وإنما الرأي لرئيسه أو سلطانه. فكل ما يقول هذا الرئيس أو السلطان هو الصحيح والصواب ، وإن لم يكن كذلك.

ومن الطريف أن شاعرنا اختار لهذا الرجل اسم "نديم الباذنجان" ، وأدار حوار القصة حول الباذنجان ، فوائده ، مضاره، كما يراها هذا السلطان وصاحبنا يرافقه في الحالتين، أي عندما يرى انه مفيد وعندها يرى أنه ضار.

 

كان لسلطان نديم وان

                                يعيد ما قال بلا اختلاف.

 

وقد يزيد في الثنا عليه

                                إذا رأى شيئاً حلا لديه.

 

وكان مولاه يسرى ويعلم

                                ويسمع التمليق لكن يكتم.

 

فجلسا سويا على الخوان

                                وجيء في الأكل يباذنجان.

 

فأكل السلطان منه ما أل

                                وقال هذا في المذاق كالعسل.

 

قال النديم : صدق السلطان

                                لا يستوى شهد و باذنجان.

 

هذا الذي غنى به الرئيس

وقال فيه الشعر جالينوس

 

يذهب ألف عله وعله 

                                ويبرد الصدر ويشفى الغلة.

 

قال : ولكن عنده مرارة

                                وما حمدت مرة آثاره.

 

قال نعم مر وهذا عيبه

                                مذ كنت يا مولاي لا أحبه.

 

هذا الذي مات به بقراط

                                وسم في الكأس به سقراط.

 

فالتفت السلطان فيمن حوله

                                وقال كيف تجدون قوله.

 

قال النديم: يا مليك الناس

                                عذراً فما فعلته من باس.

 

جعلت كي انادم السلطانا

ولم انادم قط باذنجانا (15)

 

ومن قبيل هذه الموضوعات الاجتماعية ، تصويره في قص أخرى شخصية رجل يدعى الشجاعة والفتوة ، اعتماداً على ضخامة جسمه، ويدخل في روع الناس أنه الفتوى الوحيد، وإذا بشاب أقل منه جسماً، يتصدى له، ثم يضربه ويهزمه أمام الناس.

ومن ثم، ينكشف أمر صاحبنا، فيهادن الشاب، ويعترف له بأنه ليس وحده الفتوة، وإنما هو كذلك ، فتوة مثله :

 

يحكون ان رجلاً كرديا

                                كان عظيم الجسم همشريا.

وكان يلقى الرعبى في القلوب

                                بكثرة السلاح في الجيوب.

 

ويفزع اليهود والنصارى

                                ويرعب الكبارا والصغارا

وكلما مر هناك وهنا

                                يصيح بالناس أنا أنا.

نمى حديثه إلى صبي

                                صغير جسم بطل قوي.

 

لا يعرف الناس له الفتوة

                                وليس ممن يدعون القوه.

 

فقال للقوم سأدريكم به

                                فتعلمون صدقه من كذبه.

 

وسار نحو الهمشري في عجل

                                والناس مما سيكون في وجل

 

ومد نحوه يميناً قاسيه

                                بضربة كادت تكون القاضية

 

فلم يحرك ساكناً ولا ارتبك

                                ولا انتهى عن زعمه ولا ترك.

 

بل قال للغالب قولا لينا

                                الآن صرنا اثنين : انت وأنا  (16).

 

 

والواقع ان كل قصيدة من هاتين القصيدتين ، يمكن أن نعتبرها قصة قصيرة بالمفهوم الفني الحديث لهذا النوع من الفن القصصي.

ذلك لأن اهم ما يميز القصة القصيرة، هو تناولها لموقف أو جانب من جوانب شخصية ما، كما يتمثل في مشهد من المشاهد (17).

والجانب الذي عرضه الشاعر في الشخصية الأولى، النفاق وتملق الرؤساء وقد قدم لنا هذا الجانب، في موقف من المواقف ، التي كشفت لنا عن حقيقة هذا العيب النفسي، ويتمثل هذا الموقف في جمع الشاعر بين هذا الرجل المنافق وسلطانه حول مائدة باذنجان ، وكشف السلطان لحقيقة هذا الرجل، من خلال الحوار الذي دار بينهما حول فوائد الباذنجان ومضاره.

أما الجانب الذي عرضه في الشخصية ، فهو تباهي صاحب هذه الشخصية بضخامة جسمه، وادعاؤه الفتوة والشجاعة تبعاً لذلك، مع انه في حقيقة الأمر ليس كذلك.

وقد حاول الشاعر الكشف عن هذه الحقيقة ، وإظهارها للناس، فوضع أمامه شاباً أضعف منه جسماً، لكنه أشجع منه وجعله ينتصر عليه، ويقتسم معه لقب الفتوة، ليؤكد بذلك، أنه لا علاقة مطلقاً بين ضخامة الجسم والشجاعة وأن كثيراً من أدعياء الفتوى، ليسوا أقوى الناس وأشجهم.

وشبيهه بهذا اللون من القصص الشعري، بعض قصائد لخليل مطران نظمها في هذا القالب النظمي . مثل قصيدته "شهيد المروءة وشهيدة الغرام" ، التي يتحدث فيها عن قصة واقعية ، حدثت بإحدى قرى الشام. وكان الشاعر أحد شهود أحداثها.

وملخصها أن ذئباً مفترساً، اقتحم هذه القرية، وأثار الرعب في نفوس أهلها ، فتصدى له شاب من شباب هذه القرية، يسمى بأديب، واشتبك معه في معركة حامية ، استطاع في نهايتها أن ينتصر عليه، ويخلص القرية من شر هذا الحيوان المفترس.

ولكن هذا الشاب قد أصيب من جراء ذلك، بمرض عضال، هو داء الكلب، فنفر الناس منه، وابتعدوا عنه إلا خطيبته ليبية، التي عز عليها أن تتركه وحيداً مع مرضه، فذهبت لزيارته ، وفي سكره من سكرات هذا الداء، انقض عليها صاحبنا وغرز أسنانه في صدرها ونحرها، ثم حاول خنقها فماتت بين يديه، ولما أفاق فظاعة ما جنب يداه ، فهوى على الأرض، ووافته منيته في الحال.

وتبدو براعة خليل مطران القصصية، في عدم اقتصاره على سرد أحداث القصة وحسب، بل تصوير شخصيتها تصويراً فنياً دقيقاً، والكشف عن مواقفها النفسية والشعورية من خلال هذا التصوير.

 

وعاد من سفح الجبل          أديب عودة البطل           

وهو كليل متعب               بدمه مخضب                 

حذاؤه مشقق                   وثوبه ممزق          

وقال اجهزت ولا              فخر على كلب الفلا          

فهناؤه فرحا                   وأمطروه مدحا

ودرج الأطفال                 كأنهم أحجال

فرجعوا بالسيد                 في مشهد مشهود

وعلت أصوات                ورفعت رايات

وقولوا مصوراً شخصية ليبية هذه العروس، التي كانت تسعد للزفاف ، ثم فوجئت بمرض خطيبها ، الذي وقف حائلاً دون تحقيق هذا الأمل السعيد.

 

كان من الشهود                في الموقف المشهود

يوم هلاك الذيب               على يدي أديب

فتية عذراء                    جميلة غراء

طاهرة الفؤاد                  عفيفة الوداد.

قوامها كالرند                  وخدها كالورد

وعينها الزرقاء                تحسدها السماء.

كانت له خطيبة                يدعونها لبيبة

وكان موعد الزفا              ف  لهما قد أزفا

... فهيأوا الملبوسا             وجهزوا العروسا

... وبينما هم في فرح         ولا مظن للتسرح.

إذا اشتكى أديب                حرارة تذيب.

وقام بارتعاش                 فورا إلى الفراش.

 

ويمضي الشاعر في سرد بقية أحداث القصة، مصوراً، من خلال ذلك طريقة بعض الدجالين آنذاك في علاج هذا المرض ، وما يترتب على ذلك من يأس الناس من شفائه، ونفورهم منه، إلا خطيبته لبيبة، التي ذهبت لتؤنسه في وحداته فحدث لها ما حدث، وكانت النهاية المؤلمة لكليهما.

يقول مصوراً هذا المشهد الإنساني تصويراً فنياً دقيقاً :

 

ودخلت مجترئة                غرفته مختبئة

وكان في سكون               من ثورة الجنون

مستغرب القيود                يعبث بالحديد

فابتسمت تكلفا                 وهي تموت كلفا

فهش مسروراً بها             ويش حتى قربها

كالأسد المريض               ملقى على الحضيض

عادته بالعرين                 إحدى الظباء العين

ظل قليلاً يبسم                 يصغى ولا يكلم

ثم شكا ثم زفر                 ثم بكى ثم نفر

وعضها في صدرها          ورأسها ونخزها

فلم تحاول الهرب              من هول ذلك الغضب

وعرضت حياتها              مؤثرة مماتها

فظل في أيلامها               وهي على استسلامها

حتى تولى عنقها               باليد يبغى خنقها

فاستصرخت من الوجع       وبعدها الصوت انقطع

فأبصروها هامدة              بين يديه باردة

ثم صحا وأدركا               ما قد جناه فبكى

ثم هوى معفراً                 ومات موتا منكراً (18).

 

والواقع أن "خليل مطران" قد استطاع من خلال عرضه لهذه المأساة الإنسانية في هذا القالب المنظوم، أن يقدم لنا قصة بالمفهوم الفني الحديث، يتحقق فيها الكثير من خصائص هذا الفن، من حبكة قصصية ، وسرد وتصوير فني دقيق للشخصيات ، علاوة على نقده لبعض العيوب والخرافات الشعبية ، التي كانت شائعة بين أهل الريف آنذاك.

وليست هذه، هي القصيدة الوحيدة، التي نهج فيها هذا النهج الفني، ولكنه نهج هذا النهج في قصائد أخرى (19).

ومن الشعراء العرب المحدثين، الذي نهجوا هذا النهج الفني في أشعارهم ، الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، وله في ذلك قصائد كثيرة (20) .

ولعل من أطرف هذه القصائد ، قصيدته سليمى ودجلة، وهي مأساة انسانية واجتماعية في الوقت نفسه، يصور من خلالها، شعور سيدة من سيدات الطبقة الحاكمة من الترك آنذاك ، وقد فقدت ابنتها "دلبر" بسبب مرضها بالجدري، وقد دفعها ذلك إلى الحقد على جاريتها الجميلة "سليمي" ولعبت الوساس برأسها، وأخذت تسأل نفسها ، كيف أخذ الموت ابنتها وترك هذه الجارية، يبدو أنه قد أخطأ ، وكان يقصد هذه الجارية لا ابنتها.

ثم كيف تعيش هذه الجارية بهذا الجمال، وتموت انبتها ويدفن معها جمالها !!. ولذا فقد أخذت تضايقها و تنهرها، وفكرت في الانتقام منها، وانتهت في ذلك إلى قرار ، وهو ان تشوه جمال هذه الفتاة ، وفعلاً نفذت ذلك  ، فقصت شعرها وأهدابها، وحاجبيها ، ولم تطق الفتاة رؤية صورتها على هذا الحال، فألقت بنفسها في نهر دجلة. يقول مصوراً شعور هذه المرأة بعد ان ماتت ابنتها دلبر ، ومدى حقدها على جارتها سليمى :

حياة سليمى بعد ميسته دلبر

                                من الدهر ذنب فاد ليس يغفر

فدى دلبر ساعة من حياتها

                                كمثل سليمى ألف بنت وأكثر

وظنى أن الموت قد كان قاصداً

                                سليمى فقالت "إنني أنا دلبر"

وتلك سليمى وهي تومى لدلبر

                                فخذها وروح يا موت إنك تقهر

سليمى خدعت الموت حتى دللته

                                على دلبر إن الذي جئت منكر

سأجزيك شرا بالذي قد عملته

                                من الشر إني يا سليمى لأقدر

 

أشوه وجها طالما بجماله

                                فتنت عيوناً نحو وجهك تنظر

فيصبح منك الوجه قد زال حسنه

                                جميعا  ومنه الناس أجمع تسخر

وصاحب بخدام لديها فجتلوا

                                سليمى كشاة بالقساوة تجزر (21).

 

ثم يقول مصوراً ، ذلك الشعور النفسي الذي انتاب سليمى بعد أن شوهت سيدتها جمالها، وكيف فكرت في الانتحار غرقا في نهر دجلة ، مفضلة هذه النهاية المؤلمة، على العيش ، في جحيم هذه السيدة القاسية القلب ، التي اختار لها الشاعر اسم "زليخا" :

رأت كل شيء في الطبيعة غيرها

                                        جميلاً به تجلى للعيون وتبهر

ولكنها دون الخليقة كلها

                                        من الوجع يمحى حسنها ويغبر

أأهرب من وجع الرزايا إلى الفلا

                                        إلى الغاب إن الغاب لاشك أستر

ولكنني لا أهتدي لسبيله

                                        فهل من دليل لدى الله يؤجر

وهب أن لي ذلك الدليل وأنني

                                        هربت فهل يألو عن البحث جعفر

إذا ظفرت بي عنده يد سيدي

                                        فإن زليخا من عذابي تكثر

وأحسن من اللوذ بالموت إنه

                                        على غيره عند الضرورة يؤثر

أموت اجل إني أموت ففي الردي

                                        نجاتي التي مازلت فيها أفكر

رمت نفسها في نهر دجلة فاختنقت بها

                                        كأن لم تكن شيئاً على الأرض يذكر (22).

 

وعلى أية حال ، فهذه النماذج من القصة الشعرية ، وغيرها كثير، سواء لهؤلاء الشعراء الثلاثة ، ام لغيرهم من شعرائنا المعاصرين (23) تؤكد لنا صحة القول ، بدخول هذا الفن النثري شعرنا الحديث، وشيوعه فيه، ويرجع بعض النقاد، بداية دخول هذا الفن النثري ميدان الشعر العربي إلى عهود أسبق من العصر الحديث (24).

ونحن لا ننكر أن بعض الألوان القصصية القديمة، قد شفت طريقها إلى الشعر العربي، قبل العصر الحديث، ولكن هذا كان في نطاق ضيق، ولم يشع في الشعر القديم شيوعه في الشعر الحديث.

ذلك لأنه لم يكن يعدو، نظم بعض الحكايات النثرية شعراً (25) ، أو تصوير بعض المواقف والتجارب الشخصية ، لبعض الشعراء في قالب نظمي شبيه بقالب الحكاية النثرية، التي تفتقر إلى كثير من العناصر والأصول الفنية للقصة الحديثة (26).

وعلى هذا ، يمكننا القول بأن القصة القديمة ، لم تصل إلى مرحلة النضج الفني الذي وصلت إليه القصة الشعرية الحديثة، سواء من ناحية القالب، أم الصياغة الفنية، شأنها في هذا شأن القصة النثرية القديمة.

وعلى أية حال ، فمهما كانت الطبيعة الفنية للقصة الشعرية القديمة، وافتقارها إلى كثير من الأصول والعناصر الفنية للقصة الحديث ، فالملاحظ أن هذه الأخيرة قد شاعت وانتشرت في الشعر، ولكنها برغم هذا الشيوع والانتشار، الذي حققته في هذا المجال، لم نصل إلى ما وصلت إليه من نجاح ونضج فني في مجال النثر (27).

وربما يرجع هذا إلى أن القصة ، قد نبتت بذورها الفنية في النثر كما رأينا، وتحددت معالمها وشخصيتها الفنية في هذا المجال، ومن ثم، فقد اكتسبت من صفات النثر وخصائصه الفنية، الشيء الكثير كالأطناب والافاضة في عرض المعنى، والسرد ، وغلبة الاقناع أحياناً على التخييل.

وقد فطن إلى هذه الحقيقة كثير من نقادنا المحدثين والمعاصرين، ويتضح هذا من قول الرافعي، معللا عدم نجاح القصة في الشعر كنجاحها في النثر . (والسبب في ذلك ان القصة إنما يتم تمامها، بالتبسط في سردها، وسياقة حوادثها، وتسمية أشخاصها، وذكر أوصافهم ، وحكاية أفعالهم، وما يداخل ذلك أو يتصل به، وإنما بنى الشعر في أوزانه وقوافيه على السرد وعلى الشعور ، لا على الحكاية، ولا يريدون منه حديث اللسان ، ولكن حديث النفس )(28).

وقول مندور مؤكدا صحة ذلك (إن فن القصة قد نشأ نثراً، ولا يزال فناً نثرياً في جميع الآداب ، وذلك بحكم أن النثر، اكثر طواعية ومرونة ، وقدرة على الوصف والتحليل، فضلاً عن السرد والقصص )(29).

يضاف إلى ذلك حقيقة فنية هامة ، وهي أن القصة الحديثة ، عندما دخلت الشعر، لم تفقد خصائصها الفنية، التي اكتسبها من النثر ، بل ظلت معها.

ولما كانت معظم هذه الخصائص لا تتلاءم والطبيعة الفنية للشعر. وخصائصه كذلك ، فقد ترتب على هذا فقد الشعر لبعض خصائصه الفنية، وتعديل بعضها لكي تتلاءم والطبيعة الفنية لهذا الفن النثري، الذي اقتحم عليه بيته ونازعاه إياه.

وهذا يفسر لنا كذلك ، سر تحول الصياغة الفنية لبعضها من الصياغة الشعرية، إلى صياغة أقرب إلى الصياغة النثرية، نظراً لغلبة السرد والحكاية عليها، واتسام لغتها أحياناً بالتقرير لا بالإيحاء.

ولو عدنا إلى النماذج السابقة لاتضحت لنا حقيقة ذلك.

فبرغم ما أبداه شوقي من مقدرة فائقة في تناول مثل هذا الفن النثري، في قصيدتيه السابقتين، وذلك نظراً لمحافظته قدر الإمكان على الصياغة الشعرية، بما تتسم به من إيجاز وتركيز، ودلالة غير مباشرة في التعبير، فإنه قد عدل في الشكل الموسيقي لكي يتسع لتناول مثل هذا الفن غير الشعري.

وأما مطران والزهاوي ، فقد أطالا في سرد احداث قصتيهما، وقد أفسدت هذه الاطالة الصياغة الشعرية، وجعلتها أقرب شبها بالصياغة النثرية ،فقد غلب فيها جانب، الاقناع على التخييل ، والوصف على التصوير، والتقرير على الإيحاء ، ومن ثم ، فلم يبق لقصيدتيهما من عناصر الفن الشعري، سوى الوزن والقافية.

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ثورة الأدب ص67.

(2) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر جـ2 ص354ط : الثالثة.

(3) خواطر في الفن والقصة للعقاد ص83 ، النقد الأدبي الحديث لغنيمي هلال ص494.

(4) ثورة الأدب ص70-73 خواطر فن الفن والقصة ص60-63 ، النقد الأدبي الحديث لغنيمي هلال ص524 – 534.

(5) راجع في ذلك، الأدب وفنونه لعز الدين اسماعيل ص185-197 ، دراسات في القصة العربية الحديث لزغلول سلام ص6-32.

(6) راجع في ذلك مثلاً مقامات الهمداني ، كالمضيرية ، والمكفوفية، والحلوانية.

(7) النقد الأدبي الحديث لغنيمي هلال ص494.

(8) في النقد الأدبي لشوقي ضيف ص221.

(9) وحي القلم جـ3 ص301.

(10) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر جـ 2 ص354 ــ 358.

(11) ويمثل هذا الاتجاه من الرحيل الأول، المنفلوطي ، ومحمود تيمور ، والمازني وخليل تقي الدين، وتوفيق عواد، وبشر فارس :

راجع الاتجاهات الأدبية في العالم العبري الحديث ص455.

(12) الكلاسيكية في الآداب والفنون ص72-73.

(13) ديوان شوقي جـ4 ص152.

(14) المرجع السابق ص164.

(15) الشوقيات جـ 4 ص121 الناشر : دار الكتاب العربي ــ بيروت.

(16) المرجع السابق جـ 4 ص120.

(17) خواطر في الفن والقصة ص56.

(18) انظر القصيدة كاملة في ديوان الخليل جـ1 ص82-93.

(19) مثل قصديته ، غرام طفلين ، والجنين الشهيد ، راجع المرجع السابق جـ1 ص245 – 248 ، ص225 – 242.

(20) راجع القسم الثالث من ديوانه ص78 – 115 ، طـ : دار العودة ــ بيروت.

(21) المرجع السابق ص98.

(22) المرجع السابق ص99 ، وراجع القصيدة كاملة في المرجع السابق ص97-100.

(23) الاتجاهات الأدبية ص392 – 393.

(24) النقد الأدبي الحديث ص527 ، وحى القلم جـ3 ص382.

(25) مثل نظم أبان اللاحقي لكليلة ودمنة شعراً، راجع كتاب الأوراق جـ1 ص47.

(26) كصنيع عمر بن أبي ربيعة في بعض قصائده  ، راجع التطور والتجديد ص235 ، ونزار قباني وعمر بن أبي ربيعة، دراسة في فن الموازنة ص173.

(27) راجع في ذلك مثلاً، هذا العدد الهائل من القصص النثري، الذي كتبه رواد هذا الفن في أدبنا مثل هيكل ، وتيمور، ويحيى حقه، ونجيب محفوظ ، ويوسف ادريس ، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وما كتبه رواد القصة الشعرية الحديثة في هذه الفترة من قصص ، كشوقي ومطران، والزهاري ، والعريض وشيبوب  .... ، ووازن فنيا بين ....... وأولئك.

(28) وحتى القلم جـ 3 ، ص382 .

(29) الشعر المصري بعد شوقي جـ 2 ص30.

(30) راجع مثلا، الشكل الموسيقى لقصيدتي شوقي السابقتين، وقصيدة  مطران، وقصيدة نازك ــ الخيط المشدود إلى شجرة السرو ،  وديوان " فبلتان " لإبراهيم العريض.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.