جرائم الحكّام المنصوبين من قِبل أهل الحلّ والعقد
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص53-59
2025-11-04
46
أنّ النبوّة الطاهرة المقدّسة، والتعاليم القرآنيّة المرتكزة على الحياة المعنويّة، والحياة على أساس التوحيد وتعاليم الفطرة، والصدق، والنزاهة والإيثار، والإنفاق، والعاطفة، وصلة الرحم، ومساعدة الناس والأخذ بأيديهم صوب طريق الصلاح. كلّ ذلك قد استبدل في برهة قصيرة بإمبراطوريّة كبيرة أسّسها معاوية في الشام، قائمة على العدوان والظلم الفظيع ضدّ الناس المساكين والامّة المغلوب على أمرها. وحلّت الدكتاتوريّة محلّ الحريّة الإسلاميّة.
وانقلبت القوانين الإلهيّة تماماً، وعطّلت حدود الله، وماتت الأحكام والقوانين القرآنيّة، وسلبت أموال الناس، واريقت دماء الأبرياء، واندرست نواميس الإسلام. وأي جرائم ارتكبت في العصرين: الأمويّ والعبّاسيّ وما تلاهما من عصور؟ وحقّاً لو أطلقنا على حكومات تلك العصور اسم الحكومات الشيطانيّة الجائرة لكان أليق بها من أن نسمّيها حكومات إلهيّة، وكلّ تلك الأحداث انطلقت من اجتماع أهل الحلّ والعقد الذي أنتج هذه المفاسد فحمّل تلك الأثقال الغريبة على اكتاف الناس المساكين.
كانت حكومة معاوية بأمر عمر وإقراره، إذ نصبه والياً على الشام وسلّطه على أعراض المسلمين وأموالهم. وأطلق له العنان ليتصرّف في بيت المال كيف يشاء. وأقرّ حكومته الإمبراطوريّة المبهرجة، وثبّته فيها. لقد كانت حكومة معاوية، ويزيد، ومروان، وعبد الملك بأمر عمر وعمر هو الذي فوّض أمر الخلافة إلى الشورى عند ما عيّن ستّة من أهل الحلّ والعقد فيها. ثمّ سُلّط عثمان على المسلمين وأعراضهم وأموالهم ودمائهم وفقاً لرأي عبد الرحمن بن عوف. فضعضع أركان الإسلام. وتصرّف في بيت المال حسب مشتهياته، وقسّمه على أقربائه، وثبت معاوية في الشام، وأصدر حكمه إلى واليه في مصر يأمره بقتل محمّد بن أبي بكر. فقتل أخيراً بتلك الصورة البشعة على أثر تحرّك المصريّين؛ وكانت كلّ تلك المفاسد التي خلّفها ذلك الوضع.
واستلم عمر مقاليد الامور بناءً على رأي أبي بكر الذي كان يرى نفسه فقط أهل الحلّ والعقد. وقام عمر بإحراق بيت الصدّيقة الطاهرة بضعة الرسول وزوجة أمير المؤمنين، واعتدى على مقام الولاية الكبرى عند ما جرّ صاحبها بالسيف المسلول إلى المسجد حاسر الرأس. طالباً منه البيعة، منكراً إمام جماعة المسلمين كافّة فضائله نحو الوصيّة، والخلافة والوزارة، والولاية، وحتّى الاخوّة[1]. وكانت جميع تلك المفاسد ناتجة عن يوم السقيفة الذي وضع لبنة الاعوجاج، وغيّر مجرى الإسلام عن رافده الطبيعيّ، وشوّه وجه التاريخ.
وسَلَبَ أبو بكر فدكاً من الزهراء، وقتل مالك بن نويرة بواسطة خالد ابن الوليد. وامتنع عن تنفيذ حدّ الزنا، والقتل، والافتراء، ونهب أموال المسلمين بحقّ خالد، وبرّأ ساحته من كلّ تلك الجرائم[2]. ففتح لحكّام الجور، وقضاة السوء، وامراء الفسق والفجور باب التبرئة من الذنب منذ ذلك الحين.
والشيء العجاب هو أنّ بعض الجهّال ذكروا في كتبهم أنّ حكومة أبي بكر وعمر كانت حكومة دينيّة بسيطة وإلهيّة. وما خوفنا إلّا من هذه الحكومة البسيطة التي وقفت متمرّدة في مقابل أصل الإسلام والولايةالكبرى، وغيّرت مجرى حياة المسلمين من خلال التأويل والتظاهر بالتفكير في مصلحة المسلمين. فينبغي أن نخشى هذه الحكومة أكثر من أن نخشى حكومة عثمان ومعاوية اللذين تهتكا عَلَناً. وبتهتّكهما وصلافتهما كشفا للعالم جرائمهما، وأبانا له عن انحرافاتهما. بَيدَ أنّ عمر وأبا بكر فعلا مثل ما فعل عثمان ومعاوية ولكن بأسلوب آخر هو التذرّع بالمحافظة على الإسلام والتحمّس لجماعة المسلمين، وعدم تفرقتهم. حقّاً إنّهما وضعا أساس الظلم. فقد سلب أبو بكر فدكاً من الزهراء بالبكاء، وقدّم نفسه للمسلمين بوصفه مُصلحاً حقيقيّاً محايداً تهمّه مصلحتهم. وعند ما ارتقى المنبر ذات يوم ليخطب فيهم على أنّه خليفتهم، أعلن عدم رغبته في التصرّف ببيت المال لمصلحته الخاصّة ومصلحة أهله إلى أن أجبره عمر على ذلك[3] فالخوف الخوف من هذه الأساليب الماكرة البرّاقة، وهذه المرونة الخادعة. وينبغي أن نخاف منها أكثر من أن نخاف من صلافة عثمان ومعوية ووقاحتهما.
أجل، فإنّ جميع تلك الأمراض الفاسدة التي اتّسع فتقها على مرور الأيام ناتجة من ذلك الرأي المعصوم الذي ترشّح عن السقيفة كما يعتقد الفخر الرازيّ بذلك؛ فَمَرْحَباً بِهَذِهِ السَّقِيفَةِ ومَرْحَباً بِهَذِهِ العِصْمَةِ!!، ولو كانت تلك البيعة متمخّضة عن العصمة، فَلِمَ قال أبو بكر: لَا حَاجَةَ لِي في بَيْعَتِكُمْ أقِيلُوني؟[4] وقد صرّح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المعنى أيضاً في خطبته الشقشقيّة إذ قال: «فَيا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَستَقِيلُهَا في حَيَوتِه إِذ عَقَدَهَا لآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ»[5] ويُستشفّ من كلامه أنّأبا بكر كان يقول: اتركوني وأقيلوني واختاروا عليّاً خليفة مكاني. وإلّا فلو كان مجرّد طلب الإقالة دون التصريح بطلب نصب عليّ، فليس فيه ما يستدعي العجب. والشاهد على المعنى قوله: أقِيلونِي ولَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وعليّ فِيكُمْ. وهذا اللفظ مقيّداً بعبارة «وعليّ فِيكُم» موجود في «التجريد»، ولم يعترض عليه شارحه القوشجيّ مع أنّه من أهل السنّة، بل اعترف بصدوره عن أبي بكر.
وجاء في كتاب «إحقاق الحق» للقاضي نور الله الشوشتريّ أنّ الفضل بن روزبهان، عند جوابه المتعلّق بأعمال أبي بكر الشنيعة وحرق دار الزهراء عليها السلام يصرّح بأنّ كلام أبي بكر: أقِيلُونِي فَلَستُ بِخَيْرِكُمْ وعليّ فِيكُمْ» موجود في صحاح أهل السنّة. واعترف ابن حجر في «الصواعق المحرقة»، ص 30، بصدور كلام الإقالة عن أبي بكر[6].
وكذلك لو كان رأى السقيفة مفضياً إلى العصمة، فلِمَ اعتبر عمر بيعة أبي بكر فلتة؟![7].
فقد نقل الطبريّ عن عمر قوله: ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أنّ قَائِلًا مِنْكُمْ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ أمير المؤمنين، (يعني عمر نفسه) بَايَعْتُ فُلاناً. فَلَا يَغُرَّنَّ امْرَءاً أن يَقولَ: أنّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً، فَقَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ غَيْرَ أنّ اللهَوَقَى شَرَّهَا[8].
ويقول ابن هشام: ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أنّ فُلَاناً قالَ: واللهِ، لَو قَدْ مَاتَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَاناً، فَلا يَغُرَّنَّ امْرَءاً أنْ يَقُولَ: أنّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرَ كَانَت فَلْتَةً فَتَمَّتْ، وإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ إِلَّا أنّ اللهَ وَقَى شَرَّهَا[9].
ونقل البلاذري في «أنساب الأشراف» ج 1 ص 581 بأنّ عمر ذكر هذا الموضوع مصرّحاً بذكر الاسم. قال: أنّ عُمَرَ قَالَ: بَلَغَنِي أنّ الزُّبَيرَ قَالَ: لَوْ قَد مَاتَ عُمَرُ بَايَعْنَا عَلَيّاً ... وقال في ص 583- 584: «أنّ فُلاناً وفُلاناً قَالا: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْنَا عَلِيّاً ... فَمَن بَايَعَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ مَشوَرَةٍ فَإِنَّهُمَا أهْلٌ أن يُقْتَلَا، وإِنّي اقْسِمُ بِاللهِ لَيَكُفَّنَّ الرِّجَالُ أوْ لَيُقْطَعَنَّ أيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ ولَيُصَلَّبُنَّ في جُذُوعِ النَّخْلِ ... الحديث[10].
وجاء في «السيرة الحلبيّة» ج 3: ص 401 ما نصّه: قَالَ سَيِّدُنا عُمَرُ: أنّ بَيْعَةَ أبي بَكر فَلتَةٌ، أي: مِن غَيْرِ اسْتِعدادٍ ولَا مَشْوَرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ رَدَّاً عَلَى مَن بَلَغَهُ عَنْهُ أنَّهُ قَالَ: إذَا مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْتُ فُلَاناً. واللهِ، مَا كانَت بَيْعَةُ أبِي بَكْرِ بِمَشوَرَةٍ. الْبَيْعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ، فَغَضِبَ، فَلمَّا رَجَعَ مِن آخِرِ حِجَّةٍ حَجَّهَا الْمَدِينَةَ، قَالَ عَلَى المِنْبَرِ: قَدْ بَلَغَنِي أنّ فُلَاناً قَالَ: واللهِ، لَوْمَاتَ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ، لَقَد بَايْعتُ فُلاناً، أنّ بَيعَةَ أبي بَكرٍ كَانَت فَلتَةً مِن غَيرِ مَشْوَرَةٍ؛ فَلا يَغْتَرَّنَّ امرُؤٌ أن يَقُولَ: أنّ بَيعَةَ أبي بَكرٍ كَانَت فَلْتَةً، فَنَعَمْ كانَت كَذَلِكَ إِلّا أنّ اللهَ قَدْ وَقَى شَرَّها.
إذا كانت نتيجة آراء أهل الحلّ والعقد هي العصمة، فإنّ أبا بكر لم يشكّل مجلساً لتعيين عمر؛ بل عيّنه برأيه الشخصيّ دون مشورة، ومع أنّ أبا بكر لم يكن معصوماً، فكيف يتكفّل انتخاب عمر وحده بمنح أبي بكر صفة العصمة؟ وقد اعترض طلحة على أبي بكر وخطّأه في ذلك الانتخاب. ومن المؤكّد أنّ طلحة كان من أهل الحلّ والعقد، فبم يتميّز رأي أبي بكر علي رأي طلحة، حتى يفضي إلى العصمة، بينما لا يفضي رأي طلحة إليها؟!
أنّ أبَا بَكرٍ لَمَّا نَصَّ عَلَى عُمَرَ، قَامَ إِلَيهِ طَلْحَةُ فَقَالَ لَه: مَا تَقولُ لِرَبَّكَ وقَدْ وَلَّيْتَ عَلَيْنا فَظّاً غَلِيظاً؟ قَالَ أبُو بَكرٍ: فَرَكْتَ لِي عَيْنَيْكَ ودَلكْتَ لِي عَقِبَيْكَ وجِئتَني تَكُفُّنِي عَنْ رَأيي وتَصُدُّنِي عَنْ دِينِي؟ أقُولُ لَهُ إذَا سَألني: خَلَّفتُ عَلَيْهِم خَيْرَ أهْلِكَ[11].
وإذا كانت نتيجة الآراء هي العصمة، فلما ذا ذمّ المسلمون قاطبة عبد الرحمن بن عوف الذي بايع عثمان واختاره خليفة؟ وهو نفسه انتقد عثمان لمّا افتضح أمره وانكشفت جرائمه.
وقصارى القول فإنّ جميع الأعراض الفاسدة التي ظهرت في العالم الإسلاميّ كانت بسبب العنجهيّة والعناد الذي كان عليه البعض ممّن جاء الفخر الرازيّ في العصور التالية، فغطّى على جرائمه بتبريرات وتأويلات واهية، وبرّر حكومتهم الضالّة المتسلّطة على رقاب المسلمي من خلالالروايات الموضوعة والتفسير بالرأي.
[1]«الإمامة والسياسة» ج 1، ص 13.
[2]«تاريخ أبي الفداء» ج 1، ص 158؛ و«تاريخ الخميس» ج 2، ص 209.
[3]«الإمامة والسياسة» ج 1، ص 17.
[4]«الإمامة والسياسة» ج 1، ص 14.
[5]«نهج البلاغة» فيض الإسلام، ص 47.
[6]«شيعه در اسلام» سبط، ج 2، ص 103. (فارسي) وقد حكم بصحّة هذه الرواية الفخر الرازي في «نهاية العقول» وأبو عبيدة القاسم بن سلام، والطبري، والبلاذري في «أنساب الأشراف» والسمعاني في كتاب «الفضائل» ومحبّ الدين الطبري في «الرياض النضرة» وفي «تاريخ الخميس». وأوردها الجزري في «الكامل» بهذه العبارة: قد ولّيت عليكم ولستُ بخيركم.
[7]يقول صاحب «الغدير» في ج 5، ص 370إنّ عمر قال: إنّها كانت فلتَةً وَقَى الله شرَّها (مصادر كثيرة في الهامش) أو قال: فَلتَةٌ كَفَلَتاتِ الجاهليّة (تاريخ الطبري) فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (الصواعق المحرقة).
[8]«تاريخ الطبريّ» ج 2، ص 446.
[9]«سيرة ابن هشام» ج 4، ص 1073. وفي «غاية المرام» ص 549، الحديث 15 ينقل عن محمّد بن علي الحكيم الترمذي، وهو من أكابر علماء العامّة، أِنّ أبا بكر قال: أقِيلوني فَإِنّ عليّاً أحَقّ مِنّي بِهَذَا الأمْرِ. وفي رواية: كَان الصدّيق يقول ثلاث مرّات: أقيلوني فَإني لَسْتُ بِخَير مِنكُم وعلي فيكم.
[10]«عبد الله بن سبأ» طبعة مصر، ص 92. ويذكر صاحب «غاية المرام» ص560 فيما يتعلّق بقول عمر: إنّ بيعة أبي بكر فلتة، ثمانية أحاديث عن طريق العامّة، وحديثين عن طريق الخاصّة في ص 561.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة