أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-11-2014
1628
التاريخ: 15-10-2014
2624
التاريخ: 6-05-2015
1582
التاريخ: 27-11-2014
2732
|
نبذة من حياة الرازي : هو الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين الطبرستاني الرازي ، المعروف بـ : فخر الدين الرازي ، وابن الخطيب ، وخطيب الري ، وإمام المشككين . ولد في شهر رمضان عام 544 هـ ، في مدينة الري قرب طهران ، عاصمة إيران ، وإليها نسبته الرازي .
أخذ العلم عن والده ضياء الدين عمر ، وهو من تلامذة البغوي ، وعن الكمال السمعاني والمجد الجيلي وغيرهم ، قام فخر الدين برحلات كثيرة الى خوارزم وبخارى وسمرقند وخجند وغيرها ، وأتقن علوماً كثيرة ، وبرز فيها ، وتقدم وسار ، وقصده الطلبة من سائر البلدان ، وكان له مجلس كبير للوعظ يحضره الخاص والعام (1).
وعلى الرغم من مناظراته للمعتزلة وغيرهم في هذه البلدان ، كان موضع الإحترام والإكبار ، مع وجود التحريض عليه من قبل بعض العلماء الذين كانوا يحاولون أن يهيجوا عليه العامة ، ولذلك ترك بخارى وعاد الى الري حتى أتصل بالسلطان الكبير خوارزم شاه واستقر عنده بخراسان ، وأقام بهرات ، حتى توفي فيها يوم عيد الفطر سنة 606 وقيل : إن الكرامية سقوه السم فمات .
علمه : يعد الرازي من العلماء البارزين في علوم كثيرة ، وصاحب رأي في حقول عديدة . أما الفقه ، فتراه حين مناقشته لآراء فقهاء الأحناف ، بمناسبة تفسير آيات الأحكام ، كيف يظهر علمه ويغلب خصمه . وأما علم الأصول ، فصار إماماً في هذا العلم ، فألف كتاب (المحصول) الذي يشتمل على خلاصة الكتب المهمة في علم الأصول . وأما في علم الكلام ، فاشتهاره في هذا العلم أكثر من اشتهاره بعلم الأصول والفقه . ولا عجب إذ نراه متكلماً في تفسيره وبيانه للمسائل الإسلامية في شتى العلوم . وفي علم الفلسفة ، صرف وقتاً كثيراً لمعرفة القواعد الفلسفية ، ومع أن قراءته للفلسفة لم تكن محض الفهم والعلم بها ، بل كان هدفه الأساسي الرد عليها ، ولكن بما أنه منصف في التعلم والتعليم والإقبال والإعراض ، نراه أفضل نموذج من بين العلماء المنكرين للفلسفة والفلاسفة ، فألف كتباً في هذا الفن مثل : شرح الإشارات ، لباب الإشارات ، والملخص في الفلسفة .
وكان عارفاً بالطب أيضاً ، وترجم للرازي في كتاب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) للقفطي 2 : 23 ، وقال فيه : جيد الفطرة ، حاد الذهن ، حسن العبارة ، كثير البراعة ، وقوي النظر في صناعة الطب ومباحثها .
وقال فيه تلميذه ، قاضي مرند : ثم اشتغل الرازي بعد ذلك لنفسه بالعلوم الحكمية ، وتميز حتى لم يوجد في زمانه أحد يضاهيه . وله كتاب (مسائل الطب) ، وآخر يسمى (الجامع الكبير في الطب) ، وثالث ( التشريح من الرأس الى الخلية) ، وكتاب في (النبض) . ويدل على مهارته في علم الطب ، تفسيره نرى فيه بحوثاً متعددة ، تناسب الآيات في مسائل الطب والعلوم المتعلقة بجسم الإنسان . وأما علمه بتفسير القرآن ، فله مجال واسع ومباحث خاصة ، وسوف نتكلم عليه مفصلاً (2).
منزلته عند العلماء : قال الداودي في وصفه :
المفسر ، المتكلم ، إمام وقته في العلوم العقلية ، وأحد الائمة في العلوم الشرعية ، صاحب المصنفات المشهورة ، والفضائل الغزيرة المذكورة ، وأحد المبعوثين على رأس المائة السادسة لتجديد الدين ، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم ، وقيل : إنه كان يحفظ (الشامل) لإمام الحرمين في الكلام (3).
وجاء في طبقات السيوطي : قال ابن خلكان فيه : فريد عصره ، نسيج وحده ، شهرته تغني عن استقصاء فضائله ، وتصانيفه في علم الكلام والمعقولات سائرة (4).
وقال الأستاذ معرفة في وصف تفسيره : وتفسيره هذا من جلائل كتب التفسير ، وقد استوفى الكلام فيه ، بما وسعه من الاضطلاع بأنحاء المعارف وفنون العلوم ، ولم يدع براعته متجولة في مختلف مسائل الأصول والفلسفة والكلام ، وسائر المسائل الاجتهادية النظرية والعقلية ، وأسهب الكلام فيها بما ربما أخرجه عن حد الإعتدال ، وكثيراً ما يترك وراءه لمة من تشكيكات وإبهامات ، بما يعرقل سبيل الباحثين في التفسير ، ولكنه مع ذلك فتاح لكثير من مغالق المسائل في أبحاث إسلامية عريقة (5).
محبته الخاصة لأهل البيت عليهم السلام : حب أهل البيت اليس مخصوصاً بفرقة دون أخرى ، بل جميع الفرق والمذاهب الإسلامية تحب أهل بيت الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، ولكن في كثير من الكتب لإخواننا من أهل السنة ، لا نرى أثراً واضحاً من هذا الحب ، مثل ما نرى في تفسير الرازي ، فإنه وإن لم يكن شيعياً إمامياً ، ولكنه مسلم معتقد بما يرى أنه من آثار الرسول صلى الله عليه واله وسلم ، فيذكر أهل البيت بإجلال وإكبار ، مما يكشف عن ولاء متين منه للعترة الطاهرة ، الذين هم عدل القرآن العظيم ، حسب ما ورد في الحديث ، ونذكر هنا بعض كلماته الدالة على عنايته الخاصة بأهل البيت :
أ – حين البحث عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، يقول : وأما أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد أهتدى ، والدليل عليه قوله عليه السلام : " اللهم أدر الحق مع علي حيث دار " (6).
ب – ذيل جملة " المودة في القربى " يقول : نقل صاحب الكشاف عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال : " من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا من مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان الى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، الا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة " ، هذا هو الذي رواه صاحب الكشاف ، وأنا أقول آل محمد صلى الله عليه واله وسلم هم الذين يؤول أمرهم اليه ، فكل من كان أمرهم اليه اشد وأكمل هم الآل ، ولاشك أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل (7).
ج – يعقب اسماء ائمة اهل البيت بـ ( السلام عليهم) أو (عليهم السلام) ، وليس هذا في الإمام علي عليه السلام والحسن والحسين فقط ، بل نجد دأبه هذا حين ذكر بقية الائمة ، ففي سورة التكوير يقول : وقال جعفر الصادق عليه السلام : " النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم ظلمات الشهوات " (8). فهو يذكر لفظة (عليه السلام ) بعد ذكر الإمام الصادق عليه السلام.
د – وأيضا في الأقوال التي ذكرها لتفسير (الكوثر) يقول : القول الثالث : الكوثر ، أولاده ، قالوا : لأن هذه السورة إنما نزلت رداً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى : أنه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم (9).
قال الاستاذ معرفة : وأما ما نجده أحياناً من تحامله على الشيعة ، وربما لعنهم بعنوان الروافض ، فلعله من عمل النساخ ، إذ لا يليق بقلب كاتب أديب وعلامة أريب أن يهدر في سفه الهذر :
من يعن بالحمد لم ينطق بما سفه ولم يجد عن سبيل الحلم والأدب (10).
التعريف بالتفسير : التفسير الكبير المسمى بـ : (تفسير مفاتيح الغيب) و(تفسير الرازي) تفسير شامل لجميع القرآن ، وهو من أشهر التفاسير ، ويشتمل على المباحث العقلية المتعلقة بالدين ، ومن جانب آخر فإن تفسير الرازي فريد بين التفاسير لا مثيل له من نوعه ، لتنوعه وشموله لجوانب مختلفة من المباحث والعلوم ، بحيث لا غنى للدارس عن الإطلاع عليه ودراسته والاستفادة منه في فهم كل ما يتعلق بالقرآن ، ويعد هذا التفسير تفسيراً اجتهادياً جامعاً ، لأنه تعرض لمباحث اللغة والإعراب والقراءة والبيان والكلام والأصول والفقه وغيرها ، فأشبع في كل واحد منها القول ، وعقد لكل موضوع يريد بحثه مسألة من المسائل المتعلقة بالآيات ، خصوصاً المسائل الكلامية ، وحاول إثبات مذهبه الأشعري في مقابل المعتزلة والقدرية والشيعة ، ويقع هذا التفسير الضخم في بعض طبعاته في اثنين وثلاثين مجلداً ، وطبع عديدة بأساليب مختلفة .
أستغرق الرازي في كتابة تفسيره عشر سنوات تقريباً ، ويعتبر التفسير موسوعة رائعة علمية إسلامية وقرآنية ، ويشتمل على كثير من البحوث الإسلامية والعلوم الدنيوية والأخروية .
قال الأستاذ معرفة : .... بل الظاهر أنه فسر القرآن كله حتى آخر سورة منه ؛ نظراً لوحدة الأسلوب والمنهج والقلم والبيان ، فضلاً عن الشواهد الموفورة على أن الرازي قد أكمل تفسيره حتى النهاية ، اللهم إلا بعض التعليق مما أضيف اليه بعد ذلك ، فألحق بالمتن في الاستنساخات المتأخرة ، ونذكر شاهداً على ذلك : أنه عند تفسير الآية رقم (22) من سورة الزمر (رقمها 39 ورقم سورة الأنبياء 21) في تفسير قوله تعالى {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر : 22] يقول : واعلم أنا بالغنا في تفسير سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام : 125] في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية (11).
وأمثال هذه العبارة كثير في القسم المتأخر من التفسير (12).
وعلى كل حال فتفسيره هذا يغلب عليه اللون الكلامي الفلسفي ؛ لاضطلاعه بهذين العلمين ، ومن ثم نجده يكثر الكلام في ذلك كلما أتيحت له الفرصة ، فيغتنمها ويسهب في الكلام في مسائل فلسفية بعيدة الأغوار ، بما ربما أخرجه عن حد تفسير القرآن الى مباحث جدلية كلامية ربما كانت فارغة (13).
أقول : روي عنه أنه قال " لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ، فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً ، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن " (14).
ولكن مع هذه كله ، صار تفسيره مجمعاً لآراء المتكلمين ، فهو قد اشتغل بالقرآن ظاهراً وبعلم الكلام مرة أخرى باطناً ، ولا ضير في ذلك لدى أهل التحقيق ؛ لأن كثيراً من أهل التدقيق يستفيدون من هذا التفسير ليعرفوا علاقة المسائل الكلامية بالتنزيل .
أسلوب التفسير : أولاً يذكر اسم السورة ، ومحل نزولها ، وعدد آياتها ، والأقوال التي قيلت فيها . ثم يذكر آية أو آيتين أو مجموعة من الآيات ويشرح الربط بين الآيات ، وبعده يذكر المسائل المتعلقة بالآية ، وقد تبلغ المسائل المطروحة حول الآية عشراً أو أكثر ، وقد يبين هذه المسائل بعناوين مثل : النحو والأصول وسبب النزول واختلاف أوجه القراءات وغيرها ، وهو من أحسن الأساليب التفسيرية ، إذ تتجزأ المسائل وتتركز الأبحاث مفصلة كلاً في محلها ، دون ان يختلط البحث أو تتشابك المطالب ، ومن لا يترك القارئ حائراً في أمره من البحث الذي ورد فيه (15).
مثلاً : في سورة الإخلاص يأتي بهذه المسائل على الترتيب التالي :
1- اسم السورة .
2- ذكر عدد آياتها .
3- ذكر فصول أربعة قبل تفسير الآيات : (الفصل الأول : ثواب القراءة ، الفصل الثاني : ذكر الوجوه المذكورة في سبب نزول السورة ، الفصل الثالث : في أساميها ، الفصل الرابع : في فضائل السورة ).
4- ذكر الآية الأولى مع ذكر ست مسائل حولها ، ثم ذكر الآيات الأخرى مع بعض المسائل حول كل آية .
5- ذكر تناسب الآيات من السورة ، وفوائد الترتيب الموجودة فيها .
6- ذكر تناسب سورة الإخلاص مع سورة الكوثر (16).
منهجه في التفسير : لكي نعرف منهجه في التفسير ، لابد من ذكر أمور كما هي العادة :
1- كان الرازي يعتقد أن الله كونين : كوناً منظوراً ، هو الوجود بما فيه من مظاهر عالم الجماد والحياة ، وكوناً مقروءاً ، هو القرآن الكريم .
وكلما تعمقنا في العالم الأول ازداد فهمنا للعالم الثاني ، ولذا طبق اعتقاده العلمي هذا في تفسيره ، وسخر جميع ما كان معروفاً في ذلك الزمان من حقائق علمية ، لتفسير آي القرآن الكريم (17).
2- إيراد المسائل القريبة والبعيدة من الآية في التفسير .
لم يكتفِ الرازي بما يتعلق بظاهر الآية فحسب ، بل ذكر كل ما خطر بباله أنه يتعلق بالآية تعلقاً ما ، فلأجل ذلك نرى أنه يذكر أموراً كثيرة ذيل آية واحدة يسيرة . فمثلاً يقول الرازي : إعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة – يريد سورة الفاتحة – الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة ، فاستبعدا هذا بعض الحساد ، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد .
ثم أخذ يضرب الأمثلة فيقول : فثبت بهذا الطريق أن قولنا : أعوذ بالله (مشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أزيد )(18).
ويقول ك الباء في بسم الله ، باء الإلصاق ، وهي متعلقة بفعل ، و التقدير باسم الله اشرع في أداء الطاعات ، وهذا المعنى لا يصير ملخصاً معلوماً إلا الوقوف على أقسام الطاعات ، وهي العقائد الحقة ، والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات ، ومع الأجوبة عن الشبهات ، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة .
3- يذكر كلمات المخالفين وأدلتهم بشكل واضح ومفصل ، مع رعاية الإنصاف ، يقول الحافظ بن حجر في لسان الميزان : وكان العرب يعاب بإيراد الشبهة الشديدة ويقصر في حلها ، حتى قال بعض المغاربة : يورد الشبهة نقداً ويحلها نسيئة .... ورأيت في (الإكسير في علم التفسير) للنجم الطوفي ما ملخصه : ما رأيت في التفاسير أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي ، ومن تفسير الإمام فخر الدين ، إلا أنه كثير العيوب ، فحدثني شرف الدين النصيبي ، عن شيخه سراج الدين السرمياحي المغربي ، أنه صنف كتاب المأخذ في مجلدين ، بين فيها ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج ، وكان ينقم عليه كثيراً ، ويقول : يورد شبه المخالفين في المذهب والدين على غاية ما يكون من التحقيق ، ثم يورد مذهب أهل السنة والحق ، على غاية من الوهاء ... قال الطوفي : ولعمري إن هذا دأبه في كتبه الكلامية والحكمية ، حتى اتهمه بعض الناس ، ولكنه خلاف ظاهر حاله ؛ لأنه لو كان اختار قولاً أو مذهباً ما كان عنده من يخالف منه حتى يستر عنه ، ولعل سببه أنه كان يستفرغ قواه في تقرير دليل الخصم ، فإذا انتهى الى تقرير دليل نفسه ، لا يبقى عنده شيء من القوى ، ولا شك ان القوى النفسانية تابعة للقوى البدنية ، وقد صرح في مقدمة نهاية العقول : أنه مقرر مذهب خصمه تقريراً ، لو أراد خصمه تقريره ، لم يقدر على الزيادة على ذلك (19).
وأحياناً يذكر أموراً ذيل بعض الآيات لا دخل لها في تفسيرها ، فمثلاً يذكر أربعة فصول لتفسير آية : { وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } : الفصل الأول : في ترتيب الأفلاك ، الفصل الثاني : في معرفة الأفلاك ، الفصل الثالث : في مقادير الحركات ، الفصل الرابع : في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على الوجود (20) .
4 – الاهتمام ببيان المناسبات ، يمتاز تفسير الرازي بذكر المناسبات بين سورة وسورة وبين آية وآية ، وأحياناً يذكر المناسبة بين اول السورة وآخرها .
مثال الأول : ما ذكره في مناسبة قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 82] ، للآية التي قبلها وهي قوله تعالى : {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 81] ، ذكر المناسبة بين هاتين الآيتين فقال : إعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا ذكر بجانبها آية في الوعد ؛ وذلك لفوائد منها :
أ- ليظهر بذلك عدله سبحانه وتعالى ، لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر ، وجب أن يحكم بالنعيم الدائم للمصرين على الإيمان .
ب – أن المؤمن لابد أن يعتدل خوفه ورجاؤه .
ج – أنه يظهر بوعده كمال رحمته ، وبوعيده كمال حكمته ، فيصير ذلك سبباً للعرفان (21).
ومثال الثاني وهو : تناسب أول السورة مع آخرها ، عند سورة النساء ، يقول : واعلم أن في هذه السورة لطيفة عجيبة ، وهي : أن أولها مشتمل على بيان كما قدره الله تعالى ، فإنه قال : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء : 1] وهذا دال سعة القدرة ، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم ، وهو تعالى : {والله بكل شيء عليم } [النساء : 176] ، وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والألوهية والجلالة والعزة ، وبهما يجب على العبد ان يكون مطيعاً للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف (22) .
مصادره في التفسير
الأول : القرآن الكريم
يستفيد الرازي من القرآن الكريم ؛ ليفسر بعض الآيات ، وإن كان ينتفع بهذا المصدر قليلاً ، فنراه بعد ذكر آية : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة : 128] يقول : المسألة الثانية قوله : " ربنا واجعلنا مسلمين لك " يفيد الحصر ، أي : نكون مسلمين لك لا لغيرك ، وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلماً لأحكام الله تعالى وقضائه وقدره ، وأن لا يكون ملتفت الخاطر الى شيء سواه ، وهذا هو المراد من قول ابراهيم عليه السلام في موضع آخر : {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 77] (23).
وذيل الآية : {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم : 34] يقول : وقال في سورة النحل : {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل : 18] ، ولما تأملت فيه ، لاحت لي فيه دقيقة ، كأنه يقول : اذا حصلت النعم الكثيرة ، فأنت الذي أخذتها ، وأنا الذي أعطيتها ، فحصل لك من أخذه وصفان ، وهما : كونك ظلوماً كفاراً ، ولي وصفان عند إعطائها ، وهما : كوني غفوراً رحيماً ، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفور ، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم ، اعلم عجزك وقصورك ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء (24).
الثاني : السنة الشريفة والآثار المروية
في سورة الكوثر حول جملة (وانحر) يقول : روى الأصبغ بن نباتة على علي عليه السلام قال : لما نزلت هذه السورة ، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم لجبريل : " ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ قال : ليست بنحيرة ، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذ كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السماوات السبع ن وإن لكل شيء زينة ، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة " (25).
الثالث : القواعد الفلسفية والكلامية
في تفسير سورة الإخلاص يقول : نفي كونه تعالى والداً ، مستفاد من العلم بأنه تعالى ليس يجسم ولا متبعض ولا منقسم ، ونفي كونه تعالى مولوداً ، مستفاد من العلم بأنه تعالى قديم ، والعلم بكل واحد من هذين الأصلين متقدم على العلم بالنبوة والقرآن (26).
وفي تفسير آية الكرسي يقول : إنه تعالى حي قيوم ، وكل من كان حياً قيوماً يمتنع ان يكون له ولد ، وإنما قلنا : إنه حي قيوم ؛ لأنه واجب الوجود لذاته ، وكل ما سواه ، فإنه ممكن لذاته ، محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده ، على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى : {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، واذا كان محدثاً مخلوقاً ، امتنع كون شيء منها ولداً له وإلهاً ، كما قال : {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم : 93] ، وأيضاً لما ثبت ان الإله يجب ان يكون حياً قيوماً ، وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً ، لأنه ولد ، وكان يأكل ويشرب ويحدث ، والنصارى زعموا أنه قتل ، وما قدر على رفع القتل عن نفسه ، فثبت أنه ما كان حياً قيوماً ، وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلهاً ، فهذه الكلمة وهي وقوله : " الحي القيوم" جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث (27).
الرابع : الشهود وقواعد العرفان
في سبب دعاء ابراهيم عليه السلام في الآية : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم : 35] يقول : إن الصوفية يقولون : إن الشرك نوعان : شرك جلي ، وهو الذي يقول به المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعليق القلب بالوسائط وبالأسباب الظاهرة ، التوحيد المحض هو : أن ينقطع نظره عن الوسائط ، ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى ، فيحتمل أن يكون قوله : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } المراد منه : أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي ، والله أعلم بمراده (28).
وكذلك نرى الفخر الرازي يفسر كل سورة والناس على لسان بعض العارفين في صفحين من تفسيره (29).
الخامس : العلم التجريبي
كان الفخر الرازي ماهراً في كثير من العلوم الأخروية والدنيوية ، وكان يستفيد من هذه العلوم في تفسير الآيات ، فهو يفسر الآيات بالعلوم التجريبية الموجودة آنذاك ، فمثلاً يفسر جملة : {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم : 34] بذكر مصداق لذلك فيقول : إن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان : منها دماغية ، منها نخاعية ، أما الدماغية فإنها سبعة ، ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ، ثم مما لاشك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة ينقسم الى شعب كثيرة ، وكل واحد من تلك الشعب ايضاً الى شعب دقيقة ادق من الشعرة ، ولكل واحد منها ممر الى الأعضاء ، ولو أن شعبة واحدة أختلت ، إما بسبب الكمية ، أو بسبب الكيفية ، أو بسبب الوضع ، لا ختلت مصالح البنية ، ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جداً ، ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة ، فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى يحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة ، لو فاتت لعظم الضرر عليه ، وعرف قطعاً أنه لا سبيل له الى الوقوف عليها والاطلاع على أحوالها ، وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى : {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } (30).
في هذا النوع من التفسير في الواقع ، ذكر مصداقاً بارزاً من العلوم التجريبية على عدم إمكان إحصاء نعم الله تعالى .
السادس : قول أهل اللغة
في ذيل الآية : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ...} [البقرة : 219] يقول : من الدلائل على أن كل مسكر خمر ، التمسك بالاشتقاقات ، قال أهل اللغة : أصل هذه الحرف التغطية ، سمي الخمار خماراً ؛ لأنه يغطي رأس المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، من وهدة وأكمة ، وخمرت رأس خمراً ؛ لأنها تخامراً العقل ، أي : تخالطه ، يقال : خامره الداء ، إذا خالطه وأنشد لكثير :
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
ويقال : خامر السقام كبده ، وهذا الذي ذكره راجع الى الأول ؛ لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له . فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل ، كما سميت مسكراً ؛ لأنها تسكر العقل ، أي : تحجزه (31).
