المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17738 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

المعنى والنمط
20-8-2017
المفهوم الحديث للمالية العامة
2024-05-22
توافق الشرط المألوف مع نص قانوني آمر
20-3-2017
تقدير أيون النيكل (II) بوجود أيونات الخارصين (II) ,والنحاس (II)
2024-08-20
ما بعد حرب فيتنام
13-8-2022
المجمعات الشمسية المفرغة
17-6-2021


قصة اصحاب السبت  
  
2505   09:25 صباحاً   التاريخ: 2023-07-02
المؤلف : الشيخ عبدالله الجوادي الطبري الاملي
الكتاب أو المصدر : تسنيم في تفسير القران
الجزء والصفحة : ج5 ص137 - 150
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / مواضيع عامة في القصص القرآنية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-02-06 1544
التاريخ: 2023-03-19 1392
التاريخ: 3-4-2016 6746
التاريخ: 9-1-2023 1184

يقول تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65-66].

ما ذكر منذ الآية 40 من سورة «البقرة» فيما يتصل بأحداث اليهود كان قد بدأ كله بكلمة (إذ)، لأن جميعها كانت من نعم الله (عز وجل) على بني إسرائيل وكانت كلها من سنخ واحد؛ ومن هنا فقد انسجمت التذكرة بها مع استخدام الكلمة (اذ) حتى رفع الطور الذي كان يستبطن الإرعاب الظاهري، لكنه اختتم بفضل الله ورحمته بالمنع من الخسران، إلا أن الصيد في السبت بالحيلة كان قد انتهى بخسارة التحول إلى قردة وخنازير؛ ومن هذا الباب فقد تم التفكيك ـ من جهة السياق ـ بين هذه النقمة وإحصاء النعم حيث ابتدأت بعبارة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} [البقرة: 65]. فالاهتمام بالموضوع وتحققه القطعي والعلم المسلم ليهود عصر النزول به قد بعث على التأكيد والقسم واستخدام حرف التحقيق في التأدية وما إلى ذلك.

إن قصة احتيال بني إسرائيل في قضية الصيد غير المشروع للسمك في يوم السبت لم تحدث في زمان موسى (عليه السلام). ولهذا السبب لم يأت ذكر هذه القصة في التوراة وما كان اليهود في صدر اليهودية مطلعين عليها، وإذا لم يكن ليهود هذا الزمان علم بها بسبب الفاصلة الزمنية أو المكانية أو كلتيهما فليس ذلك بمستبعد؛ كما أن عدم اطلاعهم عليها لا يقدح بصحة القصة أيضاً، لأن القرآن الكريم المصون من أي كذب خبري والرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) المنزه عن أي كذب مخبري قد أعلنا صراحة عن حدوث هذه القصة، وذكراها بشكل رسمي في مكة ضمن سورة «الأعراف» وفي المدينة ضمن سورة «البقرة» ولم يلاحظ نتيجة لذلك أي اعتراض من قبل يهود الحجاز اللدودين؛ مع أن التعبير الذي استخدمه القرآن الكريم في سورة «الأعراف» المكية هو: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] ، وفي سورة «البقرة» المدنية هو: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]؛ يعني: إنكم (أيها اليهود) تعلمون تحقيقاً بقصة الصيد غير المشروع للسمك بالحيلة في يوم السبت. فلو كان لديهم علم بخلاف هذه القصة، أي إنهم يعلمون بعدم وقوع مثل هذه الواقعة في تاريخ اليهود، أو إنهم لم يكونوا مطلعين أصلاً على نفي أو إثبات له، لكانوا قد اعترضوا عليها حال نزولها في مكة ولبادروا إلى معارضتها حينما نزلت في المدينة. هذا على الرغم من أن إنكار اليهود اللدودين النابع عن الاستكبار لا يضر بصيانة الوحي المعصوم، لكنه لم يرد في القرآن الكريم ما يبين معارضتهم التاريخية لهذه القضية. بطبيعة الحال نفس الإعلام النبوي هذا يعد معجزة بحد ذاته؛ لأن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لم يكن له منبع للمعلومات غير الوحي الإلهي.

كما ان تعبير {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} [البقرة: 65] فيه إشعار بأن القصة التاريخية ليوم السبت كانت (بالالتفات إلى وجود «لام» التأكيد وحرف التحقيق «قد» في «لقد») معروفة ومشهورة على نحو القطع واليقين لدى المعاصرين للنبي الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) من بني إسرائيل، بل بالنظر إلى أن جملة: {عَلِمْتُمُ} [البقرة:65] في هذه الآية هي بمعنى  «عرفتم» (ومن هنا فقد تعدت إلى مفعول واحد) [1] ومفعولها هم الأشخاص العاصون المعتدون في يوم السبت: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا} [البقرة: 65] (لا أن مفعول هذه الكلمة هو مجرد القصة الخارجية) فبالإمكان القول: إنه حتى مشاهير هذه القصة كانوا أيضاً معروفين عند يهود عصر النزول) [2].

بالنظر إلى أن لفظة «السبت» مشتقة من مادة «سبات» التي هي بمعنى السكون والطمأنينة: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] [3]، فإن إطلاق هذا الاسم على هذا اليوم هو من باب كون هذا اليوم يوم عطلة عند اليهود وبالنتيجة تحقق السكون النسبي بسبب التوقف عن النشاطات والحركة اليومية.

يروي الألوسي إن موسى (عليه السلام) أراد أن يجعل يوماً خالصاً للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه [4] وقالوا: نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئاً. فأوحى الله تعالى إليه أن: دعهم وما اختاروا، ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان. فلما كان زمن داوود (عليه السلام) اعتدوا وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها «أيلة» [بين المدينة والشام [5] ]. وإذا كان السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت، فحفروا حياضاً وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد [6] .

وقد بدل هذا اليوم عند النصارى إلى يوم الأحد بإضلال بولس المسيحي المعروف ومن ثم نسخ عند ظهور الإسلام بتخصيص يوم الجمعة للعطلة.

إنّ الأمر «كونوا» هو ـ من باب إنها أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ـ كناية عن سرعة التكوين ونفوذ الإرادة الإلهية في تبديل المتجاوزين إلى قردة؛ كما أنه لا يراد من «القول» في «فقلنا لهم» المقال اللفظي بل إن قول الله هو نفس فعله وإرادته في عالم التكوين؛ نظير ما يقال في الآية: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. يقول أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): «لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه» [7].

وبعبارة أخرى فإن الإرادة الفعلية لله سبحانه وتعالى هي نفس تحقق المراد، والسنة الإلهية تقضي بأن أمر الله التكويني غير قابل للتخلف وما من شيء يستطيع منع الإرادة التكوينية له سبحانه: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء: 47] وهو أن جميع السماوات والأرض وكل من فيها مطيعون لله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وهم جنوده: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4]، إذن فتخلف المراد عن إرادته التكوينية ليس له فرض صحيح.

إن المخالفة والعصيان يجدان طريقهما إلى الأوامر التشريعية (لأن المخاطب فيها هو الإنسان المختار القادر على الطاعة والعصيان)؛ نظير الأوامر الواردة في آيات من قبيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف: 14]، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] أما في الأوامر التكوينية حيث لا وجود لشيء سوى الفعل المباشر لله سبحانه وتعالى فما من شيء إطلاقاً يمنع نفوذ الإرادة الإلهية؛ وذلك لأن المأمور نفسه مطيع كما أن الأشياء الأخرى لا تقف عائقاً أمام ذلك. في هذه الإرادة التكوينية لا يطلب الله (عز وجل) من أحد شيئاً من باب التكليف كي يكون للعصيان سبيل إليه؛ نظير ما جاء في الآية: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] وإن الأمر الوارد في الآية موضع البحث هو من هذا القبيل.

كما هو حال إحسان الباري (عز وجل) فإن تعذيبه تعالى يكون تارة فردياً وطوراً جماعياً؛ فإن بادر مجتمع أو أفراد بلد ما إلى ارتكاب الجرم وشكل التوق إلى المعصية العنصر المحوري لهذه الأمة فإن بلداً أو مجتمعاً كهذا سيكون محط سخط الله تعالى؛ لأنه سبحانه وإن كان أرحم الراحمين لكنه إذا اقتضت حكمته البالغة المعاقبة والمجازاة، فإنه سيؤاخذ منطقة الذنب بالآثار المشؤومة للمعصية، والقرآن الكريم في هذا الصدد يوجه الإنذار التالي: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: 11] ، وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظلمة»، {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } [النساء: 84]

فما يستفاد من خطاب الجمع في عبارة: {كُونُوا} [البقرة: 65]، ومن ضمير الجمع في قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] هو أن جماعة من بني إسرائيل قد ابتلوا بتبديل صورهم؛ مع أن طائفة منهم قد أمنوا من هذا التنكيل؛ لأن هؤلاء ليس أنهم لم يرتكبوا ما نهوا عنه فحسب بل إنهم بادروا إلى وعظ المرتكبين للمعصية [8] .

والظاهر من جملة: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] هو أن المعتدين في يوم السبت قد بدلوا ـ حقيقة ـ إلى قردة؛ كما أن لبعض الآيات الأخرى ظهوراً قوياً في هذا المعنى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]، ومما لا شك فيه أنه إذا كان لجملة في القرآن الكريم أو الحديث الشريف ظهور في معنى خاص ولم يقم دليل معتبر بعنوان المخصص اللبي المتصل أو المنفصل أو المخصص اللفظي المتصل أو المنفصل على خلاف هذا الظاهر، فإن ظهوره يكون معتبراً وحجة.

وتوضيح ذلك هو أن تعبير الآية يترافق أحياناً مع المثل، كما جاء في سورة «الجمعة»: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] أو ما جاء في حق من كان يتمتع بالآيات الإلهية ثم انسلخ عنها: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176] ففي موارد من هذا القبيل تكون الآية في مقام التمثيل والوصف ليس إلا ولا تدل ـ مثلاً ـ على أن علماء بني إسرائيل (في الآية الأولى) وبرصيصا العابد (في الآية الثانية) قد تحولوا حقيقة إلى حمار أو كلب، بل هي فقط على أنهم قد اتصفوا بصفة هذين الحيوانين. لكن الحديث في بعض تلك الموارد لا يكون عن التمثيل؛ نظير ما جاء في الآية محط البحث والذي بين في سورة «المائدة» بهذه الصورة: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] ففي موارد كهذه فإن ظاهر الآية يوحي بتحقق المعنى الحقيقي للكلمة وليس مجرد الاتصاف بالأوصاف الحيوانية.

لكن لابد من الالتفات إلى أن المسخ في الآية مدار البحث ليس هو بمعنى إعدام فرد من الناس وإيجاد فرد من القردة، كما أنه لا يعني إيلاج الروح الإنسانية في بدن القرد؛ وذلك لأن هذا الانتقال المسخ المستحيل الذي وإن قال به البعض لكن استحالته قد ثبتت عقلاً ونقلاً في محلها الخاص [9]. إن المسخ المطروح في هذه الآية هو وقوع صورة على صورة أخرى؛ بمعنى أنه في الوقت الذي بقيت فيه صورة الإنسان النوعية على حالها فإنها قد تقبلت صورة القرد النوعية وأن الإنسانية الممسوخة لم تبطل ولم تنعدم. ومن هذا المنطلق فإنه يتعين أن يطلق عليه عنوان «الإنسان القرد».

ويتضح مما سبقت الإشارة إليه عدم صواب ما نقل عن مجاهد من كلام؛ فهو يقول: إنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً [10].

وقد أقر بعض المتأخرين بصحة هذا الكلام العاري عن الصواب والتأويل الذي لا وجه له [11].

تنويه: بعض أهل المعرفة ـ وفي كتاب له أصطبغ بصبغة التأويل لا التفسير وحمل الطابع الأنفسي لا الآفاقي، وهو ما قد صرح نفسه بكونه تأويلاً وفصله بشكل كامل عن منطقة التفسير [12]، ولدى إحصائه لفوائد العبادة وأثر التضرع في طرد الضراوة، وأنه إذا ما أهمل الناس العاديون وتركوا وشأنهم من دون شريعة فسينهمكون في اللذات الجسمانية ويمسخون [13] ـ أقول بعض أهل المعرفة قد برر الآية مورد البحث في مسخ الباطن وقال:

(كان اليهود مشابهين للناس في صورهم، ولكنهم لم يكونوا منهم) [14] ، هذا الفهم يرجع إلى ما يشبه مبنى مجاهد الذي تم نقده، على أن المؤلف المذكور قد عرض وجوهاً في سر اختصاص يوم السبت باليهود ويوم الأحد بالنصارى ويوم الجمعة بالمسلمين مما لا يستند إلى العقل القطعي ولا إلى النقل المعتبر ومما لم يرشده إليه سوى التناسب الذوقي [15] وقد طرح الآلوسي في تفسيره نفس هذا النهج وسلكه من دون ذكر  الهادي السابق [16]. فعندما لا يكون قول الهادي مستدلاً، فلن يكون قول المستهدي مسموعاً، ومن هنا فإننا نحجم عن نقل ونقد الأصل والفرع. إن ظاهر الآية مدار البحث يوحي بمسخ القلب والقالب، أي النفس والبدن؛ كما هو مذهب كل من عظماء أهل البصيرة وكبار أصحاب الرأي؛ ومن أجل ذلك فقد نضد نفس هذا المبحث الرصين في المنظوم من آثارهم كما هو الحال في المنثور منها:

نقـض أهـل السبت للميثـاق والتـوبـة قـد

أوجـب المسخ مع الإهلاك والمقت استجد

هـذه الأمـة مـا آلت إلـى مسـخ البـدن

إنما المسـخ أصـاب القلب يا من قد فطن

مسخ أهل السبت قد بان وفي الجسم ظهر

ليرى الباطن فـي الظـاهـر مـن غـيـر ستــر [17]

وقد ذهب الحكيم السبزواري (رحمه الله) في شرحه للبيت الأخير إلى وجود الفرق بين التناسخ الملكي والملكوتي معتبراً إياه هنا من سنخ التناسخ الملكوتي وتجسم الأعمال وقد عد بعض الأحاديث منطبقة على ما ذهب إليه [18].

أمّا كلمة «خاسئين» (وهي من مادة «خسء» و«خسوء» التي تعطي معنى الصيرورة ذليلاً وبعيداً ومطروداً) في هذه الآية هي بمثابة قيد لإخراج القردة غير الممسوخة؛ لأنها كسائر الحيوانات مشمولة برحمة الحق تعالى وكرامته العامة لا تشعر بالعذاب والذلة، بل إن القرد والكلب والخنزير العادي يتمتع من حياته بذات اللذة التي يتمتع بها البلبل من حياته. فالعذاب والذلة هما في أن يتصف الشخص من الناس بالصفة البهيمية والسجية الحيوانية في الوقت الذي يكون فيه إنساناً ويتمتع بقوة العقل ونور الفطرة الإنسانية، وذلك نتيجة السير في طريق الباطل وحث الخطى نحو الحياة الحيوانية، ثم يتوغل في هذا الطريق حتى تصل الحالات الحيوانية عنده إلى درجة الفعلية على هيئة ملكات راسخة فتأسر كل متطلباته الفطرية وميوله العقلانية؛ أي إن مثل هذا الإنسان الهابط والخابط يمتلك العقل بيد أن عقله ـ وكما يقول أمير البيان الإمام علي (عليه السلام) - أسير هواه وشهوته وغضبه: «وكم من عقل أسير تحت هوى أمير» [19]، لا أن عقله وفهمه قد زالا كلياً. وعلى هذا الأساس فهو مطلع على صيرورته قرداً، وهو يشعر بالعار والمعاناة الشديدين جراء إحساسه بهذا الهبوط وإدراكه لهذا السقوط؛ وذلك لأنه لو فقد حقيقته الإنسانية وزال عقله وفطرته عوضاً عن أسرهما وتبدلت حقيقته إلى قرد، فلن يكون في إدراك كونه قرداً ما يعذبه أو يثير فيه الشعور بالعار والحياء.

ويلزم الالتفات هنا إلى أنه من الممكن بيان وجهين لمسألة اخراج القردة العادية وهذا المضمون: الأول هو أن كلمة: «خاسئين» تتعلق بالمخاطبين، أي أولئك الذين وجه لهم الأمر التكويني «كونوا»، والثاني هو كونها متعلقة بال «قردة»، أما السر في أنه لم يقل «خاسئة» فيكمن في أن المخاطبين الذين تحولوا إلى قردة يتمتعون بالعقل والشعور وليسوا كالقردة العادية.

إنّ قصة المسخ التاريخية ليست قضية شخصية و «قضية في واقعة» كي لا تحدث نظائر لها على مدى التاريخ، ومن هنا فهو عز وجل يقول في الآية الثانية: لقد جعلنا هذه الحادثة عبرة للمعاصرين والقادمين وموعظة بالنسبة للمتقين: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66]؛ كما هو الحال في سائر العقوبات الإلهية، سواء التكوينية منها أو التشريعية، وإن الله سبحانه وتعالى يطرح عقوبة قطع يد السارق بعنوان كونها نكالاً وسبباً لنكول الآخرين عن السرقة واجتنابها (ناهيك عما يطال نفس السارق من تنبه وردع) فهو تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].

إنّ ما أشير إليه من قصة يوم السبت هو إجمال لما ورد في سورة «الأعراف» المباركة حيث وجه الخطاب للنبي الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم): {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأعراف: 163]؛ أي: سل بني إسرائيل عن الحادثة التاريخية المعروفة لديهم، ألا وهي قصة القرية التي كانت مجاورة للبحر واطرح هذه العبرة التاريخية لهم؛ عندما نهوا من باب الامتحان - عن صيد السمك في يوم العطلة (يوم السبت) فخالفوا النهي الإلهي؛ حيث كانت الأسماك تأتي يوم السبت وتشاهد بوضوح عند سطح الماء: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} فبادروا إلى حيلة، وهي أنهم عندما شاهدوا السمك يقترب بكثرة من الساحل في ذلك اليوم عمدوا إلى حفر أحواض ليمنعوه من العودة إلى ماء البحر، ثم يصطادونه في اليوم التالي وكانوا يقولون: نحن لم نصطد السمك السبت، بل كنا نحبسه فقط والحبس هو غير الصيد. لكن الله سبحانه وتعالى يعتبر عملهم هذا تعدياً وتجاوزاً: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} ويعد الله سبحانه عمله هو (نهي بني إسرائيل عن صيد السمك يوم السبت وسوق السمك إلى سطح البحر عند الساحل) ابتلاءاً منه: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}؛ وهذا يشبه ما يحدث أثناء الحج والعمرة حيث يمنع الباري جل وعلا المحرمين من الحجاج والمعتمرين من صيد حيوانات الصحراء من ناحية: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ثم يجعل الصيد الممنوع في متناول أيديهم ورماحهم من ناحية أخرى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] كي يمتحن المحرمين للحج والعمرة بهذا الأسلوب.

فليست القضية أن الله (عز وجل) يصدر نهياً محضاً لا يشتمل على امتحان؛ بل إن نهيه يقترن دوماً بالامتحان، فكما أنه جهة - يصدر أمراً بغض الطرف عن الأجانب: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] فإنه ـ من جهة أخرى - يأتي بغير المحارم فيجعلهم أمام ناظري المؤمن ليبلوه. وكذلك في قضية ابتلاء بني إسرائيل فإن الله سبحانه وتعالى حرم على بني إسرائيل صید من ناحية وجعل السمك الخاضع للأمر الإلهي: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] بحيث إن الله مطلع على ظريف اختلافه وتحركاته: «يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ومعاصي العباد في الخلوات واختلاف النينان في البحار الغامرات» [20] في متناول أيديهم من ناحية أخرى وبهذه الطريقة يكتمل الامتحان الإلهي. والغرض هو أن الافتتان والامتحان الإلهيين المستورين هما في غاية الظرافة؛ كما أن عنايات الله عز وجل في غاية الإتقان. فإذا انبرى أحد بعد تبين رشد الحق من غي الباطل والصدق من الكذب عالماً عامداً إلى الجدال مع الله ومعارضته والاعتراض على النبوة والإعراض عن الرسالة وانتهاج الاحتيال في مجال الامتثال، فإنه سيكون مستحقاً للعقاب الخاص من قبل الله سبحانه وتعالى.


[1] راجع روح المعاني، ج 1، ص446.

[2] راجع روح المعاني، ج 1، ص446.

[3] سورة النبأ، الآية 9. يقال للنائم مسبوت (راجع البحر المحيط، ج8، ص403) وقد ورد في كلام أمير المؤمنين ل ما نصه: «نعوذ بالله من سبات العقل» (نهج البلاغة، خطبة 224، المقطع 12).

[4] الأصل في أن بني إسرائيل قد بدلوا يوم السبت بالجمعة قد ورد أيضاً في رواية عن الإمام الصادق الا ستأتي لاحقاً في البحث الروائي (راجع ص178).

[5] تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج1، ص305. 

[6] روح المعاني، ج 1، ص446.

[7] نهج البلاغة، الخطبة 186.

[8] (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)، (سورة الأعراف، الآية 164).

[9] هذه الجماعة تقول بأن روح الإنسان بعد الموت إما أن تتعلق ببدن إنسان آخر وهو يسمى بـ «النسخ»، وإما أن ترتبط ببدن حيوان وهو ما يقال له "المسخ»، أو أن تحل في نبات أو جماد وهو ما يدعى «الرسخ» و«الفسخ». وقد ثبت في العلوم العقلية أن كل تلك الأقسام محالة

[10] راجع روح المعاني، ج 1، ص 447.

[11] راجع تفسير المنار، ج 1، ص343 - 344.

[12] تأويلات المولى عبد الرزاق الكاشاني، ج 1، ص5.

[13] تأويلات المولى عبد الرزاق الكاشاني، ج 1، ص 55 ـ 56.

[14] تأويلات المولى عبد الرزاق الكاشاني، ج 1، ص 57.

[15] تأويلات المولى عبد الرزاق الكاشاني، ج 1، ص56

[16] روح المعاني، ج 1، ص449.

[17] في إشارة إلى أبيات من ديوان مثنوي معنوي (المثنوي المعنوي)، ص 817 ـ 818، (وهو باللغة الفارسية) ونصها:

نقض توبه و عهد آن اصحاب سبت

مسـخ آمد و اهلاك و مقت

انـدر ایـن امـت نبـد مسـخ بـدن ليك مسـخ دل بود، ای ذوالفطـن

ظـاهـر بـود اهـل سـبت را تا ببیند خلق ظـاهـر کـبت را

[18] شرح مثنوي سبزواري (شرح المثنوي للسبزواري)، ج3، ص177 (وهو باللغة الفارسية).

[19] نهج البلاغة، الحكمة 211.

[20] نهج البلاغة، الخطبة 198.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .