أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-6-2016
8240
التاريخ: 2024-08-24
431
التاريخ: 5-12-2017
4659
التاريخ: 2023-02-20
1087
|
بات من المسلَّم به ان الفقه الإسلامي باصوله وجزئياته يحث على المعرفة وضرورة التزود بهما، وهذا الامر من الاصول التشريعية التي قام عليها الدين الاسلامي، وقد أكدت هذا الامر الآية الكريمة ((ُقلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) ومن الاحاديث النبوية الشريفة (1)، ومع هذا فقد ظلت حقوق الابتكارـ النتاج الفكري ـ بعيدة عن البحث والتحليل المعمق فترة طويلة من الزمن، الا انه وامام أنتشار الطباعة والنشر وازدهار صناعة التاليف والترجمة في المجتمعات الانسانية ،كان لابد لفقهاء الشريعة وعلمائها من الوقوف والتصدي لتحليل هذه الحقوق وتحديد موقف الشريعة منها، على اعتبار قواعدها مرنة التطبيق تصلح لكل زمان ومقام بحيث انها قادرة على معالجة امور ومستجدات لم تكن موجودة من قبل ، وعلى هذا الاساس اخذ المحدثون من العلماء بتحديد مركز هذه الحقوق وتحليل عناصرها فتولدت عن هذه الدراسات جملة من الاراء والاتجاهات، نحاول عرضها في اتجاهين: أحدهما يرفض الانتفاع بهذا النوع من الحقوق، والاخر مؤيد لها ولكل منهما ادلته وسنده . ولابد لنا من القول في هذا المقام، بان الفقهاء المسلمين اجمعوا على وجوب نسبة الابتكار الى من انتجه اعترافا له بحقه الادبي ،الذي يعدُّ عندهم من اصول طلب العلم المتجسد بالأمانة العلمية في التخريج وتحريم السرقات و انتحال النصوص وهذه الامور من دواعي الكيان الشخصي للمسلم والذي اوجبت الشريعة صيانته والحفاظ عليه (2).فالاختلاف بين الفقهاء المسلمين دار حول امكانية المؤلف او المترجم من الانتفاع ماليا بما انتجه فكرة وفي هذا الاطار فقد وجد اتجاهين لتحديد مركز هذا الحق وطبيعته، وسنوضح ذلك في بنود ثلاثة .
البند الاول
الاتجاه الرافض
ذهب هذا الاتجاه الى عدم اعتبار هذا الحق من الحقوق المالية وبالتالي عدم شرعية المردود المالي له، فقد حرم هذا الاتجاه الانتفاع بهذا النوع من الحقوق (3)، ويستند اصحاب هذا الراي الى الأدلة الاتية :-
1.الدليل الاول : عدم كتمان العلم
يُستمد هذا الدليل من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة فقوله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(4) اما السنة النبوية الشريفة، فيقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه ابو هريرة () ( ومن كتم علما يعلمه الجم يوم القيامة بلجام من نار) (5)، وصفوة القول من هذين الدليلين ان في حقوق الابتكارـ التاليف والترجمة ـ كتماناً وحرماناً المسلمين من الانتفاع منها فالمؤلف قد يحبس مصنفه عن الانتشار والذيوع اذا لم يحصل على نفع مادي، ويضيف اصحاب هذا القول بان حقوق الابتكارـ التاليف والترجمةـ ظهرت في العهود القريبة فاخذ الناس يتسارعون الى عدم نشرها مالم يحصلوا على النفع المالي منها وفي هذا كتمان للعلم ونشره ،وبالتالي حرمان المسلمين منه، ونشره فريضة وواجب على كل مسلم (6).
2. الدليل الثاني : اكرام العلماء واجلالهم
في هذا الدليل استندوا الى وجوب إكرام العلماء، فالخلفاء المسلمون في عصور الخلافة الاسلامية كانوا يكرمون العلماء والمؤلفين ويجلُّوهم ويهبون لهم العطايا والاموال، بما يعنيهم في امور دنياهم، فضلا عن الاحترام والتقدير الكبيرين للعلماء والمؤلفين، فالعلم ليس صناعة كسائر الصناعات انما هو عبادة والعالم، هنا، لابد من انصرافه الى طلب العلم ونشره من دون مقابل، فالولاة والخلفاء على بيت المال يكفلون عيشهم (7) ،واستندوا في ذلك الى قوله تعالى (يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)(8) وايضا قول النبي عليه الصلاة والسلام ( ليس من امتي من لم يجل كبيرنا ويحترم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه )(9) .
3. الدليل الثالث : القياس على الشفعة
اعتمدوا في هذا الدليل على القياس، فقاسوا حق الابتكار ـ التاليف والترجمة ـ على حق الشفعة، فكما ان الشفعة من الحقوق المجردة التي لايجوز العوض ـ المقابل ـ فيها كذلك الامر بالنسبة لهذه الحقوق من عدم جواز اخذ منفعة مقابل القيام بها (10).
4. الدليل الرابع : الاعتماد على الملكية
استند القائلون بهذا الاتجاه، على أن صاحب الابتكار الذي يبيع نتاجه ـ كتابة ـ الذي ابتكره لاخر، ويقوم هذا الاخير بطبعه ونشره بدون اذنه، فالتصرف، هنا، جائز لانه تصرف في ملكه وان تسبب في خسارة لصاحب الابتكار، فما حصل هنا انما هو الحد من الربح الذي الذي عاد على المبتكر، فالربح شيء والخسارة شيء اخر ،ولايرى الشيخ النبهاني ( رحمه الله ) (( لصاحب الكتاب الاسلامي أي حق ويبيح لاي ناشر فردا كان او مؤسسه ان ينشر الكتاب كما شاء من اجل ترويح الفكر الاسلامي وتحريره من كافة القيود لكي يصل الى اكبر قدر ممكن من الناس)) (11). نرى ان الشيخ النبهاني رحمه الله يبيح، هنا، نشر المؤلفات الاسلامية دعما لتحرير الفكر الاسلامي وتوسيع دائرة الاطلاع عليه خدمة للدين الاسلامي. ولم ياخذ بنظر الاعتبار مصير المؤلفات غير الاسلامية والتي لايمكن استغلالها والتصرف بها بالنشر الا بعد الاذن والمقابل، فأصحاب هذا القول، لا يعطون صاحب النتاج الفكري ـ المؤلف ـ الحق في منع الغير من اعادة طبع الكتاب ونشره ولايحق له ايضا ان ياخذ عوضا عن ذلك مادام هذا الامر فيه نشر للعلم ،ومع هذا فهم يمنعون الناشر او الطابع من ان ينسب الحق في الابتكارـ الكتاب ـ إلى غير مؤلفة لان هذا محرم شرعا. وخلاصة هذا الاتجاه، انه يحرم على اصحاب الابتكار ـ المؤلفين والمترجمين ـ من الانتفاع ماليا بهذه الحقوق لانها من الاعمال التعبدية التي يقترب بها العبد الى ربه ،وهي في الوقت ذاته حقوق مجردة لايجوز العوض فيها او التنازل عنها ، مما يساعد على نشر العلم وخدمة المجتمع المسلم .
البند الثاني
الاتجاه المؤيد*
يذهب اصحاب هذا الاتجاه الى اعتبار هذه الحقوق بمثابة المال فجوزوا المعاوضه والانتفاع منه شرعا وادلتهم في ذلك :-
1.الدليل الاول : اعتبار حقوق التأليف والترجمة من المنافع
اعتبروا حقوق الابتكارـ التاليف والترجمة ـ من المنافع وهي عند الجمهور الفقهاء (12) ، تعتبر اصولا وبالتالي يجوز المعاوضه عنها فهي مال بالنسبه لهم ،فهذا النوع من النتاج الذهني يعود بمنافع ملموسة على المجتمع كافة وعلى الفرد المسلم بوجه الخصوص، فالمؤلف بنتاجه يحقق منفعة للقاري بزيادة معرفته واطلاعه على افكار ومعارف جديدة وبالتالي توعيته وسدّ حاجاته وإشباع رغباته بالتعلم (13)، فقد اجاز الجمهور بيع المنافع، فهم لا يشترطون في البيع ان يكون عينا معينةً ،وهذا الامر متحقق في حقوق الابتكار، فهو صورة ذهنية ومعاني مجردة مستمدة من العقل البشري ،وهي لا تقوم بنفسها ولا يمكن الاستدلال بها حسياً الا بعد اضافتها الى مصدرها الذي تجسد في مصنف ما، فالانفصال عن صاحبه واستقلال له في شكل مادي يمكن الاستعاضة عنه والانتفاع به ماديا (14) ،فتصبح بذلك من الحقوق العينية التي تقابل الحقوق الشخصية مع احتفاظها بوصف المال المعنوي المتميز بخاصية واهمية مستمدة من طبيعته (15) .
2. الدليل الثاني : الاعتماد على العرف
جريان العرف على اعتبار هذه الحقوق والانتفاع بها ، فللعرف بالغ الاثر في قيام القواعد الشرعية والقانونية على حد سواء، وهو يقضي بان من حق صاحب الابتكار الانتفاع بما أنتجه، وهو من الادلة الشرعية المستقرة عند الفقهاء المسلمين واليه يرجع الحكم في كثير من المسائل الفرعية (16)،ويذهب ابن عابدين بالقول:(( والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم يدار)) (17) ،وللحكم بالعرف (18) واستقراه لابد من عدم مخالفته لنص شرعي وان يكون مستقراً ومطردا بين الناس، ومعمولا به ،وان لا توجد قاعدة او نص يقضي بعدم اتباعه . واستنادا إلى هذا، فحقوق الابتكار بموجب هذا التخريج لا تخالف نصا شرعيا بل هو من قبيل الأعمال التي جرى عليها الاطراد والاتباع بين الناس، ثم ان فيها منفعه ومصلحة للمجتمع عامة وللفرد والمسلم خاصية ،وقد لاقى على هذا الاساس ترحاباً عالمياً وهذا ماكدته التشريعات العالمية بسنها القوانين الكفلية بحماية هذا النوع من الحقوق(19)
3. الدليل الثالث : تخريج حق التأليف والترجمة على قاعدة المصالح المرسلة
اعتمدوا في هذا الدليل على قاعدة المصالح المرسلة(20) ،والتي يذهب جانب من العلماء، إلى اعتبارها من الأدلة المعتمدة لبناء الأحكام اللازمة لمواجهة متغيرات الحياة وظروفها من دون الخروج على مبادئ الشريعة واحكامها القطعية، فهي مصدر خِصْب يسعف من يلجا اليه لاستنباط الاحكام الجمعية عند اجتماع المجتهدين (21)،ويجب للأخذ بهذه القاعدة من تحقق الشروط التالية في المصلحة وهي :-
أ-ان تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشريعة فلا تخالف اصلا او دليلا شرعيا
ب-ان يتقبلها العقل السليم اذا ما عرضت عليه
ج. ان تكون محققه أي تجلب منفعة فعلية وتدرء مفسده ،فلا يصح ان تكون غير متوازية فهي عندئذ وهمية (22).
د . ان تحقق نفعاً لاكبر قدر من الناس او تدفع ضررا عنهم .
هـ. أن تدفع حرج لازم اذ لولا ها لوقع الناس في الحرج وهذا تصديقا لقوله تعالى:
(( وما جعل الله عليكم في الدين من حرج))، سورة الحج آية(78)(23) .
فهذه الحقوق كما يقول الدكتور وهبه الزحيلي : ((الانتاج العلمي المبتكر مصلحة عامة حقيقة ومؤكدة بلا ريب فتبنى عليها الاحكام تحقيقا لها وصونا لحقوق اصحابها ))(24) . فحق المؤلف على هذا الاساس، يدور في اطار المصلحة المرسلة لعدم مخالفته مقصدا او دليلا شرعيا بل يتفق وما تسير عليه الشريعة، وهو من ناحية اخرى، مما يقبله العقل السليم لانه معتبر ومحترم عقلا فمن يبذل جهدا يستحق بمقابله منفعة مادية ، فاعطاء المنفعة المادية للمؤلف دافع لمتابعة نتاجه وبالتالي تحقيق الفائدة التي تعود على المجتمع. فالعلم تتعلق به مصلحة عامة ونفع عام حقيقي ومؤكد للامة والمجتمع الانساني على وجه الإجماع ،وان حرمانه من الحصول على المنافع قد يؤدي به الى كتمان العلم وعدم نشره، وهذا فيه جلب مفسدة واضرار بالمجتمع والفرد على حد سواء.
4. الدليل الرابع : القياس على الصانع
يذهب اصحاب هذا الاتجاه الى قياس صاحب التاليف والترجمة على الصانع، فكما ان له الحق في الانتفاع بما صنعه، فكذلك للمؤلف والمترجم الحق في الانتفاع بمؤلفه، فكلاهما بحكم ما انفق من مصاريف وما بذل من جهد ذهني وجسدي في سبيل اخراج المصنوع والمصنف وتداوله، ومن ثم يكون له الحق في استغلاله والانتفاع به ماديا (25). وله على هذا الاساس الانتفاع بما يدره عليه المصنف من ثمار، ولا يحق ذلك لغيره الا بعد حصوله على اذن بذلك او دفع بدل هذا الانتفاع الى من قام بتأليفه وترجمته.
5. الدليل الخامس : للتخريج على القاعدة الغنم بالغرم والخراج بالضمان
ومعنى هذا الدليل، هو ان من ياتي عملا يكون مسؤولا عنه ، فالإنسان يُسأل عما يصدر منه من اعمال واقوال، ويستدل على هذا من قوله تعالى: ((مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )) (26)، فصاحب التأليف والترجمة مسؤول عما يصدر عنه من اراء وافكار فاذا ما تجاوزت حدود الشرع وخرجت عن مقاصد التشريع الاسلامي وسببت ضررا بالفرد والمجتمع استحق عليها الاثم والعقاب في الدنيا والآخرة،أما اذا وافقت مقاصد الشرع وكانت ذات نفع للفرد والمجتمع استحق عنها صاحبها الاجر والثواب المتمثل بالنفع المادي والمعنوي (27). ويبدو ان اصحاب هذا الاتجاه يعتدون بحقوق التاليف والترجمة، بعدِّها مالاً يجوز تقويمه وبالتالي الحصول على منافعه عينا كانت هذه المنافع او نقداً. ويأتي هذا اتفاقاً مع ماقرره الشارع الحكيم من مقاصد وادلة شرعيه الغاية منها تحقيق المصالح التي تعود بالنفع للفرد المسلم والمجتمع ،اذاما استغلت هذه الحقوق بشكل جائز وصحيح لا يخالف مقصدا او نصا شرعياً.
البند الثالث
تقويم الاراء
بعد ان انتهينا من عرض الاتجاهين، سنحاول تقويم اراء وادلة كل منهما والاستنتاجات التي توصلنا اليها ثم الترجيع بعد ذلك .
اولا : مناقشة الأدلة .
ان اعتبار العلم عبادة وقربة الى الله تعالى لا يمنع من نشره وترويجه بين المسلمين، وهذا لا يؤدي الى كتمان العلم وحبسه، فحصول المبتكر -المؤلف والمترجم- على منافع مالية لا يعني بالضرورة احتكار العلم، فالمؤلف جل مقصده من ذلك امرين اولهما نشر العلم وترويجه وثانيهما استثمار ما انتجه ذهنه وقريحته حصولا على المنفعة لسد حاجاته، وهذا دافع وحافز له للاستمرار في بذل جهده للتاليف والابتكار، فيه خدمة للمسلمين والمجتمع على حد سواء (28). ويذهب البروفسور عبد الله الطيب مستشهدا بقوله تعالى: ((وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ))(29)، الى القول بان للمؤلف والمبتكر اخذ مقابل ما قدمه من مبتكرات وكتب وما هذا الا نوعا من انواع الانتفاع بحقوق انتاجه الذهني (30) ،وهذا القول لا يعني اعتبار العلم والمعرفة سبيلا من سبل التجارة او الصناعة، فكونه من العبادات لا يمنع من استحقاق صاحبه للاجر والنفع المالي، بل هو من مقتضيات الشرع الإسلامي، فلكل انسان حقه الثابت في الحصول على ثمرة جهده فكيف اذا كان هذا الجهد ذهنيا وهو بلا ريب اكثر مشقة، ويمكن ان نقيس ذلك على اعطاء الاجر للمعلم والخطيب والامام في المسجد فهو عالم ويقدم العلم والمعرفة ويستحق بالنتيجة الاجر المالي (31) . واذا كان هذا الحق من الحقوق المجردة والتي لايجوز التنازل عنها كما هو الامر في الشفعة، فهذا القول فيه نظر، فقد ذهب الجمهور الى جوار بيع المنافع كما في حق المرور وحق الشرب وهي بالتحديد حقوق مجردة، فالبيع والتنازل يرد على المنفعة التي تدرها هذه الحقوق، وهي المرور أو الشرب هذا من ناحية ثم ان الشفعة ترد على الاشياء المادية وهي حصرا في العقارات وان العبرة من تشريعها دفع الضرر عن الشفيع الذي يخشى ان يجلبه له الجار الجديد، وعلى هذا الاساس فالنتاج الذهني يجوز التنازل فيه والاعتياض عنه خدمة لصاحب النتاج اولا . ونشرا للعلم ودفعا لضرر محقق بالمؤلف يمس مابذله من جهد ومشقة في ايجاد الكتاب والمبتكر واخراجه الى المجتمع (32). أما القول بان المشتري اصبح مالكا للكتاب بعد شرائه وله الحق في التصرف به واعادة نشره وطبعه وهذا لا يسبب خساره للمؤلف فهو امر غير منطقي، فهو اعتداء على حق ذو طبيعة شخصية . لان ما مدون في الكتاب من افكار واراء ما هي إلا انعكاس لقريحة المؤلف وشخصيته ومرتبطة بكيانه وهذا ما أعترف به جمهور الفقهاء ، فالكتاب ما هو إلا وسيلة يتم من خلالها عرض الابتكار والنتاج فما يصدر عن المؤلف ولا يجوز التصرف به، بأي شكل كان، إلا بإذن صاحبه ويأتي هذا تطبيقا لقوله في الحديث المروي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ()إذ انه قال: ((لا يحتلبنَّ احدٍ ماشية أحد بغير اذنه، ايحب احدكم ان تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه ،وانما تحوي لهم ضروع مواشيهم اطعماتهم فلا يحتلبن احد ما ماشية احد الا باذنه)). وفي هذا نهي صريح على ان لاياخذ المسلم من المسلم شيئاً خاصاً به الا بعد اذنه. والشاهد هنا هو القياس على ماتحتويه ضروع الماشية من اللبن وتمثيلها بالخزانة، فكذلك ذهن المؤلف فهو خزانة للعلم الذي يمتلكه وقد خص اللبن لتساهل الناس فيه فكيف الحكم ونحن امام جهد مظني لذهن المؤلف وقريحته فهو اولى ان يمنع الغير من التصرف به الا باذن منه (33) . فالقيام بهذه الاعمال من دون اذن، سيحقق من ناحية اخرى خسارة للمؤلف لعدم حصوله على نفع مالي يقابل ما بذله من مصروفات وجهد مادي كان او معنوي، فالطبع والنشر غير الماذون به يؤدي الى زيادة عدد النسخ المطبوعة على خلاف ما اتفق عليه المؤلف وبالتالي انخفاض سعرها ،وهذه خسارة مؤكدة وضرر بمصلحة مالية محققة تصيب المؤلف ـ المترجم ـ على حد سواء (34) . من خلال هذا العرض يمكن لنا القول، ان للمؤلف والمترجم الانتفاع من نتاجهم الفكري ماليا وهذا ما ذهب اليه الاتجاه الثاني على اعتبار هذا النتاج مالاً يجوز الانتفاع به، فهو لديهم حق انتفاع ولاحاجة لنا لايراد حجج لمناقشة ذلك ،فللمؤلف والمترجم الحق في الانتفاع بنتاجه الذهني وهذا يتفق ومقاصد الشرع الاسلامي باعتبارها منافع، وهو مااكده الحديث الشريف فقد ورد عنه (ص ) قوله : ((اللهم ارزقني علما نافعا))(35)،ثم ان هذا الامر يتفق وما تجرى عليه المصالح المرسلة التي من خلالها يمكن معالجة مستجدات المجتمع ومتغيراته وفق ضوابط جلب المصلحة ودرء المفسدة، وحق المؤلف والمترجم في الانتفاع المالي ما هو الاجلب مصلحة له اولاً، وللمجتمع من خلال نشر العلم، ودرء مفسدة هي احتكار العلم وعدم نشره وبالتالي سيادة الجهل والفساد في المجتمع ،وهو بذات الوقت دافع وحافز له نحو تقديم افضل ما تجود به القريحة الذهنية. وفضلا عن ذلك فقد درج العرف على ضرورة احترام هذا النوع من المنافع واعتبارها موردا للمؤلف تمكنه من الانتفاع بها على وجه يحقق المصلحة وله للمجتمع وهذا مايقضي به القياس ومنطق العقل السليم، فكما ان للصانع الانتفاع ماليا بمصنوعة والذي هو ثمرة جهده البدني والجسماني، فكذلك للمؤلف الانتفاع من نتاجه الذي هو ثمرة جهده الذهني، وهو بلا ريب اكثر من الجهد الذي يبذله الصانع، ان لم يكن موازٍ له او يساويه من حيث البذل والعطاء. وبعد هذا العرض والتحليل يمكن الاستنتاج والترجيح
ثانيا : الاستنتاج والترجيح.
