المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17757 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24
من آداب التلاوة
2024-11-24
مواعيد زراعة الفجل
2024-11-24
أقسام الغنيمة
2024-11-24
سبب نزول قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون الى جهنم
2024-11-24



التصويرالفني في القصة القرآنية  
  
3247   02:32 صباحاً   التاريخ: 25-02-2015
المؤلف : سيد قطب
الكتاب أو المصدر : التصوير الفني في القران
الجزء والصفحة : ص190-199.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / مواضيع عامة في القصص القرآنية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-02-23 1010
التاريخ: 26-04-2015 4348
التاريخ: 2023-03-23 1309
التاريخ: 2023-03-11 1851

سبق أن قلنا في هذا الكتاب «التصوير الفني في القرآن» : إن التعبير القرآني يتناول القصة بريشة التصوير المبدعة التي يتناول بها جميع المشاهد والمناظر التي يعرضها، فتستحيل القصة حادثا يقع ومشهدا يجري، لا قصة تروى ولا حادثا قد مضى.

فالآن نقول : إن هذا التصوير في مشاهد القصة ألوان :

لون يبدو في قوّة العرض والإحياء. ولون يبدو في تخييل العواطف والانفعالات. ولون يبدو في رسم الشخصيات. وليست هذه الألوان منفصلة، ولكن أحدها يبرز في بعض المواقف ويظهر على اللونين الآخرين، فيسمى باسمه. أما الحق فإن هذه اللمسات الفنية كلها تبدو في مشاهد القصص جميعا .. وهنا يوضح المثال، ما لا يوضحه المقال.

*** استعرضنا من قبل قصة أصحاب الجنة. ومشهد إبراهيم وإسماعيل أمام الكعبة. ومشهد نوح وابنه في الطوفان .. وكلها أمثلة لقوّة العرض والإحياء، حتى ليظن القارئ أن المشهد حاضر يحس ويرى. على نحو ما بيّنا. أما الآن فنضيف مثلا جديدا.

ها نحن أولاء نشهد «أهل الكهف» يتشاورون في أمرهم بعد ما اهتدوا إلى اللّه بين قوم مشركين :

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف : 13- 16]

بهذا ينتهي المشهد، ويسدل الستار، أو تنقطع الحلقة على أحدث الطرق التي اهتدى إليها المسرح والسينما في القرن العشرين.

فإذا رفع الستار مرة أخرى، وجدناهم قد نفّذوا ما استقر عليه رأيهم، فها هم أولاء في الكهف. ها هم أولاء نراهم رأي العين.

فما يدع التعبير هنا شكّا في أننا نراهم يقينا :

{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف : 17]

أ نقول : إحياء المشهد؟ إن المسرح الحديث بكل ما فيه من طرق الإضاءة ليكاد يعجز عن تصوير هذه الحركة المتماوجة، حركة الشمس وهي‏ «تَتَزاوَرُ» عن الكهف عند مطلعها فلا تضيئه، (واللفظة ذاتها تصور مدلولها) وتجاوزهم عند مغيبها فلا تقع عليهم.

ولقد تستطيع السينما بجهد أن تصوّر هذه الحركة العجيبة التي تصورها الألفاظ في سهولة غريبة ..

ثم لننظرهم‏ {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ}. إن الألفاظ لتقوم بالمعجزة مرة أخرى، فتنقل هيئتهم وحركتهم كأنما تشخص وتتحرك على التوالي :

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف : 18]

وهكذا تضطلع الألفاظ بالتصوير وبالحركة في كل هذه السهولة.

وفجأة تدب فيهم الحياة، فلننظر ولنسمع :

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}[الكهف : 19، 20]

وهذا هو المشهد الثالث- أو بقية المشهد الثاني- فهم قد استيقظوا، فكان أول ما يسألون عنه : كم لبثتم ؟ فيكون الجواب لبثنا يوما أو بعض يوم. وإنّا لنعلم أنهم لبثوا أطول من ذلك جدا، فقد عرفنا ملخص قصتهم قبل تفصيلها. أما هم فجائعون معجلون‏ عن التحقق؛ ثم إنهم مؤمنون، فليكن مظهر إيمانهم أن يقولوا :

{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ}. وهم متخوفون أن ينفضح أمرهم، فهم يوصون رسولهم أن يتلطف ولا يشعرنّ بهم أحدا، لئلا يعرف القوم مقرهم فيرجموهم أو يعيدوهم في ملّتهم. أما نحن فنعرف أن لا أحد هناك يرجمهم أو يردهم عن دينهم. ولكن لنتتبّع هذا الرسول في المشهد الثالث :

أين هو هذا المشهد؟ هنا فجوة متروكة للخيال. فنحن لا نجد إلا أن أمرهم كشف وعثر الناس عليهم. وإن كان الناس يومئذ مؤمنين لا كافرين :

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف : 21]

و هنا يبرز الغرض الديني من القصة؛ ولكن النصيب الفني كذلك قد استوفي، فللخيال أن يتصور ما ذا حدث عند ما ذهب رسولهم وعند ما كشف أمره أيضا.

وهنا كذلك فجوة أخرى. فهم قد ماتوا فيما يظهر. بل ماتوا فعلا. والقوم خارج الكهف يتنازعون ويتشاورون في شأنهم، على أي دين كانوا؟

{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف : 21]

وهنا فجوة ثالثة. فليتخذ الخيال هذا المسجد عليهم. أما الناس‏ بعد أن انتهى الأمر، فها هم أولاء- كعادة الناس- يتناقلون أخبارهم، ويتجادلون في عددهم، وعدد السنين التي انقضت عليهم :

{ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف : 22]

لقد طواهم المجهول بعد أن تمت الحكمة الدينية من بعثهم، فليوكل سرهم إلى المجهول أيضا :

{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف : 22]

ثم تتهيّأ المناسبة للتوجيهات الدينية المعهودة، فنحن في أعقاب قصة البعث والقدرة الإلهية والاستئثار بالغيب، فهنا يقول :

{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف : 23، 24]

(ويذكر لهذا التوجيه سبب خاص بمحمد - صلى اللّه عليه وسلم - ولكن تفصيل هذا السبب لا يعنينا هنا، إنما هو مظهر عام من التوجيه الديني في ثنايا القصص وأعقابها، وفي اللحظة النفسية المناسبة : وهاهنا مناسبة كبرى) وفي النهاية خبر محقق عن مدى لبثهم، وهو المهم في القصة، أما عددهم فليبق سرا معهم : {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف : 25] وهذا الخبر فرصة أخرى للتوجيه الديني.

{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف : 26 ، 27]

لقد استطردنا في تتبع جميع خصائص القصة التي عرضت هنا. ولكن مما لا شك فيه أن «قوة العرض والإحياء» هي السمة البارزة في مشاهد القصة جميعا. وأن هذا اللون هو الذي يطبعها؛ ويغلب فيها على الألوان الأخرى.

والآن إلى اللون الثاني من ألوان التصوير في القصة : تصوير العواطف والانفعالات وإبرازها.

لقد عرضنا من قبل قصة صاحب الجنتين وصاحبه الذي يحاوره؛ وقصة موسى مع رجل‏ {مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } [الكهف : 65] وكلتاهما تصور العواطف المختلفة وتبرزها بجانب رسم الشخصيات وإحياء المشاهد. فالآن نضيف إليهما قصة أخرى تفصيلا. نضيف إليهما قصة مريم عند ميلاد عيسى :

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا  (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم : 16، 17]

فها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها، يسيطر على وجدانها ما يسيطر على الفتاة في حمامها! ولكن ها هي ذي تفاجأ

مفاجأة عنيفة تنقل تصوراتها نقلة بعيدة، ولكنها بسبب مما هي فيه أيضا : {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا  (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم : 17، 18]

إنها انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى استثارة التقوى في نفسه : {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}!

