في عقيدتي ان التاريخ ما ظلم أحدا كما ظلم أبا طالب ، وما أساء المسلمون إساءة أفحش وأعظم من اساءتهم لمحمد ( ص ) في عمه أبي طالب .
لقد تعهد أبو طالب محمدا وهو في الثامنة من عمره وضمه إلى أولاده يرعاه ويحرسه في ليله ونهاره ، فإذا اضطر ان يخرج من مكة تولته زوجته فاطمة بنت أسد ، تجيع أولادها وتطعمه وتتركهم شعثا وتصلح له ثيابه وشعره وتدهنه ، فما أحس بفقد الآباء والأمهات ، وظل يرعاه ويحرسه ولا يفكر بأحد سواه ، حتى بعد ان شب وتزوج .
ولما بعثه اللّه نبيا كان أول من صدق به ودعا أولاده إلى متابعته وتصديقه ، فلقد رآه لأول مرة يصلي وليس معه أحد من الناس سوى علي وخديجة فذهب مسرعا إلى بيت أخيه العباس وولده جعفر في كفالته فدعاه واخذ بيده إلى المكان الذي يصلي فيه النبي ( ص ) وقال له : صل جناح ابن عمك يا ولدي ، ومضى يدعو إليه ويهيئ له الأنصار والأتباع ، ولم يرد في تاريخه الطويل حتى على لسان أعدائه ، انه عاتب محمدا على موقفه من آلهة قريش أو دعاه إلى مهادنتها والسكوت عن عيبها ، بل كان يأمر بني هاشم ويدعوهم إلى متابعته ونصرته .
فقد جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ان أبا طالب لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب ، وقال لهم : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم امره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا .
وروى هذه الوصية كل من ابن الجوزي في تذكرة الخواص ، والنسائي في الخصائص وصاحب السيرة الحلبية في سيرته ، وغيرهم من المحدثين[1] فهل يمكن أو يتصور في حق أحد من الناس ان يتبنى فكرة ، أو مبدأ ، أو يتخذ دينا ويناصر في الوقت ذاته أعداء فكرته ودينه ومبدأه بكل ما لديه من حول وطول ، ويدعو الناس إلى ترك ما يؤمن به في قرارة نفسه .
وإذا كان مشركا كما يدعي الأمويون والعباسيون وأنصارهم من مرتزقة الشيوخ والمحدثين ، وقد وجد جفوة من قريش وقطيعة اضطرته ومن معه في الشعب إلى اكل الأعشاب وورق الأشجار كما تؤكد ذلك جميع المؤلفات في السيرة . إذا كان كما يزعمون وقد أحاطت به تلك الظروف القاسية ، فما الذي يمنعه ان يتكلم مع ابن أخيه ولو بلسان الاستعطاف والتمني عليه بأن يخفف ولو من لهجته مع آلهتها ، وما الذي يمنعه من ردع أولاده عن دين محمد ، أو عتابهم على أقل التقادير وقد تسابقوا إليه منذ مطلعه .
في حين ان أكثر الروايات قد اتفقت على أنه لما علم بنبأ الدعوة امر أولاده بمتابعتها ، وقال لهم ان محمدا لا يدعوكم الا إلى خير ، وكان مع ذلك يبعث فيهم العزيمة والتصميم على المضي في الطريق الذي اختاروه واختاره لهم .
وهل الاسلام شيء آخر غير الاقرار والاعتراف بإله واحد ونبوة محمد ( ص ) ، وقد تواتر عنه انه أقر بذلك في شعره وغيره في عشرات المناسبات كما يبدو ذلك لكل من تتبع تاريخ أبي طالب وأخباره ومواقفه الحازمة في نصرة الاسلام .
واني استبعد على أي باحث يتحرى الحق أينما كان إذا استعرض تاريخ أبي طالب مع الدعوة الاسلامية منذ مطلعها إلى السنة التي توفي فيها استبعد عليه ان ينتهي إلى القول بأنه مات مشركا على دين قريش الا أن يكون أمويا أو ذنبا لمشركي الأمويين الذين أرادوا ان يغطوا شركهم وشرك آبائهم بنسبة الشرك إلى أبي طالب الذي أسلم بقلبه ولسانه وعمله منذ الشهور الأولى لبعثة النبي ( ص ) كما سنثبت ذلك خلال حديثنا هذا عن اسلامه ومواقفه في نصرة الاسلام .
وجاء عن أبان بن محمود أنه قال للإمام علي بن موسى الرضا ( ع ) ، جعلت فداك اني قد شككت في اسلام أبي طالب ، فكتب إليه ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين ، ثم قال : انك ان لم تقر بايمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار .
وجاء عن الإمام محمد بن علي الباقر انه سئل عما يقوله الناس ان أبا طالب في ضحضاح من نار ، فقال : لو وضع ايمان أبي طالب في كفة وايمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح ايمانه .
وجاء عن أبي بكر انه جاء نأتيه أبي قحافة إلى النبي عام الفتح يقوده وهو شيخ أعمى وكان قد بقي على شركه لذلك التاريخ ، فقال رسول اللّه ( ص ) أما تركت هذا في مكانه حتى تأتيه ؟ فقال له أبو بكر : أردت يا رسول اللّه ان يأجره اللّه والذي بعثك بالحق ، لأنا كنت أشد فرحا باسلام عمك أبي طالب مني باسلام أبي التمس بذلك قرة عينك .
وقال علي بن الحسين زين العابدين في جواب من يتردد في اسلام أبي طالب ، جاء عنه أنه قال : وا عجباه ان اللّه تعالى نهى رسوله ان يقر مسلمة على نكاح كافر ، وكانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام وبقيت تحت أبي طالب إلى أن مات .
وروى الرواة عن النبي ( ص ) انه كان يقول : انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، يعني بذلك أبا طالب ، إلى كثير مما جاء عن النبي ( ص ) وغيره من الصحابة والأئمة تصريحا وتلميحا في اسلامه وايمانه بالرسول ( ص ) .
هذا بالإضافة إلى شعره الذي تواتر عنه واعترف بصدوره عنه حتى من قال بأنه مات مشركا فمن ذلك قوله في قصيدته الميمية :
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى * وأمر أتى من عند ذي العرش قيم
وقوله من أبياته في الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم :
ألم تعلموا انا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب
وان عليه في العباد محبة * ولا حيف فيمن خصه اللّه في الحب
وقوله من أبيات له :
نبي أتاه الوحي من عند ربه * ومن قال لا يقرع بها سن نادم
وقوله في أبيات يهجو بها قريشا حينما عذبت عثمان بن مظعون الجمحي :
حتى تفر رجال لا حلوم لها * بعد الصعوبة بالاسماح واللين
أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب * على نبي كموسى أو كذي النون
وقوله في أبيات كان يرددها في كثير من مواقفه بجانب النبي ( ص ) :
نصرت الرسول رسول المليك * ببيض تلألأ كلمع البروق
أذب واحمي رسول الاله * حماية حام عليه شفيق
وقوله في أبيات يخاطب بها ولديه جعفرا وعليا :
ان عليا وجعفرا ثقتي * عند ملمّ الزمان والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي لأمي من بينهم وأبي
واللّه لا اخذل النبي ولا * يخذله من بنيّ ذو حسب
وقوله يخاطب أخاه حمزة وكان يكنى بأبي يعلى :
فصبرا أبا يعلى على دين احمد * وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
وحط من أتى بالحق من عند ربه * بصدق وعزم لا تكن حمز كافرا
فقد سرني ان قلت انك مؤمن * فكن لرسول اللّه في اللّه ناصرا
وباد قريشا بالذي قد أتيته * جهارا وقل ما كان احمد ساحرا
وقوله في أبيات له أخرى :
أنت النبي محمد * قرم أغرّ مسود
لمسودين أكارم * طابوا وطاب المولد
وقوله وهو يخاطب النبي ( ص ) ويشجعه على اظهار دعوته :
ولا يمنعك من حق تقوم به * أيد تصول ولا سلق بأصوات
فإن كفك كفي ان بليت بهم * ودون نفسك نفسي في الملمات
وقوله من أبيات له يمدح النبي بها :
لقد أكرم اللّه النبي محمدا * فأكرم خلق اللّه في الناس أحمد
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وقوله في قصيدته اللامية المشهورة :
ألم تعلموا ان ابننا لا مكذب * لدينا ولا نعبأ بقول الأباطل
ويقول فيها :
وأيده رب العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير زائل
إلى كثير من شعره الذي يؤكد اسلامه وإيمانه بكل ما جاء به محمد بن عبد اللّه ( ص ) .
وقال في شرح النهج : ان كل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر من حيث مجموعها الذي يدل على تصديق أبي طالب لمحمد ( ص )[2].
وجاء عن الإمام الحسين ( ع ) ان عليا كان جالسا في الرحية والناس من حوله ، فقام إليه رجل وقال : يا أمير المؤمنين انك بالمكان الذي أنزلك اللّه وأبوك معذب في النار ، فقال له علي ( ع ) مه فض اللّه فاك ، والذي بعث محمدا بالحق نبيا لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه اللّه ، والذي بعث محمدا بالحق ان نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئن أنوار الخلائق الا خمسة أنوار نور محمد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ، ونور الأئمة من ولده .
وروى الكليني في الكافي عن إسحاق بن جعفر عن أبيه جعفر الصادق ( ع ) انه قيل له : ان القوم يزعمون أن أبا طالب مات كافرا ، قال كذبوا كيف يكون كافرا وهو يقول :
ألم تعلموا انا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب
وجاء في أصول الكافي أيضا ان الإمام الصادق ( ع ) كان يقول ويحهم كيف يزعمون أن أبا طالب مات كافرا وهو القائل :
لقد علموا ان ابننا لا مكذب * لدينا ولا يعبأ بقول الأباطل
وروى أبو جعفر الصدوق في اكمال الدين عن محمد بن مروان عن الإمام الصادق ( ع ) ان أبا طالب اظهر الكفر وأسر الايمان ، فلما حضرته الوفاة أوحى اللّه إلى رسوله : اخرج منها فليس لك بها ناصر .
وجاء عن يونس بن نباتة ان الإمام الصادق ( ع ) قال له يا يونس : ما يقول الناس في أبي طالب ، قلت جعلت فداك انهم يقولون : هو في ضحضاح من نار يغلي منها أم رأسه ، فقال ( ع ) كذب أعداء اللّه ان أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
وقد احصى الأمين في المجلد السابع من غديره تسعة عشر كتابا ألفت في ايمان أبي طالب وفضائله لمؤلفين من السنة والشيعة .
ومجمل القول هو ان الأحاديث الواردة في كفر أبي طالب كلها من موضوعات العصر الأموي وجاء المتأخرون فبنوا عليها واخذوا بها لأن الذين وضعوها كعروة بن الزبير ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهما نسبوها إلى الصحابة والصحابة عند أهل السنة معصومون عن الكذب والخطأ وقد وضع بعضها المغيرة بن شعبة ارضاء لسيده معاوية ، ولا ذنب لأبي طالب عند أحد من الناس الا انه والد الإمام علي بن أبي طالب .
ولولا ان اسلام علي ( ع ) وجهاده المتواصل في خدمة الاسلام ومواقفه وتضحياته لم يسبق لها نظير في التاريخ لولا ذلك لقال الأمويون وحتى العباسيون فيه مثل ما قالوا في أبيه ، ولكنهم لم يجدوا سبيلا لذلك ، ومن المعلوم ان الأحاديث بعضها من مرويات المغيرة كما ذكرنا ، والبعض الآخر من مرويات عروة بن الزبير والزهري وغيرهما من المأجورين والحاقدين ، كما وان العباسيين بعد الانتفاضات التي كانت تحصل ضدهم بقيادة العلويين قد أحسوا بخطر هذا البيت على دولتهم فدسوا بعض الأحاديث التي ترفع من شأن جدهم العباس وتضع من شأن أبي طالب وولده وسخروا شعراءهم واتباعهم من الرواة لهذه الغاية .
