أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-12-2016
1871
التاريخ: 4-8-2019
4582
التاريخ: 16-11-2018
2346
التاريخ: 11-6-2020
2371
|
غزوة الفتح
حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن يزيد، وابن أبي حبيبة، وابن أبي سبرة، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويونس بن محمد، ومحمد بن يحيى بن سهل، وابن أبي حثمة، ومحمد بن صالح بن دينار، ونجيح، وأسامة بن زيد، وحزام بن هشام، ومعاذ بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ومعمر بن راشد؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث الفتح بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعضٍ، وغير هؤلاء قد حدثني أيضاً، فكتبت كل ما سمعت منهم، قالوا: كانت خزاعة في الجاهلية قد أصابوا رجلاً من بني بكر أخذوا ماله؛ فمر رجلٌ من خزاعة على بني الديل بعد ذلك فقتلوه، فوقعت الحرب بينهم، فمر بنو الأسود بن رزن - ذؤيب، وسلمى، وكلثوم - على خزاعة فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم. وكان قوم الأسود يؤدون في الجاهلية ديتين بفضلهم في بين بكر، فتجاوزوا وكف بعضهم عن بعض من أجل الإسلام، وهم على ما هم عليه من العداوة في أنفسهم، إلا أنه قد دخل الإسلام عليهم جميعاً فأمسكوا، فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهده، وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عارفاً، ولقد جاءته يومئذٍ خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه. قال ابن واقد: وهو " باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة، إذ قدم عليه سراتهم وأهل الرأي، غائبهم مقرٌّ بما قضى عليه شاهدهم. إن بيننا وبينكم عهود الله وعقوده، ما لا ينسى أبداً، ولا يأتى بلدٍّ ، اليد واحدةٌ والنصر واحدٌ، ما أشرف ثبير، وثبت حراء، وما بل بحرٌ صوفة ، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً، الدهر سرمداً " . فقرأه عليه ابي بن كعب فقال: ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف! فكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام. وجاءته أسلم وهو بغدير الأشطاط ، جاء بهم بريدة بن الحصيب فقال: يا رسول الله، هذه أسلم وهذه محالها، وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قومٌ منهم في مواشيهم ومعاشهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنتم مهاجرون حيث كنتم. ودعا العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً، فكتب: " هذا كتابٌ من محمد رسول الله لأسلم، لمن آمن منهم بالله، وشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإنه آمنٌ بأمان الله، وله ذمة الله وذمة رسوله. وإن أمرنا وأمركم واحدٌ على ما دهمنا من الناس بظلمٍ، اليد واحدة والنصر واحدٌ، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم، وهم مهاجرون حيث كانوا ". وكتب العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه، عظيم البركة عليهم؛ مررنا به ليلة، مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم معه من قومه من أسلم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه يا أبا بكر، إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم، فإن الإثم لا خير فيه.
حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن محجن بن وهب ، قال: كان آخر ما كان بين خزاعة وبين كنانة أن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسمعه غلامٌ من خزاعة فوقع به فشجه، فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها. فلما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهراً من صلح الحديبية تكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش - واعتزلت بنو مدلجٍ فلم ينقضوا العهد - أن يعينوا بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة؛ وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة لهم، وضربوهم بأرحامهم، وأخبروهم بدخولهم معهم في عقدهم وعهدهم، وذهاب خزاعة إلى محمدٍ في عقده وعهده، فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً إلا أبا سفيان، لم يشاور في ذلك ولم يعلم؛ ويقال: إنهم ذاكروه فأبى عليهم. وجعلت بنو نفاثة وبكر يقولون: إنما نحن! فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال ودسوا ذلك سراً لئلا تحذر خزاعة، فهم آمنون غارون بحال الموادعة وما حجز الإسلام بينهم. ثم اتعدت قريش الوتير موضعاً بمن معها، فوافوا للميعاد، فيهم رجالٌ من قريش من كبارهم متنكرون متنقبون؛ صفوان بن أمية، ومكرز بن حفص بن الأخيف، وحويطب بن عبد العزى، وأجلبوا معهم أرقاءهم، ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الدؤلي؛ فبيتوا خزاعة ليلاً وهم غارون آمنون من عدوهم، ولو كانوا يخافون هذا لكانوا على حذرٍ وعدةٍ، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى أنصاب الحرم، فقالوا: يا نوفل، إلهك، إلهك! قد دخلت الحرم! قال: لا إله لي اليوم، يا بني بكر! قد كنتم تسرقون الحاج، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم؟ لا يريد أحدكم يأتي امرأته حتى يستأذني، لا يؤخر أحدٌ منك اليوم بعد يومه هذا من ثأره. فلما انتهت خزاعة إلى الحرم، دخلت دار بديل بن ورقاء ودار رافع الخزاعيين وانتهوا بهم في عماية الصبح، ودخلت رؤساء قريش في منازلهم وهم يظنون ألا يعرفوا، وألا يبلغ هذا محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم).
حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: قتلوا منهم عشرين رجلاً، وحضروا خزاعة في دار رافع وبديل، وأصبحت خزاعة مقتلين على باب بديل - ورافع مولى لخزاعة. وتنحت قريش وندموا على ما صنعوا، وعرفوا أن هذا الذي صنعوا نقض للمدة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الحارث بن هشام، قال: وجاء الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية، وإلى سهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، فلاموهم فيما صنعوا من عونهم بني بكر، وأن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقضٌ لها. وانصرف ذلك القوم ودسوا إلى نوفل بن معاوية، وكان الذي ولى كلامه سهيل بن عمرو، فقال: قد رأيت الذي صنعنا بك وأصحابك وما قتلت من القوم، وأنت قد حضرتهم تريد قتل من بقي منهم، وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم لنا. قال: نعم. فتركهم فخرجوا. فقال ابن قيس الرقيات يذكر سهيل بن عمرو:
خالط أخواله خزاعة لما ... كثرتهم بمكة الأحياء
وقال في ذلك ابن لعط الديلي :
ألا هل أتى قصوى العشيرة أننا ... رددنا بني كعبٍ بأفوق ناصل
حبسناهم في دارة العبد رافعٍ ... وعند بديلٍ محبساً غير طائل
حبسناهم حتى إذا طال يومهم ... نفخنا لهم من كل شعبٍ بوابل
ذبحناهم ذبح التيوس كأننا ... أسودٌ تبارى فيهم بالقواصل
قال: ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان فقالا: هذا أمرٌ لابد له من أن يصلح؛ والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه! قال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها وخفت من شرها. فقال القوم: ما هي؟ قال: رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة ملياً، ثم كان ذلك الدم لم يكن، فكره القوم هذا، وقالوا: هذا شرٌّ.
فحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، قال: لما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال: هذا والله أمرٌ لم أشهده ولم أغب عنه، لا حمل هذا إلا علي؛ ولا والله ما شوورت ولا هويت حيث بلغن! والله ليغزونا محمدٌ إن صدقني ظني وهو صادقي، وما لي بدٌّ أن آتي محمداً فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر. فقالت قريش: قد والله أصبت الرأي! وندمت قريش على ما صنعت من عون بني بكرٍ على خزاعة، وعرفوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يدعهم حتى يغزوهم. فخرج أبو سفيان، وخرج معه مولىً له على راحلتين، فأسرع السير وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال أبو عبد الله: وقد سمعنا وجهاً من أمر خزاعة لم أر عليه الناس قبلنا ولا يعرفونه، وقد رواه ثقةٌ، ومخرجه الذي رد إليه ثقةٌ مقنعٌ، فلم أر أحداً يعرف له وجهاً! إلا أن الناس قبلنا ينفونه ويقولون: لم يكن؛ وذكرته لابن جعفر ومحمد بن صالح ولأبي معشر وغيرهم ممن له علم بالسرية فكلهم ينكره ولا يأتي له بوجهٍ.
وكان أول الحديث، أنه حدثني الثقة عندي، أنه سمع عمرو بن دينار، يخبر عن ابن عمر، أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بمن قتل منهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فمن تهمتكم وظنتكم؟ قالوا: بنو بكر. قال: كلها؟ قالوا: لا، ولكن تهمتنا بنو نفاثة قصرةً، ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي. قال: هذا بطنٌ من بني بكر وأنا باعثٌ إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال. فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث خلال، بين أن يدوا خزاعة أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذ إليهم على سواء. فأتاهم ضمرة رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخبرهم بالذي أرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يخيرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرأوا من حلف نفاثة، أو ينبذوا إليهم على سواء. فقال قرطة بن عبد عمرو الأعجمي: أما أن ندي قتلى خزاعة؛ فإن نفاثة قوم فيهم عرامٌ فلا نديهم حتى لا يبقى لنا سبدٌ ولا لبدٌ ، وأما أن نبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة في العرب تحج هذا البيت أشد تعظيماً لهذا البيت من نفاثة، وهم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم، ما بقي لنا سيدٌ ولا لبدٌ ، ولكنا ننبذ إليه على سواء. فرجع ضمرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك من قولهم، فبعثت قريش أبا سفيان بن حرب تسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجدد العهد، وندمت قريش على رد الرسول بما ردوه.
قال أبو عبد الله: فكل أصحابنا أننكروا هذا الحديث. وقال: فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأنقاب وعمى عليهم الأخبار حتى دخلها فجاءةً - حتى ذكرت هذا الحديث لحزام بن هشام الكعبي فقال: لم يضيع الذي حدثك شيئاً، ولكن الأمر على ما أقول لك - ندمت قريش على عون نفاثة وقالوا: محمدٌ غازينا! قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح - وهو عندهم يومئذٍ كافرٌ مرتدٌ - إن عندي رأياً؛ أن محمداً لن يغزوكم حتى يعذر إليكم ويخيركم في خصالٍ كلها أهون عليكم من غزوه. قالوا: ما هي؟ قال: يرسل أن أدوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلاً، أو تبرأوا من حلف من نقض العهد بيننا - بنو نفاثة - أو ننبذ إليكم الحرب ؛ فما عندكم في هذه الخصال؟ قال القوم: آخر ما قال ابن أبي السرح! وقد كان به عالماً. فقال سهيل بن عمرو: ما خصلةٌ أيسر علينا من التبرؤ من حلف بني نفاثة. قال شيبة ابن عثمان العبدري: حفظت أخوالك وغضبت لهم! قال سهيل: وابو قريش لم تلده خزاعة. قال شيبة: لا، ولكنا ندي قتلى خزاعة، فهو أهون علينا. فقال قرطة بن عبد عمرو: لا والله، لا يودون ولا نبرأ من حلف نفاثة، ابن الغوث بنا وأعمدة لشدتنا، ولكن ننبذ إليه على سواء! فقال أبو سفيان: ما هذا بشيء! وما الرأي لنا إلا جحد هذا الأمر، أن تكون قريش دخلت في نقض عهدٍ وقطع مدة، فإن قطعه قومٌ بغير هوىً منا ولا مشورة فما علينا. قالوا: هذا الرأي، لا رأي غيره؛ الجحد لكل ما كان من ذلك! قال: وإني لم أشهده ولم أوامر فيه، وأنا في ذلك صادقٌ؛ لقد كرهت ما صنعتم وعرفت أن سيكون له يوم عماس . قالت قريش لأبي سفيان: واخرج أنت بذلك! حتى خرج إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال أبو عبد الله: فذكرت حديث حزام لابن جعفر وغيره من أصحابنا فلم ينكروه، وقالوا: هذا وجهه! وكتبه مني عبد الله بن جعفر.
حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة: قد حرت في أمر خزاعة. قال ابن واقد: فقالت عائشة: يا رسول الله أترى قريشاً تجترىء على نقض العهد بينكم وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ينقضون العهد لأمرٍ يريده الله تعالى بهم. قالت عائشة: خيرٌ أو شرٌّ يا رسول الله؟ قال: خيرٌ! فحدثني حزام بن هشام بن خالد الكعبي، عن أبيه، قال: وخرج عمرو ابن سالم الخزاعي في أربعين راكباً من خزاعة يستنصرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخبرونه بالذي أصابهم وما ظاهرت عليه قريش - فأعانوهم بالرجال والسلاح والكراع، وحضر ذلك صفوان بن أمية في رجالٍ من قومهم متنكرين، فقتلوا بأيديهم - ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسٌ في المسجد في أصحابه؛ ورأس خزاعة عمرو بن سالم، وقام ينشد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمع منه فقال:
اللهم إني ناشدٌ محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
قد كنتم ولداً وكنا والدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فانصر هداك الله نصراً اعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... في فيلقٍ كالبحر يجري مزبدا
قرمٌ لقرمٌ من قرومٍ أصيدا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
نتلو القران ركعاً وسجدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل ... وأقل عددا
فلما فرع الركب قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك. فهدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه، فبلغ أنس بن زنيم، فقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معتذراً مما بلغه، فقال:
أأنت الذي تهدى معدٌّ بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك اشهد
فما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمةً من محمد
أحث على خيرٍ وأوسع نائلا ... إذا راح يهتز اهتزاز المهند
وأكسى لبرد الخال قبل اجتذابه ... وأعطى برأس السابق المتجرد
تعلم رسولالله أنك مدركي ... وأن وعيداً منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادرٌ ... على كل سكنٍ من تهامٍ ومنجد
ونبي رسول ا أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتيةٍ ... أصيبوا بنحسٍ يوم طلقٍ وأسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاءً فعزت عبرتي وتبلدي
ذؤيبٌ وكلثومٌ وسلمى تتابعوا ... جميعاً فإلا تدمع العين أكمد
على أن سلمى ليس فيهم كمثله ... وإخوته أو هل ملوكٌ كأعبد
وإني لا عرضاً خرقت ولا دماً ... هرقت ففكر عالم الحق واقصد
أنشدنيها حزام. وبلغت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصيدته واعتذاره، وكلمه نوفل بن معاوية الديلي فقال: يا رسول الله، أنت أولى الناس بالعفو، ومن منا لم يعادك ويؤذك، ونحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك من الهلكة، وقد كذب عليه الركب وكثروا عندك. فقال: دع الركب، فإنا لم نجد بتهامة أحداً من ذي رحمٍ ولا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة. فأسكت نوفل بن معاوية، فلما سكت قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد عفوت عنه. قال نوفل: فداك أبي وأمي! وحدثني عبد الحميد بن جعفر بن عمران بن أبي أنس؛ عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يجر طرف ردائه، وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي!
وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول: " جدد العهد وزد في الهدنة " وهو راجعٌ بسخطه. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمرو بن سالم وأصحابه: راجعوا وتفرقوا في الأودية! وقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل على عائشة وهو مغضب، فدعا بماءٍ فدخل يغتسل. قالت عائشة: فأسمعه يقول وهو يصب الماء عليه: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب! وخرج أبو سفيان من مكة وهو متخوف الذي صنع عمرو بن سالم وأصحابه أن يكونوا جاءوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وكان القوم لما أتوا الأبواء راجعين تفرقوا، وذهبت طائفةٌ إلى الساحل تعارض الطريق، ولزم بديل بن أم أصرم في نفيرٍ معه الطريق، فلقيه أبو سفيان، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء محمداً، بل كان اليقين عنده، فقال للقوم: أخبروني عن يثرب، منذ كم عهدكم بها؟ فقالوا: لا علم لنا بها. فعرف أنهم كتموه، فقال: أما معكم من تمر يثرب شيءٌ تطعموناه؟ فإن لتمر يثرب فضلاً على تمر تهامة. قالوا: لا. قال: ثم أبت نفسه أن تقره حتى قال: يا بديل، هل جئت محمداً؟ قال: لا! ما فعلت، ولكني سرت في بلاد كعب وخزاعة من هذا الساحل في قتيلٍ كان بينهم، فأصلحت بينهم. قال: يقول أبو سفيان: إنك والله - ما علمت - برٌّ واصلٌ. ثم قايلهم أبو سفيان حتى راح بديل وأصحابه، ثم جاء منزلهم ففت أبعار أباعرهم فوجد فيها نوىً، ووجد في منزلهم نوىً من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير، فقال أبو سفيان: أحلف بالله لقد جاء القوم محمداً! وكان القوم لما كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم، فساروا إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثاً.
وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في دار بديل ورافع ثلاثة أيام لم يكلموا فيهم، وائتمرت قريش أن يخرج أبو سفيان، فأقام يومين ثم خرج، فهذا خمس بعد مقتل خزاعة. وأقبل أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، إني كنت غائباً في صلح الحديبية، فاشدد العهد وزدنا في المدة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل كان قبلكم حدثٌ؟ قال: معاذ الله! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فنحن على مدتنا وصلحنا يوم الحديبية، لا نغير ولا نبدل. ثم قام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طوته دونه، فقال: أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت امرؤٌ نجسٌ مشرك! قال: يا بنية، لقد أصابك بعلمك شرٌّ! قالت: هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام، وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر؟ قال: يا عجباه، وهذا منك أيضاً؟ أأترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمدٍ؟ ثم قام من عندها فلقي أبا بكر الصديق عنه فكلمه وقال: تكلم محمداً وتجير أنت بين الناس؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم لقي عمر رضي الله عنه فكلمه بمثل ما كلم به أبو بكر، فقال عمر: والله، لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم! قال أبو سفيان: جزيت من ذي رحمٍ شراً. ثم دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إنه ليس في القوم أحدٌ أقرب بي رحماً منك، فزد في الهدنة وجدد العهد؛ فإن صاحبك لن يرده عليك أبداً؛ والله ما رأيت رجلاً قط أكثر إكراماً لصاحبٍ من محمدٍ لأصحابه! قال عثمان رضي الله عنه: جواري في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: دخل على فاطمة عليها السلام بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلمها فقال: أجيري بين الناس! فقالت: إنما أنا امرأة. قال: إن جوارك جائزٌ، قد أجازت أختك أبا العاص بن الربيع، فأجاز ذلك محمدٌ. قالت فاطمة: ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! وأبت ذلك عليه. فقال: مري أحد بنيك يجير بين الناس! قالت: إنهما صبيان، وليس مثلهما يجير. فلما أبت عليه أتى علياً عليه السلام فقال: يا أبا الحسن، أجر بين الناس وكلم محمداً يزيد في المدة! قال علي عليه السلام ويحك يا أبا سفيان! إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عزم ألا يفعل، وليس أحدٌ يستطيع أن يكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في شيءٍ يكرهه. قال أبو سفيان: فما الرأي؟ يسر لي أمري، فإنه قد ضاق علي، فمر لي بأمرٍ ترى أنه نافعي! فقال علي عليه السلام: ما أجد لك شيئاً أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس، فإنك سيد كنانة. قال: ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال علي عليه السلام: لا أظن ذلك والله، ولكني لا أجد لك غيره. فقام بين ظهري الناس فصاح: ألا إني قد أجرت بين الناس، ولا أظن محمداً يخفرني! ثم دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ما أظن أن ترد جواري! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! حدثني ابن أبي حبيبة، عن واقد عن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: جاء أبو سفيان إلى سعد بن عبادة فقال: يا أبا ثابت، قد عرفت الذي كان بيني وبينك، وأني قد كنت لك في حرمنا جاراً، وكنت لي بيثرب مثل ذلك، وأنت سيد هذه البحرة ، فأجر بين الناس ورد في المدة. فقال سعد: يا أبا سفيان، جواري في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يجير أحدٌ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ويقال: خرج أبو سفيان على أنه قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! يقال: لما صاح لم يقرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وركب راحلته وانطلق إلى مكة، وكان قد حبس وطالت غيبته، وكانت قريش قد اتهمته حين أبطأ أشد التهمة وقالوا: والله إنا نراه قد صبأ، واتبع محمداً سراً وكتم إسلامه. فلما دخل على هندٍ ليلاً قالت: لقد حبست حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجحٍ فأنت الرجل! ثم دنا منها فجلس مجلس الرجل من المرأة، فجعلت تقول: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال لي عليٌّ. فضربت برجليها في صدره، وقالت: قبحت من رسول قوم! حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، قال: فلما أصبح حلق رأسه عند الصنمين، إساف ونائلة، وذبح لهما، وجعل يمسح بالدم رؤوسهما، ويقول: لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي! أبرأ لقريش مما اتهموه.
وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: وقالت له قريش: ما وراءك؟ هل جئتنا بكتاب من محمد، أو زيادة في مدة؟ ما نأمن أن يغزنا! فقال: والله لقد أبى علي، ولقد كلمت علية أصحابه فما قدرت على شيءٍ منهم، إلا أنهم يرمونني بكلمةٍ واحدة؛ إلا أن علياً قد قال لما ضاقت بي الأمور: أنت سيد كنانة، فأجر بين الناس! فناديت بالجوار ثم دخلت على محمد فقلت: إني قد أجرت بين الناس، وما أظن أن ترد جواري. فقال محمد: أنت تقول ذلك يا أبا سفيان! لم يزدني على ذلك. قالوا: ما زاد على أن تلعب بك تلعباً! قال: والله ما وجدت غير ذلك.
حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: لما ولي أبو سفيان راجعاً قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة: جهزينا وأخفي أمرك! وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم خذ على قريشٍ الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتةً. ويقال قال: اللهم خذ على قريشٍ أبصارهم فلا يروني إلا بغتةً، ولا يسمعون بي إلا فجأةً. قالوا: وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأنقاب، فكان عمر بن الخطاب يطوف على الأنقاب قيماً بهم فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه - وكانت الأنقاب مسلمة - إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه، أو ناحية مكة.
قالوا: فدخل أبو بكر على عائشة وهي تجهز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تعمل قمحاً سويقاً ودقيقاً وتمراً، فدخل عليها أبو بكر فقال: يا عائشة، أهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغزوٍ؟ قالت: ما أدري. قال: إن كان رسول الله هم بسفرٍ فآذنينا نتهيأ له. قالت: ما أدري، لعله يريد بني سليم، لعله يريد ثقيفاً، لعله يريد هوازن! فاستعجمت عليه حتى دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له أبو بكر: يا رسول الله، أردت سفراً؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم. قال: أفأتجهز؟ قال: نعم. قال أبو بكر: وأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشاً، وأخف ذلك يا أبا بكر! وأمر رسول الله بالجهاز، قال: أو ليس بيننا وبينهم مدةٌ؟ قال: إنهم غدروا ونقضوا العهد، فأنا غازيهم. وقال لأبي بكر: اطو ما ذكرت لك! فظانٌّ يظن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد الشام، وظانٌّ يظن ثقيفاً، وظانٌّ يظن هوازن. وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفرٍ إلى بطن إضم ليظن ظانٌّ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار.
حدثني عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن اب أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بطن إضم، أميرنا أبو قتادة في تلك السرية وفيها محلم بن جثامة الليثي وأنا فيهم، فبينا نحن ببعض وادي إضم إذ مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله، وسلبه بعيراً له ومتاعاً ووطباً من لبنٍ كان معه، فلما لحقنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل فينا القرآن " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا.. " الآية. فانصرف القوم ولم يلقوا جمعاً حتى انتهوا إلى ذي خشب فبلغهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد توجه إلى مكة، فأخذوا على بين حتى لحقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسقيا.
حدثني المنذر بن سعد، عن يزيد بن رومان، قال: لما أجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسير إلى قريش، وعلم بذلك الناس، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وأعطى الكتاب امرأةً من مزينة، وجعل لها جعلاً على أن توصله قريشاً، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها، فخرجت. وأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علياً والزبير فقال: أدركا امرأةً من مزينة، قد كتب معها حاطب كتاباً يحذر قريشاً فخرجا فأدركاها بالخليفة، فاستنزلاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئاً، فقالا لها: إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك! فلما رأت منهما الجد قالت: أعرضا عني! فأعرضها عنها، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فجاءا به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاطباً فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، إني لمؤمنٌ بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت! ولكني كنت امرءاً ليس لي في القوم أصلٌ ولا عشيرةٌ، وكان لي بين أظهرهم أهلٌ وولدٌ فصانعتهم. فقال عمر بن الخطاب: قاتلك الله! ترى رسول الله يأخذ بالأنقاب وتكتب الكتب إلى قريش تحذرهم. دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنه قد نافق! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع يوم بدرٍ على أهل بدرٍ. فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم! وأنزل الله عز وجل في حاطب: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة.. " إلى آخر الآية.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كتب حاطب إلى ثلاثة نفر: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل: " إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يدٌ بكتابي إليكم " . ودفع الكتاب إلى امرأةٍ من مزينة من أهل العرج يقال لها كنود، وجعل لها ديناراً على أن تبلغ الكتاب، وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فإن عليها محرساً. فسلكت على غير نقب، عن يسار المحجة في الفلوق ، حتى لقيت الطريق بالعقيق.
حدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرة بن سعد، قال: هي سارة؛ جعل لها عشرة دنانير.
قالوا: فما أبان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغزو، أرسل إلى أهل البادية وإلى من حوله من المسلمين، يقول لهم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. وبعث رسولاً في كل ناحيةٍ حتى قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع. وبعث إلى بني سليم، فأما بنو سليم فلقيته بقديد؛ وأما سائر العرب فخرجوا من المدينة.
قال: وحدثني سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن جده، قال: أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسماء بن حارثة، وهند بن حارثة إلى أسلم يقولان لهم: إن رسول الله يأمركم أن تحضروا رمضان بالمدينة. وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جندباً ورافعاً ابني مكيث إلى جهينة يأمرهم أن يحضروا رمضان بالمدينة؛ وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إيماء بن رخصة وابا رهم كلثوم بن الحصين إلى بني الحصين إلى بني غفار وضمرة، وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أشجع معقل بن سنان، ونعيم بن مسعود؛ وبعث إلى مزينة بلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو المزني؛ وبعث إلى بني سليم الحجاج بن علاط السلمي، ثم البهزي ، وعرباض بن سارية؛ وبعث إلى بني كعب بني عمرة بشر بن سفيان وبديل بن ورقاء، فلقيه بنو كعب بقديد وخرج معه من بني كعب من كان بالمدينة. وعسكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببئر أبي عنبة، وعقد الألوية والرايات؛ فكان في المهاجرين ثلاث رايات - رايةٌ مع الزبير، ورايةٌ مع علي عليه السلام، ورايةٌ مع سعد بن أبي وقاص. وكان في الأوس بني عبد الأشهل رايةٌ مع أبي نائلة، وفي بني ظفر رايةٌ مع قتادة بن النعمان، وفي بني حارثة رايةٌ مع أبي بردة بن نيار، وفي بني معاوية راية مع جبر بن عتيك، وفي بني خطمة رايةٌ مع أبي لبابة بن عبد المنذر، وفي بني أمية رايةٌ مع مبيض - قال ابن حيويه: نبيض في كتاب أبي حية، فتركته أنا على ما هناك مبيض. وفي بني ساعدة رايةٌ مع أبي أسيد الساعدي، وفي بني الحارث بن الخزرج رايةٌ مع عبد الله بن زيد، وفي بني سلمة رايةٌ مع قطبة ابن عامر بن حديدة، وفي بني مالك بن النجار رايةٌ مع عمارة بن حزم، وفي بني مازن رايةٌ مع سليط بن قيس، وفي بني دينار رايةٌ يحملها . وكان المهاجرون سبعمائة، ومعهم من الخيل ثلثمائة فرس؛ وكانت الأنصار أربعة آلاف، معهم من الخيل خمسمائة؛ وكانت مزينة ألفاً، فيها من الخيل مائة فرس ومائة درع، وفيها ثلاثة ألوية؛ لواءٌ مع النعمان بن مقرن، ولواءٌ مع بلال بن الحارث، ولواءٌ مع عبد الله بن عمرو. وكانت أسلم أربعمائة، فيها ثلاثون فرساً، ولواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب والآخر ناجية بن الأعجم. وكانت جهينة ثمانمائة، معها من الخيل خمسون فرساً، فيها أربعة ألوية، لواءٌ مع سويد بن صخر، ولواءٌ مع ابن بكيث، ولواءٌ مع أبي زرعة، ولواءٌ مع عبد الله بن بدر. وكانت بنو كعب ابن عمرو خمسمائة، فيهم ثلاثة ألوية، لواءٌ مع بشر بن سفيان، ولواءٌ مع ابن شريح، ولواءٌ مع عمرو بن سالم، ولم يكن خرج معه من المدينة، لقيه قومه بقديد.
قال: حدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن، قال: لم يعقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الألوية والرايات حتى انتهى إلى قديد، ثم جعل رايات المهاجرين والأنصار على ما ذكرنا. وقال: كانت راية أشجع مع عوف بن مالك. وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الأربعاء لعشرٍ خلون من رمضان بعد العصر، فما حل عقدةً حتى انتهى إلى الصلصل . وخرج المسلمون وقادوا الخيل وامتطوا الإبل، وكانوا عشرة آلاف. وقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمامه الزبير بن العوام، في مائتين من المسلمين، فلما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيداء - قال: فحدثني يحيى بن خالد بن دينار، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس قال: وحدثني داود بن خالد، عن المقبري، عن أبي هريرة، قالا - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب. وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة فنادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفطر فليفطر! وصام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: وحدثني مالك بن أنس، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث، عن رجل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعرج يصب الماء على رأسه ووجهه من العطش.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن حكيم بن حكيم، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد الله، قال: لما كنا بالكديد بين الظهر والعصر أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إناءً من ماءٍ في يده حتى رآه المسلمون، ثم أفطر تلك الساعة. وبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قوماً صاموا فقال: أولئك العصاة! وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم! قال ذلك بمر الظهران. فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العرج، والناس لا يدرون أين توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى قريش، أو إلى هوازن، أو إلى ثقيف! فهم يحبون أن يعلموا، فجلس في أصحابه بالعرج وهو يتحدث، فقال كعب بن مالك: آتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعلم لكم علم وجهه. فجاء كعب فبرك بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ركبتيه، ثم قال :
قضينا من تهامة كل ريبٍ ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نسائلها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فلست لحاضر إن لم تروها ... بساحة داركم منها ألوفا
فننتزع الخيام ببطن وجٍّ ... ونترك دورهم منهم خلوفا
أنشدنيها أيوب بن النعمان، عن أبيه. قال: فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يزد على ذلك. فجعل الناس يقولون: والله ما بين لك رسول الله شيئاً، ما ندري بمن يبدى، بقريش أو ثقيف أو هوازن.
قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقديد قيل: هل لك في بيض النساء وأدم الإبل؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله تعالى حرمها علي بصلة الرحم ووكزهم في لبات الإبل.
قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إن الله حرمهم علي ببر الوالد ووكزهم في لبات الإبل.
قال: وحدثني قران بن محمد، عن عيسى بن عميلة الفزاري، قال: كان عيينة في أهله بنجد فأتاه الخبر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد وجهاً، وقد تجمعت العرب إليه، فخرج في نفر من قومه حتى قدم المدينة، فيجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خرج قبله بيومين، فسلك عن ركوبه فسبق إلى العرج، فوجده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعرج، فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العرج أتاه فقال: يا رسول الله، بلغني خروجك ومن يجتمع إليك فأقبلت سريعاً ولم أشعر فأجمع قومي فيكون لنا جلبة كثيرة، ولست أرى هيأة حرب، لا أرى ألويةً ولا رايات! فالعمرة تريد؟ فلا أرى هيأة الإحرام! فأين وجهك يا رسول الله؟ قال: حيث يشاء الله. وذهب وسار معه، ووجد الأقرع بن حابس بالسقيا، قد وافاها في عشرة نفرٍ من قومه، فساروا معه، فلما نزل قديد عقد الألوية وجعل الرايات. فلما رأى عيينة القبائل تأخذ الرايات والألوية عض على أنامله، فقال أبو بكر: علام تندم؟ قال: على قومي ألا يكونوا نفروا مع محمد، فأين يريد محمد يا أبا بكر؟ قال: حيث يشاء الله. فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذٍ مكة بين الأقرع وعيينة.
قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: لما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العرج، فكان فيما بين العرج والطلوب ، نظر إلى كلبةٍ تهر على أولادها وهم حولها يرضعونها، فأمر رجلاً من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض لها أحدٌ من الجيش ولأولادها.
قال: حدثني معاذ بن محمد، عن عبد الله بن سعد، قال: لما راح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العرج تقدمت أمامه جريدة من خيلٍ طليعة، تكون أمام المسلمين، فلما كانت بين العرج والطلوب أتوا بعينٍ من هوازن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله، رأيناه حين طلعنا عليه وهو على راحلته، فتغيب عنا في وهدةٍ ، ثم جاء فأوفى على نشزٍ فقعد عليه، فركضنا إليه فأراد يهرب منا، وإذا بعيره قد عقله أسفل من النشز وهو يغيبه، فقلنا: ممن أنت؟ قال: رجلٌ من بني غفار. فقلنا: هم أهل هذا البلد. فقلنا: من أي بني غفار أنت؟ فعيى ولم ينفذ لنا نسباً، فازددنا به ريبةً وأسأنا به الظن، فقلنا: فأين أهلك؟ قال: قريباً! وأومأ بيده إلى ناحية. قلنا: على أي ماءٍ، ومن معك هنالك؟ فلم ينفذ لنا شيئاً، فلما رأينا ما خلط قلنا: لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: فإن صدقتكم ينفعني ذلك عندكم؟ قلنا: نعم. قال: فإني رجلٌ من هوازن من بني نضر، بعثني هوازن عيناً. وقالوا: ائت المدينة حتى تلقى محمداً فتستخبر لنا ما يريد في أمر حلفائه، أيبعث إلى قريش بعثاً أو يغزوهم بنفسه، ولا نراه غلا يستغورهم، فإن خرج سائراً أو بعث بعثاً فسر معه حتى تنتهي إلى بطن سرف، فإن كان يريدنا أولاً فيسلك في بطن سرف حتى يخرج إلينا، وإن كان يريد قريشاً فسيلزم الطريق. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأين هوازن؟ قال: تركتهم ببقعاء وقد جمعوا الجمعوع، وأجلبوا في العرب، وبعثوا إلى ثقيفٍ فأجابتهم، فتركت ثقيفاً على ساقٍ قد جمعوا الجموع، وبعثوا إلى الجرش في عمل الدبابات والمنجنيق، وهم سائرون إلى جمع هوازن فيكونون جمعاًز قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وإلى من جعلوا أمرهم؟ قال: إلى فتاهم مالك بن عوف. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وكل هوازن قد أجاب إلى ما دعا إليه مالك؟ قال: قد أبطأ من بني عامر أهل الجد والجلد. قال: من؟ قال: كعبٌ وكلابٌ. قال: ما فعلت هلال؟ قال: ما أقل من ضوى إليه منهم، وقد مررت بقومك أمس بمكة وقد قدم عليهم أبو سفيان بن حرب فرأيتهم ساخطين لما جاء به، وهم خائفون وجلون. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حسبنا الله ونعم الوكيل، ما أراه إلا صدقني! قال الرجل: فلينفعني ذلك؟ فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد أن يحبسه، وخافوا أن يتقدم ويحذر الناس، فلما نزل العسكر مر الظهران أفلت الرجل، فطلبه خالد بن الوليد فأخذه عند الأراك ، وقال: لولا وليت عهداً لك لضربت عنقك. وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر به يحبس حتى يدخل مكة، فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وفحتها أتي به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاه إلى الإسلام فأسلم، ثم خرج مع المسلمين إلى هوازن فقتل بأوطاس .
قال: حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عبد الرحمن بن سابط وغيره، قال كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرضاعة، أرضعته حليمة أياماً، وكان يألف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان له ترباً، فلما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاداه عدواةً لم يعاد أحدٌ قط، ولم يكن دخل الشعب، وهجا رسول الله، وهجا أصحابه، وهجا حسان فقال:
ألا مبلغٌ حسان عني رسالةً ... فخلتك من شر الرجال الصعاليك
أبوك أبو سوءٍ وخالك مثله ... فلست بخيرٍ من أبيك وخالك
فقال المسلمون لحسان: اهجه! قال: لا أفعل حتى أستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: كيف آذن لك في ابن عمي أخي أبي؟ قال: أسلك منه كما تسل الشعرة من العجين. فقال حسان شعراً، وأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذاكر أبا بكر الصديق عنه بعض ذلك، فذاكره. قال: فمكث أبو سفيان عشرين سنة عدواً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يهجو المسلمين ويهجونه، ولا يتخلف عن موضعٍ تسير فيه قريش لقتال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم إن الله ألقى في قلبه الإسلام. قال أبو سفيان، فقلت: من أصحب ومع من أكون؟ قد ضرب الإسلام بجرانه ! فجئت زوجتي وولدي، فقلت: تهيأوا للخروج فقد أظل قدوم محمد عليكم. قالوا: قد آن لك تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمداً وأنت موضعٌ في عداوته، وكنت أولى الناس بنصره! فقلت لغلامي مذكور: عجل بأبعرةٍ وفرس. قال: ثم سرنا حتى نزلنا الأبواء، وقد نزلت مقدمته الأبواء، فتنكرت وخفت أن أقتل، وكان قد هدر دمي؛ فخرجت، وأجد ابني جعفر على قدمي نحواً من ميل، في الغداة التي صبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها الأبواء، فأقبل الناس رسلاً رسلاً ، فتنحيت فرقاً من أصحابه؛ فلما طلع مركبه تصديت له تلقاء وجهه، فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه الأخرى، وأعرض عني مراراً، فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه. وأتذكر بره ورحمته وقرابتي فيمسك ذلك مني، وقد كنت لا أشك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحاً شديداً؛ لقرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عني أعرضوا عني جميعاً، فلقيني ابن أبي قحافة معرضاً، ونظرت إلى عمر ويغري بي رجلاً من الأنصار، فألز بي رجلٌ يقول: يا عدو الله، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتؤذي أصحابه، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته! فرددت بعض الرد عن نفسي، فاستطال علي، ورفع صوته حتى جعلني في مثل الحرجة من الناس يسرون بما يفعل بي. قال: فدخلت على عمي العباس فقلت: يا عباس، قد كنت أرجو أن سيفرح رسول الله بإسلامي لقرابتي وشرفي، وقد كان منه ما كان رأيت، فكلمه ليرضى عني! قال: لا والله، لا أكلمه كلمةً فيك أبداً بعد الذي رأيت منه إلا أن أرى وجهاً، إني أجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهابه. فقلت: يا عمي إلى من تكلني؟ قال: هو ذاك. قال: فلقيت علياً رحمة الله عليه فكلمته فقال لي مثل ذلك، فرجعت إلى العباس فقلت: يا عم فكف عني الرجل الذي يشتمني. قال: صفه لي. فقلت: هو رجلٌ آدم شديد الأدمة، قصير، دحداد ، بين عينيه شجة. قال: ذاك نعمان بن الحارث النجاري. فأرسل إليه، فقال: يا نعمان، إن ابا سفيان ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن أخي، وإن يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساخطاً فسيرضى، فكف عنه، فبعد لأيٍ ما كف. وقال: لا أعرض عنه. قال أبو سفيان: فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى خرج إلى الجحفة، وهو لا يكلمني ولا أحدٌ من المسلمين. وجعلت لا ينزل منزلاً إلا أنا على بابه ومعي ابني جعفر قائم، فلا يراني إلا أعرض عني، فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة وأنا على حيلة تلازمه حتى هبط من أذاخر حتى نزل الأبطح ، فدنون من باب قبته فنظر إلي نظراً هو ألي من ذلك النظر الأول، قد رجوت أن يتبسم، ودخل عليه نساء بني المطلب، ودخلت معهن زوجتي فرققته علي. وخرج إلى المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حالٍ حتى خرج إلى هوازن، فخرجت معه، وقد جمع العرب جمعاً لم يجمع مثله قط، وخرجوا بالنساء والذرية والماشية، فلما لقيتهم قلت: اليوم يرى أثري إن شاء الله، ولما لقيتهم حملوا الحملة التي ذكر الله: " ثم وليتم مدبرين " . وثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بغلته الشهباء وجرد سيفه، فأقتحم عن فرسي وبيدي السيف صلتاً، قد كسرت جفنه، والله أعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إلي، فأخذ العباس بن عبد المطلب بلجام البغلة، فأخذت بالجانب الآخر، فقال: من هذا؟ فذهبت أكشف المغفر، فقال العباس: يا رسول الله، أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث! فارض عنه، أي رسول الله! قال: قد فعلت، فغفر الله
كل عداوةٍ عادانيها! فأقبل رجله في الركاب، ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري! ثم أمر العباس فقال: ناد يا أصحاب البقرة ! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار يا للخزرج! فأجابوا: لبيك داعي الله! وكروا كرة رجلٍ واحد، قد حطموا الجفون، وشرعوا الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول؛ فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تقدم فضارب القوم! فحملت حملةً أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قدماً في نحور القوم، ما نالوا ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجهٍ، وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث عمرو بن العاص في وجهٍ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكرٍ بأوطاس فقتل، وقتل أبو موسى قاتله .كل عداوةٍ عادانيها! فأقبل رجله في الركاب، ثم التفت إلي فقال: أخي لعمري! ثم أمر العباس فقال: ناد يا أصحاب البقرة ! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار يا للخزرج! فأجابوا: لبيك داعي الله! وكروا كرة رجلٍ واحد، قد حطموا الجفون، وشرعوا الرماح، وخفضوا عوالي الأسنة، وأرقلوا إرقال الفحول؛ فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تقدم فضارب القوم! فحملت حملةً أزلتهم عن موضعهم، وتبعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قدماً في نحور القوم، ما نالوا ما تقدم، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ، وتفرقوا في كل وجهٍ، وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفراً من أصحابه على الطلب، فبعث خالد بن الوليد على وجهٍ، وبعث عمرو بن العاص في وجهٍ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكرٍ بأوطاس فقتل، وقتل أبو موسى قاتله .
قال أبو عبد الله: وقد سمعت في إسلام أبي سفيان بن الحارث وجهاً آخر، قال: لقيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب ، فطلبنا الدخول على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأبى يدخلهما عليه، فكلمته أم سلمة زوجته فقالت: يا رسول الله، صهرك وابن عمتك وابن عمك وأخوكم من الرضاعة! وقد جاء الله بهما مسلمين، لا يكونان أشقى الناس بك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا حاجة لي بهما؛ أما أخي فالقائل لي بمكة ما قال؛ لن يؤمن لي حتى أرقى في السماء! وذلك قول الله عز وجل: " أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه.. " إلى آخر الآية. فقالت: يا رسول الله، إنما هو من قومك ما هو، وقد تكلم وكل قريش قد تكلم ونزل القرآن فيه بعينه، وقد عفوت عمن هو أعظم جرماً منه؛ وابن عمك وقرابته بك، وأنت أحق الناس عفواً من جرمه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هو الذي هتك عرضي، فلا حاجة لي بهما! فلما خرج إليهما الخبر قال أبو سفيان بن الحارث، ومعه ابنه: والله، ليقبلني أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبن في الأرض حتى أهلك عطشاً وجوعاً، وأنت أحلم الناس وأكرم الناس مع رحمي بك. فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته فرق له.
وقال عبد الله بن أمية: إنما جئت لأصدقك، ولي من القرابة ما لي والصهر بك. وجعلت أم سلمة تكلمه فيهما، فرق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهما فأذن لهما ودخلا، فأسلما وكانا جميعاً حسني الإسلام؛ قتل عبد الله ابن أبي أمية بالطائف، ومات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة في خلافة عمر لم يغمص عليه في شيءٍ، وكان أهدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه قبل أن يلقاه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي سفيان بن الحارث يوم نيق العقاب: أنت الذي تقول: " طردتني كل مطرد؟ " بل الله طردك كل مطرد. قال أبو سفيان: يا رسول الله، هذا قول قلته بجهالةٍ وأنت أولى الناس بالعفو والحلم. وأما قوله: " وأدعى وإن لم أنتسب من محمد " فإنه هرب وقدم على قيصر ملك الروم، فقال: ممن أنت؟ فانتسب له أبو سفيان ابن الحارث ابن عبد المطلب. قال قيصر: أنت ابن عم محمد إن كنت صادقاً، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قال: قلت: نعم، أنا ابن عمه. فقلت: لا أراني عند ملك الروم وقد هربت من الإسلام، لا أعرف إلا بمحمد! فدخلني الإسلام وعرفت أن ما كنت فيه باطلٌ من الشرك، ولكنا كنا مع قومٍ أهل عقولٍ باسقةٍ ، وارى فاضل الناس يعيش في عقولهم ورأيهم، فسلكوا فجاً فسلكناه. ولما جعل أهل الشرف والسن يقتحمون عن محمدٍ، وينصرون آلهتهم، ويغضبون لآبائهم، فاتبعناهم. ولقيه العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل بالسقيا، فدخل عليه العباس فلم يخرج حتى راح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان ينزل معه في كل منزلٍ حتى دخل مكة. ولما كانت الليلة التي نزل فيها بالجحفة، رأى أبو بكر الصديق أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه لما دنوا من مكة، خرجت عليهم كلبةٌ تهر، فلما دنوا منها استلقت على ظهرها، وإذا أطباؤها تشخب لبناً. فذكرت أبو بكر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ذهب كلبهم وأقبل درهم! سائلوكم بأرحامكم، وأنتمن لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه.
ولما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قديداً لقيته سليم، وذلك أنهم نفروا من بلادهم فلقوه، وهم تسعمائة على الخيول جميعاً، مع كل رجلٍ رمحه وسلاحه، وقدم معهم الرسولان اللذان كان أرسلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، فذكرا أنهم أسرعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث نزلا عليهم، وحشدوا - ويقال إنهم ألف - فقالت سليم: يا رسول الله، إنك تقصينا وتستغشنا ونحن أخوالك - أم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان من بين سليم - فقدمنا يا رسول الله حتى تنظر كيف بلاؤنا، فإنا صبرٌ عند الحرب صدقٌ عند اللقاء، فرسانٌ على متون الخيل. قال: ومعهم لواءان وخمس رايات، والرايات سودٌ. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيروا! فجعلهم مقدمته، وكان خالد بن الوليد على مقدمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين لقيته بنو سليم بقديدٍ، حتى نزلوا مر الظهران وبنو سليم معه.
قال: حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: خرجت بنو سليم تسعمائة على الخيول، والقنا والدروع الظاهرة، قد طووا ألويتهم وراياتهم، وليس معهم لواءٌ ولا رايةٌ معقودة، فقالوا: يا رسول الله، اعقد لنا وضع رايتنا حيث رأيت. فقال: يحمل رايتكم اليوم من كان يحملها في الجاهلية! ما فعل فتى كان قدم مع وفدكم علي، حسن الوجه، جيد اللسان؟ قالوا: توفي حديثاً.
قال: حدثني عكرمة بن فروخ، عن معاوية بن جاهمة بن عباس بن مرداس السلمي، قال: قال عباس: لقيته وهو يسير حتى هبط من المشلل في آلة الحرب، والحديد ظاهرٌ علينا، والخيل تنازعنا الأعنة، فصففنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإلى جنبه أبو بكر وعمر، فنادى عيينة من خلفه فقال: أنا عيينة ! هذه بنو سليم، قد حضرت بما ترى من العدة والعدد والسلاح: وإنهم لأحلاس الخيل، ورجال الحرب، ورعاة الحدق . فقال العباس بن مرداس: أقصر أيها الرجل! والله إنك لتعلم لنحن أفرس على متون الخيل، وأطعن بالقنا، وأضرب بالمشرفية منك ومن قومك. فقال عيينة: كذبت ولومت ! لنحن أولى بما ذكرت منك، قد عرفته لنا العرب قاطبةً. فأومأ إليهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده حتى سكتا.
واجتمع المسلمون بمر الظهران، ولم يبلغ قريشاً حرفٌ واحدٌ من مسير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم، فقد اغتموا وهم يخافون يغزوهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مر الظهران عشاءً، أمر أصحابه أن يوقدوا النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار، فأجمعت قريش بعثة أبي سفيان بن حرب يتحسب الأخبار، وقالوا: إن لقيت محمداً فخذ لنا منه جوراً إلا أن ترى رقةً من أصحابه فآذنه بالحرب. فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فلقيا بديل بن ورقاء فاستتبعاه فخرج معهما، فلما بلغوا الأراك من مر الظهران رأوا الأبنية والعسكر والنيران، وسمعوا صهيل الخيل ورغاء الإبل، فأفزعهم ذلك فزعاً شديداً وقالوا: هؤلاء بنو كعب حاشتها الحرب! فقال بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب! قالوا: فتنجعت هوازن على أرضنا! والله ما نعرف هذا! إن هذا العسكر مثل حاج الناس! قالوا: وقد استعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحرس عمر بن الخطاب. وقد ركب العباس بن عبد المطلب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الدلدل، عسى أن يصيب رسولاً إلى قريش يخبرهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) داخلٌ عليهم مع عشرة آلاف، فسمع صوت أبي سفيان فقال: أبا حنظلة! فقال أبو سفيان: يا لبيك، أبو الفضل! قال العباس: نعم! قال أبو سفيان: فما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله في عشرة آلاف من المسلمين، فأسلم، ثكلتك أمك وعشيرتك! ثم أقبل على حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فقال: أسلما، فإني لكما جارٌ حتى تنتهوا إلى رسول الله، فإني أخشى أن تقتطعوا دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! قالوا: فنحن معك. قال: فخرج بهم العباس حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخل عليه فقال: يا رسول الله، أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، قد أجرتهم وهم يدخلون عليك. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أدخلهم. فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعاهم إلى الإسلام، وقال: تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله! فأما حكيم وبديل فشهدا، وأما أبو سفيان فشهد أن لا إله إلا الله، فلما قال " وأني رسول الله " قال: والله يا محمد، إن في النفس من هذا لشيئاً يسيراً بعد، فأرجئها. ثم قال للعباس: قد أجرناهم، اذهب بهم إلى منزلك. فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم، فلزع أبو سفيان من أذانهم وقال: ما يصنعون؟ قال العباس: فقلت: الصلاة. قال أبو سفيان: كم يصلون في اليوم والليلة؟ قال العباس: يصلون خمس صلوات. قال أبو سفيان: كثيرٌ والله! قال: ثم رآهم يبتدرون وضوء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: ما رأيت يا أبا الفضل ملكاً هكذا قط، لا ملك كسرى، ولا ملك بني الأصفر! فقال العباس: ويحك، آمن! قال: أدخلني عليه يا أبا الفضل! فأدخله العباس عليه وقال: يا محمد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فلا والله ما لقيتك من مرةٍ إلا ظفرت علي، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً غلبتك! فتشهد أبو سفيان أن محمداً رسول الله. ثم قال أبو سفيان: يا محمد، جئت بأوباش الناس، من يعرف ومن لا يعرف، إلى عشيرتك وأصلك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت أظلم وأفجر، غدرتم بعهد الحديبية وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه! فقال أبو سفيان: وحيكم يا رسول الله! لو كنت جعلت حدتك ومكيدتك بهوازن، فهم أبعد رحماً وأشد لك عداوةً! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأرجو من ربي أن يجمع ذلك لي كله بفتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن! وأن يغنمني الله أموالهم وذراريهم، فإني راغبٌ إلى الله تعالى في ذلك!
قال: وحدثني عبد الله بن جعفر، قال: سمعت يعقوب بن عتبة يخبر عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: واصباح قريش! والله لئن دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنوةً إنه لهلاك قريش آخر الدهر. قال: فأخذت بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهباء فركبتها، وقلت: ألتمس إنساناً أبعثه إلى قريش؛ فيلقون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يدخلها عليهم عنوةً. قال: فوالله إني لفي الأراك أبتغي إنساناً إذ سمعت كلاماً يقول: والله إن رأيت كالليلة من النيران. قال: يقول بديل بن ورقاء: هذه والله خزاعة حاشتها الحرب! قال أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانهم وعسكرهم. قال: وإذا بأبي سفيان فقلت: أبا حنظلة! فقال: يا لبيك، أبا الفضل - وعرف صوتي - ما لك، فداك أبي وأمي؟ فقلت: ويلك، هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عشرة آلاف. فقال: بأبي وأمي! ما تأمرني، هل من حيلة؟ قلت: نعم، تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه والله إن ظفربك دون رسول الله، لتقتلن. قال أبو سفيان: وأنا والله أرى ذلك. قال: ورجع بديل وحكيم، ثم ركب خلفي، ثم وجهت به، كلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوني قالوا: عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فلما رآني قام فقال: من هذا؟ فقلت: العباس. قال: فذهب ينظر، فرأى أبا سفيان خلفي فقال: أبو سفيان، عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهدٍ ولا عقدٍ! ثم خرج نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشتد، وركضت البغلة حتى اجتمعنا جميعاً على باب قبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: فدخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل عمر على إثري، فقال عمر: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله، قد أمكن الله منه بلا عهدٍ ولا عقدٍ، فدعني أضرب عنقه. قال: قلت. يا رسول الله، إني قد أجرته! قال: ثم التزمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحدٌ غيري - أو دوني. فلما أكثر عمر فيه قلت: مهلاً يا عمر! فإنه لو كان رجلٌ من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنه أحد بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً، يا أبا الفضل! فوالله لإسلامك كان أحب إلي من غسلام رجلٍ من آل الخطاب لو أسلم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اذهب به، فقد أجرته لك فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت. فلما أصبحت غدوت به، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ويحك، يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! قد كان يقع في نفسي أنه لو كان مع الله إلهٌ لقد أغنى عني شيئاً بعد. قال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك! أما هذه، فوالله إن في النفس منها لشيئاً بعد. فقال العباس: فقلت: ويحك، أشهد أن لا إله إلا الله! وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قبل - والله - أن تقتل! فقال: فشهد شهادة الحق، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقال العباس: يا رسول الله، إنك عرفت أبا سفيان وحبه الشرف والفخر، اجعل له شيئاً! قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن أغلق داره فهو آمنٌ. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس بعد ما خرج: احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها. قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل، فلما حبست أبا سفيان قال: غدراً بني هاشم؟ فقال العباس: إن أهل النبوة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجةٌ. فقال أبو سفيان: فهلا بدأت بها أولاً! فقلت: إن لي إليك حاجةً فكان أفرخ لروعي. قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب. وعبا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه، ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف، فيهم لواءٌ يحمله عباس بن مرداس السلمي، ولواءٌ يحمله خفاف بن ندبة، وراية يحملها الحجاج بن علاط .
قال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال: نعم. فلما حاذى خالد العباس، وإلى جنبه أبو سفيان، كبر ثلاثاً، ثم مضوا. ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمائة - منهم مهاجرون وأفناء العرب - ومعه رايةٌ سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثاً وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك؟ قال: نعم. ومر بنو غفار في ثلاثمائة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري - ويقال إيماء بن رحضة - فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. وقال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غفار. قال: ما لي ولبني غفار! ثم مضت أسلم في أربعمائة، فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر نا جية بن الأعجم، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. قال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: يا أبا الفضل، ما لي ولأسلم! ما كان بيننا وبينها مرةٌ قط. قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة، يحمل رايتهم بسر بن سفيان. قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد! فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألفٍ، فيها ثلاثة ألوية وفيها مائة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو؛ فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: يا أبا الفضل ما لي ولمزينة! قد جاءتني تقعقع من شواهقها . ثم مرت جهينة في ثمانمائة مع قادتها، فيها أربعة ألوية، لواءٌ مع أبي روعة معبد بن خالد، ولواءٌ مع سويد بن صخر، ولواءٌ مع رافع بن مكيث، ولواءٌ مع عبد الله بن بدر . قال: فلما حاذره كبروا ثلاثاً. ثم مرت كنانة، بنو ليث، وضمرة، وسعد بن بكر في مائتين، يحمل لواءهم أبو واقدٍ الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم والله! الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شوورت فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حم! قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودخلتم في الإسلام كافة.
قال: وحدثني عبد الله بن عامر، عن أبي عمرة بن حماس قال: مرت بنو ليث وحدها، وهم مائتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة، فلما مر كبروا ثلاثاً فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع - وهم آخر من مر وهم ثلثمائة، معهم لواءان، لواءٌ يحمله معقل بن سنان، ولواءٌ مع نعيم بن مسعود. فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمدٍ. فقال العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل! فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد! قال العباس: لم يمض بعد، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحدٍ به طاقة، قال: أظن والله يا أبا الفضل؛ ومن له بهؤلاء طاقة سوادٌ وغبرةٌ من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، كل ذلك يقول: ما مر محمدٌ! فيقول العباس: لا. حتى مر يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير وهو يحدثهما، فقال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطنٍ من الأنصار رايةٌ ولواءٌ، في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر بن الخطاب فيها زجلٌ - وعليه الحديد - بصوتٍ عالٍ وهو يزعجها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر ابن الخطاب. قال: لقد أمر أمر بني عدي بعد - والله - قلةٍ وذلةٍ! فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال: كان في الكتيبة ألف دارعٍ. وأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رايته سعد بن عبادة وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نادى: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشاً! فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة! اليوم تستحل الحرمة! اليوم أذل الله قريشاً! وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قري صولة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اليوم يوم المرحمة! اليوم أعز الله فيه قريشاً! قال: وأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سعدٍ فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اللواء لم يخرج من سعدٍ حين صار لابنه. فأبى سعدٌ أن يسلم اللواء إلا بأمارةٍ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعمامته، فعرفها سعدٌ فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل، عن أهله، قالوا: دخل والله سعد بلوائه حتى غرزه بالحجون. وقال ضرار بن الخطاب الفهري: ويقال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر علياً رضي الله عنه فأخذ اللواء، فذهب علي عليه السلام بها حتى دخل بها مكة فغرزها عند الركن. وقال أبو سفيان: ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط، ولا خبرنيه مخبر! سبحان الله، ما لأحدٍ بهذه طاقةٌ ولا يدان! ثم قال: لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً! قال، قلت: ويحك يا أبا سفيان، ليس بملكٍ ولكنها نبوةٌ. قال: نعم! قال: فحدثني عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن ساعدة، قال: قال له العباس: فانج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم. قال: فخرج أبو سفيان فتقدم الناس كلهم حتى دخل من كداءٍ وهو يقول: من أغلق بابه فهو آمن! حتى انتهى إلى هند بنت عتبة، فأخذت برأسه فقالت: ما وراءك؟ قال: هذا محمد في عشرة آلافٍ عليهم الحديد، وقد جعل لي: من دخل داري فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمنٌ، ومن طرح السلاح فهو آمنٌ. قالت: قبحك الله رسول قوم. قال: وجعل يصرخ بمكة: يا معشر قريش، ويحكم! إنه قد جاء ما لا قبل لكم به! هذا محمد في عشرة آلافٍ عليهم الحديد، فأسلموا! قالوا: قبحك الله وافد قومٍ! وجعلت هند تقول: اقتلوا وافدكم هذا، قبحك الله وافد قومٍ. قال: يقول أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم! رأيت ما لم تروا! رأيت الرجال والكراع والسلاح، فلا لأحدٍ بهذا طاقة!
قالوا: وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تلاحق الناس. وقد كان صفوان بن أمية، وعكرمة ابن أبي جهل، وسهيل بن عمرو قد دعوا إلى قتال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضوى إليهم ناسٌ من قريش وناسٌ من بني بكر وهذيل، وتلبسوا السلاح، ويقسمون بالله لا يدخلها محمدٌ عنوةً أبداً. فكان رجل من بني الديل يقال له: حماس بن قيس بن خالد الديلي، لما سمع برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جلس يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لمن تعد هذا؟ قال: لمحمدٍ وأصحابه، فإني أرجو أن أخدمك منهم خادماً فإنك إليه محتاجة. قالت: ويحك، لا تفعل ولا تقاتل محمداً! والله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمداً وأصحابه. قال: سترين. قال: وأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتيبته الخضراء، وهو على ناقته القصواء، معتجراً بشقة برد حبرة.
قال: فحدثني محمد بن عبد الله، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذٍ وعليه عمامة سوداء، ورايته سوداء، ولواؤه أسود، حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس وإن عشنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه، تواضعاً لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين. ثم قال: العيش عيش الآخرة! قال: وجعلت الخيل تمعج بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت حيث توسطهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: وصعد أبو قحافة يومئذٍ بصغرى بناته، قريبة بنت أبي قحافة، تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس - وقد ذهب بصره - فلما أشرفت به على أبي قبيس قال: يا بنية، ماذا ترين؟ قالت: أرى رجلاً يسعى بين ذلك السواد مقبلاً ومدبراً. قال: ذلك الوازع يا بنية، انظري ما ترين! قالت: تفرق السواد. قال: قد تفرقت الجيوش! البيت! البيت! قالت: فنزلت به. قال: فجعلت الجارية ترعب لما ترى، فيقول: يا بنية، لا تخافي! فوالله إن أخاك عتيقاً لآثر أصحاب محمد عند محمد. قال: وعليها طوق من فضة، فاختلسه بعض من دخل.
قالوا: فما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول أبو بكر رضي الله عنه: أنشد بالله طوق أختي! ثلاث مرات. ثم قال: يا أخية احتسبي طوقك، فإن الأمانة في الناس قليل.
قالوا: ثم التفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رجلٍ من الأنصار إلى جنبه، فقال: كيف قال حسان بن ثابت؟ فقال :
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع من كتفي كداء
ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزبير بن العوام أن يدخل من كدىً ، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط ، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كداء، والراية مع ابنه قيس، ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل من أذاخر. ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القتال، وأمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نقيذ ، وعبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي، وهند بنت عتبة بن ربيعة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتين لأبي خطل: قرينا وقريبة؛ ويقال: فرتنا وأرنبة. فكل الجنود دخل فلم يلق جمعاً، فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعاً من قريش وأحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، وشهروا السلاح، ورموا بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوةً أبداً! فصاح خالد بن الوليد في أصحابه وقاتلهم، فقتل منهم أربعة وعشرين رجلاً من قريشٍ، وأربعةً من هذيل، وانهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالحزورة وهم مولون في كل وجهٍ. وانطلقت طائفةٌ منهم فوق رءوس الجبال، واتبعهم المسلمون، فجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمنٌ، ومن وضع السلاح فهو آمن. فجعل الناس يقتحمون الدور، ويغلقون عليهم، ويطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذها المسلمون. ولما ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ثنية أذاخر نظر إلى البارقة فقال: ما هذه البارقة، ألم أنه عن القتال؟ قيل: يا رسول الله، خالد بنالوليد قوتل، ولو لم يقاتل ما قاتل! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قضى الله خيراً! قال: وجعل يتمثل بهذه الأبيات، وهو يقاتل خارجة بن خويلد الكعبي، أنشدنيها عن أبيه:
إذا ما رسول الله فينا رأيتنا ... كلجة بحرٍ نال فيها سريرها
إذا ما ارتدينا الفارسية فوقها ... ردينيةٌ يهدي الأصم خريرها
وإن محمداً ... لها ناصرٌ عزت وعز نصيرها
وأقبل ابن خطل جائياً من مكة، مدججاً في الحديد، على فرس ذنوب ، بيده قناةٌ. وبنات سعيد بن العاص قد ذكر لهن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دخل، فخرجن قد نشرن رءوسهن، يضربن بخمرهن وجوه الخيل، فضربهن ابن خطل جائياً من أعلى مكة فقال لهن: أما والله لا يدخلها حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد ! ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة، فرأى خيل المسلمين ورأى القتال، ودخله الرعب حتى ما يستمسك من الرعدة، حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، فأتى البيت فدخل بين أستاره.
قال: وحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: أخذ رجلٌ من بني كعب درعه، وصففه ، ومغفره، وبيضته، وسيفه، وأدرك فرسه غائراً فأدركه فاستوى عليه، ولحق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحجون. قالوا: وأقبل حماس بن خالد منهزماً حتى أتى بيته، فدقه ففتحت له امرأته فدخل، وقد ذهبت روحه، فقالت: أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به! قال: دعي عنك، أغلقي بابي! فإنه من أغلق بابه فهو آمنٌ! قالت: ويحك! ألم أنهك عن قتال محمد؟ وقلت لك: " ما رأيته يقاتلكم من مرة إلا ظهر عليكم " ، وما بابنا؟ قال: إنه لا يفتح على أحدٍ بابه. ثم قال - أنشدنيها ابن أبي الزناد:
وأنت لو شهدتنا بالخندمه ... إذ فر صفوانٌ وفر عكرمه
وأبو يزيدٍ كالعجوز المؤتمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وضربتنا بالسيوف المسلمه ... لهم زئيرٌ خلفنا وغمغمه
قال: وأقبل الزبير بن العوام بمن معه من المسلمين حتى انتهى بهم إلى الحجون، فغرز الراية عند منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولم يقتل من المسلمين أحدٌ إلا رجلان من أصحابه، أخطآ طريقه فسلكا غيرها فقتلا؛ كرز بن جابر الفهري، فقام عليه خالد الأشقر وهو جد حزام بن خالد حتى قتل، وكان الذي قتل خالداً ابن أبي الجذع الجمحي.
قال: فحدثني قدامة بن موسى، عن بشير مولى المازنيين، عن جابر بن عبد الله، قال: كنت ممن لزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر، فلما أشرف على أذاخر نظر إلى بيوت مكة، ووقف عليها فحمد الله وأثنى عليه، ونظر إلى موضع قبته فقال: هذا منزلنا يا جابر، حيث تقاسمت علينا قريشٌ في كفرها. قال جابر: فذكرت حديثاً كنت أسمعه منه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل ذلك بالمدينة: منزلنا غداً إن شاء الله إذا فتح الله علينا مكة في الخيف حين تقاسموا علي الكفر. وكنا بالأبطح وجاه شعب أبي طالب حيث حصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنو هاشم ثلاث سنين.
قال: حدثني عبد الله بن زيد، عن أبي جعفر، قال: كان أبو رافع قد ضرب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبة بالحجون من أدمٍ، فأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى انتهى إلى القبة، ومعه أم سلمة وميمونة.
قال: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي رافع، قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيلٌ منزلاً؟ وكان عقيل قد باع منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة. فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك! فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لا أدخل البيوت. فلم يزل مضطرباً بالحجون لم يدخل بيتاً، وكان يأتي إلى المسجد من الحجون.
قال: وحدثنا ابن خديج، عن عطاء، قال: لما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة لم يدخل بيوت مكة، فاضطرب بالأبطح في عمرة القضية، وعام الفتح، وفي حجته.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مضطرباً بالحجون في الفتح، ويأتي لكل صلاة.
قالوا: وكانت أم هانىء بنت أبي طالبٍ تحت هبيرة بن أبير وهب المخزومي، فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها - عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، والحارث بن هشام - فاستجارا بها وقالا: نحن في جوارك! فقالت: نعم، أنتما في جواري. قالت أم هانىء: فهما عندي إذ دخل علي فارساً، مدججاً في الحديد، ولا أعرفه، فقلت له: أنا بنت عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت: فكف عني وأسفر عن وجهه، فإذا علي عليه السلام، فقلت: أخي! فاعتنقته وسلمت عليه، ونظر إليهما فشهر السيف عليهما. قلت: أخي من بين الناس يصنع بي هذا! قالت: وألقيت عليهما ثوباً، وقال: تجيرين المشركين؟ وحلت دونهما فقلت: والله لتبدأن بي قبلهما! قالت: فخرج ولم يكد، فأغلقت عليهما بيتاً، وقلت: لا تخافا! قال: فحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي مرة مولى عقيل، عن أم هانىء، قالت: فذهبت إلى خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبطحاء فلم أجده، ووجدت فيه فاطمة فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما! قالت: فكانت أشد علي من زوجها وقالت: تجيرين المشركين؟ قالت: إلى أن طلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليه رهجة الغبار، فقال: مرحباً بفاختة أم هانىء! وعليه ثوبٌ واحدٌن فقلت: ماذا لقيت من ابن أمي علي؟ ما كدت أنفلت منه! أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كان ذاك، قد أمنا من أمنت، وأجرنا من أجرت. ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلاً فاغتسل، ثم صلى ثمان ركعاتٍ في ثوبٍ واحد ملتحفاً به، وذلك ضحىً في فتح مكة.
قالوا: قالت: فرجعت إليهما فأخبرتهما وقلت لهما: إن شئتما فأقيما وإن شئتما فارجعا إلى منازلكما. قالت: فأقاما عندي يومين في منزلي، ثم انصرفا إلى منازلهما. قالت: فكنت أكون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبائه بالأبطح حتى خرج إلى حنين. قالت: فأتى آتٍ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، الحارث بن هشام وابن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متفضلان في الملاء المزعفر . فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا سبيل إليهما، قد أمناهما! قال: ومكث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منزله ساعةً من النهار واطمأن واغتسل، ثم دعا براحلته القصواء فأدنيت إلى باب قبته، ودعا للبس السلاح، والمغفر على رأسه، وقد صف له الناس، فركب براحلته والخيل تمعج بين الخندمة إلى الحجون، ومر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه يسير يحادثه، فمر ببنات أبي أحيحة بالبطحاء حذاء منزل أبي أحيحة وقد نشرن رءوسهن، يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بكر فتبسم، وذكر بيت حسان بن ثابت فأنشده أبو بكر رضي الله عنه .
تظل جيادنا متمطراتٍ ... يلطمهن بالخمر النساء
ولما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الكعبة فرآها، ومعه المسلمون، تقدم على راحلته فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، فرجعوا التكبير حتى ارتجت مكة تكبيراً حتى جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير إليهم: اسكتوا! والمشركون فوق الجبال ينظرون. ثم طاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيت على راحلته، آخذٌ بزمامها محمد بن مسلمة، وحول الكعبة ثلاثمائة صنمٍ، وستون صنماً مرصصةٌ بالرصاص وكان هبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما مر بصنمٍ منها يشير بقضيبٍ في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " . فيقع الصنم لوجهه.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: ما يزيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشير بالقضيب إلى الصنم فيقع لوجهه، فطاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعاً على راحلته يستلم الركن الأسود بمحجنه في كل طوافٍ، فلما فرغ من سبعة نزل عن راحلته، وجاء معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته؛ ثم انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المقام، وهو يومئذٍ لاصقٌ بالكعبة، والدرع عليه والمغفر، وعمامته بين كتفيه، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: لولا أن يغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلواً. فنزع له العباس بن عبد المطلب دلواً فشرب منه. ويقال: الذي نزع الدلو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وأمر بهبل فكسر وهو واقفٌ عليه. فقال الزبير بن العوام لأبي سفيان بن حرب: يا أبا سفيان، قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان!
قالوا: ثم انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس ناحيةً من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى عثمان فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره أنه قال نعم، ثم جلس بلال مع الناس. فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذٍ عندها: يا أمه، أعطني المفتاح فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أرسل وأمرني أن آتي به إليه. فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار، ومر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان، اخرج إلي! فقالت أمه: يا بني، خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيمٌ وعدي. قال: فأخذه عثمان فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فناوله إياه، فلما ناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: يا نبي الله، بأبي أنت اجمع لنا الحجابة والسقاية. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطيكم ما ترزءون فيه، ولا أعطيكم ما ترزءون منه. وقد سمعت أيضاً في قبض المفتاح بوجهٍ آخر.
قال: حدثني إسمعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح على بعيرٍ لأسامة بن زيد، وأسامة رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، فلما بلغ رأس الثنية أرسل عثمان فجاءه بالمفتاح فاستقبله به. قالوا: وكان عثمان قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص مسلماً قبل الفتح، فخرج معنا من المدينة. قال أبو عبد الله: وهذا أثبت الوجوه.
وقالوا: إن عمر بن الخطاب بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من البطحاء ومعه عثمان بن طلحة ، وأمره أن يتقدم فيفتح البيت، فلا يدع فيه صورة إلا محاها، ولا تمثالاً، إلا صورة إبراهيم. فلما دخل الكعبة رأى صورة إبراهيم شيخاً كبيراً يستقسم بالأزلام. ويقال: أمره ألا يدع صورة إلا محاها، فترك عمر صورة إبراهيم، فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى صورة إبراهيم عليه السلام، فقال: يا عمر، ألم آمرك ألا تدع فيها صورة إلا محوتها؟ فقال عمر: كانت صورة إبراهيم. قال: فامحها.
فكان الزهري يقول: لما دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى فيها صورة الملائكة وغيرها، ورأى صورة إبراهيم عليه السلام، قال: قاتلهم الله، جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام! ثم رأى صورة مريم، فوضع يده عليها ثم قال: امسحوا ما فيها من الصور إلا صورة إبراهيم.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن مهران، عن عمير مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد، قال: دخلت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكعبة فرأى فيها صوراً، فأمرني أن آتيه في الدلو بماءٍ، فيبل الثوب ويضرب به الصور، ويقول: قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون! قالوا: وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكعبة فغلقت عليه، ومعه أسامة بن زيد، وبلال بن رباح، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها ما شاء الله؛ وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة. قال ابن عمر: فسألت بلالاً كيف صنع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين دخل البيت؟ قال: جعل عمودين عن يمينه وعموداً عن يساره وثلاثة وراءه، ثم صلى ركعتين، ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمفتاح في يده، وقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عن الباب حتى خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: فحدثني علي بن محمد بن عبيد الله، عن منصور الحجبي، عن أمه صفية بنت شيبة، عن برة بنت أبي تجراة ، قالت: أنا أنظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين خرج من البيت، فوقف على الباب وأخذ بعضادتي الباب، فأشرف على الناس وبيده المفتاح، ثم جعله في كمه.
قالوا: فلما أشرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس، وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس، قال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نقول خيراً ونظن خيراً، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم، وقد قدرت! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإني أقول كما قال أخي يوسف: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " . ألا إن كل رباً في الجاهلية، أو دمٍ، أو مالٍ، أو مأثرةٍ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج؛ ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، الدية مغلظةً مائة ناقةٍ، منها أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرامٌ بحرمة الله، لم تحل لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ كائنٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من النهار - يقصرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده هكذا - لا ينفر صديها ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها . فقال العباس، وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه، إنه للقبر وطهور البيوت. قال: فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعة، ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال. ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأةٍ تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوةٌ، والمسلمون يدٌ واحدةٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم وميسرتهم على قاعدهم؛ ولا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده. ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب ؛ ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأةٌ مسيرة ثلاثٍ إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين، يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين! لا يحتب أحدكم في ثوبٍ واحدٍ يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
قال: ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه المفتاح، فتنحى ناحية المسجد فجلس، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قيض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا إلي عثمان! فدعي له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعثمان يوماً، وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت! فقال عثمان: لقد هلكت إذاً قريشٌ وذلت. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بل عمرت وعزت يومئذٍ. فلما دعاني بعد أخذه المفتاح ذكرت قولة ما كان قال، فأقبلت فاستقبلته ببشرٍ واستقبلني ببشرٍ، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدةً خالدةً، لا ينزعها إلا ظالمٌ؛ يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف. قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله! فأعطاه المفتاح، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مضطجعٌ بثوبه، وقال: أعينوه! وقال: قم على الباب وكل بالمعروف. ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السقاية إلى العباس، فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده بعدهم. فكان محمد بن الحنفية كلم فيها ابن عباس، فقال ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها في الجاهلية، وقد كان أبوك كلم فيها فأقمت البينة؛ طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل، أن العباس كان يليها في الجاهلية وأبوك في ناديته بعرنة في إبله، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاها العباس يوم الفتح، فعرف ذلك من حضر، فكانت بيد عبد الله بن عباسٍ بعد أبيه، لا ينازعهم فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم. وكان للعباس مالٌ بالطائف، كرمٌ كان يحمل زبيبه إليها فينبذ في الجاهلية والإسلام، ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك، ثم كان علي بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك إلى اليوم.
قال: وجاء خالد بن الوليد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ فقال: هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجهٍ يا رسول الله. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قضى الله خيراً! ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر المسلمين، كفوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر فخبطوهم ساعةً، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تحل لأحدٍ قبله؛ وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى أن يقتل من خزاعة أحدٌ. قال أبو اليسر: فدخلنا مع خالد بن الوليد من الليط، فكانوا هم الذين بدأونا بالقتال وأبوا أن يدعونا ندخل ، وكلمهم خالد بن الوليد وأعذر إليهم، فأبوا. قال خالد: احملوا عليهم! فحملنا فما قاموا لنا فواق ناقة حتى هربوا، ونهانا عن الطلب. قال أبو اليسر: فجعلت أحذم بسيفي، وهويت إلى رجلٍ فضربته فاعتزل إلى خزاعة، فسقط في يدي فجعلت أسأل عنه، فقيل لي: إنه من الحيا - أخو خزاعة. فحمدت الله ألا أقتل أحداً من خزاعة.
قالوا: وأقام أبو أحمد عبد الله بن جحش على باب المسجد على جملٍ له حين فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبته، وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي، وأنشد بالله يا بني عبد مناف داري ! قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عثمان ابن عفان، فسار عثمان بشيءٍ، فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره، فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم، فما سمع أبو أحمد ذاكرها حتى لقي الله، فقيل لعثمان بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ماذا قال لك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح أن تقوله لأبي أحمد؟ فقال: لم أذكره في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أأذكره بعد وفاته؟ وكان أبو أحمد قد حالف إلى حرب ابن أمية، وكان المطلب بن الأسود قد دعاه إلى أن يحالفه وقال: دمي دون دمك ومالي دون مالك! وحالف حرب بن أمية فقال أبو أحمد في ذلك:
أبني أمية كيف أخذل فيكم ... وأنا ابنكم وحليفكم في العشر
ولقد دعاني غيركم فأبيته ... وخبأتكم لنوائب الدهر
وكانوا يتحالفون في العشر من ذي الحجة قياماً، يتماسحون كما يتماسح البيعان ، وكانوا يتواعدون قبل العشر، وكان أبو سفيان قد باع داره من ابن علقمة العامري بأربعمائة دينار، فجعل له مائة دينار، ونجم عليه ما فضل.
قال: فحدثني أهل أبي أحمد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لك بها دارٌ في الجنة. وقال أبو أحمد في بيع داره لأبي سفيان، أنشدنيها عمرو بن عثمان الجحشي:
أقطعت عقدك بيننا ... والحادثات إلى ندامه
ألا ذكرت ليالي ال ... عشر التي فيها القيامه
عقدي وعقدك قائمٌ ... لا عوق فيه ولا أثامه
دار ابن عمك بعتها ... تشرى بها عنك الغرامه
اذهب بها إذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه
ولقد جريت إلى العقو ... ق وأسوأ الخلق الرغامه
قد كنت آوي في ذرى ... فيه المقامة والسلامه
ما كان عقدك مثل عق ... د ابن عمرو لابن مامه
قالوا: وكان إساف ونائلة رجلاً وامرأة، الرجل إساف بن عمرو والمرأة نائلة بنت سهيل من جرهم، فزنيا في جوف الكعبة فمسخا حجرين، فاتخذتهما قريش يعبدونهما، فخرج من أحدهما امرأة شمطاء سوداء تخمش وجهها، عريانة، ناشرة الشعر، تدعو بالويل. فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك فقال: تلك نائلة يئتست أن تعبد في بلادكم أبداً. ويقال إن إبليس رن ثلاث رناتٍ، رنةً حين لعن فتغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورنةً حين رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي قائماً بمكة، ورنةً حين افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة. فاجتمعت ذريته، فقال إبليس: ايئسوا أن تردوا أمة محمد على الشرك بعد يومهم هذا، ولكن افشوا فيهم النوح والشعر.
وكان أول من نصب أنصاب الحرم إبراهيم، وجبريل يريه، ثم لم تحرك حتى كان إسماعيل فجددها، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجددها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تميم بن أسد الخزاىعي فجدد أنصاب الحرم، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب، فبعث أربعةً من قريش كانوا يبدون في بواديها؛ مخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وأبو هود سعيد بن يربوع المخزومي. ثم كان عثمان بن عفان فبعث هؤلاء النفر، ثم كان معاوية عام حج فبعث هؤلاء النفر.
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، قال: لما حج عبد الملك بن مروان أرسل إلى أكبر شيخٍ يعلمه يومئذٍ من خزاعة، وشيخ من قريش، وشيخ من بني بكر، ثم أمرهم بتجديده، وكل وادٍ في الحرم فهو يسيل في الحل ولا يسيل وادٍ من الحل في الحرم إلا في موضعٍ واحدٍ عند التنعيم. وكان يقال: ولا ينفر صيدها. قال: لا يخرج من الظل إلى الشمس، ويقال: لا يذعر.
قال: حدثني عبد الملك بن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر يغشاه الحمام على رحله، وثيابه، وطعامه، ما يطرد؛ وكان ابن عباس يرخص أن يكشكش . وقوله: لا تحل لقطة ضالتها إلا لمنشد؛ يقول: لا يأكلها كما يأكل اللقطة في غيرها من البلدان.
قالوا: خرج غزيٌّ من هذيل في الجاهلية وفيهم جنيدب بن الأدلع يريدون حي أحمر بأساً، وكان أحمر بأساً رجلاً من أسلم شجاعاً لا يرام، وكان لا ينام في حيه؛ إنما ينام خارجاً من حاضره، وكان إذا نام غط غطيطاً منكراً لا يخفى مكانه، وكان الحاضر إذا أتاهم فزعٌ صرخوا بأحمر بأساً فيثوب مثل الأسد. فلما جاءهم ذلك الغزي من هذيل قال لهم جنيدب بن الأدلع: إن كان أحمر بأساً في الحاضر فليس إليهم سبيل، وإن كان له غطيطٌ لا يخفى، فدعوني أتسمع. فتسمع الحس فتسمعه، فأمه حتى وجده نائماً فقتله، ووضع السيف في صدره ثم اتكأ عليه فقتله، ثم حملوا على الحي، فصاح الحي: يا أحمر بأساً! فلا شيء، لا أحمر بأساً قد قتل. فنالوا من الحاضر حاجتهم ثم انصرفوا، فتشاغل الناس بالإسلام، فلما كان بعد الفتح بيومٍ دخل جنيدب بن الأدلع معه يرتاد وينظر - والناس آمنون - فرآه جندب بن الأعجم الأسلمي، فقال: جنيدب بن الأدلع، قاتل أحمر بأساً! فقال: نعم. فخرج جندب يستجيش عليه، وكان أول من لقي خراش بن أمية الكعبي، فأخبره، فاشتمل خراشٌ على السيف ثم أقبل إليه، والناس حوله وهو يحدثهم عن قتل أحمر بأساً، فبينا هم مجتمعون عليه إذ أقبل خراش بن أمية مشتملاً على السيف، فقال: هكذا عن الرجل! فوالله ما ظن الناس إلا أنه يفرج عنه الناس لينصرفوا عنه، فانفرجوا عنه، فلما انفرج الناس عنه حمل عليه خراش بن أمية بالسيف فطعنه به في بطنه، وابن الأدلع مستندٌ إلى جدار من جدر مكة، فجعلت حشوته تسايل من بطنه، وإن عينيه لتبرقان في رأسه وهو يقول: قد فعلتموها يا معشر خزاعة! فوقع الرجل فمات، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتله، فقام خطيباً - وهذه الخطبة الغد من يوم الفتح بعد الظهر - فقال: أيها الناس، إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرامٌ إلى يوم القيامة. لا يحل لمؤمنٍ بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً؛ لم تحل لأحدٍ كان قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم. فإن قال قائل: قد قاتل فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم! يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر القتل إن نفع؛ وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينه! فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار، إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله.
فدخل أبو شريح على عمرو بن سعيد بن العاص، وهو يريد قتال ابن الزبير، فحدثه هذا الحديث وقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرنا أن يبلغ الشاهد الغائب، وكنت شاهداً وكنت غائباً، وقد أديت إليك ما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر به، فقال عمرو بن سعيد: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنه لا يمنع من ظالمٍ ولا خالع طاعة، ولا سافك دم. فقال أبو شريح: قد أديت إليك ما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر به، فأنت وشأنك!
قال: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، أنه أخبر ابن عمر ما قال أبو شريح لعمو بن سعيد، فقال ابن عمر: رحم الله أبا شريح! قد قضى الذي عليه، قد علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تكلم يومئذٍ في خزاعة حين قتلوا الهذلي بأمرٍ لا أحفظه، إلا أني سمعت المسلمين يقولون قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " فأديه " .
قال: حدثني عمرو بن عمير بن عبد الملك بن عبيد، عن جويرية بنت الحصين، عن عمران بن الحصين، قال: قتله خراش بعد ما نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القتل، فقال: لو كنت قاتلاً مؤمناً بكافرٍ لقتلت خراشاً بالهذلي. ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خزاعة يخرجون ديته، فكانت خزاعة أخرجت ديته. قال عمران بن الحصين: فكأني أنظر إلى غنمٍ عفرٍ جاءت بها بنو مدلج في العقل، وكانوا يعاقلونها في الجاهلية ثم شده الإسلام، وكان أول قتيل وداه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسلام.
قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب، قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني كعب، فأعطوا القتيل مائةً من الإبل. قالوا: وجاءت الظهر، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلالاً أن يؤذن بالظهر فوق ظهر الكعبة يومئذٍ، وقريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفاً أن يقتلوا، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد أومن. فلما أذن بلالٌ ورفع صوته كأشد ما يكون، فلما بلغ أشهد أن محمداً رسول الله، تقول جويرية بنت أبي جهل: قد لعمري رفع لك ذكرك! أما الصلاة فسنصلي، والله لا نحب من قتل الأحبة أبداً؛ ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمداً من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه. وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم! وقال الحارث بن هشام: واثكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم، أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة! وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة. قال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخط الله فسيغيره، وإن كن رضاء الله فسيقره. وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئاً، لو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصاء! فأتى جبريل عليه السلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره خبرهم.
قال: فحدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: قال سهيل بن عمرو: ولما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وظهر، انقحمت بيتي وأغلقت علي بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمدٍ، وإنلا لا آمن أن أقتل. وجعلت أتذكر أثري عند محمدٍ وأصحابه، فليسأحدٌ أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية بما لم يلقه أحدٌ، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت فيها. فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، تؤمنه؟ فقال: نعم، هو آمنٌ بأمان الله، فليظهر! ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن حوله: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فليخرج؛ فلعمري إن سهيلاً له عقلٌ وشرف، وما مثل سهيلٍ جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافعٍ! فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال سهيل: كان واله براً؛ صغيراً وكبيراً! فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو على شركه حتى أسلم بالجعرانة.
وهرب هبيرة بن أبي وهب - وهو يومئذٍ زوج أم هانىء بنت أبي طالب - وهو وابن الزبعري جميعاً حتى انتهى إلى نجران، فلم يأمنا من الخوف حتى دخلا حصن نجران، فقيل لهما: ما وراءكما؟ قالا: أما قريش فقد قتلت، ودخل محمدٌ مكة، ونحن والله نرى أن محمداً سائرٌ إلى حصنكم هذا! فجعلت بلحارث وكعب يصلحون ما رث من حصنهم، وجمعوا ماشيتهم، فأرسل حسان بن ثابت أبياتاً يريد بها ابن الزبعري، أنشدنيها ابن أبي الزناد:
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه ... نجران في عيشٍ أحد لئيم
بليت قناتك في الحروب فألقيت ... خمانةً خوفاء ذات وصوم
غضب الإله على الزبعري وابنه ... وعذاب سوءٍ في الحياة مقيم
فلما جاء ابن الزبعري شعر حسان تهيأ للخروج، فقال هبيرة بن أب وهب: أين تريد يا ابن عم؟ قال: أردت والله محمداً. قال: أتريد أن تتبعه؟ قال: إي والله! قال: يقول هبيرة: يا ليت أني رافقت غيرك! والله، ما ظننت أنك تتبع محمداً أبداً! قال ابن الزبعري: هو ذاك، فعلى أي شيءٍ نقيم مع بني الحارث بن كعب وأترك ابن عمي وخير الناس وأبرهم ، ومع قومي وداري. فانحدر ابن الزبعري حتى جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو جالسٌ في أصحابه، فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه قال: هذا ابن الزبعري، ومعه وجهٌ فيه نور الإسلام. فلما وقف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: السلام عليكم، أي رسول الله؟ شهدت أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبت عليك، وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران، وأنا أريد ألا أقرب الإسلام أبداً، ثم أراد بي الله عز وجل منه بخيرٍ، فألقاه في قلبي وحببه إلي، وذكرت ما كنت فيه من الضلالة، واتباع ما لا ينفع ذا عقل، من حجر يعبد ويذبح له، لا يدري من عبده ومن لا يعبده. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الحمد لله الذي هداك للإسلام، إن الإسلام يجب ما كان قبله! وأقام هبيرة بنجران، وأسلمت أم هانىء، فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح
أشاقتك هندٌ أم نآك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها
وقد أرقت في رأس حصنٍ ممنعٍ ... بنجران يسري بعد ليلٍ خيالها
وإني من قومٍ إذا جد جدهم ... على أي حالٍ أصبح اليوم حالها
وإني لحامٍ من وراء عشيرتي ... إذا كرهت نحو العوالي فحالها
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وإن كنت قد تابعت دين محمدٍ ... وقطعت الأرحام منك حبالها
فكوني على أعلى سحيقٍ بهضبةٍ ... ململمةٍ حمراء يبسٍ تلالها
أقام بنجران حتى مات مشركاً.
قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن المنذر بن جهم قال: لما كان يوم فتح مكة هرب حويطب بن عبد العزى حتى انتهى إلى حائط عوف فدخل هناك، وخرج أبو ذر لحاجته وكان داخله، فلما رآه هرب حويطب فناداه أبو ذر: تعال، أنت آمن! فرجع إليه فسلم عليه، ثم قال: أنت آمن، فإن شئت أدخلتك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن شئت فاذهب إلى منزلك. قال: وهل لي سبيلٌ إلى منزلي؟ ألقى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو يدخل علي منزلي فأقتل. قال: فأنا أبلغ معك منزلك. فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطباً آمنٌ، فلا يهجم عليه! ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال: أو ليس قد أمنا كل الناس إلا من أمرت بقتله؟
قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: لما كان يوم الفتح، أسلمت هند بنت عتبة، وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، البغوم بنت المعذل، من كنانة، وأسلمت فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وأسلمت هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوةٍ من قريش، فأتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأبطح، فبايعنه فدخلن عليه، وعنده زوجته وابنته فاطمة، ونساءٌ من نساء بني عبد المطلب، فتكلمت هند بنت عتبة فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأةٌ مؤمنةٌ بالله مصدقة. ثم كشفت عن نقابها فقالت: هند بنت عتبة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مرحباً بك. فقالت: والله يا رسول الله، ما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وزيادة أيضاً! ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهن القرآن وبايعهن، فقالت هند من بينهن: يا رسول الله، نماسحك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لا أصافح النساء، إن قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأةٍ واحدة. ويقال: وضع على يده ثوباً ثم مسحن على يده يومئذٍ. ويقال: كان يؤتى بقدحٍ من ماءٍ، فيدخل يده فيه ثم يدفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه. والقول الأول أثبت عندنا: " إني لا أصافح النساء " . ثم قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمنه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هو آمن. فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حيٍّ من عك ، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحلٍ من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل نوتي السفينة يقول له: أخلص! فقال: أي شيءٍ أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله. قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا. فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح إليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك. فوقف لها حتى أدركته فقالت: إني قد استأمنت لك محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك. فرجع معها وقال: ما لقيت من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره فقتله عكرمة، وهو يومئذٍ لم يسلم. فلما دنا من مكة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبوا أباه ، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت. قال: وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها، فتأبى عليه وتقول: إنك كافر وأنا مسلمة. فيقول: إن أمراً منعك مني لأمرٌ كبير. فلما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عكرمة وثب إليه - وما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رداء - فرحاً بعكرمة، ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقف بين يديه، وزوجته منتقبة، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): صدقت، فأنت آمن! فقال عكرمة: فإلى ما تدعو يا محمد؟ قال: أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة - وتفعل، وتفعل، حتى عد خصال الإسلام. فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق وأمرٍ حسنٍ جميلٍ؛ قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً وأبرنا براً. ثم قال عكرمة: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فسر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ ثم قال: يا رسول الله، علمني خير شيءٍ أقوله. قال: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تقول: أشهد الله وأشهد من حضر أني مسلمٌ مهاجرٌ مجاهدٌ. فقال عكرمة ذلك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتكه. فقال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسيرٍ وضعت فيه، أو مقامٍ لقيتك فيه، أو كلامٍ قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم اغفر له كل عداوةٍ عادانيها، وكل مسيرٍ سار فيه إلى موضعٍ يريد بذلك
المسير إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه! فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً، فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأته بذلك النكاح الأول.ر إطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه! فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدٍّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل شهيداً، فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأته بذلك النكاح الأول.
وأما صفوان بن أمية، فهرب حتى أتى الشعيبة ، وجعل يقول لغلامه يسار وليس معه غيره: ويحك، انظر من ترى! قال: هذا عمير بن وهب. قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمداً علي. فلحقه فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي! قال: أبا وهب، جعلت فداك! جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس. وقد كان عمير قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه، فأمنه فداك أبي وأمي! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد أمنته. فخرج في أثره، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمنك. فقال صفوان: لا والله، لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامةٍ أعرفها. فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته: فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامةٍ أعرفها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خذ عمامتي. قال: فرجع عمير إليه بها، وهو البرد الذي دخل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يومئذٍ معتجحراً به، برد حبرة . فخرج عمير في طلبه الثانية، حتى جاء بالبرد فقال: أبا وهب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك، أذكرك الله في نفسك. قال له: أخاف أن أقتل. قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام؛ فإن رضيت وإلا سيرك شهرين؛ فهو أوفى الناس وأبرهم ، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجراً، تعرفه؟ قال: نعم. فأخرجه، فقال: نعم، هو هو! فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فوقفا، فقال صفوان: كم تصلون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات. قال: يصلي بهم محمد؟ قال: نعم. فلما سلم صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمراً وإلا سيرتني شهرين. قال: انزل أبا وهب. قال: لا والله، حتى تبين لي. قال: بل تسير أربعة أشهر. فنزل صفوان، وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل هوازن، وخرج معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحه، فأعاره سلاحه؛ مائة درعٍِ بأداتها، فقال: طوعاً أو كرهاً؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عارية مؤداة. فأعاره، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحملها إلى حنين، فشهد حنيناً والطائف ثم رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجعرانة، فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسير في الغنائم ينظر إليها، ومعه صفوان بن أمية، جعل صفوان ينظر إلى شعبٍ ملىء نعماً وشاءً ورعاءً، فأدام إليه النظر، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرمقه فقال: أبا وهب، يعجبك هذا الشعب؟ قال: نعم. قال: هو لك وما فيه. فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحدٍ بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله! وأسلم مكانه.
قال: فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: أسلم أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، ومخرمة بن نوفل قبل نسائهم، ثم قدموا على نسائهم في العدة، فردهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك النكاح. وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة قبل أزواجهما، ثم أسلما فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءهم عليهم، وذلك أن إسلامهم كان في عدتهم.
قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي، فربما أملى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " سميعٌ عليمٌ " فيكتب عليمٌ حكيمٌ؛ فيقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: كذلك الله، ويقره. وافتتن وقال: ما يدري محمد ما يقول! إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد. وخرج هارباً من المدينة إلى مكة مرتداً، فأهدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه يوم الفتح، فلما كان يومئذٍ جاء ابن أبي سرح إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان أخاه من الرضاعة، فقال: يا أخي، إني والله اخترتك فاحتبسني ها هنا، واذهب إلى محمد فكلمه في، فإن محمداً إن رآني ضرب الذي فيه عيناي؛ إن جرمي أعظم الجرم، وقد جئت تائباً. فقال: بل اذهب معي. قال عبد الله: والله لئن رآني ليضربن عنقي ولا يناظرني، قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبونني في كل موضع. فقال عثمان: انطلق معي، فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يرع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بعثمان، أخذ بيد عبد الله بن سعد بن أبي سرح واقفين بين يديه، فأقبل عثمان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، إن أمه كانت تحملني وتمشيه، وترضعني وتقطعه، وكانت تلطفني وتتركه، فهبه لي. فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعل عثمان كلما أعرض عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجهه استقبله فيعيد عليه هذا الكلام، فإنما أعرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه إرادة أن يقوم رجلٌ فيضرب عنقه، لأنه لم يؤمنه؛ فلما رأى ألا يقدم أحدٌ، وعثمان قد أكب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل رأسه وهو يقول: يا رسول الله، تبايعه فداك أبي وأمي! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم. ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما منعكم أن يقوم رجلٌ منكم إلى هذا الكلب فيقتله؟ أو قال: الفاسق. فقال عباد بن بشر: ألا أومأت إلي يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه. ويقال: قال هذا أبو اليسر؛ ويقال: عمر بن الخطاب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لا أقتل بالإشارة. وقائل يقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يومئذٍ: إن النبي لا تكون له خائنة الأعين . فبايعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعل يفر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما رآه، فقال عثمان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بأبي أنت وأمي، لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك! فتبسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أو لم أبايعه وأؤمنه؟ قال: بلى أي رسول الله! ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الإسلام يجب ما كان قبله " . فرجع عثمان إلى ابن أبي سرح فأخبره، فكان يأتي فيسلم على النبي مع الناس.
وأما الحويرث بن نقيذ من ولد قصي، فإنه كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأهدر دمه، فبينا هو في منزله يوم الفتح قد أغلق بابه عليه، وأقبل علي عليه السلام يسأل عنه، فقيل هو في البادية. فأخبر الحويرث أنه يطلب، وتنحى علي عليه السلام عن بابه، فخرج الحويرث يريد أن يهرب من بيتٍ إلى بيتٍ آخر، فتلقاه علي فضرب عنقه.
وأما هبار بن الأسود، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كلما بعث سرية أمرها بهبار إن أخذ أن يحرق بالنار. ثم قال: إنما يعذب بالنار رب النار؛ اقطعوا يديه ورجليه إن قدرتم عليه، ثم اقتلوه. فلم يقدر عليه يوم الفتح، وكان جرمه أنه عس بابنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب وضرب ظهرها بالرمح - وكانت حبلى - حتى سقطت، فأهدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه. فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس بالمدينة في أصحابه إذ طلع هبار بن الأسود، وكان لسناً، فقال: يا محمد! سب من سبك؛ إني قد جئت مقراً بالإسلام، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. فقبل منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرجت سلمى مولاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: لا أنعم الله بك عيناً! أنت الذي فعلت وفعلت. فقال: إن الإسلام محا ذلك. ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبه والتعريض له.
قال: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: كنت جالساً مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أصحابه ف مسجده، منصرفه من الجعرانة، فطلع هبار بن الأسود من باب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما نظر القوم إليه قالوا: يا رسول الله، هبار ابن الأسود! قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد رأيته. فأراد بعض القوم القيام إليه، فأشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اجلس، ووقف عليه هبار فقال: السلام عليك يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد وأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وبرك وصفحك عمن جهل عليك؛ وكنا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله عز وجل بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد عفوت عنك، وقد أحسن الله بك حيث هداك للإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله.
قال: حدثني واقد بن أبي ياسر، عن يزيد بن رومان، قال: قال الزبير ابن العوام: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر هباراً قط إلا تغيظ عليه، ولا رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية قط إلا قال: إن ظفرتم بهبار فاقطعوا يديه ورجليه ثم اضربوا عنقه. والله لقد كنت أطلبه وأسأل عنه، والله يعلم لو ظفرت به قبل أ يأتي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقتلته. ثم طلع على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا عنده جالسٌ، فجعل يعتذر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: سب يا محمد من سبك وأوذي من آذاك، فقد كنت موضعاً في سبك وأذاك، وكنت مخذولاً، وقد نصرني الله وهداني للإسلام. قال الزبير: فجعلت أنظر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنه ليطأطىء رأسه استحياءً مما يعتذر هبار، وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قد عفوت عنك، الإسلام يجب ما كان قبله. وكان لسناً، وكان يسب حتى يبلغ منه، فلا ينتصف من أحد. فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلمه وما يحمل عليه من الأذى، فقال: هبار، سب من سبك! قالوا: وأما ابن خطل، فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة.
فحدثني يعقوب بن عبد الله، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن عبد الرحمن بن أبزي، قال: سمعت أبا برزة الأسلمي يقول: في نزلت هذه الآية: " لا أقسم بهذا البلد " . " وأنت حلٌّ بهذا البلد " ؛ أخرجت عبد الله بن خطل وهو معلق بأستار الكعبة، فضربت عنقه بين الركن والمقام. ويقال: قتله سعيد بن حريث المخزومي؛ ويقال: عمار بن ياسر، ويقال: شريك بن عبدة العجلاني، وأثبته عندنا أبو برزة. وكان جرمه أنه أسلم وهاجر إلى المدينة وبعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساعياً، وبعث معه رجلاً من خزاعة، فكان يصنع طعامه ويخدمه، فنزلا في مجمع فأمره يصنع له طعاماً، ونام نصف النهار، فاستيقظ والخزاعي نائمٌ ولم يصنع له شيئاً، فاغتاظ عليه، فضربه فلم يقلع عنه حتى قتله، فلما قتله قال: والله ليقتلني محمد به إن جئته. فارتد عن الإسلام، وساق ما أخذ من الصدقة وهرب إلى مكة، فقال له أهل مكة: ما ردك إلينا؟ قال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم. فأقام على شركه، وكانت له قينتان، إحداهما فرتنا، والأخرى أرنب، وكانتا فاسقتين، وكان يقول الشعر يهجو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويأمرهما تغنيان به، ويدخل عليه وعلى قينتيه المشركون فيشربون الخمر، وتغني القينتان بذلك الهجاء. وكانت سارة مولاة عمرو ابن هاشم مغنيةً نواحة بمكة، فيلقى عليها هجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتغني به، وكانت قد قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تطلب أن يصلها وشكت الحاجة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كان لك في غنائك ونياحك ما يغنيك! فقالت: يا محمد، إن قريشاً منذ قتل من قتل منهم ببدرٍ تركوا سماع الغناء. فوصلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوقر لها بعيراً طعاماً، فرجعت إلى قريش وهي على دينها، فأمر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح أن تقتل فقتلت يومئذٍ. وأما القينتان، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتلهما، فقتلت إحداهما؛ أرنب أوفرتنا، وأما فرتنا فاستؤمن لها حتى آمنت، وعاشت حتى كسر ضلع من أضلاعها زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فماتت منه، فقضى فيها عثمان ثمانية آلاف درهم؛ ستة آلاف ديتها، وألفين تغليظاً للجرم.
قالوا: وأما مقيس بن صبابة فإنه كان مع أخواله بني سهم - كانت أمه سهمية - فاصطبح الخمر يوم الفتح في ندامى له، فأتى نميلة بن عبد الله الليثي، وعلم بمكانه، فدعاه فخرج إليه وهو ثمل، يتمثل بهذه الأبيات؛ أنشدنيها ابن جعفر وغيره:
دعيني أصطبح يا بكر إني ... رأيت الموت نقب عن هشام
ونقب عن أبيك أبي يزيد ... أخي القينات والشرب الكرام
بهم أرست رواسٍ من ثبيرٍ ... ومن ثور ولم تصمم صمام
تغنيني الحمام كأن رهطي ... خزاعة أو أناسٌ من جذام
فضربه بالسيف حتى برده. ويقال: خرج وهو ثملٌ فيما بين الصفا والمروة، فرآه المسلمون فهبتوه بأسيافهم حتى قتلوه، وقال شاعرهم :
لعمري لقد أخزى نميلة رهطه ... وفجع إخوان السناء بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيسٍ ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس
وكان جرمه أن أخاه هاشم بن صبابة كان قد أسلم وشهد المريسيع مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقتله رجلٌ من بني عمرو بن عوف خطأ ولا يدري، فظن أنه من المشركين، فقدم مقيس بن صبابة، فقضى له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدية على بني عمرو بن عوف، فأخذها وأسلم ثم عدا على قاتل أخيه العمري فقتله، وهرب مرتداً كافراً يقول شعراً. ويقال: قتله أوس بن ثابت، من رهط عبادة بن الصامت، وهو لا يشعر به، وذلك أنه كان في رهج العدو، فخرج يطلبهم فرجع ولقيه أوس وهو يظن أنه من المشركين فقتله، فقضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بديته على رهط عبادة ابن الصامت - وهذا أثبت القولين - فقال:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع
ثأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حملت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
فأهدر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دمه.
قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي بن كعب بن مالك، قال: لما رجع مقيس بن صبابة إلى قريشٍ إلى مكة قالوا: ما ردك إلينا وقد اتبعت محمداً؟ قال: فانطلق إلى الصنمين فحلق رأسه، وقال: لم أجد ديناً خيراً من دينكم ولا أقدم. ثم أخبرهم كيف صنع وكيف قتل قاتل أخيه.
قال: وحدثني عبد الله بن يزيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: لما قتل النفر الذين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتلهم سمع النوح عليهم بمكة، وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):لا تقتل قريشٌ صبراً بعد اليوم! يعني على الكفر.
قال: وحدثني يزيد بن فراس، عن عراك بن مالك، عن الحارث بن البرصاء، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا تغزى قريش بعد اليوم إلى يوم القيامة! يعني على الكفر.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل وحشي مع النفر، ولم يكن المسلمون على أحد أحرص منهم على وحشي. وهرب وحشي إلى الطائف، فلم يزل به مقيماً حتى قدم في وفد الطائف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخل عليه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فقال: وحشي؟ قال: نعم. قال: اجلس، حدثني كيف قتلت حمزة. فأخبره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): غيب عني وجهك! قال: فكنت إذا رأيته تواريت عنه. ثم خرج الناس إلى مسيلمة ، فدفعت إلى مسيلمة فزرقته بالحربة، وضربه رجلٌ من الأنصار، فربك أعلم أينا قتله.
قال: وحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيع، عن أبيه، قال: أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الفتح، فاستسلف من عبد الله ابن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فلما فتح الله عليهم هوازن وغنمه أموالها ردها وقال: إنما جزاء السلف الحمد والأداء. وقال: بارك الله لك في مالك وولدك! قال: وحدثني عبد الله بن زيد الهذلي، عن أبي حصين الهذلي، قال: استقرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثلاثة نفرٍ من قريشٍ: من صفوان ابن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه، واستقرض من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم، واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف، فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أصحابه من أهل الضعف.
قال: فأخبرني رجلٌ من بني كنانة - كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفتح، أنه قسم فيهم دارهم، فيصيب الرجل خمسين درهماً أو أقل أو أكثر، ومن ذلك المال بعث إلى بني جذيمة.
قال: وحدثني سفيان بن سعيد، عن الكلبي، عن صالح، عن المطلب ابن أبي وداعة، قال: طاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبيت في يومٍ صائفٍ، وعطش فاستسقى. فقال رجلٌ: يا رسول الله، عندنا شرابٌ من هذا الزبيب، أفلا أسقيك منه؟ قال: بلى. قال: فبعث الرجل إلى بيته فأتى بقدحٍ عظيمٍ، فأدناه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من فيه، فوجد له ريحاً شديدة فكرهه فرده. قال: ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بماءٍ، ثم دعا به. قال: وأتي بماءٍ من زمزم فصبه عليه حتى رأيت الماء يفيض من جانبه، وشرب منه حاجته، ثم ناوله الذي عن يمينه وقال: من أرابه من شرابه ريبٌ فليكسره بالماء.
قال: حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، وهشام بن سعد، عن زيد ابن أسلم، عن أبي وعلة، عن ابن عباس، قال: أهدى صديقٌ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ثقيف راوية خمر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما علمت أن الله تعالى حرمها؟ فسار الرجل غلامه: اذهب بها إلى الحزورة فبعها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بم أمرته؟ قال: ببيعها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الذي حرم شربها حرم بيعها! فبلغني أنها فرغت في البطحاء.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح عن ثمن الخمر، وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن .
قال: وحدثني سعيد بن بشير، عن عبد الكريم بن أبي أمية، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله، قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح: ما ترى في شحوم الميتة يدهن بها السقاء؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قاتل الله اليهود! حرم عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا ثمنها.
قال: وحدثني معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذٍ عن ثمن الخمر، فقال: قاتل الله اليهود! حرم عليهم الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه.
قال: وحدثني معمر، وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه، قال: حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعة النساء يومئذٍ.
قال: وحدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم الفتح وهو بالحزورة: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت! قال: حدثني سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل ذلك وقال: لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.
قال: وحدثني شيخٌ من خزاعة، عن جابر بن عبد الله، قال: كان لبني عبد الدار غلامٌ يقال له جبر، وكان يهودياً، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة يقرأ سورة يوسف، فعرف الذي ذكر في ذلك، فاطمأن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلم، فلما ارتد عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن إسلامه رجع إلى مكة فأخبر أهله بإسلامه، وكان العبد يكتم إسلامه من أهله قبل أن يدخل بيته، فعذبوه أشد العذاب حتى قال لهم الذي يريدون، فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه، وأخبره ما لقي في سبب عبد الله بن سعد. قال: فأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمنه فاشترى نفسه فعتق، واستغنى ونكح امرأةً لها شرف.
قال: حدثني إبراهيم بن يزيد، عن عطاء بن أبي رباح، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح فقال: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ها هنا أفضل. فرد ذلك عليه ثلاثاً. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده، لصلاةٌ ها هنا أفضل من ألفٍ فيما سواه من البلدان! وقالت ميمونة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم. فقالت: آتي بخفيرٍ يقبل ويدبر. فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيتٍ يستصبح لك به فيه، فكأنك أتيته. فكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمالٍ يشتري به زيتٌ يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك.
قال: حدثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم بن عبد الله بن محرز، قالا: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة جلس عبد الرحمن بن عوف في مجلسٍ فيه جماعةٌ، منهم سعد بن عبادة، فمر نسوةٌ من قريشٍ على ذلك المجلس، فقال سعد بن عبادة: قد كان يذكر لنا من نساء قريش حسنٌ وجمالٌ ؛ ما رأيناهن كذلك! قال: فغضب عبد الرحمن حتى كاد أن يقع بسعد وأغلظ عليه، ففر منه سعدٌ حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا رسول الله، ماذا لقيت من عبد الرحمن! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما له؟ فأخبره بما كان. قال: فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى كأن وجهه ليتوقد، ثم قال: رأيتهن وقد أصبن بآبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأزواجهن؛ خير نساءٍ ركبن الإبل نساء قريش! أحناه على ولدٍ، وأبذله لزوجٍ بما ملكت يدٌ! وكان أبو الطفيل عامر عامر بن واثلة يقول: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة ، فما أنسى شدة بياضه وسواد شعره، وإن من الرجال لمن هو أطول منه، ومنهم من هو أقصر منه، يمشي ويمشون حوله. قال: فقلت لأمي: من هذا؟ فقالت: رسول الله. قيل له: ما ثيابه؟ قال: لا أدري.
قال: وحدثني عبد الله بن يزيد، عن ربيعة بن عباد، قال: دخلنا بعد فتحها بأيام ننظر ونرتاد وأنا مع أبي، فنظرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فساعة رأيته عرفته وذكرت رؤيتي إياه بذي المجاز، وأبو لهب يتبع أثره يومئذٍ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا حلف في الإسلام، ولن يزيد حلف الجاهلية الإسلام إلا شدة. وكانت أم هانىء تحدث تقول: ما رأيت أحداً كان أحسن ثغراً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما رأيت بطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ذكرت القراطيس المثنية بعضها على بعض - تعني عكنه - وقد رأيته دخل يوم الفتح قد ضفر رأسه بضفائر أربع.
قال: وحدثني علي بن يزيد، عن أبيه، عن عمته، عن أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت: ضفرت رأس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذي الحليفة أربع ضفائر، فلم يحله حتى فتح مكة ومقامه بمكة، حتى حين أراد أن يخرج إلى حنين حله وغسلت رأسه بسدر.
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن أبي حصين الهذلي، قال: لما أسلمت هند بنت عتبة أرسلت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدية - وهو بالأبطح - مع مولاةٍ لها، بجديين مرضوفين وقدٍّ . فانتهت الجارية إلى خيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلمت واستأذنت، فأذن لها فدخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو بين نسائه أم سلمة زوجته وميمونة، ونساء من نساء بني عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرةٌ غليك وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها! فرجعت المولاة إلى هند فأخبرتها بدعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسرت بذلك، فكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتنا ما لم نكن نرى قبل قبل ولا قريباً، فتقول هند: هذا دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبركته، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام! ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبداً قائمة، والظل مني قريبٌ لا أقدر عليه، فلما دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منا رأيت كأني دخلت الظل. قال أبو حصين: وقدمت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إحدى نساء بني سعد بن بكر - إما خالةٌ أو عمةٌ - بنحيٍ مملوء سمناً وجراب أقط ، فدخلت عليه وهو في الأبطح، فلما دخلت انتسبت له، فعرفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت وصقدت، ثم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقبول هديتها، وجعل يسائلها عن حليمة فأخبرته أنها توفيت في الزمان. قال: فذرفت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم سألها: من بقي منهم؟ فقالت: أخواك وأختاك، وهم والله محتاجون إلى برك وصلتك، ولقد كان لهم موئل فذهب. وقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أين أهلك؟ فقالت: بذنب أوطاس. فأمر لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكسوة، وأعطاها جملاً ظعينةً ، وأعطاها مائتي درهم، وانصرفت وهي تقول: نعم والله المكفول كنت صغيراً، ونعم المرء كنت كبيراً، عظيم البركة.
قال: فحدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي، قال: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة بث السرايا، فبعث خالد بن الوليد إلى العزى، وبعث إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممة - الطفيل بن عمرو الدوسي، فجعل يحرقه بالنار ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
أنا حششت النار في فؤادكا
وبعث سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل فهدمه، وبعث عمرو بن العاص إلى صنم هذيل - سواع - فهدمه، فكان عمرو يقول: انتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت: هدم سواع. فقال: ما لك وله؟ فقلت: أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! قال: لا تقدر على هدمه. قلت: لم؟ قال: يمتنع. قال عمرو: حتى الآن أنت في الباطل! ويحك هل يسمع أو يبصر؟ قال عمرو: فدنوت إليه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، ولم يجدوا فيها شيئاً، ثم قال للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله. ثم نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة: من كان يؤمن بالله وبرسوله فلا يدعن في بيته صنماً إلا كسره. قال: فجعل المسلمون يكسرون تلك الأصنام، وكان عكرمة بن أبي جهل حين أسلم لا يسمع بصنمٍ في بيتٍ من بيوت قريش إلا مشى إليه حتى يكسره، وكان أن بتجراة يعملها في الجاهلية ويبيعها. قال سعد بن عمرو: أخبرني أنه كان يراه يعملها ويبيعها. ولم يكن رجل من قريش بمكة إلا وفي بيته صنمٌ.
قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن بعض آل جبير بن مطعم، عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم الفتح نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كان يؤمن بالله فلا يتركن في بيته صنماً إلا كسره أو حرقه، وثمنه حرام. قال جبير: وقد كنت أرى قبل ذلك الأصنام يطاف بها مكة، فيشتريها أهل البدو فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما من رجل من قريشٍ إلا وفي بيته صنمٌ، إذا دخل مسحه وإذا خرج مسحه تبركاً به.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهيل، قال: لما أسلمت هند بنت عتبة جعلت تضرب صنماً في بيتها بالقدوم، فلذةً فلذةً، وهي تقول: كنا منك في غرور! قال: وحدثني محمد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عتبة، قال: أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة خمس عشرة، يصلي ركعتين.
قال: حدثني مخرمة بن بكير، عن أبيه عراك بن مالك، قال: أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرين ليلة، يصلي ركعتين.
تم بعون الله تعالى الجزء الثاني من مغازي الواقدي، ويليه الجزء الثالث وأوله " شأن هدم العزى " .
شأن هدم العزى
قال: حدثني عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن عمرو الهذلي، قال: قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة يوم الجمعة لعشر ليالٍ بقين من رمضان؛ فبث السرايا في كل وجه. أمرهم أنيغيروا على من لم يكن على الإسلام. فخرج هشام بن العاص في مائتين قبل يلملم.وخرج خالد ابن سعيد بن العاص في ثلثمائة، قبل عرنة. وبعث خالد بن الوليد إلي العزى يهدمها. فخرج خالد في ثلاثين فارساً من أصحابه حتى انتهى إليها وهدمها. ثم رجع إلي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فقال: هدمت؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل رأيت شيئاً ما؟ قال: لا. قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها. فرجع خالد وهو متغيظ. فلما انتهى إليها جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة سوداء، عريانة، ناشرة الرأس. فجعل السادن يصيح بها. قال خالد: وأخذني اقشعرارا في ظهري، فجعل يصيح:
أيا عز شدي شدة لا تكذبي ... على خالد ألقى القناع وشمرى
أيا عز إن لم تقتلي المرء خالداً ... فبوئي بذنب عاجل أو تنصري
قال: وأقبل خالد بالسيف إليها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني ودجدت الله قد أهانك
قال: فضربها بالسيف فجزلها باثنين، ثم رجع إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبداً. ثم قال خالد: أي رسول الله، الحمد لله الذي أكرمنا وأنقذنا من الهلكة! إني كنت أرى أبي يأتي إلي العزى بحتره؛ مائة من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً، فنظرت إلي ما مات عليه أبي، وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله، كيف خدع حتى صار يذبح لحجر ل يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذا الأمر إلي الله، فمن يسره للهدى تيسر، ومن يسره للضلالة كان فيها. وكان هدمها لخمس ليالٍ بقين من رمضان سنة ثمان. وكان سادنها أفلح بن نضر الشيباني من بني سليم، فلما حضرته الوفاة دخل عليه وهو حزين، فقال له أبو لهب مالي أراك حزيناً؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدى. قال له أبو لهب: فلا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك. فجعل كل من لقى قال: إن تظهر العزى كنت قد اتخذت يداً عندها بقيامي عليها ، وإن يظهر محمد على العزى - ولا أراخ يظهر - فابن أخي! فأنزل الله عز وجل: " تبت يدا أبي لهب " ؛ ويقال إنه قال هذا في اللات . وقال حسان بن ثابت.
من قتل من المسلمين يوم الفتح
رجلان آخطآ الطريق، كرز بن جابر الفهري، وخالد الأشعر، من بني كعب.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|