x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الرسائل الديوانية
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: ص:551ـ562
13-7-2019
10696
الرسائل الديوانية
مرّ بنا في العصر العباسي الأول كيف أن الدواوين كانت كثيرة ومتنوعة، فديوان للخراج، وديوان للنفقات وديوان للضياع وديوان للرسائل وديوان للخاتم وديوان للجيش أو دواوين، ودواوين لشرقيّ الدولة وغربيّها، ولكل ولاية ديوان وأحيانا دواوين. وفوق كل هذه الدواوين ديوان الزمام الذى يشرف عليها.
وهذه الصورة العامة للدواوين في سامرّاء وبغداد كانت تقابلها دواوين أخرى في حاضرة كل ولاية. وكان لأولياء العهد والوزراء دواوين بدورهم، وكذلك لكبار القواد، وحتى نساء الخلفاء كان لهن دواوين يقوم عليها كتّاب ينظرون في الدّخل والخرج والنفقات.
وكان ذلك عاملا قويّا في نشاط الكتابة إذ اشتغل بها كثيرون، وخاصة أنها كانت تعود عليهم برواتب وأرزاق ضخمة. وكان الكاتب في دواوين الدولة إذا أظهر نبوغا ارتقى سريعا، وما يزال يرتقى حتى يصبح رئيس مجموعة من الدواوين وقد يصبح وزيرا يدبّر أمور الدولة كلها، فإن فاتته الوزارة أصبح واليا لمدينة كبيرة مثل إبراهيم بن المدبر الكاتب إذ ولى-فيما ولى-البصرة. وكثير من الولاة كانوا يتقنون الكتابة مثل محمد بن عبد الله بن طاهر وأخيه عبيد الله حاكمي بغداد بالتعاقب.
وكانت الدواوين في سامرّاء وبغداد لذلك أشبه بمدرسة فنية كبيرة. يفد عليها الشباب، ويختبرون اختبارا دقيقا، فمن نجح في الاختبار وظّف فيها، ولزم غيره من الكتاب القدماء وعمل بين أيديهم. ويدبّج بعض الرسائل، فإذا نالت رسالة حظوة من رئيس الديوان تمّ له سعده. وربما ألحقوهم ببعض الولاة أو العمال، وقد يقفزون بهم قفزا إلى القيام على أحد الدواوين. ولا ريب في أن ذلك جعل التنافس على النهوض بالكتابة فيها يبلغ الذروة. وهو تنافس دفع إلى التثقف
ص551
الواسع بكل ألوان الثقافات، وفى مقدمتها الثقافة اللغوية، ومرّ بنا كيف أن ابن قتيبة ألّف لهم في ذلك كتابه «أدب الكاتب». ولا بد من إتقان الفقه لحاجة الكاتب إليه في شئون الخراج، وأيضا لا بد من إتقان الحساب لنفس الغاية. وكانوا يكبّون خاصة على علوم التنجيم والمنطق والهندسة وعلى الفلسفة مما جعل ابن قتيبة يظنّ بهم الظنون وأنهم يغرقون إلى آذانهم في علوم اليونان وفلسفتهم حتى ليفوتهم إتقان العربية. وتوفّروا على ما ترجم من الثقافة الهندية من الحكم والقصص وكذلك على ما ترجم من الثقافة الفارسية مما يتصل بتقاليد الساسانيين وأنظمة الحكم وآداب السياسة وأخبار ملوكهم ووزرائهم. فكل ذلك كانوا يعكفون عليه ويتزوّدون به، حتى يستمدوا منه في معانيهم ومنطقهم. وكانوا يلتزمون الوضوح لأن رسائلهم توجّه إلى العامة ولا بد أن تفهم ما تسمع دون حاجة إلى شرح أو بيان. كما كانوا يلتزمون فيها شيئا من التنميق حتى تنال استحسان من يكتبون عنه من الخلفاء والوزراء والولاة والأمراء والقواد. وكانت الرسائل تتناول جميع شئون الدولة من منشورات تتصل بأهل الذمة أو الرعية ومن ولاية عهود أو بيعة لخليفة أو خلع أو دعوة إلى الجهاد في سبيل الله أو تولية وزير أو وال أو تنويه بموسم حج أو عيد أو أخبار الولايات أو أمر بمعاقبة بعض الجناة. وتفنّنوا في المقدمات وخاصة في التحميدات وما اتصل منها برسالة الخميس التي كانت تكتب إلى الولايات حين يستولى خليفة على مقاليد الحكم.
