أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015
1798
التاريخ: 4-12-2019
1835
التاريخ: 22-03-2015
2003
التاريخ: 23-03-2015
4387
|
الدواوين المفرودة
-1-
إن الفترة التي انقضت على نظم الشاعر الجاهلي لشعره إلى أن دُوِّن هذا الشعر في القرن الثاني الهجري في هذه الدواوين التي وصلت إلينا روايتها. هذه الفجوة الزمنية التي امتدت قرنًا وبعض قرن -من آخر العصر الجاهلي إلى مطلع القرن الثاني الهجري- هي التي استنفدت القسم الأعظم من جهدنا واستغرقت الجزء الأكبر من بحثنا هذا. وذلك لأن موضوعنا "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" فلم نجد من المعقول ولا من المقبول أن نسقط من حسابنا تلك الفترة التي سبقت تدوين هذه المصادر التي بين أيدينا، ولا أن نمر بها مرًّا هينًا عابرًا، بل لقد استبان لنا أننا مضطرون -من أجل معرفة هذه المصادر معرفة حقة وبيان قيمتها التاريخية بيانًا واضحًا- إلى أن نكشف عن الموارد التي استقت هذه الدواوين منها، والمناهل التي اغترف منها جامعوها وصانعوها.
فدرسنا آخر العصر الجاهلي والقرن الأول الهجري دراسة نرجو أن تكون دقيقة عميقة، وجمعنا ما عثرنا عليه متفرقًا في المظان العربية مما يتصل ببحثنا هذا، ثم انتهينا إلى نتائج ثلاث:
(1/481)
الأولى: أننا رجحنا أن هذا الشعر الجاهلي -أو بعضه- قد كُتب، في صحائف متفرقة أو في دواوين مجموعة، منذ عهد مبكر جدًّا، وربما كتب بعضه منذ العصر الجاهلي، ونحب أن نؤكد أننا لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نعتسف الطريق إليه اعتسافًا، وأن هذه النتيجة الأولى ليست مجرد افتراض نفترضه، ولا مجرد ظن توهمناه، ولكنها نتيجة علمية نهجنا إليها منهجًا سليمًا بعد أن حشدنا لها حشدًا كبيرًا من المقدمات التي تتمثل فيما عثرنا عليه من نصوص وأخبار؛ فهي إذن ترجيح قوي له مرجحاته الكثيرة، بل لقد كدنا أن نقول إنها يقين قاطع لولا هذا المنهج الذي نلتزمه والذي يفرض علينا الحذر في التعبير. وأين اليقين القاطع في مثل هذه الأبحاث الأدبية وخاصة في مثل هذا الموضوع وفي مثل ذلك العصر!!
والثانية: أن بعض هذه المدونات الشعرية الأولى قد وصلت إلى علماء الطبقة الأولى من الرواة، وأنهم قد اعتمدوها مصدرًا من مصادر تدوينهم لهذه الدواوين التي رواها عنهم تلاميذهم، وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري كانوا يعتمدون -هم وتلاميذهم- نسخًا مكتوبة من هذه الدواوين في مجالس علمهم وحلقات دروسهم، وأن الشيخ منهم كان يقرأ شعر الشاعر من نسخه، أو يقرأها أحد تلاميذه، ثم يعقب الشيخ على الشعر بالشرح والنقد والتحقيق والتمحيص. وقد بيَّنا عند حديثنا عن هذا الموضوع أن هذه المدونات لم تكن هي المصدر الوحيد، وإنما كانت أحد مصدرين. أما المصدر الثاني فقد كان الرواية الشفهية. وذلك أن العالم الراوية كان يأخذ بعض الشعر الجاهلي عن الرواة من الأعراب الذين كان يطمئن إلى صدقهم ويعتمدهم مصدرًا من مصادره، وبعض هؤلاء الرواة الأعراب كانوا من قبيلة الشاعر الذي يروون شعره، تناقلوه جيلًا بعد جيل، وتوارثوه خلفًا عن سلف؛ أو كان ذلك العالم الراوية يسمع بعض الشعر الجاهلي من غيره من العلماء، يرحل إليهم أو يرحلون إليه إن كانوا في بلدين متباعدين، أو يفد عليهم ويفدون عليه
(1/482)
إن كانوا في بلد واحد، وكان عند هؤلاء العلماء الآخرين بعض ما لم يكن عنده، أو كان عنده بعض ما لم يكن عندهم، وذلك لاختلاف النسخ المدونة التي بين أيديهم، أو لاختلاف الرواة من الأعراب الذين سمعوهم واعتمدوهم مصدرًا من مصادرهم، أو لاختلاف الشيوخ الذين أخذوا عنهم. فكان من نتيجة ذلك أن كل عالم يعود على ما بين يديه من نسخة لديوان الشاعر الجاهلي بالتصحيح والتحقيق، فيضيف إليها بعض ما وجده عند غيره واطمأن إلى صحته، ويحذف منها بعض ما انتهى إلى أنه نسب إلى ذلك الشاعر خطأ أو نحله عمدًا، ويكتب من كل ذلك نسخته التي اطمأن إليها، ثم يقرأها لتلاميذه أو يقرءونها عليه، فإذا ما انتهوا منها أجاز لهم أو لبعضهم أن يرووها عنه.
ثم يرويها هؤلاء لتلاميذهم بعد أن يجروا فيها بعض ما أجراه شيخهم في نسخته الأولى من تحقيق وتمحيص. ثم جاء علماء الطبقة الثالثة ومن تلاهم من العلماء -بين منتصف القرن الثالث ونهاية القرن الخامس الهجري- فوجدوا بين أيديهم نسخًا متعددة لديوان واحد، رُويت كل نسخة عن واحد من علماء الطبقة الأولى في البصرة أو الكوفة، فصنع هؤلاء العلماء المتأخرون نسخًا جديدة أفرغوا فيها جميع روايات العلماء السابقين، وأشاروا في مواطن كثيرة إلى أن هذه القصيدة من رواية فلان أو فلان، أو أن هذه الأبيات لم يروها فلان، أو أن فلانًا قال إن هذه القصيدة أو تلك الأبيات ليست لهذا الشاعر وتنسب إلى شاعر غيره يسميه.
والثالثة: أن رواية هذه الدواوين التي بين أيدينا -حينما يكون الديوان مسندًا- تنتهي إلى أحد هؤلاء العلماء من رواة الطبقة الأولى أو إلى أحد تلاميذهم، ثم تقف عندهم ولا تتجاوزهم. ومن أجل هذا ذهب كثير من الباحثين إلى أن ثمة فجوة واسعة -تزيد على القرنين- تفصل بين زمن الشعر الجاهلي نفسه وزمن تدوينه، وإلى أن العلماء الرواة الذين دونوا ذلك الشعر بعد تلك الفجوة الزمنية الواسعة لم يجدوا إلا أبياتًا متفرقة أو مقطعات قصيرة،
(1/483)
أشبه ما تكون بالأوصال الممزقة، التقطوها التقاطًا من أفواه بعض الأعراب والرواة، وأن هذا الزمن الطويل الذي انقضى قبل تدون الشعر الجاهلي كفيل وحده بأن يجعلنا نشك في الكثير مما دوِّن منه. ولكننا نحن، بعد هذه الدراسة التي بذلنا فيها الجهد لملء تلك الفجوة نذهب إلى أن هذه الدواوين المسندة إلى العلماء من رواة الطبقة الأولى، والتي لا تتجاوزهم في الإسناد، موصولة الأسباب بالعصر الجاهلية وبالشاعر الجاهلي نفسه، وأن تلك الحقبة -التي بدت لبعض الباحثين فجوة فارغة- تبدو لنا سلسلة ذات حلقات متصلة، لم تنقطع فيها قط حلقة من حلقات المصدرين اللذين وردهما علماء الطبقة الأولى، واستقوا منهما في تدوين دواوين الشعر الجاهلي، وهما: الرواية الشفهية، والمدونات:
سواء أكانت صحائف متفرقة أم دواوين مجموعة. وكل ذلك قد بيناه وفصلنا فيه القول تفصيلًا. أما السبب الذي من أجله وقف إسناد هذه الدواوين عند علماء الطبقة الأولى ولم يتجاوزهم، فقد اشرنا إليه أيضًا في فصل مضى، وهو -في رأينا- أن دراسة الشعر الجاهلي دراسة تقوم على التحقيق والتمحيص والبحث اللغوي والتتبع المستقصي والشرح والنقد، ثم الاقتصار على ذلك اقتصارًا يكاد يكون تخصصًا -هذا الضرب من الدراسة لم يوجد قبل مطلع القرن الثاني أو منتصفه عند علماء الطبقة الأولى. وأما قبل ذلك فقد كانت العناية بالشعر الجاهلي مقصورة على مجرد روايته وجمع بعضه، وكثيرًا ما تكون تلك الرواية وذلك الجمع وسيلة لما كان معروفًا آن ذاك من العلوم، فكان يُتخذ الشعر الجاهلي وسيلة للاستشهاد والتمثيل والاحتجاج والزينة؛ ولم يكن من بين علماء القرن الأول الهجري من نصب نفسه لتدريس الشعر الجاهلي والبحث فيه وتحقيقه وتمحيصه؛ ولذلك كان جميع ما خلفه هذا القرن الأول من شعر الجاهلية مرويًّا أو مكتوبًا، عناصر أولية ومواد خامة، تسلمها علماء الطبقة الأولى في القرن الثاني فصاغوا منها الدواوين التي نسبت إليهم ورويت عنهم.
وسنعرض في الصفحات التالية ديوانين من هذه الدواوين الجاهلية التي
(1/484)
بقيت على الزمن وغالبت صروفه وأحداثه حتى وصلت إلينا، هما: ديوان امرئ القيس، وديوان زهير بن أبي سلمى. وسيكون عرضنا مبنيًّا على دراسة مفصلة تكشف في وضوح المنهج الذي نرى أن ينهج في تناوله هذه الدواوين، وتؤيد ما انتهينا إليه من نتائج بسطنا القول فيها، بحيث يكون حديثنا عن هذين الديوانين تطبيقًا لما سقناه من حديث في الفصول السابقة.
-2-
أما ديوان امرئ القيس فقد وجدنا أمامنا ثلاث سبل لتتبع رواياته ورواته:
السبيل الأول:
ما ذكرته المصادر العربية، وخاصة كتاب الفهرست لابن النديم، في مواطن متفرقة عن روايات هذا الديوان وهي :
1- رواية الأصمعي(1) 2- رواية أبي عمرو الشيباني(2)
3- رواية خالد بن كلثوم(3) 4- رواية محمد بن حبيب(4)
5- عمل ابن السكيت(5) 6- صنعة أبي سعيد السكري(6)
7- صنعة أبي العباس الأحول(7) 8- صنعة أبي الحجاج الأعلم الشنتمري وشرحه(8)
9- صنعة الوزير أبي بكر عاصم بن أيوب البطليوسي وشرحه(9)
(1/485)
والسبيل الثانية :
ما بقي مخطوطًا إلى يومنا هذا وعثرنا عليه مما لم تذكره المصادر العربية التي اطلعنا عليها، فعرفناه عن طريق الرؤية والمشاهدة لا عن طريق القراءة في المصادر. ولم نعثر في هذه السبيل الثانية- إلا على روايتين لهذا الديوان هما :
رواية أبي الحسن الطوسي(10) 10-
صنعة ابن النحاس وشرحه(11) 11-
والسبيل الثالثة :
ما عثرنا عليه من إشارات إلى روايات هذا الديوان ورواته، متفرقًا في مواطن مختلفة من هذه الدواوين نفسها التي قدمنا ذكرها، مما لم نعثر له على ذكر فيما اطلعنا عليه من مصادر عربية، ولم نعثر له على أثر فيما بين أيدينا من فهارس للمكتبات. فوجدنا لهذا الديوان الروايات التالية:
12- رواية المفضل الضبي وهي الرواية التي اعتمدها أبو الحسن الطوسي أصلًا من أصول نسخته التي صنعها لديوان امرئ القيس، فأورد في نسخته اثنتين وأربعين قصيدة ومقطعة ثم قال(12): "هذا آخر رواية المفضل". وقد أكد أن هذا الجزء من الديوان هو من رواية المفضل في موطنين، الأول فيه تأكيد إيجابي حين قال في القصيدة الأولى: "أحار بن عمرو كأني خمر" إنها: "رواها أبو عمرو والمفضل".
والثاني فيه تأكيد سلبي، حين ذكر في القصيدة العشرين وهي: "أذود عني القوافي ذيادًا" أنها: "ليست في رواية المفضل".
(1/486)
ومن الأدلة أيضًا على رواية المفضل لديوان امرئ القيس أن الأعلم الشنتمري، بعد أن يورد في نسخته رواية أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي، يورد "قصائد متخيرات مما لم يرو أبو حاتم ورواه أبو عمرو الشيباني والمفضل وغيرهما"(13).
13- رواية ابن الأعرابي: وقد ذكرها الطوسي أيضًا، فقد قال في نسخته بعد القصيدة التاسعة والثلاثين "إلى هاهنا قرأت على أبي عبد الله بن الأعرابي"، ثم أورد بعد ذلك ثلاث قصائد: نص في الأولى على أن ابن الأعرابي لم يعرفها، ونص في الثانية على أنه قرأها على ابن الأعرابي وعرفها، ونص في الثالثة على أن ابن الأعرابي لم يروها.
14- رواية أبي عبيدة: وتبدو لنا رواية أبي عبيدة لديوان امرئ القيس واضحة مما ذكره الطوسي وابن النحاس. أما الطوسي فقد ذكر -بعد أن انتهى من رواية المفضل- أن "الذي يلي هذا ما رواه أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي والأصمعي". ثم قال في القصيدة التالية إنها "من رواية أبي عبيدة وأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي". وأما ابن النحاس فقد بين روايات أبي عبيدة لأبيات كاملة في ديوان امرئ القيس، أو لألفاظ في أبيات، في أكثر من خمسين موضعًا في صفحات مختلفة من نسخته، لعل أوضحها أنه أورد بعد قوله(14):
له أذنان تغرف العتق فيهما ... كسامعتي مذعورةٍ وسط ربرب
بيتين قال إنهما رواهما الأصمعي وأبو عبيدة، ثم أورد بعدها بيتًا قال عنه إن أبا عبيدة وحده رواه، ثم أورد بعده أبياتًا قال إن أبا عبيدة والأصمعي روياها. وفضلًا عن ذلك فقد أورد ابن النحاس شروحًا وافية لأبي عبيدة على
(1/487)
أبيات كاملة أو ألفاظ متفرقة من ديوان امرئ القيس في أكثر من عشرين موضعًا من نسخته .
15- رواية اليزيدي: أبي عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي "المتوفى سنة 310". وقد اعتمد ابن النحاس -فيما يبدو لنا- نسخة اليزيدي أصلًا لنسخته التي بين أيدينا، فنراه يشير إليها إشارات كثيرة في مواطن متعددة، وهي إشارات تدل على أنه يرجع في كتابه نسخته إلى نسخة اليزيدي فيثبت ما فيها من اختلاف عما يورد، أو ما فيها من زيادة ونقص. فهو يقول مثلًا إن هذه اللفظة أو تلك هي كذا في نسخة اليزيدي(15). أو أنه كان في نسخة اليزيدي كذا وهو خطأ(16). أو أن هذا البيت أو ذاك ليس في نسخة اليزيدي(17). أو أن هذا البيت زيادة على اليزيدي(18). أو أن هذه القصيدة دفعها فلان، وهي في أصل اليزيدي(19). أو أن هذا البيت في نسخة اليزيدي قبل ذلك البيت(20).
رواية ابن دريا: أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد "المتوفى سنة 321".16-
ولابن دريد رواية أيضًا لديوان امرئ القيس، وقد نص على وجودها ابن النحاس في نسخته التي بين أيدينا، وذكر أن أبا عمران قرأ ديوان امرئ القيس على ابن دريد، ثم أورد ما وجده في رواية ابن دريد زائدًا على نسخة اليزيدي أو مخالفًا لها، وقد تكرر استدراكه على ما في اليزيدي من أبيات ناقصة رواها ابن دريد، وأثبتها، فمن ذلك قوله(21): "هذا البيت ليس في نسخة اليزيدي، وقد قرأه
(1/488)
أبو عمران على ابن دريد"، وقوله(22): "زيادة على اليزيدي قرأها أبو عمران"، وقوله(23): "وروى الأصمعي وقرأه أبو عمران على ابن دريد". وقوله(24): "هذا البيت ليس في اليزيدي، وقد قرأه أبو عمران". وفضلًا عن ذلك فقد أورد في ثنايا نسخته روايات متعددة لألفاظ مختلفة قال إنها رواية ابن دريد .
فإذا ما عدنا إلى هذه الروايات الست عشرة لديوان امرئ القيس، وحاولنا أن نصنفها وفق أوليتها وأصالتها من جانب وتدرجها التاريخي من جانب آخر، وجدنا أنها تقسم ثلاثة أقسام :
"أولًا" الأصول: وهي على ضربين كذلك: أصول بصرية، وأصول كوفية.
1- الأصول البصرية
ولم يبق لنا منها إلا رواية واحدة كاملة هي رواية الأصمعي، وسنتحدث عنها حديثًا مفصلًا بعد صفحات، ورواية أخرى ناقصة بقيت منها أجزاء مبعثرة أشير إليها إشارات عابرة في مواطن متفرقة، هي رواية أبي عبيدة. وإذ كنا نعتقد أن روايتي الأصمعي وأبي عبيدة في جوهرهما رواية واحدة أو روايتان متقاربتان، وأن الخلاف بينهما لا يعدو قصائد قليلة أو أبياتًا من قصيدة، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى مواطن الاختلاف بين هذه الرواية ورواية الأصمعي حين نتحدث عن رواية الأصمعي.
2- الأصول الكوفية
وقد بقيت لنا منها رواية واحدة هي رواية المفضل بن محمد الضبي "المتوفى سنة 168"، ولم تصل إلينا هذه الرواية مستقلة وحدها قائمة بنفسها، ولكنها جاءتنا عن طريق تلميذيه: أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني "المتوفى سنة 206"،
(1/489)
وأبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي "المتوفى سنة 231"، ثم حفظها لنا أبو الحسن على بن عبد الله بن سنان الطوسي "المتوفى نحو سنة 250" في نسخته التي سنتحدث عنها بعد قليل. وقد أورد الطوسي اثنتين وأربعين قصيدة ومقطعة لامرئ القيس ثم قال بعدها(25): "هذا آخر رواية المفضل". غير أنه ذكر في المقطعة رقم 20 وهي ثلاثة أبيات مطلعها "أذود عي القوافي ذيادًا" أنها "ليست في رواية المفضل"(26). وبذلك تكون رواية المفضل إحدى وأربعين قصيدة ومقطعة. قرأ منها الطوسي تسعًا وثلاثين على أبي عبد الله بن الأعرابي كما ذكر(27).
ويبدو أن هذه الأبيات التي ذكر أنها ليست في رواية المفضل كان الطوسي قرأها -فيما قرأ- على ابن الأعرابي فأقرها، فلذلك أدخلها في نسخته وأشار إلى أنها ليست في رواية المفضل. أما القصائد الثلاث الأخيرة من رواية المفضل في نسخة الطوسي فقد ذكر أنه عرض اثنين منها على ابن الأعرابي فلم يعرفها(28)، أما الثالثة فقد قرأها عليه وعرفها(29). أما أبو عمرو الشيباني فلا يذكره الطوسي في نسخته إلا في موضعين، الأول: عند حديثه عن قصيدة امرئ القيس الرائية "أحار بن عمرو كأني خمر" فقد قال(30): "رواها أبو عمرو والمفضل وغيرهما"، والثاني: عند حديثه عن قصيدته "أمن ذكر سلمى أن رأتك تنوص" فقد قال(31): "وليست في رواية الأصمعي، وإنما هي من رواية أبي عمرو الشيباني".
ويبدو أن هذا العرض الموجز لنسخة الطوسي أنها اعتمدت رواية المفضل في جوهرها أصلًا، وأن الطوسي قد أخذ هذه الرواية عن تلميذي المفضل:
(1/490)
أبي عمرو الشيباني، وأبي عبد الله بن الأعرابي، والمعروف عن ابن الأعرابي أنه كان "ربيبًا للمفضل الضبي، وسمع منه الدواوين وصححها"(32). أما أبو الحسن الطوسي فمع أنه أخذ عن مشايخ الكوفيين والبصريين(33)، إلا أن "أكثر مجالسته وأخذه عن ابن الأعرابي"(34) وسنعود إلى الحديث عن نسخة الطوسي بعد قليل.
"ثانيًا" روايات التلاميذ:
وهي أيضًا على ضربين: روايات بصرية، وروايات كوفية. فقد كان علماء البصرة يقرءون دواوين الشعراء على شيوخهم البصريين ويروونها عنهم، وكان علماء الكوفة يقرءون دواوين الشعراء على شيوخهم الكوفيين ويروونها عنهم، فمن علماء البصريين من رجال الطبقة الثانية الذين أخذوا عن الأصمعي أبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي، وأبو حاتم سهل بن محمد السجستاني. فقد كان صاحب الأصمعي، وحين قدم إلى أصبهان "نقل معه مصنفات الأصمعي وأشعار شعراء الجاهلية والإسلام مقروءة على الأصمعي"(35). وكان مما أخذه أبو نصر عن الأصمعي ديوان امرئ القيس غير أن روايته لم تبق لنا كاملة، وإنما بقيت لنا منها إشارة عابرة حفظت في النسخة التي سميناها نسخة الطوسي. وأما أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني "المتوفى سنة 255" فقد بقيت لنا روايته لديوان امرئ القيس عن الأصمعي كاملة في نسخة الأعلم الشنتمري، فقد أورد الأعلم ثماني وعشرين قصيدة ومقطعة، ثم قال(36): "قال أبو حاتم: هذا آخر ما صحح الأصمعي من شعر امرئ القيس". ثم قال: "كملت رواية أبي حاتم عن الأصمعي والحمد لله". ومن تلامذة أبي حاتم الذين أخذوا عنه رواية دواوين الشعر: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد.
(1/491)
"المتوفى سنة 321"، وقد أخذ ابن دريد عن غير أبي حاتم من علماء البصريين مثل: الرياشي والتوزي والزيادي(37). وسنرى عند حديثنا عن نسخة الأعلم ورواية الأصمعي أن أبا علي القالي هو الذي أدخل رواية الأصمعي هذه لديوان امرئ القيس إلى الأندلس، وأنه أخذها عن شيخه ابن دريد تلميذ أبي حاتم السجستاني. وكذلك بقيت لنا إشارات متفرقة من رواية ابن دريد في نسخة ابن النحاس على ما سنبينه بعد قليل.
أما رواة الكوفيين فقد تحدثنا منهم عن المفضل وتلميذيه: أبي عمرو الشيباني، وأبي عبد الله بن الأعرابي. وقد خلف بعد هذين خلف أخذوا عنهم، منهم: محمد بن حبيب "المتوفى سنة 245"، ويعقوب بن السكيت "المتوفى سنة 246"، وقد مر بنا أن النديم ذكر في فهرسته أن ممن روى ديوان امرئ القيس: محمد بن حبيب ويعقوب بن السكيت(38)، وهما من علماء بغداد الذين أخذوا عن الكوفيين خاصة(39)، ولا سيما أبي عمرو الشيباني وابن الأعرابي(40) ولم تصل إلينا رواية هذين العالمين لديوان امرئ القيس إلا إشارات عابرة لبعض رواية ابن حبيب وشرحه أوردها ابن النحاس في نسخته(41)، وإن كنا نرجح أن السكري قد اعتمد روايتهما أو رواية أحدهما أصلًا من أصول نسخته على ما سنبينه عند حديثنا عن رواية السكري.
ومن هذا العرض الموجز لروايات التلاميذ يبدو لنا -مما بقي لنا من رواياتهم- أنهم لم يدخلوا أنفسهم فيما رووه عن شيوخهم من علماء الطبقة الأولى، بل اكتفوا بمجرد الرواية والنقل، كما رأينا في حديثنا عن أبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي وأبي حاتم السجستاني في روايتهما لديوان امرئ القيس عن الأصمعي؛
(1/492)
أو أنهم قد علقوا تعليقات يسيرة حين كانت تقرأ عليهم هذه الدواوين من رواية شيوخهم وكانوا في بعض هذه التعليقات ينصون على أنهم لا يعرفون هذه القصيدة، أو تلك الأبيات، أو أنهم يشكون فيها أو ينكرونها، ولكنهم مع ذلك يبقونها كما جاءت عن شيوخهم ويثبتون معها تعليقاتهم، كما رأينا عند حديثنا عن رواية أبي عمرو الشيباني لديوان امرئ القيس وقراءة الطوسي هذا الديوان برواية المفضل الضبي على أبي عبد الله بن الأعرابي. ومن هنا حق لنا أن نذهب إلى أن هؤلاء التلاميذ قد حفظوا لنا روايات شيوخهم لدواوين الشعراء كما خلفها أولئك الشيوخ، وأن عمل التلاميذ في رواية هذه الدواوين ونقلها وشرحها والتعليق عليها، لم يطمس معالم الرواية الأصلية التي صنعها علماء الطبقة الأولى من الرواة.
"ثالثًا" الروايات المجموعة:
ونقصد بها نسخة الديوان التي ضم فيها جامعها روايات مختلفة لرواة مختلفين من مدرستي البصرة والكوفة معًا. وقد رأينا بعد درسها أنها ضربان، الضرب الأول: ما جمعت فيه قصائد من روايات مختلفة جمعًا مختلطًا متداخلًا، فترى قصيدة من رواية أبي عبيدة بين قصائد من رواية الأصمعي، تكتنفها جميعًا قصائد من رواية المفضل وأبي عمرو الشيباني، ثم قصيدة أو قصائد من رواية الأصمعي وهكذا ... ولا ينص في الغالب على رواية القصيدة نفسها، وإنما عرفنا ذلك من النسخ الأخرى التي عنيت بالنص على الرواية، ويكثر في هذا الضرب النص على روايات بعض الألفاظ في الأبيات المختلفة. ومن أجل هذا نرى أن الغاية من هذا الضرب الأول الجمع والاستقصاء وحدهما، وتتبع كل ما نسب من الشعر لامرئ القيس وحشره بين دفتي ديوان، من غير عناية برواية القصيدة في مجموعها.
والضرب الثاني: ما جمعت فيه قصائد رواية واحدة في نسق متتابع، ينص
(1/493)
في أولها على أنها رواية فلان، وينص في آخرها على أنه "كمل شعر امرئ القيس من رواية فلان". ثم يختار الجامع قصائد من روايات أخرى يضعها بعد القصائد الأولى، وينص كذلك على أنها من رواية فلان أو فلان. مع أن شرط الجمع متوافر في هذا الضرب إلا أنه ليس غاية في ذاته، وإنما الغاية جمع رواية بعينها ثم اختيار قصائد من روايات أخرى.
(1/494)
__________
ابن النديم - الفهرست: 223.(1)
المصدر السابق.(2)
المصدر السابق.(3)
المصدر السابق.(4)
المصدر السابق.(5)
المصدر السابق: 117و 223و 224، ونزهة الألباء 145، وإنباه الرواة 1: 292.(6)
المصدر السابق.(7)
فهرس ابن خير: 388.(8)
فهرس ابن خير: 389.(9)
معهد المخطوطات العربية - رقم: 860.(10)
معهد المخطوطات العربية - رقم: 143.(11)
ورقة: 91 "ظ".(12)
الأعلم، ورقة: 64، ورقة: 81.(13)
السكري: 98.(14)
ابن النحاس، شرح ديوان امرئ القيس ورقة: 53 و126.(15)
المصدر السابق: 49.(16)
المصدر السابق: 58، 91.(17)
المصدر السابق: 109.(18)
المصدر السابق: 53.(19)
المصدر السابق: 38.(20)
المصدر السابق: 91.(21)
. المصدر السابق: 109 (22)
. المصدر السابق: 122 (23)
. المصدر السابق: 58 (24)
ورقة: 91 "ظهر".(25)
ورقة: 73-74.(26)
ورقة: 85.(27)
ورقة: 86، ورقة 89 "ظهر".(28)
ورقة: 89.(29)
ورقة: 1.(30)
ورقة: 54 "ظهر".(31)
نزهة الألباء: 106، وياقوت - إرشاد 18-190.(32)
الفهرست: 106، ونزهة الألباء: 125-126.(33)
المصدران السابقان.(34)
ياقوت إرشاد 2: 285.(35)
ورقة: 64.(36)
الفهرست: 91.(37)
الفهرست: 223.(38)
(39)الفهرست: 108، وطبقات اللغويين والنحويين: 153 حيث عد ابن حبيب من الكوفيين .
نزهة الألباء: 123، وياقوت، وإرشاد 18: 112.(40)
انظر مثلًا ورقة: 6و 10و 12 و 15 و 19.(41)
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|