السابع : التاريخ
ذيل الآية : {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ...} [التوبة : 37] يقول : إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية ، فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، وكان يشق عليهم الأسفار ، ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات ؛ لأن ساير الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة ، فعلموا أن بناء الأمر على رعاية السنة القمرية ، يخل بمصالح الدنيا ، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية ، ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين ، احتاجوا الى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران :
أحدهما : انهم يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً ؛ بسبب اجتماع تلك الزيادات .
والثاني : أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية الى غيره ، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة ، وبعده في المحرم ، وبعده في صفر ، وهكذا في الدور ، حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى الى ذي حجة ، فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران : أحدهما الزيادة في عدة الشهور ، والثاني : تأخير الحرمة الحاصلة لشهر الى شهر آخر (32) .
فهذا التفسير للآية تفسير على حسب الأحداث التاريخية التي كانت تتعلق بما يفعله بعض في الجاهلية .
_____________________
1- راجع : طبقات المفسرين ، للداودي 2 : 216 ، حرف الميم .
2- راجع : مقدمة تفسيره .
3- طبقات المفسرين ، للداودي 2 : 216.
4- طبقات المفسرين ، للسيوطي : 100 ، حرف الميم ، رقم 119.
5- التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2 : 406.
6- التفسير الكبير 1 : 205 ، ذيل المسائل الفقهية المستنبطة من سورة الفاتحة .
7- التفسير الكبير 27 : 166 ، ذيل الآية 23 من سورة الشورى .
8- المصدر السابق 31 : 85 ، ذيل الآية 13 و 14 من سورة التكوير .
9- المصدر نفسه 32 : 124 ، ذيل الآية الأولى من سورة الكوثر .
10- التفسير والمفسرون 2 : 412.
11- راجع : التفسير الكبير 26 : 265 ، ذيل الآية 22 من سورة الزمر .
12- راجع التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2 : 49.
13- راجع : المصدر السابق 2 : 408.
14- راجع : طبقات المفسرين ، للداودي 2 : 217.
15- راجع : التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب 2 : 406 ، والمفسرون وحياتهم ومنهجهم : 655 و 656.
16- راجع : التفسير الكبير 32 : 174 – 185 ، تفسير سورة الإخلاص .
17- راجع : المفسرون حياتهم ومنهجهم ، للأستاذ إيازي : 653.
18- التفسير الكبير 1 : 21و22 ، ذيل الآية بسم الله .
19- لسان الميزان 4 : 427و 428 ، وراجع التفسير والمفسرون ، للذهبي 1 : 294و 295.
20- التفسير الكبير 4 : 180 – 210 ، ذيل الآية 164 من سورة البقرة .
21- راجع : التفسير الكبير 3 : 162 ، ذيل الآية 82 من سورة البقرة .
22- التفسير الكبير 11 : 22 ، ذيل الآية 176 من سورة النساء .
23- التفسير الكبير 4 : 67 ، ذيل الآية 128 من سورة البقرة .
24- التفسير الكبير 19 : 130و 131.
25- راجع : المصدر السابق 32 : 129.
26- التفسير الكبير 32 : 183 و 184.
27- المصدر السابق 7 : 167.
28- التفسير الكبير 19 : 132.
29- المصدر السابق 32 : 186.
30- التفسير الكبير 19 : 129 ، ذيل الآية 34 من سورة ابراهيم .
31- التفسير الكبير 6 : 45 ، ذيل الآية 219 من سورة البقرة .
32- التفسير الكبير 16 : 56 ، ذيل الآية 37 من سورة التوبة .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|