أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-04-10
1065
التاريخ: 2023-11-19
1044
التاريخ: 2023-04-11
625
التاريخ: 2024-01-24
926
|
نتيجة التقدم العلمي والتقني برزَت اتجاهات بحثية جديدة، تهدف إلى التحقق من تأثيرات فيزياء الكم في البيولوجيا والتي تحدث في أبعاد مكانية وزمانية تسمح للظواهر الكمومية والتقلبات البيئية بالتداخل المثمر، لتمكين العمليات البيولوجية.
في النصف الأول من القرن العشرين ورغم التقدم الهائل في علم الحياة بكافة فروعه، ورسوخ نظرية التطور لدارون، وكشف الكثير من التفاصيل التركيبية والتفاعلات الكيموحيوية في الكائنات الحية، كان ثمَّة الكثير من الأسئلة المهمة التي ينبغي الإجابة عنها؛ منها طبيعة المورثات، وتكوين البروتينات، وعمل الإنزيمات، ونشوء الحياة؛ والتي اعتمدت على مبادئ الفيزياء والكيمياء التقليدية. عشر سنوات بعد حصوله على جائزة نوبل، ألقى نيلز بور (Niels Bohr) أحد مؤسسي فيزياء الكم محاضرة عنوانها «الضوء والحياة Light and Life» سنة 1932م في كوبنهاكن في هذه المحاضرة أثار سؤالاً حول ما إذا يمكن أن تُسهم نظرية الكم في الفهم العلمي للنظم الحية. وكان ضمن مستمعيه ماكس ديلبروك (Max Delbrück) الذي ألهمه حديثُ نيلز بور، وأسهم في تأسيس علم الحياة الجزيئي، وحاز على جائزة نوبل سنة 1969م، لاكتشافاته في علم الوراثة (2018 ,.Marais et al).
سنة 1944م، نشر الفيزيائي النظري المعروف، وأحد مؤسسي ميكانيك الكم، أروين شرودنجر (Erwin Schrödinger) كتابا صغيرًا بعنوان ما الحياة؟ ?What is Life هي تساءل فيه عن كفاية ميكانيك نيوتن وقوانين الديناميكا الحرارية (Thermodynamics) في تفسير الظواهر الحياتية خاصةً طبيعة وعمل المورّثات والتي يستند عليها علماء البيولوجيا؛ فقد جلب علم الوراثة وانعزال الصفات الوراثية، ودقة عمل الجينات التي لم يكن يعرف شيء مهم عن تركيبها اهتمام هذا العالم أشار شرودنجر إلى أن انعزال الصفات الوراثية يفترض التجزؤية (Discreteness) وهي صفة أساسية في ميكانيك الكم؛ حيث إن الطاقة والمواد في الكون، تُوجد بشكل مجزأ بهيئة كمات (Quantum) ومن هنا سكَّ اسمُ ميكانيك الكم (Quantum mechanics). وهكذا استنتج شرودنجر أن حوامل الصفات الوراثية لا بد أن تكون بهيئة جزيئات. انطلق شرودنجر من فكرة أن دقة عمل الجينات تتطلب ألا تكون مؤلفةً من أعدادٍ هائلة من الذرات والجزيئات؛ فلو كانت كذلك فإنها ستخضع لقوانين الديناميكا الحرارية (الفيزياء التقليدية التي تعتمد على الإحصاء أو معدل تأثير الجزيئات؛ حيث إن الجزيئات المفردة في نظم كهذه تسلك سلوكًا عشوائيا، والذي يُمكن أن يُنتج «النظام من خلال الفوضى» ودرجة عدم الدقة (التشويش) فيه تكون عاليةً نسبيًّا.
وللتوضيح نُورِد المثال التالي: ظاهرة الانتشار (Diffusion)؛ فعند وضعنا لقطرة حبر أو صبغة (كلٌّ منهما يحتوي على أعداد هائلة من الجزيئات) في كمية من الماء موضوعة في كأس زجاجية، تبدأ الصبغة بالانتشار في الماء تدريجيًّا، وبشكل فوضوي بسبب الحركة العشوائية الناتجة عن الطاقة الحركية لجزيئات الصبغة وجزيئات الماء. وعلى الرغم من الحركة العشوائية لجزيئات الصبغة بجميع الاتجاهات إلا أن معدل حركة الجزيئات سيكون من المنطقة التي فيها تركيز هذه الجزيئات عالٍ إلى المناطق التي يكون فيها تركيزها واطئًا. وبعد فترة من الوقت سيكون تركيز الصبغة في المحلول متجانسًا.
وهكذا نتج النظام (التوزُّع المنتظم لجزيئات الصبغة في المحلول) من خلال الفوضى. لكن طالما أن الجينات تُظهر درجةً عالية من الدقة؛ حيث نسبة الشذوذ (الطفرات) منخفضة جدا، فمن المرجح حسب شرودنجر أن تكون الجينات منخفضة عدد الذرات؛ وبالتالي لا تخضع لقوانين الفيزياء التقليدية، بل لفيزياء الكم. رجح شرودنجر أن يكون حجم الجين بحدود مكعبٍ حَرفُه 300 أنكستروم (= 10-10 × 1). هذا الحجم سيتألف من حوالي 1 مليون ذرة؛ بناءً على ذلك سيكون معدل الخطأ الشذوذ أو الطفرة يساوي 1000 / 1 (واحد مقسوم على الجذر التربيعي للعدد) لو أن عمل الجين يعتمد على الفيزياء التقليدية (الديناميكا الحرارية). في حين أن معدل الطفرات التي تُظهرها الجينات هو أقل من 1 في المليار؛ بناءً عليه يُرجح خضوع الجينات لقوانين ميكانيك الكم وعمل مبدأ ((النظام ينشأ من النظام)).
المسألة الجوهرية هنا أن البيولوجيا تعتمد على تراكيب صغيرة عالية التنظيم، لكنها ذاتُ فعالية غير عادية (انظر إلى الفعاليات المتنوعة جدًّا، والتي تُظهرها ملايين الأنواع من الكائنات الحية، ولا يمكن للمواد غير الحية إظهارها). هذا ما يميّز المادة الحية عن غير الحية في كونها يمكن أن تُظهر تأثيرات ميكانيك الكم في درجات الحرارة العالية، ومع وجود جزيئاتٍ كثيرة جدًّا، والذي لا تُظهره المواد غير الحية في الطبيعة إلا على المستوى المجهري، أو تحت ظروف درجات الحرارة المنخفضة جدًّا (قرب –273 C°) وفراغ شبه تام في المختبر. وهكذا لخص شرودنجر الجوانب الجزيئية الصاعدة حينها في علوم الحياة، وكان كتابه مُمهّدًا لبزوغ علم الحياة الجزيئي. في النصف الثاني من القرن العشرين، شهد علم الحياة تطورًا نوعيًّا بظهور علم الحياة الجزيئي، الذي تكفل بدراسة الأسس الجزيئية للظواهر الحيوية المفتاحية؛ فقد تم كشف تركيب جزيئة الـ DNA وآليات تضاعفها وتركيب وعمل الجينات وجزيئات RNA وتكوين البروتينات بضمنها الإنزيمات ودورها في حياتية الخلايا الحية.
أحدث هذا العلم تطورًا شاملًا في جميع فروع علم الحياة باتجاه كشف الأُسس الجزيئية للظواهر البيولوجية. مكَّن هذا العلم من النظر إلى الخلية الحية على أنها منظومة إكثار ومعالجة المعلومات تحتوي على الكثير من المكائن النانوية التي تطورت طبيعيًّا، والتي تحتاج إلى ميكانيك الكم لوصفها في بعض مستوياتها
(2007 ,.Abbott et al). وحسب (2007) Davis فإن مؤسسي ميكانيك الكم الآخرين بضمنهم نيلز بور وويرنر هيزمبرغ ويوجين وغنر، شاركوا شرودنجر في إقراره إلى أن فيزياء الكم هي المفتاح لفهم الحياة. وارتكزت أفكار مؤسِّس التقنية النانوية (Nanotechnology) أريك ديكسلر (Eric Drexler) على مُنجزات البيولوجيا الجزيئية وآليات عمل الـ DNA والرايبوسومات والبروتينات والفايروسات في بناء مكائن نانوية تُحاكي المكونات الأحيائية؛ حيث تتمكّن من تكوين منتجات، وتتمكَّن من نسخ نفسها (1986 ,Dexler). كما تلاقت الفروع العلمية الصاعدة؛ التقنية النانوية (Nanotechnology) والتقنية الأحيائية (Biotechnology) والتقنية الكمومية Quantum technology)) ومعالجة المعلومات الكمومية Quantum information processing) لتُشكّل ما يُعرف بـ BINS اختصارًا لـ Abbott et al., 2007) Bio-Info-Nano Systems). إضافةً إلى ما تقدَّم فإن مساهمة علم الحياة الكبرى في تعزيز وتعميق نظرية التطور لجارلس دارون؛ حيث توضّح فعلها ليس في مجال نشوء وتطور الأحياء فحسب، بل في جميع المجالات بما فيها تطور الكون والمجتمعات واللغة والاقتصاد وغيرها. وهكذا تبلور مصطلح الدارونية العامة Universal Darwinism)) (Dawkins, 1976; Blackmore, 1995; Dennett,1995) والدارونية الكمومية (Quantum Darwinism) التي تفسر ظهور الحقيقة الموضوعية في العالم المرئي عن الاحتمالات العديدة لحالات النظام الكمومي عبر آليات التعدد والاختلاف وانتخاب الحالة الأصلح من خلال الانتخاب الطبيعي (Zurek2009). من ناحية أخرى ومع تبلور ميكانيك الكم برز تفسيران لحصول الحقيقة الكمومية في الواقع العادي المرئي؛ الأول عُرف بتفسير كوبنهاجن، وتبناه نيلز بور وويرنر هايزنبرغ، والذي يقول بأن الحقيقة هي ذاتية (Subjective) تعتمد على المراقب؛ حيث تؤدي مراقبته أو قياسه للظاهرة أو التجربة إلى انهيار دالَّة الموجة الكمومية على احتمال واحدٍ من العديد من الاحتمالات الممكنة في العالم العادي. التفسير الثاني الذي تحمس له آينشتاين وشرودنغر يُقر بأن الحقيقة موضوعية (Objective) ومستقلة عن مسألة المراقبة أو القياس. ويؤكد زوريك، الفيزيائي النظري الأمريكي من أصل بولوني، على موضوعية الحقيقة من خلال عمل الدارونية الكمومية، كما ذكرنا أعلاه. هذه المعضلة بل نشوء وتبلور الأفكار عمومًا قادت إلى التساؤل عن آلية عمل الدماغ البشري، والتفكير في عموم الأحياء بما فيها الأحياء التأكد الدقيقة كي يتم من «فعلية» الحقائق التي نُكوِّنها عن العالم. وهكذا أصبحت دراسة الوعي موضوعًا غاية في الأهمية ليس لعلماء الأحياء فحسب، بل للفيزيائيين والرياضيين أيضًا (Penrose, 1989; 1994; Tegmark, 2007; 2014; Hameroff & Penrose, 2014; Adamatzkya et al., 2018.)
من ناحية المكان، فإن أجسام الأحياء كبيرة، تُقاس بالأمتار والسنتمترات كما هي معظم الحيوانات والنباتات والكثير من الفطريات والطحالب، وبعضها كالبكتيريا والأركيا تُقاس بالميكرومترات. هذه الأبعاد تُعد كبيرةً بمقاييس ميكانيك الكم الذي يعمل بأبعاد النانو والبيكو والفمتومتر على مستوى الجسيمات الذرية والذرات والجزيئات. هذه الأبعاد للكائنات الحية يُفترض خضوعها لقوانين الفيزياء التقليدية وهي كذلك فعلا، كما هو حال الأجسام غير الحية الكبيرة. لكن كما هو معروفٌ فإن هذه الأجسام تتألف من جسيمات وذرات وجزيئات، والعامل الرئيس الذي يفرق الأجسام الحية عن غير الحية، هو نوعية الجزيئات وتعقيدها وتنظيمها الفريد ومن ناحية الزمان، يحصل التماسك الكمومي (Coherence) الذي هو شرط تحقق الظواهر الكمومية في أوقات قصيرة جدا، تُقاس بالفيمتوثانية (15-10 × 1 ثانية) والبيكوثانية (12-10 × 1 ثانية) أو النانوثانية (9-10 × 1 ثانية) عادة نتيجة حصول فك التماسك (Decoherence) الذي ينقل الفعل الكمومي إلى الحالة التقليدية التي نلتمسها. وفي الكائنات الحية تحصل العديد من التفاعلات والفعاليات الحيوية في فترات زمنية قصيرة جدًّا تُقاس بالفمتوثانية والبيكوثانية والنانوثانية، وبعضها بالميكروثانية (2014 ,Maldonadoa & Gómez-Cruzb) والميلي ثانية؛ فعلى المستوى الأساسي، جميع الأشياء هي كمومية؛ لأنها كلها مبنية من حالات وقواعد كمومية تحكم الذرات (2017,Brookes). وهكذا فإن الماكنة الكيميائية التي تُسيّر النظم البيولوجية، تتألف من تراكيب جزيئية معقدة، وهي بأبعاد نانوية ودون النانوية. وبذلك ستخضع الماكنة الكيميائية للأحياء لقوانين ميكانيك الكم. ومن المعروف أن ميكانيك الكم يلعب دورًا مركزيًا في الكيمياء (2011 Lloyd). كما أن الطبيعة الاحتمالية للعمليات البيولوجية تتماشى مع الطبيعة الاحتمالية لمكوِّنات المنظومة الكمومية (Ozhigov, 2015).
من ناحية أخرى، لا تتبدى الظواهر الكمومية في التجارب الفيزيائية، إلا في ظروف خُلُو المكان من الجسيمات والذرات والجزيئات غير تلك التي قيد الدراسة، وفي درجات حرارة منخفضة جدًّا تقترب من الصفر المطلق (-273 C°) والعزل التام عن البيئة؛ تجنبًا للتشويش وحصول فكِّ التماسك. وبذلك فإن الاعتقاد الذي كان سائدا يستبعد حصول الظواهر الكمومية، أو أن يكون حصولها على نحو عابر في النظم البيولوجية لوجود اكتظاظ شديد بأنواع مختلفة من الجزيئات ودرجة الحرارة الفسلجية، التي تحصل فيها الفعاليات البيولوجية، والتي هي عالية جدا مقارنة بدرجات الحرارة المنخفضة التي تتطلبها الحالة الكمومية في التجارب الفيزيائية المذكورة آنفًا. مع ذلك أظهرت الأبحاث والدراسات الحديثة تجلي ظواهر ميكانيك الكم على نحو مؤثّر (غير عابر) في عددٍ مهم من الفعاليات الحيوية؛ كالتركيب الضوئي، وهجرة الطيور المهاجرة، وحاسة الشم في الحيوان والإنسان، وآلية عمل الإنزيمات والقنوات الأيونية في أغشية الخلايا والطفرات، وغيرها، والحاجة إليها في تفسير نشوء الحياة. وحسب (2009) Ogryzko فإن أي شيء بغض النظر عن كونه كبيرًا أو صغيرًا، يمكن أن يكون له بعض الصفات التقليدية يخضع لقوانين الفيزياء التقليدية وكذلك بعض الصفات الكمومية، فمثلا الإلكترون كشيء كمومي كما هو معروف، مع ذلك فله صفات تقليدية كالكتلة والشحنة مثلًا. ويؤكد زوريك، وهو الباحث الرئيس في موضوع فك التماسك، على أن الحالة التقليدية (وهي الأشياء أو الظواهر التي نشاهدها ونتعامل بها في الواقع اليومي) هي الحالة الكمومية (الأصلح) التي تم انتخابها وأصبحت حقيقةً موضوعية من خلال الدارونية الكمومية (Zurek, 2002; 2003; 2009).
ويعتقد الباحثون، وهم مُحِقُون من وجهة نظري، أن التطور من خلال الانتخاب الطبيعي ولعدد لا يُحصى من تجارب ومحاولات الصح والخطأ في عدد هائل من أشكال الحياة، وبيئات غاية في التنوع على امتداد مليارات السنين يُمكن أن يكون قد حل مشكلة فك التماسك الكمومي؛ بحيث صارت الحالات الكمومية على المستوى المتوسط أو الكبير خواص ضروريةً لبقاء الكائنات الحية. ان الأدوار الأساسية التي تلعبها الجسيمات تحت الذرية كالفوتونات والإلكترونات والبروتونات والذرات والجزيئات وكذلك المجالات الكهرومغناطيسية في تركيب وعمل الخلايا هي خاضعة لقوانين ميكانيك الكم؛ فمن الممكن أن تمتد إلى مكوّنات الخلية من الإنزيمات والأحماض النووية والعُضَيَّات الخلوية والتي هي نانوية الأبعاد أو تجمعات لتراكيب نانوية. كما أن الكثير جدًّا من الفعاليات الحيوية داخل الخلايا تحصل بسرعة فائقة تُقاس بالفمتو والبيكو والنانوثانية؛ ما يجعل من الممكن أن تمتد الحالة الكمومية عبر الخلايا وإلى الأنسجة والأعضاء. وإن تحقق الظواهر الكمومية في العديد من الفعاليات الحيوية في الكائنات الحية، ربما يستند إلى القدرة التي طورتها الأحياء في التخلُّص من الضوضاء عبر ترشيحها (2014 ,.Hameroff et al). ثمَّ ظواهر بيولوجيةً تُوظف فيها الضوضاء المتولدة عن اهتزاز الجزيئات في خلق حالة التماسك الكمومي. وكما يرى (2009) .Andt et al فإن نسبةً مئويةً قليلة من التحسين في المنظومات الحية يمكن أن تعمل فرقًا في بقائها؛ لذلك يكون حصول الظواهر الكمومية مثل التماسك والتشابك في المنظومات الحية حتى وإن كان لفترات زمنية قصيرة جدًّا، ومناطق في المكان صغيرة جدًّا، يمكن أن يكون لها فوائد في بقاء الأحياء.
كل المنظومات الحية تتألف من جزيئات، وإن جميع الجزيئات تُوصف بواسطة ميكانيك الكم. لكن تقليديا، بسبب الفارق الكبير في المقاييس بين المنظومات التي توصف بميكانيك الكم (نانومترات وما دون والمنظومات البيولوجية، إضافةً إلى الخواص التي تبدو مختلفةً بين المواد غير الحية والمواد الحية، أبقت بعض الفصل بين النوعين من المعرفة. مع نشوء وتطور التقنيات المختبرية كالمطيافية الفائقة السرعة، ومطيافية الجزيئة المفردة والتصوير المجهري الموقوت، وتصوير الجسيمة المفردَة، مكَّنَت من دراسة الحركيات البيولوجية المتزايدة الصِّغَر مكانيًّا وزمانيا، كشفت عن عمليات مختلفة ضرورية لوظائف المنظومات البيولوجية، والتي تعتمد على التبادل الحساس بين التأثيرات الفيزيائية الكمومية والتقليدية؛ فبيولوجيا الكم هي استخدام نظرية الكم لجوانب في البيولوجيا تفشل الفيزياء التقليدية في وصفها على نحو صحيح. من المؤكد أن جميع المنظومات الحية تتألف من جزيئات وذرَّاتٍ وجُسيمات تحت ذرية، وهذه هي ساحة ميكانيك الكم. ومع تطور تقنيات البحث صار بالإمكان دراسة الحركيات البيولوجية على مقاييس متزايدة الصِّغَر مكانيًّا وزمانيا، واعتمادها على تبادل الأدوار الحسّاس بين التأثيرات الفيزيائية الكمومية والتقليدية. وهكذا ينحو البيولوجي الكمومي إلى استخدام نظرية الكم، لمعالجة جوانب البيولوجي التي لا تتمكّن الفيزياء التقليدية من تفسيرها (2018 ,.Marais et al).
وهكذا تعمقت واتسعت الحاجة إلى نشوء علم الحياة الكمومي لتقصي أهميته، وإمكانات حدوثه، وتفسير الظواهر البيولوجية التي لم تجد لها تفسيرًا بعد، باستخدام الكيمياء والفيزياء التقليدية. وحسب (2013) Helga & Plenio فإن بيولوجيا الكم هو مجال صاعد من البحث يهتم بالكشف التطبيقي والنظري للظواهر الكمومية غير العابرة في المنظومات البيولوجية. لقد توالى على نحو متزايد نشر الأبحاث وعقد المؤتمرات والمحاضرات، ونشر عدد من الكتب حول البيولوجيا الكمومية مثل:
في الشكل 3-1، عرض لأهم الأعمال التي ساهمت في إرساء قواعد هذا العلم الصاعد. عالج (2013) Huelga & Plenio موضوع بيولوجيا الكم وثبتا الملاحظات التالية:
(1) النُّظم البيولوجية هي منظومات مفتوحة، يتوجب أن ترفد بالطاقة باستمرار للمحافظة على حالة اللاتوازن التي هي ضرورية للحياة. غير أن المنظومات المفتوحة ومنها المنظومة البيولوجية تكون حارةً ورطبة وضوضائية (لاكتظاظها بالجزيئات المختلفة) وبالتالي ستكون معرضة للتقلبات البيئية، والتي تؤدي إلى فك التماسك الكمومي سريعًا وتثبيط الظواهر الكمومية. وهكذا يبدو للوهلة الأولى عدم إمكانية عمل الظواهر الكمومية في البيولوجيا. غير أن ثمة دلائل تشير إلى عكس ذلك؛ فالتراكيب البيولوجية الفعالة كالبروتينات والأحماض النووية وعلى المستوى الجزيئي عموما، تحصل التفاعلات والفعاليات البيولوجية بسرعة فائقة تُقاس بالبيكوثانية والفمتوثانية، وفي أبعاد نانوية؛ وبالتالي يمكن أن تحصل معها الظواهر الكمومية قبل أن تتمكّن البيئة من تحطيمها. وحسب المعلومات الكمومية، فإن الضوضاء في المنظومات التي هي ليست في حالة التوازن يمكن أن تدعم التماسك والتشابك الكمومي. وهكذا فإن الحركيات الكمومية ستتعزّز من خلال تبادل التأثير مع البيئة بما يُشجِّعها أو يُولّدها. والمسألة الواجب التحقق منها ما إذا كانت الطبيعة قد وظفت الظواهر الكمومية كآليات غير عابرة، وعملها لا يمكن تفاديه، وهي ليست مجرد ناتج ثانوي عن عمل الظواهر الكمومية على مستوى الأواصر الكيميائية.
شكل 1-3: خط الزمن للمعالم المفتاحية في تطور البيولوجيا الكمومية خلال القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. محور عن McFadden & AL-Khalili (2018) الاشكال الرباعية تشير الى مراجع.
(2) البيولوجي والحركية والنقل من المؤكد أن المنظومات البيولوجية تراكيب حركية تتطلب التزود بالطاقة والتخلُّص من الإنتروبي، للحفاظ على حالة اللاتوازن المطلوبة. هذا يستدعي عمليات نقل بضمنها نقل طاقة التهييج والجسيمات.
(3) الخواص الكمومية والفوائد. تتميّز الظواهر الكمومية بالعديد من الخواص التي تميزها عن الظواهر الفيزيائية التقليدية، والتي يمكن أن تُحسن من الوظائف البيولوجية. تشمل هذه ظاهرتي التماسك الكمومي والتداخل، التي تفرزها الخاصية الموجية للجسيمات تحت الذرية والتي تُسرّع العمليات. كما تُوفّر حالة التشابك الكمومي حساسية أكثر للإشارات الخارجية. كما تُوفّر حالة التجزؤ أو كمومية الطاقة من حصول تردُّدات اهتزازية تُمكّن من بناء أدواتِ تحسس.
(4) منظومات كمومية مفتوحة. المنظومات البيولوجية منظومات مفتوحة على اتصال مع البيئة، في الوقت الذي تكون التقلُّبات الحرارية للبيئة نافعة لتسيير التفاعلات الكيميائية وتشكل انثناءات البروتينات، فإن فوائد اتصال المنظومات البيولوجية والبيئة تكون أقل وضوحًا في العالم الكمومي؛ حيث ستبرز حالات فك التماسك. ولكن وجد أن التأثر بين المنظومة البيولوجية والبيئة يمكن أن يُوجد حالات كمومية كالتماسك والتشابك، كما توضح في التركيب الضوئي. معرفة آليات حصول مثل هذه الخواص الكمومية في عمليات النقل والعمل الإشاري والتحسُّس سيكون ذا فائدة كبيرة.
(5) البيئة مركّبة التأثير البيئة ليست سلبية في التأثير على المنظومات البيولوجية؛ فالبيئة تُظهر نوعين رئيسين من التأثيرات على المنظومة البيولوجية؛ خلفية ناعمة عريضة ذات ذاكرة قصيرة وتتآثر مع المنظومة البيولوجية من خلال تقلباتها، مسببةً ضوضاء وحالات محددة تشبه حركة اهتزازية طويلة المدى، يمكن أن تقود إلى تبادل حركي غير متوازن شبه متماسك بين المنظومة والبيئة. هذه الخلفية الناعمة تعود في الغالب إلى بيئة البروتين وعمليات الضوضاء الناشئة عن المذيبات، بينما المظاهر الحادة يمكن أن تتسبب من اهتزاز الجزيئات الموجودة في سقالات البروتين. هذه الخواص تختلف عن البيئة التي تدرس عادةً في التقنيات الكمومية، وتكشف عن تأثيرات غير عابرة، والتي اكتشفت من قبل الطبيعة وتتطلب دراسة جدية.
(6) حالة اللاتوازن والتأثير العكسي. العديد من العمليات المهمة لبيولوجيا الكم تُحفّز بالتكوين المفاجئ لإثارة أولية كمثل الطاقة الكمومية، التي يتوجب نقلها والتي تُبعد المنظومة عن حالة التوازن. ونتيجةً لهذه الإثارة المفاجئة لا المنظومة ولا البيئة ستبقيان ثابتتين. حركيات اللاتوازن هذه ستؤدي إلى اضطرابات بيئية مصدرها المنظومة، وتأثير عكسي من البيئة ذاتها على المنظومة، وبذلك يحصل تبادل حركي بين المنظومة والبيئة. وإذا كانت الاضطرابات البيئية تخص الخلفية الناعمة العريضة فسترجع بصورة سريعة جدًّا إلى حالة التوازن بسبب ذاكرتها القصيرة. أما إذا أُثيرت حالة حادة مرتبطة بنمط اهتزازات طويلة الأمد، فستؤدي إلى حركة شبه متماسكة طويلة الأمد للبيئة، مع احتمال قدح تبادل شبهِ مُتماسك مع المنظومة. هذا وغيره من تبادل اللاتوازن بين المنظومة والبيئة، يمكن أن يكون له تأثيرات مهمة على حركيات المنظومة واتجاه نقل الطاقة، كما يمكن أن يؤدي إلى حصول تماسك كمومي طويل الأمد في المنظومة.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|