مناظرة أصحاب الإمام الصادق عليه السلام مع الشاميّ في الإمامة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص155-160
2025-11-19
168
يروي الكلينيّ بإسناده أيضاً عن يونس بن يعقوب أنّه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فورد عليه رجل من أهل الشام، فقال: إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرائض، وقد جئت لمناظرة أصحابك. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كلامك من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ومن عندي فقال أبو عبد الله عليه السلام: فأنتَ إذاً شريك رسول الله؟ قال: لا. قال: فسمعتَ الوحي عن الله عزّ وجلّ يخبرك؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله؟ قال: لا. فالتفت أبو عبد الله إلى، فقال: يا يونس بن يعقوب، هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلّم.
ثمّ قال: يا يونس، لو كنتَ تحسن الكلام، كلّمته. قال يونس: فيا لها من حسرةٍ. فقلتُ: جعلتُ فداك، إِنّي سمعتك تنهى عن الكلام والمجادلة وتقول: ويل لأصحاب الكلام، يقولون: هذا ينقاد، وهذا لا ينقاد. وهذا ينساق، وهذا لا ينساق. وهذا نعقله، وهذا لا نعقله. فقال أبو عبد الله: إنّما قلتُ: فويلٌ لهم إن تركوا ما أقول، وذهبوا إلى ما يريدون.
ثمّ قال لي: اخرج إلى الباب، فانظر من ترى من المتكلّمين فأدخله قال: فأدخلتُ عُمران بن أعين، وكان يحسن الكلام. وأدخلتُ الأحوَل (وهو محمّد بن النعمان المعروف بمؤمن الطاق) وكان يحسن الكلام.
وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام. وأدخلت قيس بن المأصر، وكان عندي أحسنهم كلاماً، وكان قد تعلّم الكلام من عليّ بن الحسين عليه السلام. فلمّا استقرّ بنا المجلس وكان أبو عبد الله قبل الحجّ يستقرّ أيّاماً في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة. قال: فأخرج أبو عبد الله رأسه من فازته، فإذا هو ببعير يخبّ، فقال: هشام وربّ الكعبة. قال: فظننّا أنّ هشاماً رجل من ولد عقيل كان شديد المحبّة له. فقال: فورد هشام بن الحَكَم، وهو أوّل من اختطّت لحيته. وليس فينا إلّا من هو أكبر سنّاً منه. قال: فوسّع له أبو عبد الله، وقال: «نَاصِرُنَا بِقَلبِهِ ولِسَانِهِ ويَدِهِ».
ثمّ قال: يا حُمران، كلّم الرجل، فكلّمه، فظهر عليه حمران وغلبه. ثمّ قال: يا طاقي[1]، كلّمه، فكلّمه. فظهر عليه الأحول.
ثمّ قال: يا هشام بن سالم، كلّمه فتعارفا. ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام لماصر: كلّمه، فكلّمه فأقبل أبو عبد الله عليه السلم يضحك من كلامهما ممّا قد أصاب الشاميّ. فقال للشاميّ: كلّم هذا الغلام- يعني هشام بن الحَكَم- فقال: نعم. فقال لهشام: يا غلام! سلني في إمامة هذا؛ فغضب هشام حتى ارتَعَد، ثمّ قال للشاميّ: يا هذا، أ ربّك أنظر لخلقه، أم خلقه لأنفسهم؟ فقال الشاميّ: بل ربّي أنظر لخلقه.
قال هشام: فَفَعَلَ بِنَظَرِهِ لَهُمُ مَا ذا؟
قال الشاميّ: أقام لهم حجّة ودليلًا كيلا يتشتّتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أوَدَهُمْ ويُخْبِرَهُمْ بِفرض ربّهم.
قال هشام: فمن هو؟
قال الشاميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
قال هشام: فبعد رسول الله؟
قال الشاميّ: الكتاب والسنّة.
قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا؟
قال الشاميّ: نعم.
قال هشام: فلم اختلفنا أنا وأنتَ وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إيّاك؟
قال يونس: فسكت الشاميّ. فقال أبو عبد الله عليه السلام للشاميّ: مالك لا تتكلّم؟ قال الشاميّ: إن قلتُ: لم نختلف، كذبتُ. وإن قلتُ: أنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف، أبطلتُ، لأنّهما يحتملان الوجوه وإن قلتُ: قد اختلفنا وكلّ واحدٍ منّا يدّعي الحقّ فلم ينفعنا إذَن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة. فقال أبو عبد الله عليه السلام: سلهُ تجده مليّاً.
فقال الشاميّ: يا هذا! مَن أنظر للخلق، أربّهم أو أنفسهم؟ فقال هشام: ربّهم أنظر لهم منهم لأنفسهم.
فقال الشاميّ: فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم، ويقيم أوَدَهُم ويخبرهم بحقّهم من باطلهم؟
قال هشام: في وقت رسول الله صلى الله على وآله وسلّم أو الساعة؟
قال الشاميّ: في وقت رسول الله، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم والساعة مَنْ؟
فقال هشام: هذا القاعد الذي تُشدّ إليه الرحال، ويخبرنا بأخبار السماء (والأرض) وِرَاثة عن أبٍ عن جدّ.
قال الشاميّ: فكيف لي أن أعلم ذلك؟
قال هشام: سله عمّا بدا لك.
قال الشاميّ: قطعتَ عذري، فعليّ السؤال. فقال أبو عبد الله: يا شاميّ! اخبرك، كيف كان سفرك؟ وكيف كان طريقك؟ كان كذا وكذا.
فأقبل الشاميّ يقول: صدقتَ. أسْلَمْتُ لِلّهِ السَّاعَةَ. فقال أبو عبد الله: بَل آمَنْتَ باللّهِ السَّاعَةَ. أنّ الإسلام قبل الإيمان، وعليه يتوارثون ويتناكحون. والإيمان عليه يُثابون. فقال الشاميّ: صَدَقْتَ، فَأنَا السَّاعَةَ أشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إلّا اللهُ وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وأنَّكَ وَصِيّ الأوصِياء.
قال يونس: ثمّ التفت أبو عبد الله عليه السلام إلى حُمران، فقال: تُجري الكلام على الأثر فتصيب، والتفت إلى هشام بن سالم، فقال: تريد الأثر ولا تعرفه. ثمّ التفت إلى الأحوَل[2]، فقال: قَيّاسٌ رَوّاغٌ. تكسر باطلًا بباطلٍ إلّا أنّ باطلك أظهر. ثمّ التفت إلى قيس بن الماصر[3]، فقال: تتكلّم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أبعد ما تكون منه. تمزج الحقّ مع الباطل، وقليلُ الحقّ يكفي عن كثير الباطل. أنتَ والأحْوَلُ قَفّازانِ حاذِقانِ.
قال يونس: فظننت واللهِ أنّه يقول لهشام قريباً ممّا قال لهما. ثمّ قال: يا هشام! لا تكاد تقع. تلوي رجليك إِذا هممتَ بالأرض طرتَ، مثلك فلْيكلّم الناسَ؛ فَاتّقِ الزّلّةَ. والشفاعةُ من وَرَائها إِن شاء الله[4].
وذكر النعمانيّ في تفسيره أنّ إسماعيل بن جابر يقول: سَمِعْتُ أبَا عبد الله جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَلَيهِمَا السَّلَامُ يَقُولُ: «أنّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى بَعَثَ مُحَمَّداً فَخَتَمَ بِهِ الأنبِيآءَ فَلا نَبِيّ بَعْدَهُ، وأنْزَلَ عَلَيهِ كِتَاباً فَخَتَمَ بِهِ الْكُتُبَ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ. أحَلَّ فِيهِ حَلالًا وحَرَّمَ حَرَاماً فَحَلالُهُ حَلالٌ إلى يَومِ القِيامَةِ وحَرَامُهُ حَرامٌ إلى يَومِ القِيامَةِ. فِيهِ شَرْعُكُمْ وخَبَرُ مَنْ قَبْلَكُم وبَعْدَكُم وجَعَلَهُ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عِلْماً باقِياً فِي أوصِيائهِ[5].
أجل، لقد صدّوا الامّة عن أهل البيت بعد وفاة رسول الله بقولهم: كَفَانا كِتابُ اللهِ. وأقصوا صاحب العصمة والولاية الكبرى. وزعم طلّاب الدنيا أنّ خلافة رسول الله أمر مادّيّ ورئاسة ظاهريّة، فتربّعوا على أريكة الحكم من وحي هوى النفس، وساقوا الناس نحو الغيّ والضلالة فزعزعوا بذلك دعائم الإسلام وأركانه.
[1] الطاقي هو مؤمن الطاق. ولمّا كان له دكّان تحت طاق، لذلك عرف بمؤمن الطاق. ولكنّ السنّة يسمّونه في كتبهم: شيطان الطاق.
[2] وقد عدّ آية الله السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ص 358 الأحول من مشاهير متكلّمي الشيعة، يقول: ومنهم: أبو جعفر مؤمن الطاق، دكّانه في طاق المحامل بالكوفة؛ يرجع إليه بالنقد فيردّ ردّا، ويخرج كما يقول فقيل شيطان الطاق؛ وهو محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريقة البجلي الأحول، روي عن علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام منزلته في العلم وحسن المحاضرة أشهر من أن يذكر، واحد دهره في علم الكلام والمناظرة. ناظر متكلّمي عصره وقطع الخصوم، لا يجاري ولا يباري، له كتاب «افعل لا تفعل» كتاب كبير حسن وله كتاب الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وكتاب كلامه على الخوارج وكتاب جالسه مع أبي حنيفة والمرجئة، وعداده في التابعين. وقال ابن النديم وكان متكلّماً حاذقاً؛ وله من الكتب: كتاب «الإمامة»، كتاب «المعرفة»، كتاب «الردّ على المعتزلة في إمامة المفضول»، كتاب «طلحة والزبير وعائشة» رضي الله عنهم- انتهي ما في الفهرست.
[3] وعدّ آية الله السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ص 358 و359 قيس بن الماصر من مشاهير متكلّمي الشيعة، يقول: ومنهم: قيس الماصر أحد أعلام المتكلّمين من الشيعة المشهورين، كان له تلامذة وهو من شيوخ الشيعة في علم الكلام، وهو أحسن كلاماً من هشام بن الحكم وحمدان الأحول، كان تعلّم الكلام من علي بن الحسين عليهما السلام، ثمّ ينقل المرحوم آية الله الصدر هنا كلام الإمام الصادق عليه السلام في شأنه وشأن الأحول وحمران بن أعين وهشام بن سالم كما أوردناه في المتن وفق رواية «الكافي»، ثمّ يقول في النهاية: قلت: وحمران بن أعين أخو زرارة بن أعين، وهو من طبقة التابعين لأنّه هو والأحول مؤمن الطاق وقيس الماصر تعلّموا الكلام من زين العابدين علي بن الحسين
[4] «اصول الكافي» ج 1، ص 171.
[5] «تفسير الصافيّ» ج 1، ص 23.
الاكثر قراءة في سؤال وجواب
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة