أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-3-2021
2030
التاريخ: 7-10-2016
2364
التاريخ: 7-7-2021
2316
التاريخ: 6-1-2021
2146
|
لقد شخص القرآن أمراض نفسية وحالات مرضية وعدة مستحكمة في سلوك الأفراد .. وشهد بأن الإنسان:
جهول / كفور/ يؤوس / فرح/ مختال / عجول / ظلوم/ قتور/ هلوع/ جزوع/ مجادل/ لاهٍ / مغرور/ كنود/ وسواسي / متمنّي/ متقلب في المواقف / خصم / طاغية / يحب الفجور / ينسى الفضل / محب للمال/ جشع / شهواني ...
نلاحظ أن القرآن تحدث عن هذه الحالات بصيغة المبالغة ممّا يؤكد عمق وسعة وخطورة هذه الحالات في النفس البشرية المريضة... ولقد ثبّت القرآن الكريم منهجا وقاعدة للتغيير الاجتماعي تنطلق من تغيير تلك النزعات والتغلب عليها قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] (1).
فعلينا أن نبدأ بتغيير نفوسنا وفق المنهج الإلهي فنصوب نفوسنا تجاه الله تعالى ونبتعد بها عن الشيطان وأتباعه بعد ما عرفنا دور الشيطان في الابتعاد عن الطريق المستقيم من خلال قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39 - 43]
فقد أخذ الشيطان على نفسه وعد بأن يغوي الإنسان ليبتعد عن الله تعالى وفي الوقت عينه وعد الله الذين يبتعدون عن الشيطان بالجنة قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 45، 46] فالمتّقي الذي أخلص العبادة لربه وابتعد عن الشيطان فكانت نيته خالصة لربه (عز وجل) وعمل الصالحات واجتنب عن المعاصي وكانت له القوة على أداء الطاعة واجتناب المعصية؛ ولذا سنذكر نماذج لأخلاق الإنسان مع نفسه مما يتعلق بالنية والعمل والقوة وهي:
أ ـ الإخلاص. ب ـ العفة. ت ـ الصبر.
فأي عمل يقوم به الإنسان يحتاج إلى نية فإذا كانت خالصة لله (عز وجل) استحق العمل أن ينظر الله تعالى إليه ويحتاج إلى الصبر وقوة التحمل ليؤديه خالصا مع حفظ النفس وتعقفها عن الرذائل ...
أـ الإخلاص:
الإخلاص في اللغة: " تنقية الشيء وتهذيبه" (2).
وفي الاصطلاح: " تجريد النية من الشوائب والمفاسد" (3).
وبعبارة أخرى هو: "تجريد قصد التقرب إلى الله تبارك وتعالى عن جميع الشوائب والعلل والتبري من كل ما دون الله سبحانه" (4) فيكون العمل خالصا لوجه الله وتكون النية نقية عن جميع الشوائب الحاجزة عن السلوك في طريق الله تعالى وإذا كان هناك جزء مهما صغر من الشوائب التي تظهر لنا أمام أعيننا ونحن نسير نحو الله تعالى فإنه يجعل النية غير خالصة لله تبارك وتعالى وقد قال في محكم كتابه {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وجاء في تفسير هذه الآية في كتاب التبيان: "أي لم يأمرهم الله تعالى {إلا ليعبدوا الله} وحده ولا يشركوا بعبادته غيره {مخلصين له الدين} ولا يخلطون بعبادته عبادة سواه. وقوله {حنفاء} جمع حنيف وهو المائل إلى الحق ... وقوله {ويقيموا الصلاة} أي يدوموا عليها ويقوموا بحدودها {ويؤتوا الزكاة} المفروضة من أموالهم ثم قال {وذلك دين القيمة} أي ذلك هو دين الملة القيّمة" (5).
فالإخلاص لله تعالى في النية والتي هي في داخل نفس الإنسان ولا يعلم بها إلا الله تعالى والإنسان نفسه هو عالم بها أيضا هو " أن يكون العابد مخلصا في عبادته فلا يرائي ولا يشرك به تعالى في العبادة. قد حث القرآن الكريم على الإخلاص بعدم الرياء وبعدم الشرك فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2]، وقد ورد مدح الله (عز وجل) للعباد المخلصين فقال تعالى: مادحا يوسف (عليه السلام) بأنّه كان من المخلصين وإنّ هذا الوصف نفعه حين ابتلائه بالسجن فكان تحت عناية الله تعالى ورعايته وذلك في قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
وفي التبيان: "قرأ أهل الكوفة ونافع (المخلصين) بفتح اللام الباقون بكسرها... فإذا أخلصوا هم دينهم فهم مخلصون وإذا أخلصوا فهم مخلصون ففتح اللام على أساس أنه اسم مفعول للفعل المبني للمجهول وكسرها على أساس أنه اسم فاعل للفعل المبني للمعلوم" (6).
فالسوء بعيد عن يوسف (عليه السلام) لأنّه مخلص في عبادته، والإخلاص يجلب الحماية للإنسان فيكون تحت رعاية الله تعالى فلا يمكن للشيطان أن يغويه فقال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]. والمخلصون لا يشملهم العذاب والغضب فقال تعالى: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 39، 40].
وهناك آيات كثيرة وردت في مقام النهي عن الشرك والإشراك في عبادته تعالى... منها قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ... وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد: 36]
فتبين من هذه الآيات أنّ الإخلاص في العبادة لله تعالى يتطلب عدم الشرك وعدم الرياء ولذا قالوا: إن الرياء شرك خفي (7) لأنه عبارة عن العبادة بقصد المراءاة أمام الآخرين وحب الظهور أمامهم بمظهر الملتزم المتعبد فيكون قد جعل شريكا في عبادته (8).
حقيقة الإخلاص:
جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) في شرح حقيقة الإخلاص وبيان أثره في حياة الإنسان الأحاديث الكثيرة ننقل بعضا منها عن كتاب میزان الحكمة (9):
عن النبي (صلى الله عليه وآله): "ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من عمل لله".
عن الإمام علي (عليه السلام): " العبادة الخالصة ألا يرجو الرجل إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه".
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "العمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله (عز وجل)".
آثار الإخلاص:
عن النبي (صلى الله عليه وآله): "أخلص قلبك يكفك القليل من العمل".
عن النبي (صلى الله عليه وآله): "اعمل لوجه واحد يكفيك الوجوه كلها".
عن الإمام علي (عليه السلام): "في الإخلاص يكون الخلاص".
أسباب الإخلاص ومناشؤه:
عن الإمام علي (عليه السلام): " سبب الإخلاص اليقين".
عن الإمام علي (عليه السلام): "ثمرة العلم إخلاص العمل".
عن الإمام علي (عليه السلام): "أول الإخلاص اليأس مما في أيدي الناس".
وأخيرا يفصل لنا الإمام الباقر المسافة بين الإخلاص والرياء فيقول:
"ما بين الحق والباطل إلا قلة العقل قيل وكيف ذلك يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنّ العبد يعمل العمل الذي هو لله رضى فيريد به غير الله فلو أنّه أخلص لله لجاءه الذي يريد في أسرع من ذلك"(10).
فالمسافة بينهما تقدر بقلة عقل الإنسان وعدم تدبره فيما ينفعه وما يضره فإنه حين يعمل لله تعالى يرزقه الله من حيث لا يحتسب ويقبل عمله بينما إذا عمل ما كان لله تعالى يريد به غير الله فالله سيحرمه من الرزق ولا يقبل عمله فالعاقل يلحظ الربح في أعماله وعلى هذا فالمقابل للإخلاص هو الرياء والسمعة.
والرياء: هو "التظاهر بالخير من دون حقيقة لينال رضى الناس"(11) أو هو "طلب الجاه والرفعة في نفوس الناس بمراءات أعمال الخير"(12)، "وأصل الرياء من الرؤية وهي طلب المنزلة في قلوب الناس بآرائهم خصال الخير والسمعة من السباع وهي طلب المنزلة في قلوب الناس بأسماعهم ما يوجب ذلك"(13)، قال تعالى في وصف المنافقين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143] وممّا جاء في تفسير هذه الآية أنّ المنافقين لا يعملون شيئا من أعمال العبادات التي أوجبها على المؤمنين على وجه القربة إلى الله ... وإنما يفعلون ذلك إبقاء على أنفسهم وحذرة من المؤمنين أن يقتلوهم ويسلبوا أموالهم فهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى إليها رياء للمؤمنين ليحسبهم المؤمنون منهم وليسوا منهم" (14). "
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] "أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق رياء الناس لا يريد بإنفاقه رضاء الله ولا ثواب الآخرة" (15).
فالرياء والسمعة هما من أكبر الرذائل التي تحيط بنفس الإنسان فتسلبه التوفيق النيل مرضاة الرب تعالى شأنه حتى أنه ورد (16) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: "إني تخوّفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنا ولا شمسا ولا قمرا ولكتهم يراؤون بأعمالهم " وأنه قال : "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء". وجاء في أخبار أهل البيت (عليه السلام) وصف المرائي بأن له علامات أربع: " يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في الناس ويزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص منه إذا لم يثن عليه" ومن آثار الرياء أن صاحب العمل لا ينال ثوابه من عند الله بل يساق به إلى النار كما يحدثنا به الإمام الصادق (عليه السلام) " يجاء بعبد يوم القيامة قد صلى فيقول يا رب صليت ابتغاء وجهك فيقال له صليت ليقال ما أحسن صلاة فلان اذهبوا به إلى النار" ولذا حرص أئمتنا (عليهم السلام)على التنبيه لخطورة الرياء والتحذير من آثاره حتى بعد العمل ففي الرواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): " الإبقاء على العمل أشد من العمل: قال الراوي: وما الإبقاء على العمل؟ قال يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرا ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رئاء" فالنية إما حسنة بأن تكون القربة لله وإما سيئة بأن يشرك في النية مع الله أحدة أو يأتي بالعمل متقربا إلى غير الله تعالى مهما كان نوع العمل وعلى هذا فلا يصح أن يقال: "فالنية توصف بأنها حسنة أو عادية أو سيئة تبعا لما إذا كانت طاعة الإنسان الله من أجل ذاته أو كانت ذات هدف نفعي مشروع أو غير مشروع" (17) فالعمل إما الله تعالى أو لغيره ولا واسطة في البين نسأل الله تعالى التوفيق للإتيان بالأعمال الحسنة سرا وعلانية نريد بها وجه الله تعالى لننال بها رضوانه ونفوز بجنانه.
العِفّة:
العفة (بكسر العين) في اللغة: "الكف عما لا ينبغي وقلة الشيء فيقال العقة أي بقية اللبن في الضرع" (18).
وفي الاصطلاح: "هي الامتناع والترفع عما لا يحل أو لا يحمل من شهوات البطن والجنس (19)"، "ولذلك قيل عفت الرجل عن الحرام والعفيفة هي المرأة الخيرة والتي تصون عرضها وشرفها والتعفف هو الاقتصار على أخذ الشيء القليل وهو أيضا طلب العفاف والمتعفّف هو الذي يحاول الاتصاف بالعفة عن طريق الممارسة وقوة الإرادة"(20) فالعفة لا يعني حرمان النفس من رغباتها بل ضبط تصرّفاتها في البطن والجنس اللذين هما من الحاجات الضرورية فيقتصر على المعتدل ممّا أباحه الله تعالى لنا ولا نتجاوز الحد من جانبي الكثرة والقلة فالعفة في اصطلاح علماء الأخلاق " وسط بين رذيلتين وهما الشره وخمود الشهوة وأعني بالشره الانهماك في اللذات والخروج فيها عمّا ينبغي وأعني بخمود الشهوة السكون عن الحركة التي تسلك نحو اللذة الجميلة التي يحتاج إليها البدن في ضروراته وهي ما رخص فيه صاحب الشريعة والعقل (21) وقد جاء الجذر اللغوي (عفت) في القرآن الكريم في أربعة موارد بصيغتين:
الصيغة الأولى: صيغة فعل المضارع (يستعفف) في ثلاث آيات:
أ- قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6]، أي (من كان غنيا من ولاة أموال اليتامى فليستعفف باله عن أكلها) (22)، فكان النهي عن أكل مال اليتيم مقابل الولاية عليه إذا كان الولي غنيا. والخطاب في هذه الآية شامل للرجال والنساء.
ب- قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
ج- قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60].
هاتان الآيتان تتحدثان عن طلب العفة في جانب الجنس دون البطن وكان الخطاب في الآية الأولى شامل للرجال وللنساء يحثهم على طلب الحلال في العلاقة الجنسية إن حصلت وإلا فليمتنع عن الحرام حتى يغنيه الله من فضله فإن المتقي الله في السر والعلن يهيئ الله تعالى له سبيل الحلال من فضله من حيث يحتسب ولا يحتسب قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ..} [الطلاق: 2، 3]، وأمّا الآية الثانية فالخطاب متوجه نحو النساء بطلب العفة في إبراز ما يسوغ له من إبرازه بلحاظ كون المخاطب خصوص النساء القواعد اللاتي لا يرغب في نكاحهن لكبر السن فالخير لهن الستر والعفاف كل ذلك تحفظ عن إثارة الغريزة الجنسية في أجواء غير سليمة.
الصيغة الثانية: صيغة المصدر (التعفّف) في آية واحدة وهي قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة: 273]، والحديث في هذه الآية شامل للرجال والنساء بلحاظ الاكتفاء بالقليل ما لديهم على الرغم من الحاجة، فهم يظهرون بمظهر الغني تعففا وترفعا عن سؤال الآخرين فالله تعالى أشار إلى خصلة حسنة وهي التعفف عما لا يليق والامتناع عما لا يجمل بالإنسان فعله وقد أكد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على العفة والعفاف في البطن والجنس ففي ميزان الحكمة (23).
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " أفضل العبادة العفاف".
وعنه (عليه السلام) أيضا: " زكاة الجمال العفاف".
وعنه (عليه السلام) ايضا: "عفّوا عن نساء النساء تعف نساؤكم".
وعنه أيضا: " العفاف زينة الفقر".
فهذه الأقوال الأربعة وغيرها تتحدث عن العفاف كقيمة أخلاقية عالية يجب أن تتحلى بها نفس الإنسان، لما لها من آثار على حياته ، فالعفاف أفضل العبادة، إذ يمثل خضوعا لله تعالى وامتثالا لأوامره کما به ينمو الجمال ، فالزكاة في اللغة تعني: النمو، فالإنسان الجميل إذا كان عفيفا في بطنه وفرجه ازداد جمالا بخلاف ما لو كان شرها أو خامدا في الشهوة، فإنه سيذبل جماله ويزول، كما أن من آثار العفة عن التعرض لنساء الآخرين عن الآخرين عن نسائنا، وأخيرا وليس آخرا يكون العفاف زينة الفقير الذي لا يجد ما يزين به نفسه سوى العفاف في المال والجنس؛ وذلك لأن العفاف جاء: ليزينه وليكون ناطقا عنه بأنه يتمتع بالشيء المهم جدا في الحياة العملية للإنسان بما يحمي المجتمع من حواليه ويضيف إلى قائمة حسناته حسنة أخرى تكون نقطة تحول في غاية الأهمية إذ الكثير ممّن يقتني ويجمع المال ولكنّه من دون عفاف فلا يترك له أي أثر أو أي شيء يثير الانتباه إليه (24).
وقد عبر القرآن الكريم عن العقة في الجنس الحرام بالحفظ للفروج قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [النور: 30، 31] وقال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35]، فكان الخطاب والحديث موجهة للرجال والنساء حول حفظ الفرج عن الحرام في الجنس وأنهم مأمورون بذلك وعفة الفرج من صفات المؤمنين والمؤمنات وفي آيتين أخريين تحدث القرآن عن صفات المؤمنين بأنّهم مؤمنون من دون تفريق في الخطاب بين الرجال والنساء للتنبيه على أن العفة من شؤون الإيمان وتوابعه فقال (عز وجل): {ذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7] فالإيمان يمنع الإنسان من الإفراط في الجانب الجنسي من حياة الإنسان وللعفة ثمرتها العملية في حياة الإنسان ففي ميزان الحكمة (25):
عن الإمام علي (عليه السلام): "ثمرة العقة القناعة".
وعنه (عليه السلام) أيضا: "من عفت خف وزره وعظم عند الله قدره".
وعنه (عليه السلام) أيضا: "بالعفاف تزكو الأعمال".
الصبر:
الصبر لغة: "هو الحبس يقال صبرت نفسي على ذلك الأمر أي حبستها" (26).
وفي اصطلاح علماء الأخلاق هو: "مقاومة النفس للهوى لئلا تنقاد لقبائح اللذات"(27) وهذه المقاومة نلحظها في تصوير دقيق للصبر ذكره السيد عبدالله شبر في كتابه الأخلاق: "اعلم أنّ القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى والحرب بينهم على ساق و محل المعركة قلب المؤمن ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله ومدد باعث الشهوة والهوى من الشياطين الناصرين لأعداء الله فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة" (28).
وبتعبير آخر الصبر هو " حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عمّا يقتضيان حبسها عنه وضد الصبر الجزع ولذا جاء في القرآن الكريم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21]، والصوم يسمى صبرا؛ لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والشهوة ويسمى شهر رمضان شهر الصبر؛ لأنه شهر الصوم، والمصابرة: هي مطاولة الغير في الصبر، والتصبّر: هو تكلّف الصبر، والاصطبار: زيادة الاحتمال في مجال الصبر"(29).
ورد الجذر اللغوي (صبر) (103مرات) في القرآن الكريم بصيغ مختلفة وهي على النحو التالي (30)، ففي صيغة فعل الماضي (21 مرة)، وفي صيغة المضارع (11 مرة)، وفي صيغة فعل الأمر (29 مرة)، وفي صيغة المصدر (15 مرة)، وفي صيغة اسم الفاعل (22 مرة)، وفي صيغة المبالغة لاسم الفاعل (4 مرات)، ومرة واحدة في صيغة التعجب فمن هذا التكرار لمادة (صبر) نفهم الاهتمام الشديد بالصبر وممّا جاء في مدح القرآن للصبر قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة: 135] ففي الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)، قال: " الصبر الصيام وقال إذا نزلت بالرجل النازلة والشديدة فليصم فإن الله عز وجل يقول استعينوا بالصبر يعني الصيام (31).
ويعلق السيد السبزواريّ على هذه الرواية بقوله: "إنه من باب التطبيق لأن الصوم يوجب الصبر عن الشهوات النفسانية فلا منافاة بين هذا الحديث وسائر ما ورد في معنى الصبر" (32).
ومعنى الآية الشريفة الطلب إلى المؤمنين بأن يستعينوا في أمورهم بالصبر والصلاة وذلك لأن " الاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب... وأما الاستعانة بالصلاة فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب العالمين "(33)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] أي: معهم بالمعونة والنصرة كما تقول إذا كان السلطان معك فلا تبال من لقيت (34).
وضد الصبر "الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود... "(35)، وجاء عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في حق الصبر روايات كثيرة نذكر بعض ما ذكر في ميزان الحكمة (36):
عن الإمام علي (عليه السلام): "الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن جميل وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عليك".
عن الإمام الصادق (عليه السلام): " الصبر رأس الإيمان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دروس إسلامية، الحلقة 43 - 44، دار التوحيد، الكويت، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص27 – 28.
(2) مقاييس اللغة: ابن فارس، ص309.
(3) الأخلاق، عبد الله شبر ص 17.
(4) موسوعة أخلاق القرآن: الشرباصي، د. أحمد، دار الرائد العربي، ط2، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص173.
(5) التبيان، الطوسي، ج10، ص389 – 390.
(6) التبيان، ج6، ص120.
(7) مجمع الفائدة والبرهان المحقق الأردبيلي، أحمد (ت991هـ /1582م) جماعة المدرسين، قم، 1404هـ، ج12، ص371.
(8) مفهوم العبادة في القرآن الكريم، ص 33 – 34.
(9) ميزان الحكمة، ج3، ص57-68.
(10) ميزان الحكمة، ج1، ص760.
(11) شرح الأربعين النبوية: الجلالي محمد حسين، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط3، 1407هـ/1987م، ص363.
(12) أخلاق اهل البيت (عليهم السلام)، ص92.
(13) الأخلاق، عبد الله شبر، ص157.
(14) التبيان، ج2، ص365-366.
(15) الكشّاف، الزمخشريّ، م 1، ص 312.
(16) میزان الحكمة، ج 4، ص 28 - 32، ومنه أخذنا الروايات المذكورة في هذه النقطة.
(17) دستور الأخلاق في القرآن: دراز، د. محمد عبد الله، تح. د. عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص564.
(18) مقاييس اللغة، ص921.
(19) أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، ص64.
(20) موسوعة أخلاق القرآن، ج 1، ص 1.
(21) تهذيب الاخلاق لابن مسكويه، ص47.
(22) التبيان، ج 3، ص119.
(23) میزان الحكمة، ج6، ص358-359.
(24) أخلاق الامام علي (عليه السلام): الخرسان، محمد صادق، دار المرتضى، بيروت، ط1، 1425هـ/ 2004م، ص240.
(25) ميزان الحكمة، ج6، ص363.
(26) مقاييس اللغة، ص561.
(27) تهذيب الاخلاق: ابن مسكويه، ص41.
(28) الأخلاق، عبد الله شبر، ص227.
(29) موسوعة القرآن الكريم، ج1، ص191.
(30) المعجم المفهرس، ص339-401.
(31) الكافي، الكليني، ج4، ح7، ص63-64.
(32) مواهب الرحمن، ج2، ص175.
(33) مواهب الرحمن، ج2، ص163..
(34) التبيان، ج2، ص33.
(35) الأخلاق، عبد الله شبر، ص227.
(36) میزان الحكمة، ج5، ص261-267.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|