أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-12-2015
4931
التاريخ: 30-12-2015
5886
التاريخ: 27-09-2015
5677
التاريخ: 29-12-2015
2291
|
1255هـ-1322هـ، 183م-1904م:
حياته:
محمود سامي البارودي, من أسرة جركسية ذات جاهٍ ونسب قديم(1)، وتنتمي إلى حكام مصر المماليك، وكان البارودي يعرف هذا النسب ويعتز به.
أنا من معشر كرام على الدهر ... أفادوه عزةً وصلاحًا
عمرو الأرض مدة ثم زالوا ... مثلما زالت القرون اجتياحًا
ويقول:
نماني إلى العلياء فرع تأثلت ... أرومته في المجد، وافترَّ سعده
وحسب الفتى مجدًا إذا طلب العلا ... بما كان أوصاه أبوه وجده
(1/167)
وتيتَّمَ محمود البارودي صغيرًا، وهو في السابعة من عمره، فحُرِمَ بذلك حنان الأب ورعايته، وتلقَّى دروسه الأولى في البيت حتى بلغ الثانية عشرة، ثم التحق بالمدرسة الحربية مع أمثاله من الجراكسة، والترك، وأبناء الطبقة الحاكمة, وتخرَّج في المدرسة الحربية سنة 1854, وهو في السادسة عشرة من عمره, في عهد عباس الأول، وكان من المعوقين للنهضة كما مَرَّ بنا، وقد خمدت في عهده روح الحماسة التي شبها محمد علي في الجيش, بل سَرَّحَ معظمه، وقفرت ميادين القتال من ألوية مصر، ولم يكن عهد سعيد أحسن حالًا من عهد عباس، فلم يجد البارودي -كمالم يجد زملاؤه- عملًا يعملونه, أما هم: فقد طاب لهم عيش الرخاء والدعة, وسَرَّهم البعد عن ميادين القتال، ولكنه أحسَّ دونهم بألم ممضٍّ؛ إذ لم يشترك في حربٍ كما اشترك آباؤه، كم كان يود أن يحقق عن طريق الجندية والجيش آمالًا ضخمةً، وأمانيّ عريضة, ودفعه هذا الأمل إلى العوض عن المعارك الحقيقة بمعارك موصوفةٍ مدونةٍ في صفحات التاريخ, فعكف على كتب الأقدمين يلتهمها التهامًا. وكانت ملكة الشعر كامنة في حنايا فؤاده, فراقه من التراث الأدبي شعر الحماسة والفخر، ووصف ميادين القتال، وأعمال الأبطال، ورأى في هذا الأدب تصويرًا للحياة كلها؛ حلوها ومرها, من غزل وفكاهة وحكمة ورثاء, وكل ما يخطر ببال الناس، فازداد شغفه به وحرصه على حفظه وتدوينه، وتحركت نفسه لقول الشعر فقَلَّدَ فحول الشعراء في أروع قصائدهم، وهل على مثله مِنْ بأسٍ أو عارٍ إذا هو قال الشعر؟ إذا وهم هذا معاصروه من أبناء طبقته لجهلهم وخمود قريحتهم ولتقالديهم الموروثة، ولهوان شعراء زمانهم, وضعة شأنهم, فإن البارودي كان على ذكر من أنَّ أمراء كثيرين قبله، أعرق نسبًا، قد برزوا في الشعر العربيّ وسطروا تاريخهم في سجل الخلود، كامرئ القيس، وابن المعتز، والشريف الرضيّ، وأبي فراس, وأضرابهم, فلِمَ لا يكون مثل هؤلاء؟ ولم لا يرتفع بالشعر إلى منزلتهم؟ لن يكون مدَّاحًا متملقًا، أو نديمًا منافقًا، ولكنه سيقول في أغراض شريفة تليق به وبمكانته.
(1/168)
الشعر زين المرء ما لم يكن ... وسيلة للمدح والذام
قد طالما عزَّ به معشر ... وربما أزرى بأقوام
فاجعله ما ئشت من حكمة ... أوعظة أو حسب نام
واهتف به من قبل تسريحه ... فالسهم منسوب إلى الرامي
وقد عرف فيما عرف من أدب العرب منزلةَ الشعرِ وعبَّر عنها بعد بقوله:
صحائف لم تزل تتلى بألسنة ... للدهر في كل ناد منه معمور
يزهى بها كل سام في أرومته ... ويتقي البأس منها كل مغمور
فكم بها رسخت أركان مملكة ... وكم بها خمدت أنفاس مغرور
والشعر ديوان أخلاق يلوح به ... ما خطه الفكر من بحث وتنقير
كم شاد مجدًا، وكم أودى بمنقبة ... رفعًا وخفضًا بمرجوٍّ ومحذور
هكذا رأى البارودي الشعر، وما كان له أن يعرض عنه، ولو حاول ما استطاع وفيه طبع شاعر، وقد ملك أداته اللغوية المعبرة.
تكلمت كالماضين قبلي بما جرت ... به عادة الإنسان أن يتكلما
فلا يعتمدني بالإساءة غافل ... فلابد لابن الأيك أن يترنما
فهو مطبوع على قول الشعر مثله في ذلك مثل الهزار أو البلبل، ينطق كلاهما بالغناء فطرةً وجبِّلَّةً، ولكن مصر ضاقت به, أو ضاق بها؛ حيث لم يجد غنية لدى الدولة تحقق آماله، فسافر إلى الآستانة مقر الخلافة، والتحق بوزارة الخارجية، وهناك تعلم التركية والفارسية وتعلم آدابهما, وحفظ كثيرًا من أشعارهما، ودعته سليقته الشاعرة فقال بالتركية وبالفارسية كما قال بالعربية, ومع ذلك لم يهجر لسانه الأول, ولما سافر إسماعيل إلى الآستانة بعد أن تولى أريكة مصر سنة 1863؛ ليقدِّمَ أي: الشكر على توليته, ألحق البارودي بحاشيته، ورأى فيه ما لم يره في غيره, فرجع به إلى مصر.
(1/169)
وابتدأ إسماعيل نهضته بعد عودته، مترسمًا خطا جده، وأعاد للجيش مكانته، ووجد البارودي المجال أمامه فسيحًا، فظل يرقى في مناصب الجيش، وفي فرسان الحرس الخاصِّ حتى وصل إلى رتبة "قائمقام" وتحقق له مناه بالاشتراك في معارك جزيرة "كريت" حين ثارت على الدولة, فأسهم إسماعيل بجيشه في إخماد الثورة, وقد فتنت البارودي مناظر الجزيرة ومناظر المعارك، فسجَّل ذلك كله في شعره، وسمع الناس نغمًا جديدًا في الشعر لم يألفوه منذ عهدٍ طويل، وأخذوا يتطلعون في لفهةٍ وشوقٍ إلى المزيد من هذا النفس العالي، ومن هذا الطراز الجديد في الشعر(2).
وتقلب البارودي في مناصب الدولة، وكان ذا حظوةٍ لدى إسماعيل، فاتخذه كاتم سره، وسافر في رحلتين سياسيتين إلى الآستانة في مهمةٍ خاصَّةٍ، ومكث اثنتي عشرة سنة بجوار إسماعيل، يرى نشاطه الجم في إحياء مصر وإنهاضها, ويشاركه في عمله المجيد، وفي سنة 1878 أعلنت روسيا الحرب على تركيا، وأرسل إسماعيل جيشًا يعاون الخليفة في حربه مع عدوه، وسافر البارودي مع الجيش، وأبلى في المعارك بلاءً حسنًا، فأُنْعِمَ عليه عليه برتبة "اللواء" وبأوسمة عدة.
وكان في ميدان القتال، والمناظر الخلابة، والعالم الذي رآه ما ألهب شاعريته، فوصف المعارك والناس والمناظر بشعر أخَّاذٍ بلغ الذروة في الوصف، وأخذ يهتف باسم مصر، ويحنُّ إلى الأهل والوطن، فانبعث منه الشعر قويًّا مليئًا بالحياة)3).
مولاي قد طال مرير النوى ... فكل يوم مرّ بي ألف عامٍ
يقتبل الصبح ويمضي الدجى ... وينقضي النور ويأتي الظلام
ولا كتاب من حبيب أتى ... ولا أخو صدق يرد السلام
من خلفنا البحر وتلقاءنا ... سواد جيش مكفهر لهام
ويقول في قصيدة أخرى:
هو البين حتى لا سلام ولا رد ... ولا نظرةً يقضي بها حقه الوجد
(1/170)
ومنها يقول:
ولكنَّ إخوانًا بمصر ورفقة ... نسوا عهدنا حتى كأن لم يكن عهد
أحن لهم شوقًا على أن دوننا ... مهامه تعيا دون أقربها الربد
فيا ساكني الفسطاط ما بال كتبنا ... ثوت عندكم شهرًا وليس لها رد
أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود
فلا تحسبوني غافلًا عن ودادكم ... رويدًا فما في مهجتي حجر صلد
هو الحب لا يثنيه نأيٌ وربما ... تأجج من مَسِّ الضرام له الند
وعاد من حرب البلقان وهو في الأربعين من عمره؛ فعين مديرًا للشرقية، فمحافظا للعاصمة, ثم ساءت أمور مصر أخريات عصر إسماعيل، واضطربت اضطرابًا كبيرًا، وناء الفلاحون بالضرائب الفادحة العديدة، ولنستمع إلى شاهد عيان يصف لنا الهوة التي تردَّى فيها الفلاحون في تلك الحقبة سنة 1875؛ حيث يقول: كان من الأمور النادرة في تلك الأيام أن يرى الإنسان شخصًا في الحقول وعلى رأسه عمامة، أو على ظهره شيء أكثر من قميص.. وغَصَّت مدن الأرياف في أيام الأسواق بالنساء اللاتي أتين لبيع ملابسهن وحليهن الفضية للمرابين "الأروام"، لأن جامعي الضرائب كانوا في قراهن والسوط مشهر في أيديهم، فابتعنا مصوغاتهن الزهيدة, وأصغينا إلى قصصهن، واشتركنا معهن في استنزال اللعان على الحكومة التي جعلتهن عرايا، ولم نكن فهمنا وقتئذ -أكثر مما فهمه القرويون أنفسهم- ذلك الضغط الماليّ الآتي من أوروبا، والذي كان السبب الحقيقيّ في هذا الضيق، وعلى ذلك جاريناهم في إلقاء اللوم كله على إسماعيل باشا وإسماعيل صديق, دون أن يخامرنا شكٌّ في أن الإنجليز أيضًا يقع عليهم جانب من اللوم(4).
(1/171)
وكانت للامتيازات الأجنبية نصيبٌ كبيرٌ في تدهور الحالة بمصر في تلك الأونة؛ حيث قد أصبحت أداةً ينتفع بها شر الطغاة من الأوربيين, وأشباه الأوربيين من متخرجي الشرق الأدنى، وتجسمت في أخريات عهد إسماعيل, حتى بلغت مداها المخيف، وراح الأوربيّ قناص الغنيمة، وسمسار القروض المرهقة، والإغريقيّ صاحب الخان, ومرتهن الأرزاق، واليهوديّ المراب, ي ومن إليهم ممن يسهل عليهم الاحتماء بإحدى الدول الأوربية, يمتصون الخزانة العامة, والفلاح والفقير, ويقترفون في هذه الجناية ما يستعصي على التصديق(5)".
أما الضرائب التي فرضها إسماعيل على الأرض فقد كانت فوق ما يتصور, حتى لقد بلغت الضريبة على الفدان ما يقرب من ثمنه، فكان من الطبيعيّ أن يترك هؤلاء الفلاحين أرضهم وديارهم, وينسحبوا هاربين عجزًا عن أداء الضرائب, وخوفًا من السياط(6).
عدا ثلاثين نوعًا من الضرائب الصغيرة، أضرَّت ضررًا بليغًا بالصناعات والأعمال التجارية والزراعية(7).
ناهيك بالسخرة، وما كان يصطحبها من إهانةٍ وأذى وذلة, طوحت بعزة المصريين، وأرهقتهم إرهاقًا شديدًا، حتى جعلت أيام السواد منهم شقاءً وبؤسًا.
كانت هذه الأمور من العوامل التي ملأت قلوب المصريين حقدًا وكراهيةً لإسماعيل وحكمه.
وزاد الأمور سوءًا أن إنجلترا وفرنسا كانتا تدفعان الحوادث دفعًا نحو التأزم, حتى تتاح لهما الفرصة للتدخل المباشر، وافتراس مصر، ففرضتا على مصر وزارةً فيها وزيران أوربيان برياسة نوبار باشا، "وكانت طبقة الموظفين المسلمين تعده أفاقًا أرمينًا, جمع ثورةً كبيرةً من سمسرته لأصحاب الأموال المستعدين لإعطاء القروض على حساب الجمهور، أما الفلاحون فكانوا يعرفون فيه الرجل الذي أنشأ المحاكم المختلطة التي يمقتونها أشد المقت؛ لاعتقادهم أنها وضعتهم في قبضة المرابين(8)".
(1/172)
واشتطت هذه الوزارة في الضرائب وجبايتها، وتأخرت رواتب الموظفين، وعزل الكثيرون منهم، وانقضت سلطة الباقي، وتقرَّرَ فصل عدد كبير من ضباط الجيش, مع أنهم لم يتقاضوا مرتباتهم منذ زمن طويل، فزاد السخط, وقامت مظاهرة من الضباط وطلبة المدرسة الحربية وبعض النواب, في 18 من فبراير 1879، أمام وزارة المالية, احتجاجًا على هذا الظلم, واعتدوا على نوبار, وعلى الوزير الإنجليزي, وعلى رياض باشا وزير الداخلية، ولم يتفرقوا إلّا بعد أن أطلقت النار، ثم سقط الوزارة، واتهم عرابي بتدبير تلك الثورة, وأبعد عن فرقته(9).
وتولَّى توفيق ولي العهد الوزارة, واشتد الخلاف بينه وبين مجلس النواب الذي رأى تخفيض الضرائب فأبى، وفي هذه الآونة أُلِّفَ الحزب الوطنيّ، وأصدر لائحةً تتضمن مشروعًا ماليًّا لسداد الديون بكفالة الشعب، وطالب فيها بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، ووقَّعَ على هذا البلاغ النواب والعلماء ورؤساء الأديان، وكثير من التجار والموظفين والضباط، ورفعوها إلى إسماعيل, فقبلها على الرغم من احتجاج الوزيرين الأوربيين، ودعا شريف باشا في 7 من أبريل لتأليف الوزارة على مبادئ اللائحة الوطنية, فكانت فرحة الشعب بهذا النصر عظيمة. وبيد أن إنجلترا وفرنسا قابلتا هذه الوثبة الوطنية بالسخط الشديد, فعملتا على خلع إسماعيل؛ فأقلعت به "المحروسة" إلى نابلي غير مأسوفٍ عليه من المصريين الذين لم ينسوا ما فعله بهم, حتى لقد هموا من قبل بقتله والتخلص منه, فيقول عرابي: "خلع إسماعيل فزال عنا عبء ثقيل، ولكنا لو كنا نحن فعلنا ذلك بأنفسنا لكنا تخلصنا من عائلة محمد علي بأجمعها؛ إذ لم يكن فيها أحد جدير بالحكم سوى سعيد، وقد اقترح جمال الدين على محمد عبده أن يقتل إسماعيل على جسر قصر النيل"(10)، ويقول محمد عبده: "وكنت أنا موافقًا الموافقة كلها على قتل إسماعيل، ولكن كان ينقصنا من يقودنا في هذه الحركة، ولو أننا عرفنا عرابيًّا في ذلك الوقت, فربما كان في إمكاننا أن ننظم الحركة معه(11)".
(1/173)
وتولى توفيق العرش بدل أبيه، وكان المصريون يعلِّقون عليه آمالًا كبارًا؛ لأنه كان من المعجبين بالسيد جمال الدين الأفغاني وآرائه الإصلاحية، ولكنه ما لبث أن تَنَكَّرَ لهذه المبادئ بعد توليه العرش، وأرجع المراقبة الثنائية، وخاصم الحكم النيابيّ, وحكم البلاد حكمًا مطلقًا، وكان في هذا منفذًا لمشورة الأجانب، مستجيبًا لتدخلهم، فعزَّ ذلك على كثير من رجال مصر، ورأوا لزامًا عليهم أن يضعوا حدًّا لهذا التيار.
كان البارودي من المقربين لتوفيق, وولاه وزارة الأوقاف، فأصلح فيها ما وسعه جهده، وكان في الوقت نفسه وطنيًّا متشبعًا بروح الإصلاح, فحار في أمره بين ولائه للعرش، وبين نزعاته الإصلاحية.
ثم كانت حركة الجيش، والمطالبة بتولية المصريين المناصب العليا، وقد كانت قبل وقفًا على الجراكسة والأتراك، وكانوا في منتهى الغلظة والقسوة، فثار الجيش في أوائل سنة 1881، حين أصدر عثمان وفقي الجركسي وزير الحربية أمرًا بعدم ترقية المصريين، وبفصل بعض ضباط المتزعمين فيهم، وانتهى الأمر بعزل عثمان رفقي هذا, وإجابة الجيش إلى ما طلب من إصلاح, وتولية البارودي وزارة الحربية مع الأوقاف، وهدأت الأمور في الظاهر، ولكن الجراكسة كانوا يدبرون مكيدةً للضباط المصريين، وتأزمت الأمور, فكانت مظاهرة عابدين في 9 من سبتمبر 1881, يتقدمها "عرابي" وكبار الضباط المصريين، وأطلَّ عليهم توفيق، ومعه وزراؤه وحاشيته وقناصل الدول الأجنبية، وتَقَدَّمَ عرابي إليه بطلبات الجيش والأمة، وهي إسقاط وزارة رياض, وتشكيل مجلس النواب, وزيادة عدد الجيش، وبعد مناقشاتٍ طويلةٍ حادةٍ, تقرر إجابة هذه الطلبات.
وكان البارودي وزيرًا للحربية في وزارة رياض، ولما رأى هذا نزعاته الشعبية, وصلته بالوطنيين, دُسَّ عليه لدى توفيق فعزله، ودفعه إلى اعتزال السياسة فترةً من الوقت، فترك القاهرة وجوَّها القلق, وآثر العزلة في الريف, وفي هذا يقول:
(1/174)
صبح مطير، ونسمة عطرة ... وأنفس للصبوح متنظرة
فدر بعينييك حيث شئت تجد ... ملكًا كبيرًا وجنة خضرة
وخلنا من سياسة درجت ... بين أناس قلوبهم وغره
يقضون أيامهم على خطر ... فبئس عقبى السياسة الخطرة
خديعة لا يزال صاحبها ... بين هموم وعيشة كدرة
فلما سقطت وزارة رياض تحت ضغط الوطنيين عقب مظاهرة عابدين, عاد البارودي وزيرًا للحربية بعد أن ألحَّ عليه توفيق إلحاحًا شديدًا، وانتخب مجلس النواب, وافتتح في ديسمبر 1881, وهدأت الأمور، وسارت وزارة شريف في طريق الإصلاح، ولكن إنجلترا وفرنسا كانتا كارهتين للهدوء والاستقرار، فما أن أخذ مجلس النواب يناقش المادة التي تخوّل له الحق في تقرير الميزانية, حتى قدمتا مذكرةً تحتجان فيها على ذلك، وقبل شريف هذا الاحتجاج، ورفضه مجلس النواب, فاستقالت وزراة شريف، وتولَّى البارودي رئاسة الوزارة في 4 من فبراير 1882، وكان عرابي وزيرًا للحربية في وزارة البارودي.
كان البارودي محبوبًا من الشعب ومن الجيش على السواء، وفرح المصريون بوزارته فرحًا عظيمًا، وأخذ مجلس النواب، فوق إصدار الدستور الذي كان صدوره عيدًا للأدب والتاريخ؛ يبحث عدة مشروعاتٍ لمعالجة غلاء الأسعار, وتعميم التعليم الابتدائي، وإصلاح القضاء, وإنشاء خزان أسوان، ثم انتهت دورته, وتابعت الوزارة حركة الإصلاح في خطًا واسعة، ولكن أنى لها الجوَّ الهادئ وتوفيق واقع تحت سيطرة فرنسا وانجلترا، وهما متربصتان بمصر والمصريين الشر، فانتهزتا فرصة الخلاف بينه وبين الوزارة بسبب مؤامرة الضباط الجراكسة على قتل عرابي وأصحابه، وبالرغم من أن هذا الخلاف قد سُوِّيَ، فقد بدأت سفن الأسطولين الإنجليزيّ والفرنسيّ تصل إلى مياه الإسكندرية، وقدمت الدولتان في 25 من مايو مذكرةًَ جديدةً بضرورة استقالة الوزارة, ونفي عرابي، وتحديد إقامة بعض أصحابه بناءً على اقتراح سلطان "باشا" الذي بدأ من ذلك اليوم يناصر الإنجليز, ويخون قضية بلاده، تلك القضية التي طالما ناصرها، وهكذا وقع في الشرك الذي وقع فيه شريف "باشا" من قبل(12).
(1/175)
واجتمع الوزراء، وقرروا رفض المذكرة، ولما قبلها توفيق اضطروا إلى الاستقالة.
وهاج الشعب على أثر ذلك, واشتد سخطه, وقدموا احتجاجاتٍ قويةً لتوفيق, يطلبون فيها رفض طلبات إنجلترا وفرنسا, والإبقاء على عرابي في الوزارة، وإذا أبى توفيق عُزِلَ عَزْلًا، واضطر توفيق بعد استشارة "قناصل" الدول الأجنبية إلى الإبقاء على عرابي زيرًا للحربية حفظًا للأمن، وبقيت الوزرات الأخرى شاغرة إلى حين.
لما طالب الجيش بعزل توفيق راودت البارودي نفسه ونازعته يومئذ إلى المجد المؤمل، وإلى مكان أجداده المماليك الذين حكموا مصر، فخاض الصورة مع الخائضين، ولكنه رأى بعين فراسته أن التيار شديد، وأن انجلترا وفرنسا تتربصان بمصر الدوائر، وأحسَّ بالخطر, وعلم أن لا قِبَلَ له بمواجهته, فنصح لعرابي وإخوانه وصارحهم برأيه، وحاول الاعتزال في مزراعه، ولكن هيهات، وقد جرى مع الضباط شوطًا بعيدًا، ربط حظه بحظهم، وإن لم تعد له الصدارة كما كان.
وفي هذا يقول:
نصحت قومي وقلت الحرب مفجعة ... وربما تاح أمر غير مظنون
فخالفوني وشبوها مكابرة ... وكان أولى بقومي لو أطاعوني
تأتي الأمور على ما ليس في خلد ... ويخطئ الظن في بعض الأحايين
حتى إذا لم يعد في الأمر منزعة ... وأصبح الشر أمرًا غير مكنون
أجبت إذ هتفوا باسمي ومن شيمي ... صدق الولاء وتحقيق الأظانين
وأخفقت الثورة، ونفي مع زملائه إلى "سرنديب" فأقام بها سبعة عشر عامًا وبعض عام، وظلَّ وزملاؤه سبعة أعوام في "كولومبو", ولما دبت بينهم البغضاء، وألقى كم منهم التبعة على زميله، فارقهم البارودي.
وفي المنفى قال القصائد الخالدة، يبثها شكواه، ويحن للوطن، ويصف كل ما حوله، ويراسل الأدباء، ويتلهف على ذكر الوطن ويتتبع أخباره، فيرثي من مات من أهله وأحبابه
(1/176)
وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه, وأويقات أنسه, وما آَلَ إليه حاله، ووجد في الشعر عزاءً أيَّ عزاءٍ، وصار أمامه في العالم العربيّ دون منازع، ولكن طول النفي أورثه السقام والعلل، فكُفَّ بصرُه, وضَعُفَ سمعه، ووهن جسمه، ولست أجد أروع ولا أوفى من قوله يصف ما أصابه:
كيف لا أندب الشباب؟ وقد ... أصبحت كهلًا في محنةٍ واغتراب
أَخْلَقَ الشيبُ جدتي وكساني ... خلعةً منه رَثَّةَ الجلبابِ
ولوى شعر حاجبيّ على عيني ... حتى أطلَّ كالهداب
لا أرى الشيء حين يسنح إلّا ... كخيالٍ كأنني في ضباب
وإذا ما دعيت حرت كأني ... أسمع الصوت من وراء الحجاب
كلما رمت نهضة أقعدتني ... ونية ولا تقلها أعصابي
لم تدع صولة الحوادث مني ... غير أشلاء همة في ثياب
وزاد أمره بؤسًا أن الموت تخطف ابنته وزوجه الأولى وأصحابه، فابتدأ الفناء يدب إليه، هنالك رأى أول الأمر أن يعود المنفيون إلى أوطانهم، وعاد البارودي معهم "أشلاء همة في ثياب" كما يقول، ولكن جاء وفي يمينه سفر الخلود، وهو ذلك الشعر العلويّ، وكان ذلك في سنة 1900, واستقبل مصر بقصيدته:
أبابل مرأى العين أم هذه مصر؟ ... فإني أرى فيها عيونًا هي السحر
واستقبلته مصر بكل حفاوةٍ وترحابٍ، وكانت عودته عيدًا للأدب الرفيع، وصارت داره ندوة يؤمها الأدباء والشعراء القدامى والشادون فيه، يأنسون إليه، ويأنس إليهم، وعكف على تنقيح ديوانه، وحذف ما لا يروق له منه، وتدوين مختاراته وترتيبها، وأخيرًا فاضت روحه إلى بارئها، وأسلم هذه الشعلة المتوهجة في ديسمبر 1904م-شوال 1322هـ, إلى الأجيال من بعده, يتلقفها كابر عن كابر, وكلهم يذكر فضله ويمجد ذكره؛ لأنه أورثهم شعلة خالدة.
(1/177)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبوه حسن حسني البارودي, من أمراء المدفعية، ثم صار مديرًا لبربر ودنقلة, في عهد محمد علي، وجده لأبيه عبد الله الجركسيّ، والبارودي نسبة إلى "إيتاي البارود" بمديرة البحيرة، وكان أحد أجداده ملتزمًا لها، ينتهي نسبه إلى الملك الأشرف "سبرباي" الأتابكي, من المماليك الذين حكموا مصر في ما مضى. "مذكرات عرابي ج1 ص100".
(2) سنتكلم عن شعر البارودي فيما بعد بالتفصيل إن شاء الله.
(3) الخطاب للأديب العالم الشيخ حسين المرصفي, وإليه أرسل هذه القصيدة، والتي تليها.
(4) التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر, تأليف ألفريد بالنت, ص12.
(5) Milner: England in Egypt P.15.
(6) Cromar: Modern Egypt.36.
(7) تاريخ محمد عبده, لرشيد رضا, ج1, ص172.
(8) بالنت, ص37.
(9) بالنت ص171.
(10) التاريخ السري, بالنت ص347.
(11) المرجع نفسه 340.
(12) بالنت, التاريخ السري 224.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|