أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-04-2015
1953
التاريخ: 2024-09-08
193
التاريخ: 12-10-2014
1651
التاريخ: 26-04-2015
1785
|
لم نجد في الشبهات التي تناولناها ـ ولا نجد في غيرها ـ ما يمكنه أن يصمد أمام النقد العلمي أو الدرس الموضوعي ولكن مع كلِّ ذلك يجدر بنا أن نقدِّم تفسيراً منطقيّاً لظاهرة الفرق بين القِسم المكّي والقِسم المدني ، وإن كنّا قد ألمحنا إلى جانبٍ من هذا التفسير عندما تناولنا الشبهات بالنقد والمناقشة.
ويحسن بنا ـ قبل ذلك ـ أن نذكر الفروق الحقيقية التي امتاز بها المكّي عن المدني ، سواء ما يتعلّق بالأسلوب أو بالموضوع الذي تناوله القرآن ، ثم نفسِّر هذه الفروق على أساس الفكرة التي أشرنا إليها في صدر البحث ، والتي تقول :
إنّ هذه الفروق كانت نتيجةً لمراعاة ظروف الدعوة والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها؛ لأنّ الهدف والغاية يلقيان ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ بظلّهما على أُسلوب العَرْض والمادة المعروضة.
وتُلخّص هذه الفروق والخصائص التي يمتاز بها المكّي عن المدني غالباً بالأُمور التالية (1) :
1ـ إنّ القِسم المكّي عالج بشكلٍ أساسي مبادئ الشِّرْك والوثنيّة ، وأُسسها النفسية والفكرية ، ومؤدّاها الأخلاقي والاجتماعي.
2ـ وقد أكّد ما في الكون من بدائع الخِلْقة وعجائب التكوين ، الأمر الذي يشهد بوجود الخالق المدبِّر لها.
كما أكّد (عالم الغيب) و(البعث والجزاء) و(الوحي) و(النبوّات) وشرح ما يرتبط بذلك من أدلّة وبراهين ، كما خاطب الوجدان الإنساني ، وما أودعه الله فيه من عقل وحكمة وشعور.
3ـ وإلى جانب ذلك تحدّث عن الأخلاق بمفاهيمها العامّة ، مع ملاحظة مصاديقها الخارجية والجانب التطبيقي منها في المجتمع ، وحذّر من الانحراف ، وذلك مثل :
الكفر والعصيان ، والجهل والعدوان ، والكبر ، وسفك الدماء ، ووأد البنات ، واستباحة الأعراض ، وأكل أموال اليتامى ، ونقص الموازين ، وقطيعة الأرحام ، إلى غير ذلك من موارد الطغيان والهوى.
وعرض إلى جانب ذلك الوجه الصحيح للأخلاق :
كالإيمان بالله والطاعة له ، والعلم والعقل والمحبّة والرحمة والعفو والصبر والإخلاص والعزم والإرادة والشكر ، واحترام الآخرين ، وبرّ الوالدين ، وإكرام الجار ، وطهارة القلب واللسان ، والصدق في المعاملة ، والتوكّل على الله ، وغير ذلك من موارد الخير والصلاح.
4ـ وقد تحدّث عن قصص الأنبياء والرسل ، والمواقف المختلفة التي كانوا يواجهونها من قِبَل أقوامهم وأُممهم في معركة الإيمان والكفر ، وما يستنبط من ذلك من العِبَر والمواعظ.
5ـ إنّه سلك طريق الإيقاع الصوتي ، والإيجاز في الخطاب ، سواء في الآيات أو السور.
ويكاد يكون المدني بخلاف ذلك في هذه الأُمور على الغالب ، وإن كان قد امتاز بالأُمور التالية :
1ـ دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام مع مناقشتهم ، وبيان انحرافهم عن العقيدة والمناهج الحقّة التي أُنزلت على أنبيائهم.
2ـ بيان التفصيلات في التشريع ، التي تتناول الفرد والجماعة ونظام الحكم ، ومعالجة مشاكل العلاقات المختلفة في المجتمع الإنساني ، مثل علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المؤمنين ببعضهم وعلاقتهم مع أعدائهم الداخليين والخارجيين ومع المحايدين ، والعلاقات الزوجية والدولية ، والحرب والهِدْنة والمعاهدات وغيرها ، وتحديد المواقف السياسية والقانونية والأخلاقية منها.
3ـ تناول حركة النفاق في المجتمع الإسلامي وخلفيّاتها الأخلاقية والسياسية ، وأهدافها وظواهرها والموقف السياسي منها.
التفسير الصحيح للفَرْق بين المكّي والمدني :
وحين نريد أن ندرس ظاهرة الفرق بين المكّي والمدني من خلال هذه الخصائص والميزات ، نجد :
أوّلاً :
إنّ هذه الفروق لا تشكِّل حدّاً فاصلاً بين هذين القسمين في القرآن الكريم ، وإنّما هي طابعٌ عام لكلٍّ من القسمين ، وإلاّ فنحن نلاحظ أنّ كلاًّ من القسمين تناول بعض أو كلّ الجوانب الأُخرى للقِسم الثاني ـ بشكلٍ أو بآخرـ انسجاماً مع الأسلوب القرآني العام ، الذي تميّز بمزج الأفكار والمفاهيم ليوجد منها هذا التركيب الفريد المؤثِّر في عمليّة التغيير كما أسلفنا.
ثانياً :
إنّ الدعوة الإسلامية بدأت في مكّة وعاشت فيها ثلاث عشرة سنة ، وهذه المدّة منسوبة إلى زمن نزول القرآن ، تُعتبر في الحقيقة مدّة إرساء أُسس القواعد والمفاهيم العامّة عن العقيدة الإلهيّة ، أو عالم الغيب أو الأخلاق أو السُنن والقوانين التأريخيّة التي تحكم مسيرة التأريخ والمجتمع الإنساني.
وسواء ما يتعلّق بالجانب الإيجابي من ذلك ، كعرض مفاهيم الإسلام عن الكون والحياة والأخلاق والمجتمع ، أو ما يتعلّق بالجانب السلبي ، كمناقشة الأفكار الكافرة أو المنحرفة والباطلة التي كانت تسود المجتمع آنذاك.
وهذه الحقيقة تفرض ـ بطبيعة الحال ـ أن يكون القِسم المكّي مرتبطاً ـ بمادته وموضوعاته ـ بالأُسس والركائز للرسالة الجديدة ، بحيث يكون أكثر شمولاً واتساعاً في تناوله لهذا الجانب من جانب آخر ، وهذا هو الذي يفسّر لنا أيضاً غلبة المكّي على المدني من الناحية الكمّيّة ، مع أنّ المدّة المدنيّة تبدو ـ تأريخيّاً ـ وكأنّها زاخرةٌ بالأحداث الجسام ، والمجتمع المدني أكثر تعقيداً ومشاكل؛ لأنّ القرآن في القِسم المدني لم يكن بحاجةٍ كبيرة إلى تناول تلك الأُسس والركائز ، بعد أن كان قد تناولها في القِسم المكّي باستيعاب.
ثالثاً :
إنّ عمليّة التغيير الاجتماعي كانت بحاجة ـ على أساس الفكرة التي أشرنا إليها في بداية هذا الفصل ـ إلى أن تهتم بمراعاة الظروف ، وطبيعة المجتمع التي تتناوله عمليّة التغيير ، وتركِّز على القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية ، والأمراض الأخلاقية التي يعيشها ذلك المجتمع ، حتّى يتحقّق هذا التغيير بشكل مناسب.
وبذلك يمكن تفسير الخصائص السابقة التي أشرنا إليها في الفَرْق بين المكّي والمدني.
فأمّا بالنسبة إلى الخصّيصة الأُولى :
نلاحظ أنّ المجتمع المكّي كان مجتمعاً يتّسم بطابع الوثنيّة في الجانب العقيدي ، فكان من الطبيعي تأكيد فكرة رفض الشرك والوثنيّة ، والدخول في مناقشة طويلة معها بأساليب وطُرُق شتّى.
إضافةً إلى أنّ إيضاح الموقف تجاه العقيدة الوثنيّة يشكِّل نقطةً أساسيّةً في القاعدة للرسالة الجديدة ، لأنّها تتبنّى التوحيد الخالص أساساً لكلِّ جوانبها وتفصيلاتها الأُخرى.
وبالنسبة إلى الخصّيصة الثانية :
نلاحظ أنّ المجتمع المكّي لم يكن يؤمن بفكرة الإله الواحد ، كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي ، وغير ذلك من شؤون عالم الغيب ، والتأثير المتبادل بينه وبين عالم الطبيعة وحياة الإنسان الاجتماعية ، وهذه الأفكار من القواعد الأساسية للرسالة والعقيدة الإسلامية.
إضافةً إلى أنّ مجتمع أهل الكتاب كان يؤمن بهذه الأُصول جميعها مع بعض الاختلاف في تفصيلها ، فكان من الضروري أن يؤكِّد القِسم المكّي تأسيس هذه الأُصول ، وتوضيح المفاهيم العامّة عنها ، انسجاماً مع طبيعة المرحلة المكّيّة التي تُعتبر مرحلةً متقدِّمة ، كما أنّ بيانها في هذه المرحلة يجعل المرحلة الثانية المدنيّة في غِنىً عن بيانها مرةً أُخرى ، وتكون الحاجة حينئذٍ إلى تناول التفصيلات الأُخرى التي هي محل الاختلاف مع أهل الكتاب.
وبالنسبة إلى الخصّيصة الثالثة :
فلعلّ تأكيد دور الأخلاق في القِسم المكّي دون المدني كان بسبب العوامل الثلاثة التالية :
أ ـ إنّ الأخلاق تُعتبر قاعدة النظام الاجتماعي في نظر الإسلام ، إضافةً إلى أنّها هدف رسالي في تغيير الإنسان وتربيته وتكامله ، فتأكيد دورها يعني ـ في الحقيقة ـ إرساء لقاعدة النظام الاجتماعي الذي يستهدفه القرآن ، وتحقيقاً للهدف في تربية الإنسان ورقيّه.
ب ـ إنّ الدعوة كانت بحاجةٍ ـ من أجل نجاحها ـ إلى استثارة العواطف الإنسانية الخيّرة والفطرة السليمة ، ليكون نفوذها في المجتمع وتأثيرها في الأفراد عن طريق مخاطبة هذه العواطف؛ والأخلاق هي الأساس الحقيقي لكلِّ هذه العواطف ، وهي الرصيد الذي يمدّها بالحياة والنمو.
ج ـ إنّ المجتمع المدني كان يمارس الأخلاق من خلال التطبيق الذي كان يباشره الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) بنفسه ، من خلال موقعه في قمّة المجتمع الإسلامي ، وبذلك يكون القدوة الطبيعية لهذا المجتمع ، أو من خلال تطبيقه لهذه الأخلاق عمليّاً في العلاقات الاجتماعية القائمة ، بعد أن تكوّن المجتمع الإسلامي وقامت أركانه ، فلم يكن بحاجة ـ بنفس الدرجـة ـ إلى تأكيد المفاهيم الأخلاقية ، على العكس من المجتمع المكّي الذي كان يعيش فيه المسلمون حياة الاضطهاد ، وكان المجتمع يمارس التطبيق فيه للأخلاق الجاهلية ، حيث يكون المجتمع بحاجة إلى التأكيد المفاهيمي للأخلاق.
وبالنسبة للخصّيصة الرابعة :
نجد القصص تتناول ـ من حيث الموضوع ـ أكثر القضايا والنواحي التي عالجها القرآن الكريم ، من العقيدة بالإله الواحد وعالم الغيب والوحي والأخلاق والبعث والجزاء ، إضافةً إلى أنّها تُصوِّر المراحل المتعدّدة للدعوة والمواقف المختلفة منها ، والقوانين الاجتماعية والتأريخية التي تتحكّم فيها وفي نتائجها ، والمصير الذي يواجهه أعداؤها.
وإلى جانب ذلك تُعتبر القصّة في القران أحد أسباب الإعجاز فيه ، وأحد الأدلّة على ارتباطه بالسماء ، كما سوف نتعرّف على ذلك.
وكلّ هذه الأُمور لها صلة وثيقة بالظروف التي كانت تمرّ بها الدعوة والرسالة الإسلامية في مكّة ، ولها تأثيرٌ كبير في تطويرها لصالح الدعوة وأهدافها الرئيسة.
ومع كلِّ هذا لم يهمل القِسم المدني القصّة مطلقة ، بل تناولها بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة المرحلة التي تمرّ بها ، كما سوف نتعرّف على ذلك عند دراستنا للقصّة.
وبالنسبة إلى الخصّيصة الخامسة :
فقد كان لها ارتباط وثيق بجوانب مرحليّة وإعجازيّة؛ لأنّ المرحلة كانت تفرض كسر طوق الأفكار الجاهلية ، الذي كان مضروباً على المجتمع ، فكان لهذا الأسلوب الصاعق الحاد تأثيرٌ فعّال في تذليل الصعوبات ، وتحطيم معنويات المقاومة المضادّة العنيفة.
وحين يتحدّى القرآنُ الكريم العرب في أن يأتوا بسورةٍ منه ، يكون الإيجاز في السورة أبلغ في إيضاح الإعجاز القرآني ، وأعمق تأثيراً وأبعد مدى.
وقد كانت المعركة ـ إضافةً إلى ذلك كلِّه في أوّلها ـ معركة شعارات وتوطيد مفاهيم عامّة عن الكون والحياة ، والإيجاز والقِصَر ، ينسجم مع واقع المعركة وإطارها ، أكثر من الدخول في تفصيلات واسعة ، ولهذا نشاهد السور القصيرة تمثِّل المرحلة الأُولى تقريباً من مراحل القِسم المكّي.
وهذه الأبعاد لم تكن تتوفّر في مجتمع المدينة بعد أن أصبح الإسلام هو الحاكم المسيطر على المجتمع ، وبعد أن أصبحت مسألة الوحي والاتصال بالسماء مسألة واضحة ، وبعد أن جاء دورٌ آخر للمعركة يفرض أُسلوباً آخر في العرض والبيان.
ومن هذا الدرس لخصائص ومميّزات القِسم المكّي تتضح مبرّرات خصائص القِسم المدني ، من الدخول في تفصيلات الأحكام الشرعية ، والأنظمة الاجتماعية ، أو مناقشة أهل الكتاب في عقائدهم وانحرافاتهم ، حيث فرضته ظروف الحكم في المدينة.
وكذلك معالجة موقف المشركين ، وقضيّة الجهاد والقتال معهم ، واتّخاذ المواقف السياسية والاجتماعية تجاههم.
والحديث عن ظاهرة النفاق في المجتمع الإسلامي ، وأسبابها والمواقف تجاهها ، وتوضيح طبيعة العلاقات السياسية في المجتمع ، وموقع وليّ الأمر فيها ، والحاجة إلى تنظيم العلاقات بين الناس ، كلّ ذلك يفرض الحاجة إلى بيان هذه التفصيلات في التشريعات والأنظمة.
كما أنّ المعركة في المدينة انتقلت من الأُصول والأُسس العامّة للعقيدة إلى جوانب تفصيليّة منها ، ترتبط بحدودها واشكالها وبالعمل على تقويم الانحراف الذي وضعه أهل الكتاب فيها ، والأمراض التي يُبتلى بها المجتمع في ظل الحكم الجديد ، والضغوط التي يواجهها من قِبَل الأنظمة الأُخرى.
وبهذا نفسِّر الفرق بين المكّي والمدني ، بالشكل الذي ينسجم مع فكرتنا عن الهدف الأصيل للقرآن ، وفكرتنا عن مراعاته للظروف ، من أجل تحقيق أهدافه وغاياته.
________________________
(1) سبق أن أشرنا إلى هذه الميزات وغيرها عند البحث عن المكّي والمدني.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|