و لئن كنا نحن نعلم أنه «الروح الأمين» فإنها هي لا تعلم إلا أنه رجل. وهنا يتمثل الخيال تلك الفتاة الطيبة البريئة، ذات التقاليد العائلية الصالحة، وقد تربّت تربية دينية وكفلها «زكريا» بعد أن نذرت للّه جنينا .. هذه هي الهزة الأولى.

{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم : 19]

ثم ليتمثل الخيال مرة أخرى مقدار الفزع والخجل، وهذا الرجل الغريب- الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها، فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها- يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاما. وهما في خلوة وحدهما.

وهذه هي الهزة الثانية.

ثم تدركها شجاعة الأنثى تدافع عن عرضها :

{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم : 20]

هكذا. صراحة، وبالألفاظ المكشوفة. فهي والرجل في خلوة، والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفا- فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاما، وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها : {إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} فقد تكون هذه خدعة فاتك كما قلنا- فالحياء إذن ليس يجدي، والصراحة هنا أولى.

{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم : 21] ثم ماذا؟

هنا نجد فجوة من فجوات القصة ؛ فجوة فنية كبرى، تترك للخيال يتصورها كما يهوى. ثم تمضي القصة في طريقها، لنرى هذه العذراء المسكينة في موقف آخر أشد هولا :

{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم : 22، 23]

وهذه هي الهزة الثالثة.

فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة؛ ثم هي تواجه آلاما جسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه الألم الجسمي الحاد الذي «أجاءها» إجاءة إلى جذع النخلة، وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشي‏ء، ولا معين لها في شي‏ء. فإذا هي قالت : {يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا، وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} فإننا لا نكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها :

{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم : 24-26]

وهذه هي الهزة الرابعة. والمفاجأة العظمى. وإنا لا نكاد نحن- لا مريم- نهبّ على الأقدام وثبا، روعة من هذه الهزة وعجبا :

طفل ولد للحظة، يناديها من تحتها، ويمهد لها مصاعبها، ويهيئ لها طعامها. الا إنها الهزة الكبرى!

ونحسبها قد دهشت طويلا، وبهتت طويلا، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبا جنيّا- لتتأكد على الأقل، ويطمئن قلبها لما تواجه به أهلها- ولكن هنا فجوة تترك للخيال أن يقيم عندها قنطرة، ويعبرها ...

{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم : 27]

فلتطمئن الآن مريم، ولتنتقل الهزات النفسية إلى سواها.

{قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا }[مريم : 27 ، 28]

إن الهزة لتطلق ألسنتهم بالسخر والتهكم على «أخت هارون»! وفي تذكيرها بهذه الأخوة ما فيه من مفارقة، فهذه حادثة في هذا البيت لا سابقة لها

{ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}.

«فأشارت إليه». ويبدو أنها كانت مطمئنة لتكرار المعجزة هنا؛ أما هم فما عسى أن نقول في العجب الذي يساورهم، والسخرية التي تجيش بها نفوسهم، وهم يرون عذراء تواجههم بطفل، ثم تتبجح فتشير إليه ليسألوه عن سرها : {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم : 29]

ولكن ها هي ذي المعجزة المرتقبة :

{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّ} [مريم : 30 - 33] .

لو لا أننا قد جرّبنا من قبل، لوثبنا على أقدامنا فزعا، أو لسمرنا في مواضعنا دهشا، أو لفغرنا أفواهنا عجبا؛ ولكننا جربنا؛ فلتفض أعيننا بالدمع من التأثر، ولترتفع أكفنا بالتصفيق من الإعجاب. وفي هذه اللحظة يسدل الستار، والأعين تدمع للانتصار، والأيدي تدوي بالتصفيق. وفي هذه اللحظة نسمع في لهجة التقرير، وفي أنسب فرصة للإقناع والاقتناع :

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم : 34 - 36]

لقد برز الغرض الديني هنا، وبرزت مشاهد القصة. ولكن مما لا شك فيه أن قوة إبراز العواطف والانفعالات هي الغالبة، وأن هذا اللون هو الذي يطبعها، ويغلب فيها على الألوان الأخرى.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .