التمييز بين الآراء المذمومة وغير المذمومة
المؤلف:
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
المصدر:
أصلحُ الناسِ وأفسدُهُم في نهج البلاغة
الجزء والصفحة:
ص 237 ــ 241
2025-12-20
31
هل كل اختلاف حتى الاختلاف في الرأي والفتوى هو أمر خاطئ ومدان. من وجهة نظر أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
كي تضح الإجابة على هذا السؤال وكي يتضح كلام الإمام أكثر، سنلقي الضوء على بعض الطرق والأساليب في كشف الحقائق واكتساب المعلومات.
هناك بعض المسائل من قبيل مسائل الرياضيات وأصول الاعتقادات هي مسائل عقلية وطريقة معرفتها بالتعقل، وعند استعمال هذه الطريقة بشكل صحيح وعند استعمال البرهان العقلي يمكن للمرء الحصول على المعرفة الصحيحة، وفي المقابل بعض العلوم نقلية تاريخية أو تعبدية ولا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الأسلوب النقلي والتاريخي، مثلا: بالنسبة للسنّة والروايات التي تعتبر من مصادر الاجتهاد، والتي ينبغي للمجتهد أن يرجع إليها للاستنباط وإصدار الفتوى، عليه أن يبحث في السند وعليه أن يتمسك بالرواية التي لا يكون في سلسلة سندها شخص كاذب أو غير موثق، وكذلك من جهة الدلالة عليه أن يُراعي جميع القواعد الأصولية التي جمعت في أصول الفقه.
ثم إن المسائل في العلوم العقلية والتجريبية وكذلك العلوم النقلية والتاريخية قد تكون واضحة وجلية، بحيث يمكن للإنسان أن يحصّل اليقين فيها؛ ولكن في أغلب الأحيان لا يحصل له اليقين فيها، ولا يمكنه أن يصل إلا إلى معرفة ظنية؛ فيجب الاعتراف بأن معظم مسائل العلوم ظنية؛ لأنه لا توجد طريقة قطعية وبرهانية لمعرفة مسائل بعض العلوم، ونتيجة لذلك فإنّ معرفتها لن تكون يقينية بل ستكون ظنية، وفي ذلك القسم من العلوم التي تشتمل على براهين وسبل يقينية لمعرفة مسائلها: فلأن القليل من الناس يعرفون تلك البراهين ويطبقونها بشكل صحيح، ولأن الآخرين يخطئون في فهمها وتطبيقها، فنادرا ما تحصل على إجابة أو معرفة قطعية ويقينية؛ مثلا: نحن نعتقد أن المسائل الفلسفية برهانية وقطعية، وإذا تم تطبيق البراهين الفلسفية بشكل صحيح، فلا ينبغي أن يكون هناك خلاف بين الفلاسفة فيما يتعلق بالمسائل الفلسفية؛ لأن التطبيق الصحيح للبراهين العقلية يوصل إلى نتيجة قطعية ويقينية. لكننا نرى أن هناك اختلافاً في الرأي بين الفلاسفة الكبار - أمثال ابن سينا وصدر المتألهين - في مجال المسائل الفلسفية، ويرجع هذا الاختلاف إلى أن ما افترضوه أو على الأقل ما افترضه بعض هؤلاء الأعاظم على أنه برهان، كان في الواقع ليس برهانا قطعيا، وإلا فإن البرهان القطعي يُعطي الإنسان جوابا ونتيجة يقينية، أو أنهم لم يُطبقوا البرهان القطعي بشكل صحيح.
وفي مجال مسائل العلوم التجريبية حيث طريقتها تكون تجريبية وحسية، فعلى الرغم من أن العلم التجريبي يُعتبر علما حقيقيا ينتج بمساعدة التجربة الحسية، إلا أننا نرى اختلافات في أكثر القضايا حسية، ويتم إبطال النظريات بعد مدة لتحل محلها نظريات جديدة مثلا: فيما يتعلق بسقوط الأجسام، كان المطروح قبل نيوتن نظرية الميل الطبيعي للأجسام وموقعها الطبيعي، ووفقا لهذه النظرية اعتقد علماء الطبيعة أن موضع الأجسام هو الأرض، ولذلك فإذا تم إلقاء جسم في الهواء فإنه سيعود إلى الأرض، إلى أن قدم نيوتن نظرية جاذبية الأرض، وبذلك تم إبطال النظرية السابقة، وصار الجميع يعتقد أن قوة الجاذبية في الأرض هي التي تجذب الأجسام نحوها. وقد اعتبرت هذه النظرية قطعية إلى زمان آينشتاين ولكن بعد أن طرح نظرية النسبية، تأثرت نظرية جاذبية الأرض نوعا ما بها، وتم إبطال قطعيتها وكليّتها، وفي المستقبل يمكن أيضا طرح نظرية أخرى وإبطال النظرية النسبية أيضا. إذن في كل العلوم حتى في العلوم التجريبية التي يعتقد الناس بأنها تقدم للبشر النتائج الأكثر قطعية، من العبث أن نتوقع الوصول إلى إجابة يقينية وقطعية.
وفي مجال العلوم الإنسانية والعلوم النظرية في الغالب لا يمكن الوصول إلى إجابة قطعية، ويرجع ذلك إلى القيود الموجودة في اكتشاف مسائل تلك العلوم، مما يؤدي إلى عدم وصول الإنسان إلى جميع جوانب تلك العلوم وبقاء بعض الجوانب مخفية؛ فبعد الوصول إلى نتيجة، نجد أننا نكتشف بعد بحث أكثر تفصيلا أبعادا جديدة للمسألة واستثناءات لها مثلا: في العلوم التعبديّة، إذا وصل الإنسان إلى مصدر موثوق وسمع مباشرة من نفس المعصوم، فيمكنه أن يقطع بمراده وأن يتيقن من حكم الله، أو إذا ثبت مدلول رواية من الروايات للإنسان بنحو التواتر، عندئذ يمكنه أن يقطع بها وأن يستنبط منها حكم الله بنحو قطعي ويقيني.
وفي غير هذين الموطنين من الصعب للغاية القطع واليقين بمراد المعصوم وقوله، وعادةً يُمكننا أن نظن بذلك فقط؛ لأنه من ناحية، قد يكون سند الرواية غير معتبر، وفي هذه الحالة لن يكون لهذه الرواية اعتبار وحجية، ولا يمكنه أن يستنبط منها حكم الله ولو بنحو ظني، ولكن إذا كان سند الرواية معتبرا ولم يكن هناك رجل ضعيف في سلسلة رجالها، فسوف يحصل لنا ظن في اعتبار سند تلك الرواية؛ إذ من المحتمل أن يكون هناك رجل ضعيف في السند ولكن خفي عن أعيننا؛ ومن ناحية أخرى، لا يمكننا أن نكون متيقنين من دلالة الرواية ومراد المعصوم، ولن تكون معرفتنا أكثر من مجرد ظن معتبر؛ لأننا نحتمل أن تكون تلك الرواية مقيدة ببعض القيود أو أن تكون مخصصة ولكن لم تصلنا تلك القيود أو تلك التخصيصات، ولذا في كل الأحوال فهمنا والنتيجة التي نحصل عليها من تلك الرواية سوف تبقى ظنيّة.
في بعض الأحيان يواجه الفقيه روايتين، توجب إحداهما شيئا وتحرمه الأخرى، وهنا يضطر الفقيه إلى العمل بقواعد باب التعادل والتراجيح، وبعد البحث والتحقيق قد يصل إلى هذه النتيجة: أن الرواية الكذائية تتمتع باعتبار أعلى من الرواية الأخرى، ولكن في المقابل قد يصل فقيه آخر إلى أن الرواية التي لم يُرجحها الفقيه الأول هي الأرجح ونتيجة لذلك يتم إصدار فتوتين مختلفتين وكلا الفتوتين معتبرتين وتمثلان دليلا ظنيّا، وفي بعض الأحيان تكون هناك رواية معتبرة عند فقيهين ولا يوجد أي عيب أو ضعف في سندها، ولكن بما أن هذه الرواية لا تصرح بمدلول المعصوم ومراده، غاية الأمر: هي ظاهرة في مفادها، لذا فإن كل فقيه منهما يفهم مفادا من ظاهرها يختلف عما فهمه الآخر، ونتيجة لذلك، تصدر فتوتين مختلفتين وما دام الفقهاء لم يصلوا إلى مصدر الوثوق الذي هو الإمام المعصوم (عليه السلام)، فسوف تبقى هذه الاختلافات، ولكن ليس هناك شك في أن الاختلاف الذي ذمه أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس من هذا القسم، ولا بد من تقبل الاختلاف بالفتوى بالنظر إلى ظنية مصادر الاجتهاد، وعلى الرغم من أن الفقهاء يختلفون في الفتوى، إلا أن الله يعطيهم أجر المجاهدين على كل لحظة من عمرهم؛ لأنهم بذلوا أقصى جهدهم بإخلاص في استنباط الأحكام الشرعية، ولأنهم صرفوا أعمارهم في حفظ الدين واستخراج أحكامه وقدموها للناس.
نعم، إن ذم الإمام موجه إلى أولئك الذين يمكنهم الوصول إلى الإمام المعصوم وكان بإمكانهم أن يتعلموا منه التفسير الحقيقي للقرآن وأحكام الله الواقعية والقطعية، لكن أنانيّتهم وغرورهم وعنادهم وعداءهم لأهل البيت (عليهم السلام) قادهم إلى ترك تلك المصادر المليئة بالمعرفة والعلوم غير المتناهية، فقدموا بسبب أهوائهم ورغباتهم آراء لا أساس لها ومشتتة وتسبب الاختلاف، ذم الإمام يستهدف أولئك الذين كان بإمكانهم أن ينهوا الاختلافات فيما بينهم من خلال القرآن وعترة النبي (صلى الله عليه وآله) اللذين هما طريقان قطعيان لأحكام الدين ومعارفه ولا يمكن إنكارهما، ويسوقانهم نحو الصراط الإلهي المستقيم، ولكن بدلاً من أن يعتمدوا على القرآن والعترة اقتفاءً للطريق الصحيح والقطعي لسعادتهم، اعتمدوا على أوهامهم وأفكارهم الفارغة، فأوجدوا الاختلاف في دين الله.
الاكثر قراءة في مشاكل و حلول
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة