أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-08-27
191
التاريخ: 10-10-2014
1520
التاريخ: 18-11-2014
5392
التاريخ: 30-04-2015
1504
|
قال القاضي أبو سعيد فرج بن لب الأندلسي : مَن زعم أنَّ القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كُفر ؛ لأنَّه يؤدّي إلى عدم تواتر القرآن (1) .
هذا كلامه المبالَغ فيه من غير أن يوافقه عليه أحد من المحقِّقين ؛ نظراً لعدم تلازم بين الأمرَين ، وقد تقدَّم كلام الإمام الزركشي : القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان ، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمَّد ( صلّى الله عليه وآله ) ، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيَّتها (2) .
ولم يشكَّ أحد من المسلمين في تواتر القرآن ، في حين أنّه لم يلتزم بتواتر القراءات سوى القليل ، وتقدَّم كلام أئمَّة الفنّ في ذلك .
قال الشيخ الزرقاني : الدليل الّذي اعتمده أبو سعيد لا يُسلّم له ... للفرْق بين القرآن والقراءات السبع ، بحيث يصحّ أن يكون القرآن متواتراً في غير القراءات السبع ، أو في القدر الَّذي اتَّفق عليه القرّاء ، أو في القدر الذي اتّفق عليه عدد يؤمَن تواطؤهم على الكذِب ، قرّاء كانوا أمْ غير قرّاء ، بينما تكون القراءات السبع غير متواترة (3) .
قال سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ( دام ظله ) : إنَّ تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات ؛ لأنّ الاختلاف في كيفيّة تعبير الكلمة لا ينافي الاتّفاق على أصلها ، كما أنَّ الاختلاف في خصوصيات حدَث تاريخيّ ـ كالهجرة مثلاً ـ لا ينافي تواتر نفس الحدّ على أنَّ الواصل إلينا بتوسّط القرّاء إنَّما هو خصوصيّات قراءاتهم ، وأمّا أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين ، وبنقْل الخلَف عن السلَف ، وتحفُّظهم عليه في الصدور وفي الكتابات ، ولا دخْل للقرّاء ـ بخصوصهم ـ في ذلك أصلاً ؛ ولذلك فإنَّ القرآن ثابت التواتر حتّى لو فرضنا أنّ هؤلاء القرّاء السبعة ، أو العشرة لم يكونوا في عالَم الوجود أصلاً .
إنَّ عظَمة القرآن ورِفعة مقامه أعلى من أن تتوقَّف على نقل أولئك النفَر المحصورين (4) .
وفي كلام سيّدنا الأستاذ ـ أخيراً ـ الحجَّة القاطعة على أولئك الَّذين يرون تواتر القرآن من زاوية القراءات السبع فحسب ، فيُقصرون النصّ القرآني ـ الّذي هو كتاب المسلمين قاطبة ـ في إطار هؤلاء النفَر النزر اليسير ، فيا لها من نظرة قاصرة وقصيرة المدى ! .
لا شكّ أنَّ القرآن ـ وهو نصّ الوحي الإلهي الحكيم ـ متواتر بين المسلمين تواتراً قطعياً ، في جميع سوَره وآيهِ وكلماته ، كلمة كلمة ، بحيث لو أبدلنا كلمة من القرآن أو أبدَلناها من مكانها إلى آخر لاستنكرها المسلمون ، ووجدوها شيئاً غريباً عن أسلوب كلام الله العزيز الحميد .
ومن ثمّ فإنّ القراءات الّتي كانت لا توافق نصّ المصحف كانت مستنكَرة لدى المسلمين ، العامّة والعلماء ، وعدّوها شاذّة منبوذة ، وقد تقدّم في الفصل السابق إنكار جماعة من كبار العلماء على قرّاء قرأوا خارج المتعارف ، وكذا إنكارات من عامّة المسلمين على قرّاء معروفين كبار ، كما لم يُجِز الفقهاء القراءة بها في الصلاة ولا اعتبروها قرآناً من كلام الله المجيد .
وستأتي ـ في فصل اختيار القراءة الصحيحة ـ شروط التعرّف إلى القرآن المتواتر ، المتسالَم لدى عامّة المسلمين .
* * *
بقي هنا اعتراض : إنّ القراءات إذا لم تكن متواترة جميعاً ، فإنّ القرآن يصبح في بعض آيهِ ـ وهو الّذي اختلفت القراءة فيه ـ غير متواتر ، كما في ( مالِكِ ) و( مَلِك ) وقد قُرئ بالوجهين ، فأيّهما النصّ ؟ .
وقد استدلّ ابن الحاجب ـ في مختصر أصوله ـ بذلك ؛ لإثبات تواتر القراءات السبع (5) ، قال : وإلاّ فيلزم أن يكون بعض القرآن غير متواتر ، إذ لو اختلف القرّاء في كلمة ، كما في مثل : ( غيابة ) أو ( غيابات ) ، ومثل : ( آية ) أو ( آيات ) ، و( ملك ) أو ( مالك ) ، ونحو ذلك ممّا قُرئ بوجهين أو بأكثر ، فإن التزمنا بتواتر القراءات جميعاً فهو ، وإلاّ فأيّ القراءتين تكون قرآناً لتكون الأخرى غير قرآن ، وإذا تردَّدنا في ذلك فإنّ معناه الترديد في النصّ الأصلي ، وهذا لا يلتئم والقول بتواتر النصّ القرآني .
والجواب : أنّ النصّ الأصلي هو ما ثبَت في المصحف الكريم ، والذي أجمعَت الأمّة عليه نصّاً واحداً ، إنّما جاء الاختلاف في كيفية قراءته وفي أسلوب التعبير ، الأمر الذي لا يتنافى وثبوت تواتر الأصل ، كما في كثير من أشعار الشعراء القُدامى ، حيث أصل البيت أو القصيدة ثابتة له بالتواتر ، وإن كان الرواة مختلفين في بعض الكلمات أو الحركات .
ويزيدنا وضوحاً ما قدَّمناه سابقاً : أنّ اختلاف القرّاء كان عن اجتهاد منهم في تحقيق الكلمة تعبيراً ، في حين وحدة النصّ الثابت في المصحف ؛ وذلك لأنّ اختلافهم جاء من قِبل عراء المصحف الأوّل عن أي علامة مائزة ، وعن الأشكال والنُقَط ، بل وعن الألِفات ، وربّما زيادات خارجة عن أسلوب الخطّ الصحيح ؛ لمكان جهل العرب الأوائل بأصول الكتابة المُتقنة .
فقد كتبوا ( مَلك ) بميم ولام وكاف ، ولكن بما أنّ عادتهم كانت على حذْف الألِفات جرْياً مع مرسوم خطّ السِريان ، ومن ثمّ اجتهد بعض القرّاء زاعماً أنّ الكلمة مرسومة على نفس النمط ، فقرأها ( مالك ) بالألف ، مستنداً في ذلك إلى تعاليل وحُجج تؤيّد اختياره ، فقد قرأ عاصم والكسائي بالألف محتّجين بقوله تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [ آل عمران : 26] ، وأدلّة أخرى سرَدها أبو محمد بتفصيل (6) .
وقرأ الباقون ( مَلك ) بلا ألف جرياً مع ظاهر الرسم ، محتجّين بقوله تعالى : {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [ الحشر : 23] ، وأدلّة أخرى .
وهكذا كلمة : {غَيَابَةِ الْجُبِّ} [ يوسف : 10] كان مرسومة هكذا ( غيبت الجبّ ) قرأها نافع بالألف جمعاً ، زاعماً أنّها مرسومة محذوفة الألف في كِلا الموضعين بعد الياء وبعد الباء فقرأها ( غيابات ) ؛ وعللّها بأنّ كلّ ما غاب عن النظر من الجبّ غيابة ، وقرأ الباقون مفرداً ( غيابة ) على ظاهر الخطّ ؛ مُعلّلين بأنّ يوسف لم يُلقَ إلاّ في غيابةٍ واحدة (7) .
كما أنّ {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [ يوسف : 7] كانت مكتوبة ( آيت ) بلا ألف ، ومن ثمّ قرأها ابن كثير بالتوحيد جرياً مع ظاهر الخطّ ؛ محتجّاً بأنّ شأن يوسف كلَّه آية واحدة ، كما في قوله : {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} [ المؤمنون : 50] ، وقرأ الباقون ( آيات ) ؛ اعتماداً على أنّ الألف محذوفة ، ولانتقال يوسف من حالٍ إلى حال ، ففي كلّ حال جرت عليه آية (8) .
إذاً فليس اختلاف القراءة بالّذي يضرّ بوحدة النصّ الأصل ، الثابت في المصحف الأوّل ، ممّا تسالَمت عليه الأمّة عِبر التاريخ .
وقد أخرج ابن أشتة في كتاب ( المصاحف ) ، وابن أبي شيبة في ( فضائل القرآن ) ، من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني ، قال : القراءة الّتي عُرضَت على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في العام الّذي قُبض فيه ، هي القراءة الّتي يقرأها الناس اليوم (9) .
وإلى ذلك أيضاً أشار الحديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، ولكنّ الاختلاف يجيء من قِبل الرواة ) (10) .
* * *
ولك أن تسأل : إذا اختلفت القراءة في نصّ واحد ، فمِن أين يُعرَف النصّ الأصل بعد احتمال الخطّ لكِلتا القراءتين ؟ .
قلنا : سنشرح ـ في فصل قادم ـ شروط اختيار القراءة الصحيحة ، الموافِقة للنصّ الأصل ، وهي القراءة المشهورة المعروفة بين الناس وتلقَّتها الأمّة بالقبول في جميع أدوارها ، ومن ثمّ فإنّ القراءات التي كانت تخرج عن محدودة العُرف العام كانت تقع موضع إنكارهم ، وتقدّمت أمثلة على ذلك (11) .
* * *
وسؤال آخر : هل لا يقدح اختلاف مصاحف الأمصار الأوّلية في تواتر النصّ الأصل الواحد ؟ .
قلت : كلاّ ، فإنّ الثبْت الأصل أيضاً من بين تلكُم المصاحف ، هو ما أجمَعت عليه الأمّة ووقع موضع اتّفاقهم ، وشاع وذاع عِبر التاريخ ، وكان ثبْت غيره في سائر المصاحف مهجوراً ، ومن ثمّ فهو شاذّ منبوذ .
مثلاً : اختلف مصحف الشام مع مصحف الكوفة ، فكان ثبْت الشام : ( وأوصى بها إبراهيم ) . وكان ثبت الكوفة : {وَوَصَّى} [ البقرة : 132] ، لكنّ الأمّة اعترفت بالثاني ونبذَت الأوّل ، وهو دليل قاطع على أنّ الصحيح هو ذاك دون الآخر ، ومن ثمّ لا تجوز القراءة وفْق المأثور عن مصحف الشام في خصوص هذه الآية .
وجاء في مصحف المدينة والشام : ( سارعوا ) بلا واو ، وفي مصحف الكوفة والبصرة : {وَسَارِعُواْ} [ آل عمران : 133] ، ووقع إجماع الأمّة على الثاني .
وجاء في مصحف المدينة والشام : {قَالَ الْمَلأُ} [ الأعراف : 75] بلا واو ، وفي مصحف العراقَين : ( وقال الملأ ) ، ولكن وقع إجماع الأمّة على الأوّل .
وجاء في مصحف المدينة والشام : ( هو الّذي ينشركم ) ، وفي مصحف العراقَين : {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} [ يونس : 22] ، والإجماع على الثاني ، وهكذا ... (12) .
والخلاصة : إنّ طريقنا إلى معرفة النصّ الأصل هو :إجماع الأمّة في مختلف عصورها وعلى تباين نزعاتها ، لكنّها اتّفقت على كتابها الكريم ، كلام الله العزيز الحميد ، فاحتفظت بنصِّه الأصل متغلّبة على كافّة عوامل الاختلاف في هذا المجال ، وما هي إلاّ معجزة قرآنية باهرة : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [ الحجر : 9] أي بين أظْهرِكم لا في اللوح المحفوظ ، فلم يزل ولا يزال هذا الكتاب الإلهيّ الخالد يشقّ طريقه إلى الأمام ، مع الأبدَية بسلام .
_______________________
(1) مناهل العرفان : ج1 ، ص435 .
(2) البرهان : ج1 ، ص318 .
(3) مناهل العرفان : ج1 ، ص435 .
(4) البيان : ص173 .
(5) نقلاً عن البيان : ص174 .
(6) راجع الكشف في القراءات السبع : ج 1 ، ص25 ـ 26 .
(7) الكشف : ج2 ، ص5 .
(8) الكشف : ج2 ، ص5 .
(9) الإتقان : ج1 ، ص50 .
(10) الكشف : ج2 ، ص5 .
(11) راجع : ص266 .
(12) راجع : ص232 .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|