ونحن نعرض طائفة من الكتاب مرتّبين على عهود الخلفاء لنتبين من خلال كتاباتهم روعة بيانهم من جهة وما حدث من تطور في الكتابة الديوانية وأساليبها في العصر. ومعروف أن أول كاتب نابه يلقانا في العصر هو إبراهيم بن العباس الصولي الذى حرّر أكثر ما صدر عن المتوكل من منشورات وكتب ورسائل في الفتوح، ولن نقف عنده لأننا سنخصه بحديث مفصل في الفصل التالي. ومن كتّاب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان الذى استكتبه سنة 236. ثم جعله وزيره وللبحتري فيه مدائح مختلفة، وقد احتفظ له الطبري برسالة كتب بها عن الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد يأمره بضرب رجل ألف سوط لما صحّ من شهادة شهود كثيرين عليه بشتمه لأبى بكر وعمر والسيدة عائشة والسيدة حفصة زوجي الرسول، والرسالة تخلو من السجع ومحاولة التنميق (1).
ص552
ويدخل عصر المنتصر، ويستوزر أحمد بن الخصيب، وكان كاتبا أديبا، مما جعله يعهد إليه بكتابة الكتب التي تصدر عنه، وكان من أوائلها كتاب في الجهاد كتبه لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائتين حين اتّجه وصيف إلى الغزو في أرض الروم، وفيه يقول (2):
«قال عزّ وجلّ آمرا بالجهاد مفترضا له: {(اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)}. وليست تمضى بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصبا ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدوّا، ولا يقطع بلدا، ولا يطأ أرضا، إلا وله بذلك أمر مكتوب وثواب جزيل وأجر مأمول. قال الله عزّ وجلّ: {(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ (3)} فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). . وليس من شيء يتقرّب به المؤمنون إلى الله عزّ وجلّ من أعمالهم، ويسعون به في حطّ أوزارهم وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة، لأن أهله بذلوا لله أنفسهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم ووقموا (قسعوا) بجهادهم العدو».
وصياغة الكتاب جزلة رصينة، وفيها محاولة واضحة للدقة في التعبير وأن يروق السمع والذهن، ولكن لا بسجع. وإنما بعبارات متوازنة متقابلة. مما يشهد لابن الخصيب بأنه كان كاتبا مجيدا. واحتفظ الطبري له بكتاب ثان خلع فيه المنتصر أخويه المعتز والمؤيد (4)، نحا فيه منحى الكتاب السابق في الصياغة.
ويتولى المستعين الخلافة، ويتخذ سعيد بن حميد أحد الكتاب البلغاء على
ص553
ديوان رسائله، وسنخصّه بحديث مستقل في الفصل التالي. وسرعان ما يتولّى المعتز الخلافة، ويستوزر أحمد بن إسرائيل، ويقول الفخري إنه أحد الكتاب الحذّاق الأذكياء (5). وكان من كبار ولاته وأقربهم إلى نفسه محمد بن عبد الله بن طاهر حاكم بغداد، وكان أديبا بارعا، وفى الطبري رسالة له وجّه بها إلى عمّال النواحي حين أعطاهم المعتز الحق في التنكيل بأعدائه، وهى تمتلئ وعيدا وتهديدا على هذا النمط (6):
«أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطأ، ولو ملّكتم الحق عليكم وحكمتم به فيكم لأوردكم البصيرة ونفى غيابة (7) الحيرة، والآن فإن تجنحوا للسّلم تحقنوا دماءكم وترغدوا عيشكم ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم (7)، ويسبغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم وسوّل لكم الأمل أسوأ أعمالكم فأذنوا بحرب من الله ورسوله بعد نبذ المعذرة إليكم وإقامة الحجة عليكم. ولئن شنّت الغارات وشبّ ضرام (8) الحرب، ودارت رحاها على قطبها وحسمت (9) الصوارم أوصال حماتها، واستجرّت (10) العوالي من نهمها. ودعيت نزال (11)، والتحم الأبطال، وكلحت (12) الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرّد عنها قناعها. واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغي لتعلمنّ أي الفريقين أسمح بالموت نفسا، وأشدّ عند اللقاء بطشا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية، وقد أعذر من أنذر {(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)»}.
وصياغة الرسالة صياغة مضبوطة محكمة، ويكثر فيها التقابل بين العبارات ويكثر التفاصح واستخدام كلمات القرآن الكريم وبعض آياته مثل: {(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ)} ومثل: {(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)} و {(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.)} مما يدل على تمكن الكاتب من العربية والثقافة الإسلامية القرآنية. وقد استخدم كلمة:
ص554
«واستجرت» بدلا من كلمة: «واجترت» دلالة على قدرته في القياس والتصريف، وأتى بأمثال مختلفة مثل: «ودعيت نزال» وهو مثل يضرب لاحتدام الحرب، ومثل: «من أعذر فقد أنذر». وشيء أهم من ذلك كله واضح في الرسالة وضوحا بيّنا، وهو كثرة الصور فيها مثل غيابة الحيرة وإسباغ النعمة وضرام الحرب و «دارت رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها واستجرّت العوالي من نهمها. . . وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها وألقت للتجرد عنها قناعها».
صور متراكمة. قصد إليها الكاتب قصدا ليدل على براعته الفنية، وأنه ليس الشعر وحده الذي يستطيع أن يحمل حشود الصور، فالنثر بدوره يمكن أن يحمل منها ما يحمل الشعر، بل يمكن أن يزداد حمله وأن يصبح صورا خالصة يأخذ بعضها بزمام بعض.
ويخلف المعتز المهتدى، وهو أعظم خلفاء العصر سيرة حميدة وتقوى وورعا وعبادة، وكان كما مرّ بنا يخطب في الناس كل جمعة يعظهم ويذكرهم الآخرة.
وكان يعمل في دواوينه سعيد بن عبد الملك، ويقول صاحب الفهرست: البلغاء الحديثون ثلاثة: الحسن بن وهب وإبراهيم بن العباس الصولي وسعيد بن عبد الملك (13)، وله كتاب في التنويه بخليفة وخطابته في عيد الفطر. ولا نرتاب في أنه يريد المهتدى، لأن من وليه من خلفاء القرن الثالث كانوا يندبون عنهم من يخطب يوم الجمع، ومرّ بنا ما أصاب المعتضد من حصر حينما حاول الخطابة في أحد الأعياد، فالمهتدى المقصود بتلك الرسالة، وفيها يقول (14):
«أدام الله صلاح الأمة ولا أخلاها من بركة رعايته، ومن ولايته وسياسته، ولا زالت في كنف السلامة بسلامته، وظلّ العافية بعافيته، وعلى سبيل نجاة هدايته.
وقد كتبت إلى أمير المؤمنين فيما وليه الله به في مخرجه إلى عيده من يوم فطره وما وفّقه له من التقرب إليه بوسائل التذلل في طاعته والاجتهاد في شكره والمناصحة في مخاطبة من حضره وإنصاتهم لوعظه وتذكيره، وما وليه الله به من العافية والسلامة الشاملة، والنعمة الكاملة، والعز الموصول بالسكينة. . . منّا من الله خصّ به
ص555
خليفته وأعطاه فضل مزيّته بما وفّقه له من العدل والنّصفة، والبر والمرحمة، والعطف والرأفة».
وفي هذه الفقرة ما يصوّر كيف أخذ كتّاب الرسائل الديوانية منذ أواسط القرن الثالث الهجري يصطنعون السجع في جوانب من رسائلهم على نحو ما نرى الآن عند سعيد بن عبد الملك، وحقّا أخذ السجع يدخل في الرسائل الشخصية منذ القرن الثاني كما صوّر ذلك كتابنا العصر العباسي الأول على نحو ما يلقانا في رسالة ابن سيابة المشهورة. ولكن الرسائل الديوانية ظلت تكتب بأسلوب مرسل، يشيع فيه أحيانا الازدواج، أما السجع فيندر أن نلتقى به في تلك الرسائل، وكأن الأذواق أخذت تستعد لشيوعه وانتشاره في الكتابة الديوانية لهذا العصر.
ويخلف المهتدى المعتمد. ويظل وزيرا له، كما كان وزيرا لسابقه، سليمان بن وهب، ويقول الفخري (15) عنه: أحد كتّاب الدنيا ورؤسائها فضلا وأدبا وكتابة وأحد عقلاء العالم وذوي الرأي منهم، ويروى عنه أنه كان يكتب، في أول عهده بالعمل، بدواوين الدولة بين يدى محمد بن يزداد وزير المأمون. وكان إذا انصرف في الليل إلى داره ناب عنه في دار المأمون أحد الكتاب الصغار بالنوبة لمهمّ عساه يعرض في الليل. يقول سليمان: وبينما أنا نائب عنه في إحدى الليالي إذ طلبني المأمون. فقال لي: اعمل نسخة في المعنى الفلاني، ووسّع بين سطورها وأحضرها لأصلح منها ما أريد إصلاحه، فخرجت سريعا وكتبت الكتاب وبيّضته وأحضرته إليه.
فلما رآني قال: كتبت مسوّدة؟ قلت: بل كتبت الكتاب، فقال: بيّضته؟ قلت: نعم، فزاد في نظره إليّ كالمتعجب مني. فلما قرأه تبينت الاستحسان على وجهه. وقال: يا صبىّ لا أدرى من أي شيء أعجب أمن سرعة فهمك أم من حسن خطّك. بارك الله فيك. ونعجب أن يظل سليمان بن وهب يعمل في الدواوين ويكتب رسائل ديوانيه مختلفة حتى عصر المعتمد ومع ذلك لا تحتفظ له كتب الأدب برسالة واحدة من تلك الرسائل، وحتى رسائله الشخصية لم تحتفظ منها إلا بما كتبه شعرا على نحو ما يلاحظ قارئ ترجمته في الأغاني. وإلا فقرة نثرية من كتاب اعتذار على هذا النحو (16):
ص556
«أنا مقرّ معترف، فما تراك صانعا بمن أعلقك زمامه، وأمكنك من قياده، وحكّمك في أمره، معاقبا له أو متفضّلا عليه بالعفو عنه؟ لكني أرجو أن أستقبل طاعة لا تمتنع من شكرها، واغتفار كل تقصير خلا في جنبها، فالأيام بما تحبّ أمامك».
والقطعة قصيرة، ولكنها على كل حال تصوّر صياغة جزلة رصينة، كما تصوّر ذوقا مهذبا في الاعتذار والاستعطاف، حتى ليجعل زمامه وقياده بيد صديقه ويحكّمه في أمره، وله الخيار إما أن يعاقب، وإما أن يتفضل بالعفو. وكان يكتب بين يديه حين وزر للمعتمد أبو العباس أحمد بن ثوابة، وهو من أعلام الكتّاب في العصر، وسنخصه في الفصل التالي بحديث مستقل.
