[سبب إسلام خالد وعمرو ابني سعيد]

ذكر العباس عن عبد الله بن الهاشمي [1] قال: كان سبب ذلك أن خالد بن سعيد بن العاص رأى رؤيا [2] قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأن ظلمة غشيت مكة فلم يبصر لها سهلا ولا جبلا، ثم رأى نورا سطع من زمزم كهيئة المصباح ثم علا فسمع هاتفا في النور يقول: سبحانه سبحانه! هلك ابن مارد بحطمة [3] الغضا [4] بين أذرح [5] والأكمة [6] ، سبحانه سبحانه! بعث النبي الأمي، سبحانه سبحانه! كذبه أهل هذه القرية، وتعذب [7] مرتين وتهلك في الثالثة، وعلا النور حتى رأيت نخل يثرب وفيه الأعذاق [8] ، فأتى خالد بن سعيد أخاه عمرا وكان صفيّة [9] من بين إخوته، فقصّ عليه رؤياه، فقال له عمرو: يا أخي! إن صدقت رؤياك ليحدثن في ولد عبد المطلب حدث شريف، وكانا شريكين في تجارتهما يقيم أحدهما عاما ويسافر الآخر، فخرج عمرو إلى الشام في نوبته [10] وبعث الله محمدا صلى الله عليه فآمن به خالد، وسمع بأخيه مقبلا فلقيه في موضع لم يكن يلقاه في مثله [11] ، فلما بصر به عمرو راعه ذلك وقال: يا أخي! استقبلتني في موضع لم تكن لتستقبلني في مثله فهل حدث حدث؟ قال: لم يحدث إلا خير، ثم خلا به فقال: يا أخي! أما تذكر الرؤيا [12] التي كنت قصصتها عليك؟ قال: ما، اذكرني لها، قال: فقد بعث الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب نبيا يدعوا إلى الله، فآمن عمرو ودخلا جميعا مؤمنين يكتمان [13] إيمانهما قال: ودخل النبي صلى الله عليه وأله على سعيد بن العاص في مرضه الذي [14] مات فيه وقد أغمي عليه وفي يد النبي صلى الله عليه وآله خرقة فوضعها على جبهة سعيد فأفاق [15] سعيد، فبصر بالنبي صلى الله عليه وآله عند رأسه فقال: أنت الذي تعيب آلهتنا وتسفه أحلامنا، لئن رفع الله سعيدا ليجلينك عن مكة، ورجله في حجر خالد ورأسه في حجر عمرو، فنبذا رأسه ورجله وقالا: لا رفع الله صرعتك! ثم التفتا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالا: قد آمنا بك وصدقناك، فيقال إن هذه الآية نزلت فيهما لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ من حَادَّ الله وَرَسُولَهُ 58: 22 [16] إلى آخر الآية، فأمر سعيد بحبسهما فحبسا واشتد وجعه، فقال: أخرجوني إلى مالي بالطائف، فأخرجوه فمات بأرض يقال لها: الظريبة [17] ، وأبان بن سعيد أخوهما لم يسلم يومئذ، فأنشأ يقول: (الطويل)

ألا ليت ميتا بالظريبة شاهد ... لما يفتري [18] في الدين عمرو وخالد

أضافا إلى دين [19] جميعا فأصبحا ... يعينان من أعدائنا من نكايد [20]

فأجابه عمرو وقال: (الطويل)

أخي ما أخي لا شاتم أنا عرضه ... ولا هو عن سوء المقالة [21] مقصر [22]

يقول إذا شكت [23] عليه أموره ... ألا ليت ميتا بالظريبة [24] ينشر

فدع [25] عنك ميتا قد مضى لسبيله ... وأقبل إلى الحي [26] الذي هو أفقر

فلما أشرف النبي صلى الله عليه وآله على الطائف [27] إذا هو بقبر مشيد وعلى يمينه أبو بكر رضي الله عنه وعلى يساره [28] خالد بن سعيد رحمه الله، فقال أبو بكر: بأبي وأمي! هذا قبر أبي أحيحة سعيد بن العاص المشرك لا رحمه الله! فقال خالد: بل أبو قحافة [29] فلا رحمه الله! فو الله ما كان يقري ضيفا، ولا يمنع ضيما [30] ! وما يسرني أن أبا قحافة أبي وأن أبا أحيحة في أعلى علّيين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: يا أبا بكر! لا تسبوا الأموات فتغضبوا الأحياء.

________________

[1] هو عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي أبو يحيي المدني، وثقه أكثر نقدة الرواة، مات سنة 99 هـ- تهذيب التهذيب 5/ 284.

[2] ذكر رؤياه في الاستيعاب 1/ 151 والإصابة 1/ 406 مختلف جدا عما ذكره المؤلف.

[3] في الأصل: بخطمه، ولعل الصواب ما أثبتنا، والحطمة: النار الشديدة، وفي تهذيب تاريخ دمشق 5/ 46: بهضبة.

[4] في الأصل: العصا، والغضا: شجر من الأثل خشبة من أصلب الخشب وجمره يبقى زمنا طويلا لا ينطفي، وفي تهذيب تاريخ دمشق 5/ 46: الحصا- بالحاء ثم الصاد المهملة.

[5] في الأصل: اذرج- بالجيم، ولعل الصواب: أذرح بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الراء وهو اسم بلد في نواحي البلقاء وعمان في الشام- معجم البلدان 1/ 161.

[6] الأكمة بضم الهمزة: قرية باليمامة- معجم البلدان 1/ 318.

[7] في الأصل: تعذف، وفي تهذيب تاريخ دمشق 5/ 46: تتوب.

[8] الأعذاق: عناقيد النخل، واحدها العذق كحذق.

[9] في الأصل: صفية.

[10] في الأصل: ينوبته.

[11] في الأصل: مسئلة.

[12] في الأصل: رؤيا (مدير) .

[13] في الأصل: بكتمان.

[14] في الأصل: التي (مدير) .

[15] في الأصل: إذا فاق.

[16] سورة 58 آية 22.

[17] الظريبة كجهينة: أرض في ناحية الطائف- معجم البلدان 6/ 85.

[18] في الأصل: يمتري، والتصحيح من سيرة ابن هشام ص 782 ونسب قريش ص 175 ومعجم البلدان 6/ 85.

[19] أضافا إلى دين: أسرعا إليه، والشطر الأول في سيرة ابن هشام ص 782 ونسب قريش ص 175 ومعجم البلدان 6/ 85: أطاعا بنا أمر النساء فأصبحا، وفي الإصابة 2/ 539 أطاعا معا.

[20] في الأصل: نكائد- بالهمزة، وفي معجم البلدان 6/ 85: كل ناكد.

[21] في الأصل: المقال، والتصحيح من سيرة ابن هشام ص 782 ونسب قريش ص 175 ومعجم البلدان 6/ 85 والإصابة 2/ 539.

[22] في الأصل: مقصد- بالدال، والتصحيح من المصادر المذكورة آنفا.

[23] في الأصل: شئت، والتصحيح من نسب قريش ص 175، وفي المصادر الأخرى المذكورة آنفا: اشتدت، ومعنى شكت: شقت.

[24] في الأصل: بالطريبة- بالطاء المهملة.

[25] في الأصل: ندع- بالنون.

[26] في سيرة ابن هشام ص 782 ومعجم البلدان 6/ 85: الأدنى.

[27] في الأصل: الطائف- بالياء المثناة، والطائف بلد جبلي على نحو خمسين ميلا في شرق مكة.

[28] في الأصل: يسره.

[29] أبو قحافة بضم القاف هو والد أبي بكر- انظر تهذيب تاريخ دمشق 5/ 48.

[30] في الأصل: صينما.