المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

علوم اللغة العربية
عدد المواضيع في هذا القسم 2749 موضوعاً
النحو
الصرف
المدارس النحوية
فقه اللغة
علم اللغة
علم الدلالة

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
زكاة الفطرة
2024-11-05
زكاة الغنم
2024-11-05
زكاة الغلات
2024-11-05
تربية أنواع ماشية اللحم
2024-11-05
زكاة الذهب والفضة
2024-11-05
ماشية اللحم في الولايات المتحدة الأمريكية
2024-11-05



بوادر اللحن  
  
9213   06:45 مساءاً   التاريخ: 12-08-2015
المؤلف : سعيد الأفغاني
الكتاب أو المصدر : من تاريخ النحو
الجزء والصفحة : ص8- 26
القسم : علوم اللغة العربية / المدارس النحوية / دوافع نشأة النحو العربي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-02-2015 3377
التاريخ: 12-08-2015 9214
التاريخ: 24-02-2015 3317
التاريخ: 24-02-2015 8082

بدأ اللحن قليلا خفيفا منذ أيام الرسول على ما يظهر، فقد لحن رجل بحضرته فقال: "أرشدوا أخاكم؛ فإنه قد ضل" (1) والظاهر أيضا أنه كان معروفا بهذا الاسم نفسه "اللحن" بدليل أن السيوطي روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "أنا من قريش ونشأت في بني سعد, فأنى لي اللحن"(2) وقد كان أبو بكر

ص8          

الصديق يقول: "لأن أقرأ فأسقط أحب إلي من أن أقرأ فألحن".
فإذا بلغنا عهد عمر رأينا المصادر تثبت عددا من حوادث اللحن. فتذكر أن
(3) عمر مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: "إنا قوم متعلمين" فأعرض مغضبا وقال: "والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم" سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه" وورد إلى عمر كتاب أوله: "من أبو موسى الأشعري" فكتب عمر لأبي موسى بضرب الكاتب(4) سوطا. والأنكى من ذلك تسرب اللحن إلى قراءة الناس للقرآن, فقد قدم أعرابي في خلافة عمر فقال: "من يقرئني شيئا مما أنزل على محمد؟ " فأقرأه رجل سورة براءة بهذا اللحن:
"
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ ... "
(5) فقال الأعرابي: "إن يكن الله بريئا من رسوله, فأنا أبرأ منه" فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه فقال: يا أمير المؤمنين, إني قدمت المدينة ... وقص القصة فقال عمر: "ليس هكذا يا أعرابي" فقال: "كيف هي يا أمير المؤمنين؟ " فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: "وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله

ص9

منهم". فأمر عمر ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة(6). ولعمر تنسب تلك المقولة المأثورة: "تعلموا العربية؛ فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة"(7).
ومر عمر برجلين يرميان فقال أحدهما للآخر: "أسبت" فقال عمر: "سوء اللحن أشد من سوء الرمي"
(8) فجعل إبدال الصاد سينا من اللحن.
وتكاد قصة بنت أبي الأسود تكون المعْلم المشهور في تاريخ النحو: فقد دخل عليها أبوها في وقدة الحر بالبصرة فقالت له: "يا أبت, ما أشدُّ الحر! " رفعت "أشد" فظنها تسأله وتستفهم منه: أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: "شهرا ناجر".
فقالت: "يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك"
(9).

ص10

ونتقدم خطوة في الزمن فيقص علينا ابن قتيبة أن رجلا دخل على زياد فقال له: "إن أبينا هلك وإن أخينا غصبنا على ميراثنا من أبانا" فقال زياد: "ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من مالك", وأن أعرابيا سمع مؤذنا يقول: "أشهد أن محمدا رسولُ الله" فقال: "ويحك، يفعل ماذا؟"(10).
وأن أعرابيا دخل السوق "فسمعهم يلحنون فقال: سبحان الله! يلحنون ويربحون, ونحن لا نلحن ولا نربح! "
(11).
وروى الجاحظ أن "أول لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي "بدل عصاي" وأول لحن سمع بالعراق: حيِّ على الفلاح "بكسر الياء بدل فتحها""
(12).
ثم شاع في العصر الأموي حتى تطرق إلى البلغاء من الخلفاء والأمراء كعبد الملك والحجاج, والناس يومئذ تتعاير به، وكان مما يسقط الرجل في المجتمع أن يلحن، حتى قال عبد الملك وقد قيل له: "أسرع إليك الشيب": "شيبني ارتقاء المنابر مخافة اللحن"3. وكان يقول: "إن الرجل يسألني الحاجة فتستجيب
ص11

نفسي له بها, فإذا لحن انصرفت نفسي عنها"(13) وكان يرى اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس(14).
والحجاج على أنه من الخطباء الأبيناء البلغاء, كان في طبعه تقزز من اللحن أن يقع منه أو من غيره، فإذا وقع منه حرص على ستره وإبعاد من اطلع عليه منه، ذكروا أنه سأل يحيى بن يعمر الليثي: "أتسمعني ألحن على المنبر؟ " فقال يحيى: "الأمير أفصح الناس إلا أنه لم يكن يروي الشعر" قال: "أتسمعني ألحن حرفا؟ " قال: "نعم، في آي القرآن" قال: "فذاك أشنع؛ وما هو؟ " قال تقول:
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... }
(15) تقرؤها "أحبُّ" بالرفع، فأنف الحجاج أن يطلع له رجل على لحن, فبعث به إلى خراسان4. وكان الحجاح يعجب بفصاحة يحيى هذا فسأله يوما: "أخبرني عن عنبسة بن سعيد: أيلحن؟ " قال: "كثيرا" قال: "أفأنا ألحن؟ " قال: "لحنا خفيفا" قال: "كيف ذلك؟ " قال: تجعل "أن, إن" و"إن, أن" ونحو ذلك. قال: "لا تساكني ببلد، اخرج"(16), وكان الرجل إذا أراد أن يفلت من عمل

ص12

للحجاج عاذ باللحن فنجا(17).
وهؤلاء تطرق إليهم قليل من اللحن لبعدهم عن قومهم في الجزيرة, مع أنهم نشئوا فيها وترعرعوا واكتهلوا، فلما كان من بعدهم عظم فشو اللحن فيهم حتى كان من أعظم المصائب في نفس عبد الملك أن ابنه الوليد لَحَّانة، وأنه أخذه بتعلم العربية فلم يفلح. ونقلوا عن عبد العزيز بن مروان الأمير الأموي المعروف وهو أخو عبد الملك لحنا، على أن عبد العزيز هذا وهو من أفصح الناس كان يعطي على العربية ويحرم على اللحن، حتى قدم عليه زوار من أهل المدينة وأهل مكة من قريش فجعل يقول للرجل منهم: "من أنت؟ " فيقول: "من بني فلان" فيقول للكاتب: "أعطه مائتي دينار" حتى جاءه رجل من بني عبد الدار فقال: "من أنت؟ " فقال: "من بنو عبد الدار" فقال: "تجدها من جائزتك" وقال لكاتبه: أعطه

ص13

مائة دينار"(18).
وقال عمر بن عبد العزيز: "إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكملني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب فأجيبه إليها؛ التذاذا لما أسمع من كلامه". وكان يقول: "أكاد أضرس إذا سمعت اللحن".

"الأضداد لابن الأنباري ص245".

وهذا معاوية بن بجير والي البصرة تشغله لحنة الناعي عن مصيبته بأبيه, فيقدم إنكارها.

ص14

فأنت تجد مما تقدم أن الخوف على العربية له ما يفرضه من النُّذُر، وأنه تمكن في النفوس حتى تضافرت جهود العلماء وذوي السلطان على صيانة العربية، وأن الحرمان من المال أو العمل مما كان يصيب اللحانة، وأن فصاحة المرء قد ترفعه إلى الولايات والغنى, وتزيد شأنه عند أولي الأمر؛ وهذا من طرف السلطان كافٍ في الترغيب والترهيب. وسؤال الحجاج عن لحن بعض الناس ذوي الشأن مشعر باهتمام الحكومة والمجتمع بأمر اللحن, وذلك طبيعي من دولة قامت على العصبية العربية بعد أن رأت اللحن يفشو في الطبقات الرفيعة من الأمراء والحكام وأشراف الناس، وفي قصة بشكست النحوي تعبير واضح عن أمرين: فشو اللحن ونظرة المثقفين إليه، ولا بأس في إيرادها ففيها طرافة, وفيها ظرف:

ص15

"وفد بشكست النحوي على هشام بن عبد الملك، فلما حضر الغداء دعاه هشام، وقال لفتيان بني أمية: "تلاحنوا عليه" فجعل بعضهم يقول: "يا أمير المؤمنين, رأيت أبي فلان ... " ويقول آخر: "مر بي أبي فلان ... " ونحو هذا، فلما ضجوا أدخل يده في صحفة فغمسها, ثم طلى لحيته وقال لنفسه: "ذوقي، هذا جزاؤك في مجالسة الأنذال! "(19).
إلى هذا المدى بلغ أمر اللحن في المائة الأولى للهجرة والدولة عربية محضة، والعصبية ذات سلطان، والقوم حديثو عهد بجزيرتهم ولا تزال مجتمعاتهم تتناقل القول المشهور: "ليس للاحن حرمة" وتتعامل به، هذا عبد الملك بن مروان استأذن عليه رجل من عِلْية أهل الشام وبين يديه قوم يلعبون بالشطرنج فقال: "يا غلام، غطها" فلما دخل الرجل فتكلم لحن، فقال عبد الملك: "يا غلام، اكشف عنها، ليس للاحن حرمة". "الأضداد لابن الأنباري ص245".
وبيت الخلافة أعرق بيوت قريش شرفا ومجدا وبلاغة وأقواها عصبية وعروبة
(20), والعرب -كما قرر ابن جني-

ص16

أشد استنكارا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة، فقد ينطق بعضهم بالدخيل والمولد, ولكنه لا ينطق باللحن.
ولذلك اشتد بلال بن أبي بردة على خالد بن صفوان لما رآه يلحن في حديثه العفوي معه فقال له: "أتحدثني أحاديث الخلفاء, وتلحن لحن السقاءات؟! " فلنحاول تبيان ما اختط أهل العربية من خطط يعالجون بها استفحال الداء، وهل كانوا إلى الشدة حين شرطوا للاحتجاج تلك الشروط التي أسقطت الاحتجاج بكلام كثير من العرب حتى في زمن الجاهلية؟
تصنيف العرب من حيث الوثوق بسلامة لغتها:
من يحتج به:
يراد بالاحتجاج هنا إثبات صحة قاعدة، أو استعمال كلمة أو تركيب، بدليل نقلي صح سنده إلى عربي فصيح سليم السليقة على ما سيأتي تفصيله في موضعه.

ص17
وإنما احتاج القوم إلى الاحتجاج لما خافوا على سلامة اللغة العربية بعد أن اختلط أهلها بالأعاجم إثر الفتوح, وسكنوا بلادهم وعايشوهم، فنشأ عن ذلك بسنة الطبيعة أخذ وعطاء في اللغة والأفكار والأخلاق والأعراف. وتنبه أولو البصر إلى أن الأمر آيل إلى إفساد اللغة وضياع العصبية من جهة، وإلى التفريط في

ص18

صيانة الدين من جهة ثانية، إذ كانت سلامة أحكامه موقوفة على حسن فهم المستنبط لنصوص القرآن الكريم والحديث الشريف, وكان في ضعف العربية تضييع لهذا الفهم.
بحث علماء العربية فيمن نقل الرواة عنهم من أهل المدر والوبر قدماء ومحدثين, وتقصوا أحوالهم ونقدوها، فاجتمعوا على الاحتجاج بقول من يوثق بفصاحته وسلامة عربيته، ونحن عارضون لأصناف هؤلاء زمانا ومكانا وأحوالا.
فأما الزمان, فقد قبلوا الاحتجاج بأقوال عرب الجاهلية وفصحاء الإسلام حتى منتصف القرن الثاني سواء أسكنوا الحضر أم البادية. أما الشعراء فقد صنفوا أصنافا أربعة: جاهليين لم يدركوا الإسلام, ومخضرمين أدركوا الجاهلية والإسلام، وإسلاميين لم يدركوا من الجاهلية شيئا، ومحدثين أولهم بشار بن برد
(21). وشبه الإجماع انعقد على صحة الاستشهاد بالطبقتين الأوليين واختلفوا في الطبقة الثالثة، وذهب عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب إلى جواز الاستشهاد بها(22) أما الطبقة الرابعة فلا يستشهد بكلامها في علوم اللغة والنحو والصرف خاصة، وكان آخر من يحتج بشعره على هذا الأساس بالإجماع إبراهيم بن هرمة "70-150هـ" الذي ختم الأصمعي به الشعر(23). أما

ص19

أهل البادية فقد استمر العلماء يدونون لغاتهم حتى فسدت سلائقهم في القرن الرابع الهجري(24).
وعلى هذا "أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين, والمحدثين في اللغة العربية"
(25).
وأما المكان أو بعبارة أخرى القبائل، فقد اختلفت درجاتها في الاحتجاج على اختلاف قربها أو بعدها من الاختلاط بالأمم المجاورة، فاعتمدوا كلام القبائل في قلب جزيرة العرب، وردوا كلام القبائل التي على السواحل أو في جوار الأعاجم، وإليك تصنيف أبي نصر الفارابي لهم في الاحتجاج:
أ- "كانت قريش أجود العرب انتقاء
(26) للأفصح من

ص20

الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا وأبينها عما في النفس.
والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم:
قيس وتميم وأسد, فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.
ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين, ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم
(27).
ب- وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم:
لم يؤخذ من لخم ولا من جذام؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط.
ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد؛ فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام, وأكثرهم نصارى يقرءون بصلاتهم بغير العربية.
ولا من تغلب ولا النمر؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية.
ولا من بكر؛ لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس.

ص21

ولا من عبد القيس؛ لأنهم كانوا من سكان البحرين مخالطين للهند والفرس.
ولا من أزد عمان؛ لمخالطتهم للهند والفرس.
ولا من أهل اليمن أصلا؛ لمخالطتهم للهند والحبشة, ولولادة الحبشة فيهم.
ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وسكان الطائف؛ لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم.
ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب، قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم
(28).

ص22

وكأن هذا التصنيف حاز القبول وجرى عليه العمل وكان الخروج عليه مدعاة إلى النقد، ولما اعتمد ابن مالك على لغات لخم وجذام وغسان، تعقبه باللوم أبو حيان فقال في شرح التسهيل: "ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن"(29).
وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لا أقول: "قالت العرب" إلا ما سمعت من عالية السافلة وسافلة العالية" يريد ما بين نجد وجبال الحجاز حيث قبائل أسد وتميم وبعض قبائل قيس, بل كان عثمان يقول: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"
(30).
وأما أحوال هؤلاء العرب المحتج بهم فخيرها ما كان أعمق في التبدي وألصق بعيشة البادية؛ ولذا كان مما يفخر به البصريون على الكوفيين أخذهم عن الأعراب أهل الشيح والقيصوم وحرشة الضباب وأكلة اليرابيع, ويقولون للكوفيين: "أخذتم عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ"
(31). وقد نص

ص23

الفارابي بعد قوله المتقدم آنفا على صناعة هؤلاء الأعراب وصفاتهم فقال: "كانت صنائع هؤلاء التي بها يعيشون الرعاية والصيد واللصوصية، وكانوا أقواهم نفوسا وأقساهم قلوبا وأشدهم توحشا وأمنعهم جانبا وأشدهم حمية وأحبهم لأن يَغلبوا ولا يُغلبوا، وأعسرهم انقيادا للملوك, وأجفاهم أخلاقا وأقلهم احتمالا للضيم والذلة"(32).
وتستطيع أن تجعل مرد الأمر كله -بعد ما تقدم لك- إلى الوثوق من سلامة لغة المحتج به وعدم تطرق الفساد إليها، وهذا هو الضابط في التصنيف الزماني والمكاني اللذين مرا بك، فأنت تعلم إسقاط العلماء الاحتجاج بشعر أمية بن أبي الصلت وعدي بن زيد العبادي
(33), وحتى الأعشى عند بعضهم؛ لمخالطتهم الأجانب وتأثر لغتهم بهذه المخالطة، حتى حمل شعرهم عددا غير قليل من ألفاظ ومصطلحات لا تعرفها العرب، وكل

ص24

هؤلاء شعراء جاهليون(34)؛ بينما يذهب فريق إلى الاحتجاج بكلام الشافعي المتوفى في القرن الثالث للهجرة، حتى نص الإمام أحمد بن حنبل على أن "كلام الشافعي في اللغة حجة"(35) لسلامة نشأته, وتقلبه في البيئات العربية السليمة. قيل لبشار: "ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه! " قال: "ومن أين يأتيني الخطأ؟ ولدت ههنا ونشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت؛ فمن أين يأتيني الخطأ؟ "(36).
وكلمة بشار هذه دليل قاطع على وجود بيئات في المدن سليمة من اللحن لزمنه في المائة الثانية للهجرة.
ويعجبني كثيرا قول ابن جني في هذا الموضوع في باب "ترك

ص25

الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر" :
"
علة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر. وكذلك أيضا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها، وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا؛ لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا، وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك, ويقدح فيه.."
(37).

ص26
__________

(1) الخصائص لابن جني 2/ 8 "مطبعة دار الكتب المصرية 1950". وروي في إرشاد الأريب عن عبد الله بن مسعود 1/ 82.

(2) المزهر للسيوطي 2/ 397 طبعة "دار إحياء الكتب العربية, القاهرة "بعناية محمد أحمد جاد المولى ورفيقيه"، ورواه السيوطي في الجامع الصغير عن الطبراني, وقد ضعفه المحدثون.

(3) إرشاد الأريب 1/ 67 مطبوعات دار المأمون، والأضداد لابن الأنباري ص244 طبع حكومة الكويت.
(4)هو أبو الحصين بن أبي الحر العنبري كما في وفيات الأعيان "5/ 99"، وكان أبو موسى قد استكتبه بعد زياد.
(5) سورة التوبة 3.

(6) نزهة الألباء ص7, وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 7/ 110 مطبعة الترقي بدمشق 1351هـ, وانظر الخصائص لابن جني 2/ 8 وعيون الأخبار، وانظر مراتب النحويين ص18. هذا وروايات اللحن في هذه الآية لا تتفق على وتيرة، فمنها ما يجعل هذه القصة في زمن زياد، وأن زيادا هو الذي طلب من أبي الأسود وضع شيء يقيم عوج الألسنة اللاحنة, فأبى أبو الأسود, فبعث زياد رجلا يقعد له بطريقه، وأمره أن يقرأ شيئا من القرآن ويتعمد اللحن، فقرأ: ".. أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ.." بالجر، فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: "عز وجه الله، إن الله لا يبرأ من رسوله" ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: "يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت". انظر كتاب "الف باء" للبلوي 1/ 46, ولا يبعد الجمع بين الروايات.
(7) إرشاد الأريب 1/ 77 وفي ص"78" أن الزهري كان يقول: "ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من تعلم النحو". هذا وقد زعموا أن عمر بن الخطاب كان يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ "ص79" وأن ابنه عبد الله كذلك "ص89".
(8) البخاري في "الأدب المفرد" ص227.
(9) وتتمة الخبر في الأغاني للأصفهاني "11/ 101": أنه دخل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم، وأوشك أن تطاول عليها زمان أن تضمحل" وأخبره خبر ابنته ... فأملى عليه: إن الكلام كله لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى, وهذا القول أول كتاب سيبويه. ثم رسم أصول النحو كلها فنقلها النحويون وفرعوها. ا. هـ قلت: هذه إحدى روايات مشهورة في أولية النحو، وبعد صفحة نجد أبا الفرج يروي عن ابن أبي الأسود قوله: "أول باب وضعته في النحو: التعجب".
وفي الحادث الذي حفز أبا الأسود على وضع ما وضع روايات عدة, قد يأتي بعضها في بحث الخلاف، وانظر واحدة يرويها الزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين ص15 وفي النفس شيء من نسبة الأولية في وضع النحو, وسائر العلوم لعلي بن أبي طالب.

(10)عيون الأخبار 2/ 159, ومر أبو عمرو بن العلاء بالبصرة فإذا أعدال مطروحة مكتوب عليها: "لأبو فلان" فقال: "يا رب يلحنون, ويرزقون" إنباه الرواة 2/ 319.
(11) البيان والتبيين 2/ 219.
(12) مخطوطة الظاهرية من تاريخ دمشق لابن عساكر رقم 22 تاريخ ج5 الورقة 490/1.

(13) من رسالة للجاحظ في صناعة القواد، ص260 "رسائل الجاحظ" جمع السندوبي.
(14)عيون الأخبار 2/ 158, ومن قول ابنه مسلمة: "اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه".
(15) سورة التوبة 9/ 24.
(16) تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 4/ 65 "روضة الشام 1332هـ" وطبقات النحويين واللغويين ص5.
ذكر ابن قتيبة: أن الحجاج أمَّ قوما فقرأ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} وقرأ في آخرها:  " أن ربهم بهم يومئذ خبير" بفتح همزة "أن" ثم تنبه على اللام في {لَخَبِيرٌ} وأن "أن" قبلها لا تكون إلا مكسورة, فحذف اللام من {لَخَبِيرٌ} فقرأ: "أن ربهم بهم يومئذ خبير" عيون الأخبار 2/ 160. ومع هذا فقد روي عن الأصمعي قوله: أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي وعبد الملك والحجاج بن يوسف وابن القرية، والحجاج أفضلهم. أمالي الزجاجي ص15.

(17) في إرشاد الأريب "1/ 87": بعث الحجاج إلى والي البصرة: أن اختر لي عشرة ممن عندك, فاختار رجالا منهم كثير بن أبي كثير وكان رجلا عربيا، قال كثير: فقلت في نفسي: "لا أفلت من الحجاج إلا باللحن". فلما أدخلنا عليه دعاني فقال: "ما اسمك؟ " قلت: "كثير" قال: "ابن من؟ " فقلت: "ابن أبا كثير" فقال: "عليك لعنة الله وعلى من بعث بك، جئوا في قفاه" فأخرجت.

(18) تاريخ دمشق لابن عساكر "مخطوطة الظاهرية رقم 22 تاريخ ج5 الورقة 150/ 1".
هذا ومن المقيد ذكر الباعث على عناية عبد العزيز بن مروان بالعربية, فقد روى ابن عساكر قبل هذا الخبر أنه "دخل على عبد العزيز رجل يشكو صهرا له فقال: "إن ختني فعل بي كذا وكذا" فقال له عبد العزيز: "من ختنَك؟ " فقال له: "ختنني الختان الذي يختن الناس" فقال عبد العزيز لكاتبه: "ويحك، بم أجابني؟ " فقال له: "أيها الأمير, إنك لحنتَ وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقول له: "ومن ختنُك؟ " فقال عبد العزيز: أراني أتكلم بكلام لا يعرفه العرب، لا شاهدت الناس حتى أعرف اللحن, فأقام في البيت جمعة لا يظهر ومعه من يعلمه العربية، فصلى بالناس الجمعة وهو من أفصح الناس". ا. هـ. قلت: تروى هذه اللحنة للوليد بن عبد الملك. انظر ص143 من "نقد النثر" المنسوب لقدامة "مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر, القاهرة 1359هـ". خزانة الأدب 3/ 583.
وانظر في لحنه أيضا البيان والتبيين للجاحظ "2/ 204" فما بعد "مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1368".
أما أمر الوليد الذي مر آنفا فقد أهمّ عبد الملك, حتى أفضى بذات نفسه يوما إلى روح بن زنباع قائلا:
"
يا أبا زرعة، قد غلبني الوليد باللحن, وسأظهر العشية كآبة فسلني عنها ودعني والوليد" فلما أذن العشاء أظهر كآبة وعنده لوليد وسليمان وروح, فقال له روح: "ما هذه الكآبة يا أمير المؤمنين, لا يسوءك "الله" ولا يريك مكروها؟! " قال: ذكرت ما في عنقي من أمر هذه الأمة, وإلى من أصير أمرها بعدي! قال له روح: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين, فأين أنت عن الوليد سيد شباب العرب! , قال: "يا أبا زرعة, لا ينبغي أن يلي أمر العرب إلا من يتكلم بكلامها" فقام الوليد فدخل منزله فجمع إليه أصحاب النحو، فأقام ستة أشهر معهم، وخرج يوم خرج وهو أجهل بالنحو منه يوم دخل، فقال عبد الملك: "قد أجهد وأعذر" المصدر السابق, الورقة 421/ 1.
واحتج على عبد الملك بلحن الوليد هذا، فقد ذكر ابن عساكر أن عبد الملك قال لرجل من قريش: "إنك لرجل, لولا أنك تلحن" فقال: "وهذا ابنك الوليد يلحن! " قال عبد الملك: "لكن ابني سليمان لا يلحن" قال الرجل: "وأخي فلان لا يلحن! " الورقة 424/ 1.
بل كان لا يستطيع تجنب اللحن حتى على المنبر، ذكره أبو الزناد يوما فقال: "كان لحانا, كأني أسمعه على منبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: يا أهلُ المدينة! ".
بل كان لا يستطيع تجنبه حتى في آيات القرآن: قرأ يوما على المنبر: "يا ليتها كانت القاضيةُ" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز "وكان تحت المنبر: "يا ليتها كانت "القاضية" عليك وأراحتنا منك!" الورقة 424/ جـ.
وكان عمر بن عبد العزيز هذا أشد الناس في اللحن على ولده وخاصته ورعيته, وربما أدَّب عليه. إرشاد الأريب 1/ 89.

(19) تاريخ دمشق لابن عساكر "مخطوطة الظاهرية" الجزء السابق الورقة 454/ 1 ثم قال ابن عساكر فيه: "وكان نحويا أخذ عنه أهل المدينة، وكان يذهب مذهب الشراة ويكتم ذلك. فلما ظهر أبو حمزة الشاري بالمدينة "سنة 130هـ" خرج معه فقتل فيمن قتل بخلافة مروان بن محمد" واسمه عبد العزيز القارئ, وقيل في مقتله:

لقد كان بشكست عبد العزيز ... من أهل القراءة والمسجد
فبعدا لبشكست عبد العزيز ... وأما القرآن فلا يبعد

انظر النسخة الثانية من تاريخ دمشق لابن عساكر "رقم 9/ 3374 تاريخ" 10 الورقة 202، والأغاني 1/ 111 و20/ 108 و110, وإنباه الرواة 2/ 183.
(20) هذا ومع ضعف السليقة العربية على الزمن لم يضعف استهجان الخاصة للحن، وحسبك هذه الحوادث الأربع رمزا إلى ذلك، وكلها في صدر الدولة العباسية: تكلم أبو جعفر المنصور في مجلس فيه أعرابي فلحن، فصر الأعرابي أذنيه "حددهما مصغيا باهتمام" فلحن مرة أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابي: "أف لهذا, ما هذا؟! " ثم تكلم فلحن الثالثة فقال الأعرابي: "أشهد لقد وليت هذا الأمر بقضاء وقدر! ".
وقال سعيد بن سلم: "دخلت على الرشيد فبهرني هيبة وجمالا، فلما لحن خَفّ في عيني".
ودخل رسول والي الكوفة العباس بن محمد بن موسى على طاهر بن الحسين فقال له: "أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام" قال: "وما أنت منه؟! " قال: "كاتبه الذي يطعمه الخبز" فأمر توا بصرف العباس عن الكوفة؛ إذ لم يتخذ كاتبا يحسن الأداء عنه.
إرشاد الأريب 1/ 83، 84, 86 بتصرف يسير، بل إن المأمون كان يأخذ عماله باللوم إذا كان في كتبهم إليه لحن, ويعد ذلك تفريطا في جانب مقام الخلافة, وإليك حديث ابن قادم النحوي الكوفي:
"
وجه إلي إسحاق بن إبراهيم المصعبي يوما فأحضرني, فلم أدر ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل وهو على غاية من الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: "إنه إسحاق" ومر غير متلبث ولا متوقف حتى رجع إلى مجلس إسحاق، فراعني ذلك. فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال: "وهذا المال مالا" أو"وهذا المال مال"؟! فعلمت ما أراد ميمون، فقلت له: "الوجه "وهذا المال مال" ويجوز "وهذا المال مالا"" فأقبل إسحاق على ميمون بغلظة وفظاظة ثم قال: "الزم الوجه في كتبك, ودعنا من يجوز ويجوز" ورمى بكتاب في يده، فسألت عن الخبر فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون وهو ببلاد الروم عن إسحاق وذكر ما لا حمله, فكتب: "وهذا المال مالا" فخط المأمون على الموضع من الكتاب ووقع بخطه في حاشيته: "تخاطبني بلحن!! " فقامت القيامة على إسحاق.
فكان ميمون بعد ذلك يقول: "ما أدري كيف أشكر ابن قادم، أبقى علي روحي ونعمتي!! " قال ثعلب راوي الحديث: "فكان هذا مقدار العلم وعلى حسب ذلك كانت الرغبة في طلبه والحذر من الزلل" قال: "وهذا المال مالا" ليس بشيء، ولكن أحسن ابن قادم في التأتي لخلاص ميمون. إنباه الرواة 3/ 157 وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص153.
حتى إذا امتد الزمن خف الاستنكار شيئا ما, فصرنا نرى ثعلبا النحوي "لا يتكلف إقامة الإعراب في كلامه إذا لم يخش لبسا في العبارة" ونرى إبراهيم الحربي وقد ذكر له ذلك يقول: "أيش يكون إذا لحن في كلامه؟ كان هشام النحوي يلحن في كلامه، وكان أبو هريرة يكلم صبيانه بالنبطية". إنباه الرواة 1/ 140.
بل كان بعض الأمراء بالبصرة يقرأ "إن الله وملائكتُهُ" بالرفع, فمضى إليه الأخفش ناصحا له فانتهره وتوعده, وقال: "تلحنون أمراءكم!! " إنباه الرواة 2/ 43.
على أن من يعتد بهم في المجتمع مضوا على استهجان اللحن زمنا طويلا, فقد حدث حفص بن غياث قال:
"
وجه إلينا عيسى بن موسى ليلا فصرنا إليه والجند سماطان, وقد امتلأنا رعبا منه فقال:
"
ما دعوتكم إلا لخيرا" فزالت هيبته من قلوبنا لقبح لحنه". المصون للعسكري ص146 طبعة حكومة الكويت سنة 1960م.

(21) الاقتراح ص32.
(22) خزانة الأدب 1/ 20.
(23) الاقتراح للسيوطي ص22 "مطبعة المعارف بحيدر آباد 1310هـ". هذا, وبعضهم يرى الاحتجاج بالطبقة الرابعة مستدلا باستشهاد سيبويه بشعر بشار بن برد في "الكتاب"، ويرد المعترضون بأنه إنما فعل ذلك خوفا من لسانه.

(24) قرر ياقوت في معجم البلدان مادة "عكد" أن جبلي "عكاد" فوق مدينة الزرائب "وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة, وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه".
"توفي ياقوت سنة 626هـ" ثم جاء صاحب القاموس المحيط المتوفى سنة "817هـ" فقرر أن "عكادا" جبل باليمن قرب مدينة زبيد, وأهله باقية على اللغة الفصيحة.
ثم زاد المرتضي الزبيدي المتوفى سنة "1205هـ" في شرحه للقاموس عند هذه المادة كلمة "إلى الآن" وقال: "لا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليالٍ خوفا على لسانهم! " ارجع إلى هذا المادة "عكد" في المراجع الثلاثة المذكورة. والزبيدي أقام في "زبيد" زمنا طويلا فهو بها عارف.
(25) الاقتراح ص31 وقد مال الزمخشري إلى استثناء أئمة العربية من ذلك, داعيا إلى "جعل الوثوق بكلامهم كالوثوق برواياتهم" وليس بشيء.
(26) قال ابن فارس: "وكانت قريش مع فصاحتها ... إذا اتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها, فصاروا بذلك أفصح العرب" الصاحبي ص23 "المطبعة السلفية بالقاهرة".

(27) ومع هذا لم تكن لغات هؤلاء بالمرضية دائما, قال الحسن البصري يوما: "توضيت" فقيل له: "أتلحن يا أبا سعيد؟! " فقال: "إنها لغة هذيل, وفيها فساد". انظر كتاب "ألف باء" للبلوي 1/ 46.

(28) الاقتراح للسيوطي ص32 نقلا عن كتاب الفارابي "الألفاظ والحروف".
هذا وقد أورد الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" مقابلة طريفة بين لغات أهل مكة والبصرة والكوفة، يفيد إيرادها في شرح الظاهرة المذكورة أعلاه، قال الجاحظ: "أهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب؛ ولذلك نجد الاختلاف في ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام ومصر.... وقال أهل مكة لمحمد بن مناذر الشاعر: "ليست لكم معاشر أهل البصرة لغة فصيحة، إنما الفصاحة "هنا أهل مكة"" فقال محمد بن مناذر: "أما ألفاظنا فأحكى الألفاظ للقرآن وأكثرها موافقة له، فضعوا القرآن بعد هذا حيث شئتم: أنتم تسمون القدر برمة وتجمعون البرمة على برام، ونحن نقول "قدر" ونجمعها على قدور، وقال الله عز وجل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} وأنتم تسمون البيت "علية" وتجمعون هذا الاسم على علالٍ ونحن نسميه "غرفة" ونجمعه على غرف وغرفات، وقال الله: {غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ}، وأنتم تسمون الطلع "الكافور والإغريض" ونحن نسميه الطلع وقال الله: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} فعد عشر كلمات لم أحفظ أنا منها غير هذا.
ألا ترى أن أهل المدينة لما نزل فيها ناس من الفرس في قديم الدهر, علقوا بألفاظ من ألفاظهم؛ ولذلك يسمون البطيخ "الخربز" ويسمون ... إلخ.
وكذا أهل الكوفة يسمون المسحاة: "بال" وبال بالفارسية, ولو علق ذلك لغة أهل البصرة إذ نزلوا بأدنى بلاد فارس وأقصى بلاد العرب كان ذلك أشبه إذ كان أهل الكوفة نزلوا بأدنى بلاد النبط وأقصى بلاد العرب, ويسمي أهل الكوفة الحوك "البقلة الحمقاء" بازورج, والبازورج بالفارسية والحوك كلمة عربية. وأهل البصرة إذا التقت أربع طرق يسمونها "مربعة" وتسميها أهل الكوفة "جهارسو" والجهار بالفارسية. ويسمون السوق أو السويقة وازار والوازار بالفارسية, ويسمون القثاء خيارا والخيار فارسية, ويسمون المجذوم يذي بالفارسية. ا. هـ 1/ 18.
وبهذه الأمثلة التي طغى فيها الأثر الاجتماعي على الأثر الجغرافي تدرك الحافز لعلماء العربية على إسقاط من أسقطوا في الاحتجاج من العرب في الجاهلية والإسلام.

(29)الاقتراح ص24.
(30)انظر مجلة مجمع اللغة العربية "بالقاهرة" 8/ 141.
(31)الشيراز: اللبن المصفى، والكامخ: إدام, انظر القاموس المحيط.

(32) الاقتراح ص24.
(33) إسقاط الاحتجاج في اللغة لا يؤثر في الشاعرية؛ وعلى هذا ينبغي أن يفهم إنكار القاضي الجرجاني زعم الأصمعي:
"
زعم الأصمعي أن العرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد؛ لأن ألفاظهما ليست بنجدية"، وكيف يكون ذلك وهذا معاوية يفضل عديا على جماعة الشعراء, وهذا الحطيئة يسأل: من أشعر الناس؟ فيقول: الذي يقول -وأنشد لأبي دؤاد:

لا أعد الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد ززئته الإقتار

... إلخ الأبيات.

الوساطة ص 49.

هذا ومن العلماء من لا يحتج بغير الجاهليين, وقد قال الأصمعي: "جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي".

(34) مع هذا لا بد من بعض التسامح, فإن التدقيق والتقصي لا يسلم عليهما كثير من كلام المحتج بهم: هذا الكميت والطرماح روي أنهما كانا يسألان العجاج عن الغريب ثم يراه في شعرهما موضوعا في غير مواضعه، فقيل له: "ولم ذاك؟ " قال: "لأنهما قرويان يصفان ما لم يريا, فيضعانه في غير موضعه وأنا بدوي أصف ما رأيت فأضعه في مواضعه" الأغاني 2/ 17 بل إن الأصمعي كان يقول في الكميت: "جرمقاني من جراميق "عجم" الشام لا يحتج بشعره" وينكر مواضع من شعر الطرماح ويلحن ذا الرمة, انظر الوساطة للقاضي الجرجاني ص9. بل ذهب الجرجاني في باب "أغاليط الشعراء ص4 من الوساطة" إلى أنه لا توجد قصيدة واحدة من كل تلك الدواوين الجاهلية والإسلامية "تسلم من بيت أو أكثر لا يمكن لعائب القدح فيه". وما أشبه هذا بالحق.
(35) الاقتراح ص24.
(36) الأغاني 3/ 26 طبعة الساسي.

(37) الخصائص 2/ 5, ثم ذكر ابن جني أدلة على فساد سليقة الأعراب في زمنه فقال: "وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة الحضرية، فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له، وميزناه تمييزا حسن في النفوس موقعه, إلى أن أنشدني يوما شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيه: "أشأؤها, وأدأؤها" "بوزن أشععها وأدععها" فجمع بين الهمزتين كما ترى. واستأنف من ذلك ما لا أصل له، ولا قياس يسوغه، نعم وأبدل إلى الهمز حرفا لاحظ له في الهمز، بضد ما يجب؛ لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما. فكيف أن يقلب إلى الهمز قلبا ساذجا عن غير صنعة ما لا حظ له في الهمز، ثم يحقق الهمزتين جميعا! هذا ما لا يبيحه قياس ولا ورد بمثله سماع ... إلخ.




هو العلم الذي يتخصص في المفردة اللغوية ويتخذ منها موضوعاً له، فهو يهتم بصيغ المفردات اللغوية للغة معينة – كاللغة العربية – ودراسة ما يطرأ عليها من تغييرات من زيادة في حروفها وحركاتها ونقصان، التي من شأنها إحداث تغيير في المعنى الأصلي للمفردة ، ولا علاقة لعلم الصرف بالإعراب والبناء اللذين يعدان من اهتمامات النحو. واصغر وحدة يتناولها علم الصرف تسمى ب (الجذر، مورفيم) التي تعد ذات دلالة في اللغة المدروسة، ولا يمكن أن ينقسم هذا المورفيم الى أقسام أخر تحمل معنى. وتأتي أهمية علم الصرف بعد أهمية النحو أو مساويا له، لما له من علاقة وطيدة في فهم معاني اللغة ودراسته خصائصها من ناحية المردة المستقلة وما تدل عليه من معانٍ إذا تغيرت صيغتها الصرفية وفق الميزان الصرفي المعروف، لذلك نرى المكتبة العربية قد زخرت بنتاج العلماء الصرفيين القدامى والمحدثين ممن كان لهم الفضل في رفد هذا العلم بكلم ما هو من شأنه إفادة طلاب هذه العلوم ومريديها.





هو العلم الذي يدرس لغة معينة ويتخصص بها – كاللغة العربية – فيحاول الكشف عن خصائصها وأسرارها والقوانين التي تسير عليها في حياتها ومعرفة أسرار تطورها ، ودراسة ظواهرها المختلفة دراسة مفصلة كرداسة ظاهرة الاشتقاق والإعراب والخط... الخ.
يتبع فقه اللغة من المنهج التاريخي والمنهج الوصفي في دراسته، فهو بذلك يتضمن جميع الدراسات التي تخص نشأة اللغة الانسانية، واحتكاكها مع اللغات المختلفة ، ونشأة اللغة الفصحى المشتركة، ونشأة اللهجات داخل اللغة، وعلاقة هذه اللغة مع أخواتها إذا ما كانت تنتمي الى فصيل معين ، مثل انتماء اللغة العربية الى فصيل اللغات الجزرية (السامية)، وكذلك تتضمن دراسة النظام الصوتي ودلالة الألفاظ وبنيتها ، ودراسة أساليب هذه اللغة والاختلاف فيها.
إن الغاية الأساس من فقه اللغة هي دراسة الحضارة والأدب، وبيان مستوى الرقي البشري والحياة العقلية من جميع وجوهها، فتكون دراسته للغة بذلك كوسيلة لا غاية في ذاتها.





هو العلم الذي يهتم بدراسة المعنى أي العلم الذي يدرس الشروط التي يجب أن تتوفر في الكلمة (الرمز) حتى تكون حاملا معنى، كما يسمى علم الدلالة في بعض الأحيان بـ(علم المعنى)،إذن فهو علم تكون مادته الألفاظ اللغوية و(الرموز اللغوية) وكل ما يلزم فيها من النظام التركيبي اللغوي سواء للمفردة أو السياق.