يبدو لنا ان الاتجاه الثاني هو الراجح لدينا، وذلك لما سبق لنا بيانه ، ومن هذا المنطلق فان المترجم نتيجة لما يبذله من جهد في النقل الى لغة اخرى وفق اسلوب وصيغ ابدعها، وافرغ فيها من المعاني التي تكون بحق انعكاسا واثرا لملكاته الذهنية التي تستند على مهارة وقدرة في تفهم خصائص اللغة الاجنبية واساليبها ،فهي بهذا انعكاس لشخصية المترجم، وهي بذات الوقت جهد مبذول في اصل لصورة فكرية قائمة بذاتها ومستقلة بكيانها عن شخص المترجم فهي ابتكار نسبي، كما يذهب الى ذلك االاستاذ فتحي الدريني والاستاذ عبد الحميد طهماز (36) ،والذي يرى بالترجمة وسيلة لنشر الكتاب بلغة اخرى فهي اذا كانت وسيلة فالمترجم له الانتفاع المالي معتمدا في ذلك على نتاجه الفكري النسبي بحدود هذه الوسيلة، وفي اطار القول بان حقوق التاليف والترجمة والنشر حقوقا مالية قائمة على اساس حق الانتفاع فهي بذات الوصف حق انتفاع من نوع خاص وذلك يبدو في النواحي التالية:ـ
فمن ناحية ان المنافع ترد على الاعيان المعينة كالعقارات والسيارات وهي الغرض الظاهر منها ومصدرها الذي تقوم عليه. اما في النتاج الذهني فهي ذهن الشخص وقريحتهه ،فالاولى مادية ملموسة والثانية معنوية غير ملموسة، لايمكن ان تظهر الا في شكل نتاج متجسد في الغالب في مصنف ،وهذا النتاج اساس تطور المجتمعات وتقدمها وهو اساس تفاضل المجتمعات والانسان على حد سواء ،وهذا دليل قوله تعالى: (( هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون)) (37). ومن ناحية اخرى، ان ملك الاعيان دائم ومطلق، وهذا يستند إلى دوام العين ماديا ،على خلاف الابتكار – حق التاليف والترجمة –فهو مؤقت لانه نابع من صميم المجتمع الانساني ومتغيراته والتطور الذي يصيبه بين الحين والاخر، فهو بذلك يستند الى التراث الانساني وهو متغير وزائل بمرور زمن معين لامحالة (38). واخيرا فان السلطات الثلاثة التي تشمل الاستعمال والاستغلال والتصرف تثبت للمالك ابتداءً على تخلف سلطة الاستعمال في حق الابتكار ،وهذا يرجع الى الطبيعة الخاصة التي لاتبيح لصاحبها استعمال حق التاليف الا من خلال نشره على الكافة والا فاننا نكون امام احتكار للعلم والمعرفة . وبعد هذا يتبين لنا،أن صاحب الابتكار يمتلك حقين في نتاجه أولهما، حق ذا اعتبار شخصي مستمد من عائدية هذا النتاج الى شخص المؤلف – المترجم – فماهو الا انعكاسا لمشاعره واحاسيسه الداخلية التي تبرزها قريحته الذهنية بشكل مادي، متجسد في اغلب الاحيان بالمصنف ،وهذا الحق مصان بحكم الشريعة الاسلامية وهو اصل من اصولها ،وهذا بالاتفاق بين المذاهب الاسلامية ،وثانيهما،هو حق الانتفاع المالي بهذا النتاج وهو حق نسبي بالنسبة للمترجم على اعتبار عمله يتصف بالنسبية، لانه قائم على افكار اصلية وان جهد المترجم ينصب على كونه وسيلة لنقل المصنف الى لغة اخرى وفق اسلوب قائم على اختيار الالفاظ بدقة تنسجم مع الاصل الذي نقلت عنه ،فهو وفقا لهذا الوصف شبه انتفاع بالنسبة للمترجم وحق انتفاع تام بالنسبة للمؤلف الاصلي على اعتبار ان الحق بالنسبة اليه، مال تام.أما المترجم فالمال بالنسبة اليه شبه انتفاع بحقوق ترجمته – انتفاع نسبي ـ فحقوق الابتكار في الفقه الاسلامي خليط من حقين – حق مختلط –إن جاز لنا القول بذلك، احدهما يعود الى الاعتبار الشخصي وهو الحق الادبي ،وثانيهما هو الحق بالانتفاع المالي الذي يستند في اساسه على المال عند الجمهور .
_______________
- من الايات الكريمة قوله تعالى (الزمر: من الآية9) ومن الاحاديث النبوية الشريفة قوله صلى الله عليه والة وسلم (( من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له طريقا الى الجنة ))، الامام الحافظ ابن العربي المالكي صحيح الترمذي ،ج 9 ،بيروت (ب .ت )،ص115 . وفي رواية ((من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا الى الجنة ))، ابي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، مج الاول، بيروت (د . ت) ص 24 .
2- د. نواف كنعان ،حق المؤلف، ص 27
3- من المؤيدين لهذا الاتجاه الشيخ تقي الدين النبهاني، د. احمد الحجي الكردي، نقلا عن د. عماد الدين خليل، حقوق التاليف والنشر ،بحوث حقوق الابتكار في الفقه الاسلامي المقارن 3/ط، بيروت ،1981 ،ص 161 .
4- سورة البقرة الاية (159)
5- الامام احمد بن حنبل، مسند الامام احمد، ج 2 ،مصر(د ت) ص 499 –502
6- احمد الحجي الكردي ،حكم الاسلام في حقوق التاليف ،مجلة هدى الاسلام ،مجلد 25 عدد 7-8، 1981 ص 51 .
7- د. فتحي الدريني، بحوث حقوق الابتكار في الفقه الاسلامي المقارنة 1 /ص100 ـ 103 .
8- سورة المجادلة اية (11).
9- الامام احمد بن حنبل ، ج5 ،ص 323.
0- هذا القول مستمد من الفقه الحنفي الذي يعتبر الحقوق المجردة ومنها الشفعة لاتقوم بالمال وبالتالي لايجوز بيعها او التنازل عنها وقد ايد الكردي ،هذا القول احمد الحجي الكردي ،ص 62 .
1- د .عماد الدين خليل، ملاحظات حول حقوق التاليف والنشر ،بحوث حقوق الابتكار في الفقه الاسلامي المقارن 3 /ص 161.
* من اصحاب هذا الاتجاه د .عماد الدين خليل ود. فتحي الدريني ود. مصطفى الزرقاء .
2- فالشافعية اعتبروا المنافع من المال فيجوز بيعها بهذا الوصف فالبيع عندهم ( عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين او منفعة على التأبيد ).
3- ويذهب الزركشي إلى القول بان:( المال ماكان منتفعا به وهو اما اعيان او منافع) انظر، فتحي الدريني، ص 15 ،ويذهب الحنابلة إلى القول: (ان المال مافيه منفعه مباحة لغير حاجة او ضرورة كعقار او جمل) فمناط المالية عندهم هو المنفعة المتحققة وليس العين في حد ذاتها انظر ابن قدامة، المغنى ج5 ص 439 ويضيف الدريني ان المنفعه عند الحنابلة تعتبر اساسا للقيمة ولو كانت ترفيهية ويسيرة كتغريد البلبل او تصويت الببغاء، وهل هذا يقارن بالنتاج الفكري لجهابذة العلماء من حيث النوعية والاثر،انظر فتحي الدريني /1ص22
اما المالكية فقد ذهبوا عند تعريفهم للمال بالقول ان:( ظاهرالمال اذا اطلق يشتمل العين والعرض)، والعرض عندهم منفعة لايمكن عقلا الاشارة اليها حسا. الا اذا اضيفت الى مصدرها وامكن استيفاؤها، انظر في ذلك الرصاع التونسي، شرح حدود ابن عرافه، ط الاولى ،تونس، 1350 هـ، ص 380 ،اما الاحناف فقد ذهبوا إلى تعريف البيع بانه (مبادلة مال بمال) ويذهب ابن عابدين بالقول: (ان البيوع تعريف المال بما يميل اليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، وانه خرج بالادخار المنفعة فهي ملك لامال)، وهذا يعني عندهم عدم جواز بيع المنافع والحقوق المجردة. فالمال عندهم لابد ان يكون عينا انظر، محمد بن عبد الواحد السيواسي شرح فتح القديد، ط2 ،بيروت ( دت) 5/345 ،وايضا، محمد امين، حاشية ابن عابدين ط2 ،بيروت 4/501 ،1386 هـ.