وكان يلي وزارة المعتضد عبيد الله بن سليمان بن وهب. وفيه يقول الفخري (17):
«من كبار الوزراء ومشايخ الكتاب، وكان بارعا في صناعته حاذقا ماهرا لبيبا جليلا، ماتت للمعتضد جارية كان يحبها فجزع عليها، فقال له عبيد الله بن سليمان: «مثلك-يا أمير المؤمنين-تهون المصائب عليه، لأنك تجد من كل مفقود عوضا، ولا يجد أحد منك عوضا، وكأن الشاعر عساك بقوله:
يبكي علينا ولا نبكي على أحد … لنحن أغلظ أكبادا من الإبل»
وليس بين أيدينا من رسائل عبيد الله الديوانية إلا رسالة كان قد أمره المعتضد بإنشائها في لعن معاوية، حتى يقرأ بها الخطباء بعد صلاة الجمعة على المنابر، وقد استهلّها عبيد الله بالتحميد قائلا (18):
«بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله العلي العظيم. الحليم الحكيم العزيز الرحيم. المنفرد بالوحدانية. الباهر بقدرته. الخالق بمشيئته وحكمته، الذي يعلم أسرار الصدور وضمائر القلوب لا تخفى عليه خافية. ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات العلا. ولا في الأرضين السّفلى، قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، وضرب لكل شيء أمدا. وهو العليم الخبير.
والحمد لله الذى برأ خلقه لعبادته. وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه فى
ص557
طاعة مطيعهم، وماضي أمره في عصيان عاصيهم، فبيّن لهم ما يأتون وما يتّقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذّرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجة، وقدّم إليهم المعذرة، واختار لهم دينهم الذى ارتضى لهم وأكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه وأهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له أعداءه وأهل معصيته {(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)}. والحمد لله الذى اصطفى محمدا رسوله من جميع بريّته، واختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى إلى عباده أجمعين، وأنزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتأذّن له بالنصر والتمكين، وأيّده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى، واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضلّ من {(أَدْبَرَ وَتَوَلّى)} حتى أظهر الله أمره، وأعزّ نصره، وقهر من خالفه، وأنجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤدّيا لأمره، مبلغا لرسالته، ناصحا لأمته، مرضيّا مهتديا إلى أكرم مآب المنقلبين، وأعلى منازل أنبيائه المرسلين، وعباده الفائزين، فصلّى الله عليه أفضل صلاة وأتمّها، وأجلّها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين».
ويكثر السجع في مقدمة هذه الرسالة التي كتبت لسنة 284 وهو شيء طبيعي، فقد دخل السجع الرسائل الديوانية، وحقّا لم يطّرد فيها بعد، حتى في هذه الرسالة نفسها فإن عبيد الله تخلص بعد ذلك منه في الرسالة. وقد مضى يصور استجابة بنى هاشم للرسول عليه السلام حين دعا قومه للهدى ومؤازرتهم له ومناصرتهم بينما كان ممن عانده ونابذه وكذبه وحاربه أبو سفيان بن حرب وأشياعه من بنى أمية، حتى علت كلمة الله وهم لها كارهون. ثم يذكر آثارا في ذم أبى سفيان وابنه معاوية وما كان من حربه لأفضل المسلمين في الإسلام مكانا وأقدمهم إليه سبقا وأحسنهم فيه أثرا وذكرا على بن أبى طالب. ويذكر أعمال معاوية وكيف أنه أباح المحارم ومنع الحقوق أهلها وقتل صبرا نفرا من خيار التابعين ويعرض أعمال يزيد بن معاوية وإيقاعه بأهل الحرّة وسفكه دم الحسين مع موقعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، اجتراء على الله وكفرا بدينه وعداوة لرسوله ومجاهدة لعترته واستهانة بحرمته. ويذكر ما كان من
ص558
بنى مروان من تعطيل كتاب الله وأحكامه ونصبهم المجانيق على بيته ورميهم له بالنيران استباحه وانتهاكا، ويختمها بقوله:
«أيها الناس بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم أمر الله، ونحن ورثة رسول الله والقائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه. وانفذوا لما نأمركم به، فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وأئمة الهدى على سبيل الإيمان والتقوى. وأمير المؤمنين يستعصم الله لكم. ويسأله توفيقكم. ويرغب إلى الله في هدايتكم لرشدكم وفى حفظ دينه عليكم. حتى تلقوه به مستحقين طاعته مستحقبين (حاملين) لرحمته».
