المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

ظهور مذهب التَّصنيع
4-10-2015
تأثير العدد الزوجي لمجموعات الميثيلين بالمقارنة بالعدد الفردي لها
29-11-2017
منطقة ضبط بؤري واحدة Af Single Area
13-12-2021
نظرة الطفل الى امه
18-1-2016
اختصاصه (عليه السلام)
30-01-2015
Standard Error
26-2-2021


أبو العباس بن ثوابة  
  
2923   05:38 مساءً   التاريخ: 14-7-2019
المؤلف : د .شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة : ص :634ـ640
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-06-2015 1962
التاريخ: 29-12-2015 4884
التاريخ: 21-06-2015 2220
التاريخ: 12-08-2015 3187

أبو العباس بن ثوابة (1)

هو أبو العباس أحمد بن محمد بن ثوابة المتوفى عام 277 للهجرة، وهو من أسرة أصلها مسيحي، عملت في دواوين الخلافة، منذ أواسط القرن الثالث للهجرة إلى منتصف القرن الرابع. وأول من لمع اسمه منهم محمد بن ثوابة وكان يعمل في دواوين الدولة، وهو من ممدوحي البحتري، وكان ابنه جعفر يتولّى ديوان الرسائل في أيام عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير بأخرة من عصر المعتمد، وقد توفى سنة 284 للهجرة، وخلفه على رياسة هذا الديوان ابنه أحمد بن محمد بن جعفر بن ثوابة، وسبق أن عرضنا له في الفصل الماضي وقلنا إنه كان يسجع في رسائله الديوانية، وقد توفى سنة 312 فخلفه على رياسة الديوان ابنه أحمد حتى سنة 349 للهجرة. ويبدو أن السجع نما على أيدي هذه الأسرة وكانت عاملا من عوامل انتشاره في الكتابتين الديوانية والإخوانية.

وليست بين أيدينا معلومات واضحة عن نشأة أبي العباس بن ثوابة، ولكن لا بد أن أباه وكان يشتغل في الدواوين أخذه مبكرا بالدرس والتحصيل، بادئا معه من الكتّاب، ومنتهيا به إلى حلقات العلماء في المساجد، حتى إذا غزرت ثقافته تحول به إلى الدواوين الرسمية ونراه متألفا فيها منذ عصر المهتدى (2) (255 - 256 هـ‍)، وما زال نجمه في صعود حتى اختير لرياسة ديوان الرسائل لأوائل عصر المعتمد. وكانت لا تعقد إلا لمن أثبت كفاءته وعرفت بلاغته. وكان طبيعيّا أن تكثر الصلات والمودات بينه وبين سعيد

ص634

ابن حميد وغيره من كتّاب عصره وشعرائه، ولابن الرومي فيه مدائح مختلفة، وكذلك للبحتري ويروي له توقيع وقّع به في قصيدة له، استمنحه فيها قضاء حاجة على هذا النحو: «مقضيّة ولو أتلفت المال، وأذهبت الحال، فقل-رعاك الله- ما شئت منبسطا، وثق بما أنا عليه لك مغتبطا، إن شاء الله تعالى». ويبدو أنه ظلّ على ديوان الرسائل حتى تولى إسماعيل بن بلبل الوزارة للمعتمد سنة 265، وكانت بينهما وحشة شديدة. ودخل عليه أبو العباس ووقف بين يديه، ثم قال أيها الوزير: {(لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنّا لَخاطِئِينَ)}، فقال له ابن بلبل:

{(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ)} يا أبا العباس، ورفع مجلسه، غير أنه صرفه عن الديوان وولاه نواحي بابل وسواد بغداد الغربي، فضاعف-وزاد-في الدعاء له، ويقال إنه ظل على تلك النواحي حتى وفاته.

وأبو العباس أحد كتاب العصر وبلغائه، وفي أخباره أنه كان شديد العناية بأناقته وبكل ما يتصل بحياته شديد التكلف، ويضرب الرواة لذلك مثلا بعبارات له شديدة الغرابة، وأنه قال يوما وقد استمع إلى حاجم: علىّ بماء الورد أغسل في من كلام الحاجم. وأثر له عهد طويل إلى أحد الولاة من الموفق ولي عهد المعتمد، ومرّ بنا أنه كان الخليفة الحقيقي طوال عصر أخيه، ولذلك كانت العهود إلى الولاة تصدر عنه، والعهد يبتدئ على هذا النمط (3):

«هذا ما عهد به أبو أحمد الموفّق بالله ولىّ عهد المسلمين إلى فلان حين ولاّه الصلاة بأهل كورة الرّي ودنباوند ونواحيها، والحرب والأحداث فيهما.

أمره بتقوى الله وطاعته، وخشيته ومراقبته، في سرّه وعلانيته، وظاهر أمره وباطنه والعمل بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه فيما وافقه وخالفه، وأرضاه وأسخطه فإنه من يتّق الله يقه، ومن يعتصم به يهده، ومن يطعه يتولّه ويكفه {(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اِتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)}. وأمره أن يملأ قلبه خيفة الله وهيبته والتفويض إليه، والاعتماد عليه، وأن يجعل كتاب الله عزّ وجلّ له إماما، وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم متالا، فإن فيهما دلالة وتبيانا، وضياء ونورا وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. وأمره أن يكون أول

 

ص635

ما يعنى به ويقدّمه، ويراعيه ويؤثره، إقامة الصلاة لمواقيتها بإتمام ركوعها وسجودها وأداء فرض الله فيها، إذ كانت عماد الدين، وأفضل ما تقرّب به المؤمنون، وكان من أضاعها وقصّر في واجبها، أشدّ تضييعا لما سواها من حقوق الله عزّ وجلّ وفرائضه ودينه وشرائعه {(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخاشِعِينَ)}. وأمره أن يلهم نفسه في كل حال من حالاته وصغير وكبير من أمره، ذكر الله جل ثناؤه، وألا يمضى أمرا إلا بعد استخارة الله عزّ وجلّ فيه، واستقصائه في ذلك بالذي هو له أرضى، وعنده أزكى، فإن العاقبة للتقوى، وإن أفضل الأمور خيرها عاقبة، وأحمدها مغبّة، وما التوفيق إلا بالله، عليه يتوكل المتوكلون».

وقد استهلّ أبو العباس بن ثوابة العهد-كما يلاحظ القارئ-بالسجع، ثم رآه سيطول إذ يمتد نحو ثماني صفحات، فانصرف عنه مكتفيا بتقطيع العبارات وباصطفائها واصطفاء الألفاظ التي تتألف منها. وقد حاول أن ينهى كل أمر بآية أو كلمة من القرآن تناسبه. وهو يمضى في العهد، فيأمر الوالي بحسن سياسته لأهل عمله وأخذه لهم بالعدل والنّصفة وإحقاق الحقوق، وأن يتخذ مساعديه في إدارة الحكم من أهل العفاف والكفاية، وأن يقدّم أهل الفضل والصلاح والمشايعين للدولة ويتخذ منهم مستشاريه، وأن يقيم الحدود متبعا لما جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية وما نصّ عليه الفقهاء، وأن يجعل دبر أذنه ما قد يكون بينه وبين بعض الرعية من حقد وضغينة، وأن يقمع أهل الدعارة والفساد بإقامة الحدود عليهم دون إفراط، فإن لكل شيء قدرا، وأن يصرف عنايته إلى أطراف ولايته، وخاصة التي تقابل الأعداء فيسدّ خللها ويرتق فتقها، ويعاجل أي متسرع للفتنة أو الثورة بها. ويطلب إليه أن يراقب التجار ولا يدعهم ينقلون زادا ولا عتادا من الأسلحة إلى ديار العدو، وينزل العقاب بمن يخالف منهم هذا الأمر، وهو بدلّ على يقظة الدولة. ويأمره أن يحسن التعاون مع صاحب الخراج وأن تقدم له ما يريد من المساعدين، حتى يدرّ الخراج ويكثر حلابه، كما يأمره أن يتفقّد من في السجون، ويكثر عرضهم والنظر في أمورهم والأسباب التي حبسوا بها، آخذا بمشاورة أهل الفقه فيهم. ومن أطرف ما في العهد أن نراه يأمر الوالي بالأمانة في

ص636

ولايته، وألا يأخذ أي ضرائب استثنائية من الرعية، لا بحجة الضيافة ولا بأي حجة أخرى. ومرّ بنا في الفصل الأول كيف أن الولاة تحولوا لصوصا وقطّاع طرق يختلسون الأموال من الناس دون أي رحمة أو شفقة، وكأن أبا العباس بن ثوابة يشير إلى ذلك على لسان الموفق إذ يقول للوالي إنه:

«أمره ألا يقسم على أهل عمله قسمة بسبب نزل (ضيافة) ولا غيره، مما كان شرار العمال يوظّفونه ويقسمونه على أهل أعمالهم، ويتجنّب الطّعم (وجوه المكاسب) الشائنة، والمكاسب الرديئة. ويحذر أن يعرض لشيء منها، أو يطلقه لأحد من كفاته (معاونيه) فيرد عليه من النكير ما هو حرىّ بتوقيه والتصّون عنه».

ويعرض في العهد لوظيفة الحسبة. وكان المحتسب يراقب الأسعار في الأسواق، ويقوم فيها مقام رجل الشرطة والقاضي معا ولذلك كان يختار من رجال الفقه والشريعة.

فهو يحقق ويحكم ويدين ويردّ عن المظلوم الظلم، ويراجع المكاييل والموازين، ويعاقب الغاشّ المخادع، وفي ذلك يقول عن لسان الموفق لواليه:

«وأمره أن يتخيّر للحسبة على أهل الأسواق وسائر أصحاب الصناعات والبياعات (السلع) في عمله من يعرف بالقصد في مذهبه، والسّتر في نفسه، والعفاف في طعمته (وجه مكسبه) واستيفاء الحق فيما يقلّده ويستكفى القيام به، ويتقدّم إليه في أخذ كل طبقة من أهل الطبقات التي يقع عمله في الحسبة فيها بتصحيح المعاملة ورفع الغشّ، وتجنب كل ما عاد بمضرّة على المسلمين أو تحيّف (تنقص) لهم، وتعيير (قياس) المكاييل والموازين في سائر عمله، وإقامتها على الوفاء والعدل، وختمها بالرصاص، وحمل المبتاعين فيها وغيرهم عليها، والإشراف على ما يرسمه، ويتقدم بامتثاله في سائر وجوه الحسبة، حتى لا يخالف شيء منه إلى غيره، ومعاقبة من عسى أن يقدم على مخالفته فيه، يردعه، ويعظ من سواه، فإن الله عزّ وجلّ يقول: {(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)»}.

وهي قطعة طريفة في العهد، إذ تصوّر أعمال رجال الحسبة في العصر وما كان

 

ص637

 يشترط فيهم من معرفة بالشريعة وحدودها وأن يكونوا من الثقاة أهل السّتر والعفاف حتى لا يتحولوا إلى ذئاب في الأسواق فارضين على التجار وأصحاب الصناعات هدايا ورشاوي، من شأنها أن تفسد الذمم فسادا لا حدّ له، وبالتالي تفسد الأسعار والبيع والشراء. ويصوّر مهمة المحتسب بأنها تصحيح المعاملات بين الناس ورفع الغش والخداع والمراجعة الدائمة لعيار المكاييل والموازين وختم الدقيق منها ختما يدل على صلاحه، بحيث لا يستعمل سوى الموازين والمكاييل المختومة التي أقرّها المحتسب، وكلّ من حدثته نفسه بمخالفة ذلك ينبغي أن ينزل به المحتسب عقابا رادعا. وقد كتب العهد بدون سجع، وكان ابن ثوابة يفزع إلى السجع كثيرا، ولعله لاحظ أنه موجّه للرعية كما جاء في نهايته، وأنه ينبغي لذلك أن يكون في لغة واضحة لا يحجب السجع بعض معانيها، ولا يحول بين العوام وتبين ما فيها.

وأثرت له رسائل إخوانية كتب ببعضها إلى نفر من الوزراء، وهو فيها تارة يكثر من السجع وتارة يتخفّف منه بل قد يهمله تماما على نحو ما نجد في الرسالة التالية التي كتب بها إلى الوزير إسماعيل بن بلبل يهنئه بمصاهرة الموفق ولىّ عهد المعتمد وفيها يقول (4):

«بلغني للوزير-أيّده الله-نعمة زاد شكرها على مقادير الشكر، كما أربى مقدارها على مقادير النعمة، فكان مثلها قول إبراهيم بن العباس الصولي:

بنوك-غدا-آل النبي ووارثو ال‍ … خلافة والحاوون كسرى وهاشما

وأنا أسأل الله تعالى أن يجعلها موهبة ترتبط ما قبلها، وتنتظم ما بعدها، وتصل جلال الشرف، حتى يكون الوزير-أعزّه الله-على سادة الوزراء موفيا، ولجميل العادة مستحقّا، ولمحمود العاقبة مستوجبا، وأن يلبس أولياءه من هذه الحلل الغالية ما يكون لهم ذكرا باقيا وشرفا مخلّدا».

والرسالة تخلو من السجع، ولكنها تحوي الكثير من المهارة الفنية، وخاصة في تقطيع الجمل وتقابلها واستيفاء معانيها، على نحو ما ينضح في العبارتين الأوليين

 

ص638

منها، واقتبس فيها بيتا لإبراهيم بن العباس الصولي شديد الصلة بما تريد الرسالة أن تؤدّيه من معان. ويعقبه بعبارات مقطّعة متقابلة، وكأنما الكلمات تتشابك بالأيدي، فقد كان يعرف كيف يضمّ اللفق إلى اللفق والنظير إلى النظير، بحيث تتماسك الكلمات وكأنها في بناء متراص. وأشرنا في الفصل السابق إلى إنكار إبراهيم بن المدبر في رسالته العذراء التي وجّه بها إلى الكتّاب أن يقولوا في رسائلهم:

«جعلت فداك» وإنما أنكر العبارة لاشتراك معناها كما يقول واحتمالها أن تكون فداء من الخير أو فداء من الشر، ويقول إن كتّاب العسكر (الجيش) وعوامّهم أولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها في جميع محاوراتهم وجعلوها دأبهم في مخاطبة الشريف الوضيع والكبير والصغير. وكأنما صدر أبو العباس بن ثوابة عن روح هذا النقد، إذ كتب إلى الوزير عبيد الله بن سليمان رسالة خالية من قولهم:

«جعلت فداك» فعاتبه عبيد الله، ولم يكد يسمع عتابه، حتى كتب إليه برسالة ثانية، يصوّر فيها نقد إبراهيم بن المدبر السالف، وفيها يقول (5):

«الله يعلم-وكفى به عليما-لقد أردت مكاتبتك بالتفدية، فرأيت عيبا أن أفديك بنفس لا بد لها من الفناء، ولا سبيل لها إلى البقاء، ومن أظهر لك شيئا يضمر خلافه فقد غشّ، والأمر إذا كانت الضرورة توجبه، وتحقق أنه ملك لا يتحقّق، وعطاء لا يتحصّل، لم يجز أن يخاطب به مثلك، وإن كان عند قوم نهاية من نهايات التعظيم، ودليلا من دلالات الاجتهاد، وطريقا من طرق التقرب».

وقد التمس أبو العباس بن ثوابة لإنكار التفدية علة أخرى غير علة ابن المدبر، لعلها أكثر منها تعبيرا عما أصاب الذوق الأدبي في العصر من رقة بالغة عند بعض الكتاب، حتى لتؤذيه الكتابة بالتفدية بنفس فانية غير باقية، وهو إفراط في الحسّ والشعور والرقّة والدمائة. وبذلك نفهم عبارة أبي العباس السابقة حين استمع إلى كلام حاجم، فقال: علىّ بماء الورد أغسل فمي من كلام الحاجم، وكأن سماع الكلام الذى لا يعجبه لا يؤذى أذنه فحسب، بل يؤذى فمه، وإنه لإيذاء غريب، ولكن لا غرابة أن يصدر من أبي العباس، فقد كان يتكلف

 

ص639

الدماثة والحسّ المفرط والشعور الحاد. وله من فصل في رسالة كتب بها إلى نفس الوزير عبيد الله بن سليمان، يقول فيه (6):

«لم يؤت الوزير من عدم فضيلة، ولم أوت من عدم وسيلة، وغلّة (حرارة) الصادي (العطشان) تأبى له انتظار الوارد، وتعجل عن تأمل ما بين الغدير والوادي، ولم أزل أترقّب أن يخطرني بباله، ترقب الصائم لفطره، وأنتظره انتظار الساري لفجره، إلى أن برح (انكشف) الخفاء وكشف الغطاء، وشمت الأعداء، وإن في تخلفي وتقدّم المقصّرين لآية للمتوسّمين، والحمد لله رب العالمين».

والفصل مكتوب بكل دقة، فالوزير لم ينسه نقصا فيه إذ اكتملت فضائله وأوفت على الغاية، وهو لم يؤت من نقص، فبلاغته ذائعة معروفة يعرفها القاصي والداني، وإذن فليبحث عن علة، ويقول إن الحرارة المشتعلة في صدر العطشان تدفعه إلى عدم الانتظار لما قد يرد عليه، وتعجله عن النظر فيما بين الغدير والوادي من خيرات ومياه وطيبات. ويمضى فيقول إنه كان يترقب إقباله ترقب الصائم الجائع لفطره والساري بالليل الداجي لفجره، غير أن أضواء الصباح العابس تفلّتت من الأفق، فاتضح الخفاء وانكشف الغطاء وأن الوزير لن يشمله برعايته، وشمت الأعداء. وكأنما يعاتب عبيد الله بكل ذلك عتابا رفيقا وهو يختمه بقوله إنه أصبح في عداد المتخلفين، بينما تقدّمت في رحاب الوزير كثرة من المقصّرين الذين لا يبلغون شأوه، ويقول إن في ذلك لآية للناظرين، ولا ينسى حمد الله رب العالمين الذى لا يحمد في مكروه سواه. والعبارات في الفصل متسقة اتساقا وثيقا، إذ لاءم أبو العباس بينها بقسطاس دقيق، ونحسّ انسجاما بين الكلمات منذ العبارتين الأوليين، وهو انسجام انتهى بهما إلى أن تصبحا سجعتين.

ويضيف إلى ذلك في العبارتين التاليتين مادة تصويرية طريفة، حتى إذا سوّاهما تلاهما بعبارات يلتحم فيها السجع والتصوير معا. وبذلك يبلغ أبو العباس بن ثوابة صاحب الدماثة المفرطة والرقة المتناهية كل ما كان ينتظر له من تأنق في التعبير الأدبي، إذ يتحول عنده إلى زخرف خالص، زخرف يحمل كل ما يريد من وشى السجع ووشى الصور النادرة. وله من جواب عن تعزية (7).

 

ص640

«وصل كتابك بالتعزية عن أخي، وقد جلّت مصيبتي به وعظمت، فنكأت (جرحت) القلب، وهدّت الركن، وأذهبت القوة، ونغّصت العيش، وأزرت بالأمل. فعند الله أحتسبه، وإياه أسأل تفضلا عليه، وصفحا عنه، وتغمدا (غفرانا) لذنوبه، وصبرا على حادث قضائه فيه، واستعدادا للموت وتأهبا له، فإنه مصرع لا بدّ منه، ومورد لا محيص عنه».

والانسجام واضح بين الكلمات والعبارات، فقد صوّر حزنه على أخيه بجمل متناسقة، ولا شك في أنه بذل جهدا عنيفا في اجتلابها ووضعها متلاحقة، وكل جملة تضيف خطّا إلى لوحة الحزن السوداء، فعبارة تحمل جرح القلب، وثانية تحمل انهداد الركن، وثالثة تحمل ذهاب القوة، ورابعة تحمل تنغص العيش، وخامسة تحمل الإزراء بالأمل. ويتجه إلى الله بجمل مماثلة يدعو فيها لأخيه ولنفسه أما أخوه فيدعو له بالتفضل عليه والصفح عنه، والغفران لذنوبه، ثلاث دعوات ويقابلها لنفسه ثلاث أيضا: الصبر على حادث القضاء، والاستعداد للموت بالعمل الصالح، والتأهب له. وهكذا كل عبارة وكل كلمة كأنما توضع بميزان دقيق يزنها في عبارتها، ويزن عبارتها بالقياس إلى قرينتها أو قرائنها. ويذكر صاحب معجم الأدباء أن البحتري هجا بنى ثوابة في قصيدة له فبعث إليه أبو العباس يترضّاه بهدية نفيسة فردّها وقال لحاملها قل لأبي العباس: قد أسلفتكم إساءة فلا يجوز معها قبول صلتكم، فكتب إليه:

«أما الإساءة فمغفورة، والمعذرة مشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو (يداوى) جراحك مثل يدك، وقد رددت إليك ما رددته علىّ، وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا».

فقبل البحتري ما بعث به ووعد أبا العباس أن يأتيه ثناؤه ومديحه. والكلمات التي كتب بها إلى البحتري تحمل نفس خصائصه من وزن الكلام بقسطاس، وجعله القسطاس هذه المرة يلائم أشد الملاءمة بين العبارات، فإذا هي تأخذ صورة سجع خالص، وهو سجع حافل بالعذوبة. ولا نبالغ إذا قلنا إن أبا العباس كان أحد من أعدوا بقوة في القرن الثالث الهجري لشيوع السجع وانتشاره.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر في أبي العباس بن ثوابة الفهرست ص 193 ومعجم الأدباء 4/ 144 وجمهرة رسائل العرب 4/ 323 وما بعدها.

(2) الأغاني (طبعة الساسي) 20/ 69.

(3) جمهرة رسائل العرب 4/ 334.

(4) معجم الأدباء 4/ 157.

(5) زهر الآداب 3/ 16 وجمهرة رسائل العرب 4/ 332.

(6) معجم الأدباء 4/ 147.

(7) جمهرة رسائل العرب ص 333.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.