4- د. فتحي الدريني /1 ص27
5- د عبد السلام العبادي، الحقوق في الاسلام ،سلسلة ندوات الحواريين المسلمين، منشور في مجلة ،ماب ،الجزء الاول، سنة 1992 ـ 1993، ص 213.
6- انظر لمزيد من التفصيل كتب اصول الفقه الاسلامي.
7- محمد امين، حاشية ابن عابدين ،ص 215.
8- والعرف ما ألفه المجتمع واعتاده وسار عليه في حياته من قول او فعل وهو والعادة بمعنى واحد عند الفقهاء ،والعرف اما عملي، وهو ما اعتاد عليه الناس من اعمال كعقود الاستصناع واما قولي، وهو ما تعارف عليه الناس في بعض الفاظهم بان يقولوا اشياء ويقصدون بها معنى اخر غير الموضوع لها كأطلاق لفظ الولد على الذكر دون الانثى انظر عبد الكريم زيدان المدخل لدراسة الشريعة الاسلامية، بغداد، 1969 ،ص 201 .
اما شروط العرف فهي:ـ
ان لا يخالف نصا من النصوص الشريعة ولايفوت مصلحة ويجلب مفسدة او ضرر .
ان يكون مطردا او غالبا، والاطراد ان يشيع العرف بين الناس فيكون معروفا ومعمولا به ،اما الغلبه فهي سير اغلب ابناء المجتمع عليه واتباعهم له.
ج.ان لايوجد في العقل او التعامل ما يخالف العرف وهذا ماذهبت اليه القاعدة القائلة ((اما ثبت بالعرف بدون ذكر لاثبت اذا نص على خلافة))، انظر في ذلك مصطفى الزلمي اصول الفقه الاسلامي في تسيجه الجديد ، ج1 ،بغداد، 1998 ،ص 71-80 .
9- د. الدريني، 1 / ص 67 .
20- والمصالح منها معتبراً باقرار الشارع لها كحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ومنها ما الغاها الشارع كما في مصلحة المرابي فلم يشرع لها الاحكام ،. ومنها ما لم ينص الشارع على اعتبارها ولاعلى الغائها، بل سكت عنها فهذه المصالح تسمى بالمصلحة المرسلة.
2- د.مصطفى الزلمي ،ص 131 – 145 ،وايضا عبد الكريم زيدان، ص 98 – 99 .
22- د. هاشم جميل عبد الله ،مسائل في الفقه المقارن، ط 1،بغداد ،1989، ص 51.
23- د.مصطفى الزلمي ،ص 145 147.
24- .د.وهبة الزحيلي ،حق التاليف والنشر والتوزيع ،حقوق الابتكار ،6/ص 188.
25- الشيخ ابي الحسن الندوي ،الاستعراض الفقهي لحقي التاليف والترجمة ، بحوث حقوق الابتكار في الفقه الاسلامي المقارن، 2/ص145.
26- سورة ق، اية ( 18).
27- عبد الحميد طهماز، حق التاليف والتوزيع والنشر والترجمة،بحوث حقوق الابتكار في الفقه الاسلامي المقارن، 5/.174.
28- د. وهبه الزحيلي، 6/ص 198 .
29- سورة النساء، اية ( 6).
30- البروفسور. عبد الله الطبيب ،حقوق المؤلف والتشريع الاسلامي ،مجلة مجمع اللغة العربية ،عدد ،3 الخرطوم، 1998، ص 192.
3- د. فتحي الدريني ، 1/ ص 44 -45.
32- عبد الحميد طهماز، 5/177 - 179.
33- عبدالله الطيب، حقوق المؤلف، ص 193 – 194 .
34- ابي الحسن الندوي، 2/ ص 157.
35- الإمام احمد بن حنبل، ج2 ،ص 498 ـ 501.
36- د.الدريني ، 1/ص 10، عبد الحميد طهماز، 5 /ص 176 - 177
37- سورة النور، آية(9)
38- وقد ذهب الفقهاء المسلمين الى ان الحق في الانتفاع ينقضي بعد مرور ستين سنة قياسا على حق الحكر بعد وفاة المؤلف ،انظر د.فتحي الدريني ،1 /ص121 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|