دلالة المناجاة الشعبانيّة على الفناء الوصفيّ لاولياء الله
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص50-54
2025-12-17
39
في الأدعية المتعارفة والمتداولة كثير من هذه المواضيع والطلبات التي يطرحها الداعون؛ فقد جاء في المناجاة الشعبانيّة لأمير المؤمنين عليه السلام قوله: "إِلَهِي وألْهِمْنِي وَلَهاً بِذِكْرِكَ إلى ذِكْرِكَ! واجْعَلْ هَمِّي إلى رَوْحِ نَجاحِ أسْمَائِكَ ومَحَّلِّ قُدْسِكَ!
إلى أن يقول: إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ الْانْقِطَاعِ إلَيْكَ، وأنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ، حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وتَصِير أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ.
إِلَهِي واجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فَأجَابَكَ ولَاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلَالِكَ، فَنَاجَيْتَهُ سِرّاً وعَمِلَ لَكَ جَهْراً.
ويقول له: إلَهي وألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عارِفاً وعَنْ سِواكَ مُنْحَرِفاً ومِنْكَ خَائِفاً مُراقِباً".[1]
وتأتى المرحلة الثالثة من الفناء، بعد الفناء في الأوصاف، وهذه المرحلة هي الفناء في الذات؛ أي أنّ ذات وليّ الله تندكّ وتفنى في ذات الله؛ ويضمحلّ وجوده، حتى لا يبقى منه أثر.
وهنا يمحى ويزول كلّ اسم ورسم؛ فالحقّ يقوم مقامه.
وهذا المقام أكبر وأسمى من أن تستطيع الألفاظ استيعابه والتعبير عنه، أو أن تجد الإشارة إليه طريقها. وإنّ إطلاق المقام عليه- مبدئيّاً- مجاز؛ وهذه من مواهبه جلّ شأنه لرسوله الأكرم: محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو مفتوح من بعده لأبنائه الطاهرين؛ وكذلك فهو مفتوح لأولياء الله من امّته، بمدلول الروايات الجمّة التي تدلّ على أنّ الله سبحانه وتعالى يلحق شيعتهم بهم في الدرجات الاخرويّة.
وجاء حول الفناء في الذات رواية مأثورة في معراج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حول وليّ الله، أنّ الله يقول: "وَ يُنْقَلُ مِنْ دارِ الْفَناءِ إلى دَارِ الْبَقاءِ، ومِنْ دارِ الشَّيْطَانِ إلى دارِ الرَّحْمَنِ".[2]
ويستبين لنا من هذا أنّ ما وعده الله سبحانه وتعالى للأمم من المقامات والكرامات في الآخرة، قد عيّنه ورزقه لأوليائه في هذه الدنيا؛ وأنّ التحاقهم بإمامهم قد تحقّق هنا أيضاً.
ومن المواهب التي مَنَّ بها الحقّ تبارك وتعالى على أوليآئه، تسييرهم في عوالم متوسّطة تتحقّق بين منطلق السير، وبين الوصول والفناء في الههم وربّهم.
ووردت في هذا المجال روايات جمّة في الكتب الأخلاقيّة والعرفانيّة المفصّلة، لا سيّما في كتاب «بحار الأنوار» للمرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه. ونتطرّق فيما يلي إلى قدر من الرواية الواردة حول معراج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المُصَدَّرة بنداء «يا أحمد» كمثال على ما نقول:
فقد جاء في «إرشاد القلوب»[3] مرفوعاً وفي «بحار الأنوار» عن «إرشاد القلوب» وبسندين آخرين عن بعض كتب الحديث، وبعض الكتب القديمة التي عُثر عليها، جاء فيها رواية عالية المضمون للغاية، وفيها نقاط دقيقة وعجائب حول السير والسلوك إلى الله. وهي رواية جامعة وكاملة حقّاً، ولم تترك تعليماً مفيداً من التعاليم الخاصّة بالسير في مقام الولاية إلّا ذكرته؛ وننقل فيما يلي ملخّصاً لها: "يا أحْمَدُ: هَلْ تَدْري أيّ عَيْشٍ أهْنَا، وأيّ حَياةٍ أبْقَى؟! قَالَ: اللَهُمَّ لَا؟ قال: أمَّا الْعَيْشُ الْهَنِيءُ، فَهُوَ الذي لا يفتُرُ صَاحِبُهُ عَنْ ذِكْرِي؛ ولا يَنسَى نِعْمتى؛ ولَا يَجْهَلُ حَقِّي؛ يَطْلُبُ رِضَأي في لَيْلَهِ ونَهَارِهِ!
وَأمَّا الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، فَهِيَ التي يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، حتى تَهُونَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا؛ وتَصْغُرَ في عَيْنِهِ؛ وتَعْظُمَ الآخِرَةُ عِنْدَهُ؛ ويُؤثّرَ هَوَاي على هَوَاهُ؛ ويَبْتَغِي مَرْضَأتى؛ ويُعَظِّمَ حَقَّ عَظَمتى، ويَذْكُرَ عِلْمِي بِهِ، ويُراقِبَنِي بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ عِنْدَ كُلِّ سَيِّئَةٍ أوْ مَعْصِيَةٍ؛ ويَنْقَي قَلْبَهُ عَنْ كُلِّ مَا أكْرَهُ؛ ويُبْغِضَ الشَّيْطَانَ ووَساوِسَهُ؛ ولا يَجْعَلَ لإبْلِيسَ على قَلْبِهِ سُلْطَاناً وسَبِيلًا.
فَإذَا فَعَلَ ذَلِكَ، أسْكَنْتُ قَلْبَهُ حُبّاً حتى أجْعَلَ قَلْبَهُ لِي؛ وفَرَاغَهُ واشْتِغَالَهُ وهَمَّهُ وحَدِيثَهُ مِنَ النِّعْمَةِ التي أنْعَمْتُ بِهَا على أهْلِ مَحَبَّتِي مِنْ خَلْقِي! وأفْتَحَ عَيْنَ قَلْبِهِ وسَمْعَهُ حتى يَسْمَعَ بِقَلْبِهِ ويَنْظُرَ بِقَلْبِهِ إلى جَلالى وعَظَمتى؛ واضَيِّقَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وابَغِّضَ إلَيْه ما فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ؛ واحَذِّرَهُ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا كَمَا يُحَذِّرُ الرَّاعِي غَنَمَهُ مِنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ.
فَإذَا كَانَ هَكَذَا يَفِرُّ مِنَ النَّاسِ فِرَاراً، ويُنْقَلُ مِنْ دَارِ الْفَناءِ إلى دَارِ الْبَقَاءِ؛ ومِنْ دَارِ الشَّيْطَانِ إلى دَارِ الرَّحْمَنِ.
يَا أحْمَدُ! ولَا زَيِّنَنَّهُ بِالْهَيْبَةِ، والْعَظِمَةِ؛ فَهذَا هُوَ الْعَيْشُ الهَنِيءُ والْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ؛ وهَذَا مَقَامُ الرَّاضِينَ.
فَمَنْ عَمِلَ برِضَأي الْزِمُهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: اعَرِّفُهُ شُكْراً لَا يُخَالِطُهُ الْجَهْلُ؛ وذِكْراً لا يُخَالِطُهُ النِّسْيَانُ؛ ومَحَبَّةً لَا يُؤْثِرُ على مَحَبَّتِي مَحَبَّةَ الْمَخْلُوقِينَ. فَإذَا أحَبَّني أحْبَبْتُهُ؛ وأفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ إلى جَلَالى؛ ولَا اخْفي عَلَيْهِ خاصَّةَ خَلْقِي؛ وانَاجِيهِ في ظُلَمِ اللَّيْلِ، ونُورِ النَّهَارِ؛ حتى يَنْقَطِعَ حَدِيثُهُ مَعَ الْمَخْلُوقِينَ؛ ومُجَالَسَتُهُ مَعَهُمْ؛ واسْمِعُهُ كَلَامِي وكَلَامَ مَلَائِكَتِي؛ واعَرِّفُهُ السِّرَّ الذي سَتَرْتُهُ عَنْ خَلْقِي؛ والْبِسُهُ الْحَيَاءَ حتى يَسْتَحْيِيَ مِنْهُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ؛ ويَمْشِيَ على الأرْضِ مَغْفُوراً لَهُ؛ وأجْعَلُ قَلْبَهُ وَاعِياً وبَصِيراً؛ ولَا اخْفي عَلَيْهِ شَيئاً مِنْ جَنَّةٍ ولَا نَارٍ.
وَاعَرِّفُهُ مَا يَمُرُّ على الناس في يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْهَوْلِ والشِّدَّةِ؛ ومَا احَاسِبُ الأغْنِيَاءَ والْفُقَرَاءَ والْجُهَّالَ والْعُلَمَاءَ.
وَانَوِّمُهُ في قَبْرِهِ؛ وانْزِلُ عليهِ مُنْكَرَاً ونَكيراً حتى يَسْألَاهُ؛ ولَا يرى غَمْرَةَ الْمَوْتِ وظُلْمَةَ الْقَبْرِ، واللَّحْدِ، وهَوْلَ الْمُطَّلَعِ؛ ثُمَّ أنْصِبُ لَهُ مِيزَانَهُ؛ وأنشُرُ دِيوَانَهُ؛ ثُمَّ أضَعُ كِتَابَهُ في يَمِينِهِ فَيَقْرَؤُهُ مَنْشُوراً.
ثُمَّ لَا أجْعَلُ بَيْنِي وبَيْنَهُ تَرْجُمَاناً؛ فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُحِبِّينَ.
يَا أحْمَدُ! اجْعَلْ هَمَّكَ هَمّاً وَاحِداً! فَاجْعَلْ لِسَانَكَ لِسَاناً وَاحِداً! واجْعَلْ بَدَنَكَ حَيّاً لَا تَغْفُلُ عَنِّي؛ مَنْ يَغْفُلْ عَنِّي لَا ابَالى بِأيّ وَادٍ هَلَكَ" (الحديث).[4]
وروي في «الكافي» بإسناده أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صادف حَارِثَةَ بْن مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ الأنْصاريّ، فقال له: كيف أنت يا حارثة؟! فقال: مُؤْمِنٌ حقّاً! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: "لِكُلِّ شىْءٍ حَقِيقَةٌ؛ فَمَا حَقِيقَةُ قَوْلِكَ"؟! فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأسْهَرْتُ لَيْلِي؛ وأظْمَأتُ هَوَاجِرِي؛ وكَأني أنْظُرُ عَرْشَ رَبِّي؛ وقَدْ وُضِعَ لِلْحِسَابِ؛ وكَأني أنْظُرُ إلى أهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ في الْجَنَّةِ؛ وكَأني أسْمَعُ عُوَاءَ أهْلِ النَّارِ في النَّارِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: "عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ؛ أبْصَرْتَ فَاثْبُتْ" (الحديث).[5]
[1] «الإقبال» لابن طاووس ص 685 إلي ص 687، يروي ذلك عن ابن خالويه.
[2] «إرشاد القلوب» باب 54، حديث المعراج، ص 284 من طبع المصطفويّ.
[3] نفس المصدر.
[4] «بحار الأنوار» الطبعة الكمباني 8: 17 و9 الطبعة الحروفيّة ج 28: 77 و29. وذكر هذا الحديث أيضاً الشيخ الحرّ العامليّ في «الجواهر السنيّة» الطبعة الحجريّة من ص 145 إلي ص 154.
[5] ذكر صاحب «الكافي» هذه الرواية بهذا المضمون عن الإمام الصادق عليه السلام في الجزء الثاني من «اصول الكافي» ص 54؛ وكذلك ذكرها بمضمون قريب لذلك المضمون في ص 53؛ ورواها المجلسيّ في «بحار الانوار» في ج 15 من الطبعة الكمباني، في القسم الثاني، وهو خاصّ بكتاب الإيمان والكفر، في ص 63 و64؛ وذلك عن «الكافي»، وفي ص 67 و68 عن «المحاسن».
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة