أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-12-19
1000
التاريخ: 2024-02-22
842
التاريخ: 2024-02-14
788
التاريخ: 2024-03-27
675
|
ذكرنا الطريق الأولى التي إذا سار فيها الأقوام الأجلاف يرتقون في الحضارة والعمران، أما الطريق الأخرى فهي الاندغام أو الاندماج في أمة راقية أو الانضواء إليها؛ فقد كان يقع أن قبيلة من القبائل الضخمة أو القويَّة تنحدر من الجبال أو تطرأ من الفلوات وتأتي فتستحكم البلاد، وتنشئ فيها مملكة، ثم تمعن في الحضارة التي اقتبستها عند احتلالها البلاد، وتدفعها إلى أقصى غاية منها، وتجري على عادات أهاليها الدينية، فتبعث بهديها إلى آلهة شنعار على ما هو جارٍ في عوائد أهل البلاد، وتتخذ لغتي شمر وأكد، وتتخلق بأخلاق ملوك البلاد. وأحسن مثال لتأييد قولنا هذا ما وقع للآموريين، فإنهم جاءوا واستوطنوا البلاد المذكورة في نحو الألف الثالث قبل المسيح، ونحو المائة الخامسة بعد الملك سرجون، وفي نحو 2000 سنة قبل الميلاد أقبل شيخ أموري اسمه «سموابو»، وأنشأ لنفسه مملكة في أرض شنعار، واتخذ له عاصمة جديدة، وهي مدينة كانت واقعة على الفرات، لم تكن ذات شأن في مدن القُطر، اسمها «باب إيلو»، ومعناه: باب الآلهة، وهي التي نحتَ منها العبريون اسم بابل، فصحَّفها اليونان وقالوا «بابلون»، وقام من هذا البيت بعد مائة سنة ملك اسمه حموربي، وهو أكبر مشترعي بلاد شنعار في التاريخ، وبه دخلت البلاد مرة أخرى تحت جناحي ملك واحد بعد أن أصبحَت كتلة واحدة عجنته يداه؛ فقد ذكرَت تواريخ حموربي المدوَّنة في عهده كيف جمع هذا الملك أفراد تلك الأمة ونهض زاحفًا بهم على ملك أور فافتتحها، وكذلك فعل بمدينة لارسا (سنكرة الحالية)، ونقل أسلابهما إلى عاصمته بابل، ثم حارب العيلاميين واحتل بلادهم المتاخمة لبلاده، فأوقف بذلك غاراتهم، ومدَّ جناح سطوته وشوكته إلى ما وراء شنعار إلى أعالي دجلة، وأدمج ديار آشور في دياره، وكانت هذه البلاد واقعة في منحدر دجلة ناظرة إلى جبال إيران، وكانت تتصل من الشرق بسهول الجزيرة الخضراء، وهواؤها أطيب من هواء شنعار المشهور بشدة حرارته. وكان أهالي تلك الديار ساميين مثل الأكديين والأموريين، ولسانهم قريب من لسان الأكديين، وكانت أشهر حواضرهم آشور أو آثور على دجلة، ثم امتد اسم المدينة حتى عمَّ الصقع كله، فالشعب نفسه، فالآلهة المعبودة فيها. وكان الآشوريين قد ابتنَوا مدينة أخرى قبل أن يدوِّخ حموربي ديارهم، اسمها نينوى، وكانت واقعة أعلى منها من جهة منحدر دجلة، وكانت نيتهم أن يُفَوِّقوها على آشور حتى يكسِف نورها نور آشور. وكان تمدُّن آشور كتمدُّن شنعار، وآلهتها كآلهتها بدون فرق، إلا أن أخلاقهم على ما يظهر كانت تميل إلى الحرب والقراع أكثر مما كانت تميل إليه أخلاق الشنعاريين، يبين ذلك من هذا الأمر: وهو أن أشتر (أو عشترتة) معبودة شنعار الكبرى، كانت إلهة اللذات عندهم، وكانت عند الآشوريين معبودة الحرب. وفي عهد حموربي البابلي أصبحَت بلاد آشور كلها تُعتبر جزءًا من مملكة شمر وأكد. ولم يكن حموربي ملكًا مغوارًا أو فاتحًا، بل كان أيضًا حارسًا حريصًا على إدارة بلاده، يشهد على ذلك رسائله التي أنفذ بها إلى الضباط الملكيين، وعماله الذين كانوا في جنوبي المملكة، وهي الرسائل التي اكتُشفَت حديثًا، فيظهر منها أنه حوَّل كل فكره وانتباهه نحو إسقاء الأرضين وإروائها، تلك الأرضين التي يتوقف عليها حياة السكان وعمرانهم، ولقد كان يحفر ما يدفن منها، ويُصلح ما يفسد، ويشق ترعًا جديدة في المواطن التي بدت فيها الحاجة. وفي هذه السنين الأخيرة اكتشف العلَّامة الفرنسوي المسيو دمرغان القوانين التي أنشأها لبلاده، وقد نقلها إلى الفرنسويَّة لأول مرة الأب فنسان شيل الدومنيكي، وقوانينه هذه من أجزل الفوائد، والمقابلة بينها وبين شرائع موسى من الأمور التي تعرض لفكر الباحث بدون أن يُنبه عليها. ولقد صارَت مرمى أبحاث طلبة العلم منذ أن ظهرَت إلى عالم الوجود، وقد اتخذ واضعها طريقة ابتدائية للتمييز بين طبقات الناس؛ فقد قال في جُملةِ ما سَنَّهُ: «إذا أتلف واحدٌ عينَ رجل شريف تُقلَع عينه، وإذا رضَّ عضوًا شريفًا يُرَضُّ عضوه.» وقال في موطنٍ آخر: «إذا أتلف رجلٌ عينَ رجل فقير، أو رضَّ عضوًا من أعضائه يؤدي منًّا من الفضة.» والقضاء في أمور الخلق أخشن حُكمًا وأقطع نفوذًا؛ فقد قال في جملةِ ما سَنَّهُ: «إذا عالج طبيبٌ شريفًا لجرح بليغ بمبضع من شَبَهٍ (برنز)، وسبَّب وفاته، أو إذا بزل دملة في عين شريف بمبضع من شَبَه، وسبَّب تلف عينه، تُقطَع يد الطبيب.» «إذا بنى بانٍ بيتًا لرجل، ولم يكُن بناؤه مكينًا، وانهدم البيت الذي بناه، وسبَّب وفاة صاحب البيت، يُقتَل ذلك الباني «. لا جرم أن شرائع حموربي لا تُمثِّل مطلقًا أفكار رجل خصوصي، لكن أفكار التشريع والأخلاق السائدة يومئذٍ في شنعار في القرن الألف قبل الميلاد؛ ولهذا يجب أن يُنظر إليه نظرنا مستندًا أصليًّا يعتمد عليه مَن يهمه أمر نشوء فكرة الخير والشر بين الناس. وبعد أن ولَّى عهد هذه الدولة الأمورية البابلية، ابتلع في الآخر العنصر السامي العنصر الشمري، وغَدَت اللغة الشمرية لغة مماته، حُفظت بجنب اللغة الأكدية بمنزلة لسان ديني على حدِّ ما كانت اللغة اللاتينية في العصور الوسطى، وأصبحَت اللغة السامية منذ ذاك الحين لغة سواد الناس في شنعار كلها. نشأَت الدولة الأمورية وترعرعَت، ثم اكتهَلَت فهَرِمَت، ثم طوت بساط أيامها وانقرضَت، وآخر خلفٍ لحموربي تشير إليه الآثار يبين كأنه يعود إلى النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل المسيح. وبعد ذلك انتشر أقوام في تلك الديار وحيثو آسية الصغرى المعروفة بالأناضول، وهم أقوام لم نسمع بهم إلى اليوم، وفدوا إلى بابل وأخذوا معهم صورة الإله الخاص ببابل؛ أي مردوخ (المعروف باسم عام هو بل تخفيف: بعل؛ أي الرب أو السيد)، ثم قدِم الديار المذكورة قوم من الجبال القائمة بين بابل وفارس اسمهم الكاشو (أو الكشيون)، فجاءوا من الشرق وأوغلوا في قلب البلاد، وأقاموا على عرش بابل واحدًا من ملوكهم. وإننا لنجد أثرًا لهذه الدولة مدة قرن، ثم يكتنف البلاد ظلمات فوق ظلمات زهاء قرنين، لا نرى فيها ما يفيدنا عن أخبار أرض شنعار شيئًا يُذكَر.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|