وراجع المعتضد نفسه، وخشى أن يجمع الكتاب قلوب العامة حول العلويين، لما كان لجدّهم على بن أبى طالب من بلاء عظيم في إعلاء كلمة الله وإلقاء كفار قريش له عن يد وهم صاغرون. وفى الكتاب إطراء عظيم له ولأبنائه. فأمسك عما كان عزم عليه. وواضح من الفقرة الأخيرة أن عبيد الله كاتبه، إن كان تخلص من السجع بعد تقديمه فإنه ظل يحتفل بصياغته، ويبدو أنه كان يستخدم السجع في جوانب من كتابته في الحين بعد الحين. وخاصة في توقيعاته. فقد كتب إليه أبو العيناء يذكّره بأمره وأنه من زرعه وغرس يده. فوقّع في رقعته (19):
«أنا-أسعدك الله-على الحال التي عهدت، وميلي إليك كما علمت، وليس من أنسيناه أهملناه. ولا من أخّرناه تركناه. مع اقتطاع الشغل لنا، واقتسامه زماننا، وكان من حقك علينا أن تذكّرنا بنفسك، وتعلمنا أمرك، وقد وقّعت لك برزق (راتب) شهرين لتزيح علتك وتعرّفني مبلغ استحقاقك، لأطلق لك باقي أرزاقك، إن شاء الله، والسلام».
والتوقيع-كما هو واضح-سجع خالص، وسنرى عما قليل أن سريان السجع في الرسائل الشخصية طوال القرن الثالث الهجري كان أقوى منه في الرسائل الديوانية، حتى إذا كان عصر المقتدر (295 - 320 هـ) أخذ السجع يعم في جميع ما يصدر من الرسائل الديوانية، فليس هناك وزير ولا كاتب في الدواوين إلا وهو يتأنق في كتابته ويبالغ في تأنقه حتى يجعل كتابته سجعا خالصا. وبذلك
ص559
أخذ كل ما يصدر عن الخليفة منذ سنة 300 للهجرة يوشّى بالسجع (20)، وبالمثل ما يصدر عن وزرائه وفى مقدمتهم ابن الفرات. وكان على بن عيسى الوزير لا يقل عناية عنه بالسجع، وقد ذكر له الهلال مجموعة كبيرة من رسائله كلها مسجوعة. ومثله وزير المقتدر الثالث الخاقاني، فقد كان شغوفا بالسجع شغفا شديدا، وتروى له في ذلك نوادر كثيرة، منها أن عامل النيل أحد فروع الأنهار في العراق تأخر في حمل غلّة إليه، فكتب إليه هذه العبارات: «احمل الغلّة، وأزح العلّة، ولا تجلس متودّعا في الكلّة (الستر)» ولا حظ أنه قد حشر الكلة في الكلام لاستكمال السجع، فالتفت إلى الكاتب وقال له: أفي النيل بق يحتاج إلى كلل؟ فقال له الكاتب مداجيا مرائيا: إي والله وأي بقّ، ومن أجله يلزم الناس الكلل ليلا ونهارا (21). ووقّع في رسالة وجّه بها إلى بعض عمّاله:
«الزم-وفّقك الله المنهاج، واحذر عواقب الاعوجاج، واحمل ما أمكن من الدّجاج، إن شاء الله»، وكان أن حمل العامل إليه دجاجا كثيرا، فقال: هذا دجاج وفّرته بركة السجع (22). وكان الولاة يقلدون الوزراء في هذا البدع الجديد فقد ذكر الرواة أن الوالي على كور الأهواز كتب إلى على بن عيسى كتابا سجع فيه، فكتب إليه وقد صمّم على عزله: «عوّلت بنا على كلام ألّفته، وخطاب سجّعته أوجب صرفك عما توليته (23)».
وكان كتّاب الدواوين على شاكلة الوزراء يسجعون في كتاباتهم، وفى مقدمتهم محمد بن جعفر بن ثوابة القائم على ديوان الرسائل لعهد المقتدر والمتوفى سنة 312، وكان في باكورة حياته يكتب بين يدي عبيد الله بن سليمان بن وهب، وكلّفه أن يجيب على كتاب خمارويه حين أنفذ ابنته إلى المعتضد، فقال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها:
«وأما الوديعة فهي بمنزلة شيء انتقل من يمينك إلى شمالك، عناية بها، وحياطة عليها، ورعاية لمودتك فيها»، ورآه عبيد الله يعجب بهذه العبارات،
ص560
فأخذ ينقدها له قائلا: «تفاءلت لامرأة زفّت إلى زوجها بالوديعة، والوديعة مستردّة. وقولك من يمينك إلى شمالك أقبح، لأنك جعلت أباها اليمين وأمير المؤمنين الشمال، ولو قلت: بمنزلة شيء انتقل من حال إلى حال لكان أحسن. وكان خيرا من ذلك كله أن تقول:
«وأما الهدية فقد حسن موقعها منا، وجلّ خطرها عندنا، وهى وإن بعدت عنك بمنزلة ما قرب منك لتفقّدنا لها، وأنسنا بها، ولسرورها بما وردت عليه واغتباطها بما صارت إليه» لكان أحسن» (24).
وواضح ما حمل نقد عبيد الله بن سليمان إلى الشاب في مطالع عمله بالدواوين من؟ ؟ ؟ قوى إلى العناية بصياغته ومعانيه وكأنه هو الذي حمله على أن يأخذ نفسه بتكلف شديد. ومعروف أن عبيد الله توفى سنة 278، ولا نصل مع محمد بن جعفر إلى عصر المقتدر، حتى يصبح أكبر كاتب في دواوينه، وحتى يعهد إليه بتولى ديوان الرسائل، ويأخذ حينئذ نفسه بالحرص على السجع في كل ما يصدر عنه، على نحو ما يصوّر ذلك منشور وجّهه باسم الخليفة المقتدر إلى العمّال في البلدان المختلقة ينوّه فيه بابن الفرات في وزارته الثانية لسنة 304، وفيه يقول (25):
«لما لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه، ولا للملك بدّا منه. وكان كتّاب الدواوين على اختلاف أقدارهم، وتفاوت ما بين أخطارهم مقرّين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحوّل القلّب، المحنّك المجرّب، العالم بدرّة المال كيف نحلب، ووجوهه كيف تطلب، انتضاه (26) من غمده، فعاود ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها».
فالسجع أصبح ظاهرة عامة في الرسائل الديوانية، ويبدو أن ابن مقلة وزير المقتدر والخلفاء من بعده كان يستخدمه، إن لم يكن دائما ففي الحين بعد الحين، وكان كاتبا بليغا، وفيه يقول الصولي: «ما رأيت وزيرا منذ توفّى القاسم بن عبيد الله
ص561
ابن سليمان بن وهب (وزير المكتفي) أحسن حركة، ولا أظرف إشارة، ولا أملح خطّا، ولا أكثر حفظا، ولا أسلط قلما، ولا أقصد بلاغة ولا آخذ بقلوب الخلفاء من ابن مقلة» (27) وهو صاحب الخطّ الذي تضرب به الأمثال، وهو أول من نقله من الوضع الكوفي إلى الوضع الذي شاع في العالم العربي، وكان أول من رفع من قدره أبو الحسن بن الفرات، وخاصة في وزارته الثانية آنفة الذكر، حتى علت حاله وعرض جاهه، ولكنه عاد فاستوحش منه ونكبه. ثم خلص من المحنة، واستوزره المقتدر ومن جاءوا بعده، واحتفظ له كتاب النجوم الزاهرة برسالة أنفذ بها إلى ابن الفرات وقد طالت به المحنة، تجري على هذا النمط (28):
«أمسكت-أطال الله بقاء الوزير-عن الشكوى، حتى تناهت البلوى، في النفس والمال، والجسم والحال، إلى ما فيه شفاء للمنتقم، وتقويم للمجترم، حتى أفضيت إلى الحيرة والتبلّد، وعيالي إلى الهتكة والتشرد. وما أبداه الوزير -أيّده الله-في أمري إلا بحقّ واجب، وظنّ غير كاذب. وعلى كل حال فلى ذمام وحرمة، وصحبة وخدمة إن كانت الإساءة أضاعتها فرعاية الوزير، أيّده الله تعالى بحفظه، ولا مفزع إلا إلى الله بلطفه، وكنف الوزير وعطفه، فإن رأى-أطال الله بقاءه-أن يلحظ عبده بعين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، وتخليصها من العذاب الشديد، والجهد الجهيد، ويجعل له من معروفه نصيبا، ومن البلوى فرجا قريبا».
وكأن السجع أصبح لغة جميع الرسائل منذ أوائل القرن الرابع للهجرة، بل مع أواخر القرن الثالث، فليس هناك كاتب إلا ويسجع، وإن فاته السجع في مكان من رسالته عاد إليه في الأمكنة الأخرى. وقد خلف محمد بن جعفر بن ثوابة ابنه أحمد منذ سنة 312، وظل على ديوان الرسائل من بعده إلى أن توفى سنة 349، فخلفه عليه أبو إسحق الصابي. ولا ريب في أن أحمد مضى في إثر أبيه يسجع في رسائله وكل ما يصدر عنه من كتابات ديوانية، وقد بقيت منها بقايا قليلة تصور سجعه وإغراقه فيه من مثل قوله في وصف فتح (29):
ص562
«فلم يُسفر العَجاج (30) إلا عن قتيل مرسل، أو غريق معجّل، أو جريح معطّل، أو أسير مكبّل، أو مستأمن محصّل، أو حقيبة ملأها الله بلا تعب، أو غنيمة أفاءها الله بلا نصب».
وواضح من كل ما قدمنا أن السجع أصبح منذ خلافة المقتدر اللغة العامة للدواوين، فالرسائل تمتلئ بزخارفه ولآلئه. إذ غدا المثل الأعلى للجمال الفني في الكتابة الديوانية، فلابد فيها من قوافيه وفواصله، ولا بد من تساوق أنغامه وألحانه في الكلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبري 9/ 200.
(2) الطبري 9/ 241.
(3) مخمصة: جوع شديد.
(4) الطبري 9/ 247.
(4) الفخري ص 182.
(5) الطبري 9/ 367.
(6) غيابة: غشاوة.
(7) جريرة جارمكم: جريمة مذنبكم
(8) ضرام: وقود.
(9) حسمت: قطعت.
(10) استجرت: اجترت.
(11) دعيت نزال: كناية عن احتلام اضرب.
(12) كلحت: كثرت.
(13) الفهرست ص 188.
(14) جمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت 4/ 300.
(15) الفخري ص 183.
(16) جمهرة رسائل العرب لأحمد زكى صفوت 4/ 321.
(17) الفخري ص 189.
(18) الطبري 10/ 55.
(19) زهر الآداب 1/ 291.
(20) تاريخ الوزراء للهلال بن المحسن ص 337 وما بعدها.
(21) تاريخ الوزراء ص 277.
(22) نفس المصدر والصفحة.
(23) تاريخ الوزراء ص 335.
(24) معجم الأدباء 18/ 98 وزهر الآداب 2/ 289.
(25) معجم الأدباء 18/ 97 وانظر رسالة أخرى له مسجوعة في الهمداني ص 20.
(26) انتضاه: سله.
(27) النجوم الزاهرة 3/ 268.
(28) النجوم الزاهرة 3/ 268.
(29) الهمداني: تكملة تاريخ الطبري ص 158.
(30) العجاج: غبار الحرب.