ورووا عن الرسول ( ص ) انه قيل له : لو استغفرت لأبيك وأمك ، فقال لو استغفرت لهما لاستغفرت لأبي طالب فإنه صنع إلي ما لم يصنعا ، وأنه قال : ان عبد اللّه وآمنة بنت وهب وأبا طالب جمرة من جمرات جهنم وانه في ضحضاح من نار كما جاء في رواية المغيرة بن شعبة ، ويدعون في الوقت ذاته ان أبا سفيان وعقبة بن أبي معيط وأمثالهما من مردة قريش وطواغيتها الذين ظلوا يكيدون للاسلام حتى بعد ان نطقت به ألسنتهم خوفا على دمائهم في حياة الرسول وبعد وفاته ، يدعون بأنهم من المسلمين ومن الصحابة الأبرار .
ان الذين وضعوا تلك الأحاديث التي تنص على أن عبد اللّه وآمنة بنت وهب وأبا طالب جمرة من جمرات جهنم قد أساؤوا إلى النبي ( ص ) من حيث يقصدون أو لا يقصدون ، ونسبوا إليه المخالفة لنصوص القرآن الكريم الذي امر بالاحسان إلى الوالدين وتوقيرهما احياء وأمواتا ، حيث قال سبحانه : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً .
وقال : وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ، وقال : أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ .
وإذا كان القرآن الكريم يؤكد احترامهما وتوقيرهما ولو كانا مشركين ، فهل يصح على الرسول بعد ذلك ان يقول : ان أبي وأمي وعمي جمرة من جمرات جهنم ، وكيف يحاسبهما على كفرهما لو افترضناه وقد ماتا قبل الاسلام بأكثر من ثلاثين عاما .
على أن آباء النبي كما يبدو من نصوص المؤرخين كانوا يؤمنون باللّه على شريعة إبراهيم ، والقرآن نفسه يشير بأنهم لم يسجدوا لغير اللّه ولم يتخذوا غيره ربا في الآية وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ .
ومن الغريب المؤسف ان مؤلفي السنة المحدثين كالشيخ الغزالي في كتابه فقه السيرة وأمثاله حينما يصلون إلى نهاية أبي طالب يجترون آراء القدامى من المؤرخين والمحدثين الذين دونوا موضوعات الأمويين والعباسيين حول اسلامه ، ولم يدققوا في مصادر تلك المرويات وأسانيدها والظروف التي أحاطت بكل من يتصل بعلي بن أبي طالب بسبب أو نسب في عصر معاوية والعصور الأخرى ويتعامون عن مواقف أبي طالب في سبيل الاسلام منذ ان بزغ فجره وعن شعره الصريح الذي لا يقبل التأويل لا لشيء الا لأن المغيرة وأمثاله ممن سخرهم الحاكمون للكذب والافتراء قد رووا لهم ان النبي ( ص ) قال عنه بأنه جمرة من جمرات جهنم ، وانه في ضحضاح من نار .
ولا أكاد أشك في أن التاريخ وكتب السيرة والحديث لو روت لأحد من كبار شيوخ الصحابة ما رووه لأبي طالب من المواقف في نصرة الاسلام لوضعوه فوق مستوى الأنبياء .
والأغرب من ذلك كله ان أكثر السنة يدعون بأن اللّه سبحانه قد انزل في كتابه بعض الآيات التي تدل على أنه مات مشركا ، فمن ذلك قوله في سورة الأنعام وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ .
ورووا عن ابن عباس وغيره انها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى عن ايذاء النبي ويدافع عنه ومع ذلك فقد امتنع عن الدخول في الاسلام .
ويدعي جماعة منهم انها نزلت حينما ذهب أبو طالب إلى القرشيين ولطخ وجوههم ولحاهم بالفرث والدم ، بعد ان ألقاهما ابن الزبعرى على رأس النبي ( ص ) بإشارة من أبي جهل ومن معه من المشركين ، وذكر ذلك كل من الطبري في تفسيره والرازي والزمخشري والشوكاني والنسفي في تفسيره الموجود على هامش تفسير الخازن ، وغيرهم ولكنهم ذكروا ذلك قولا ورجحوا انها نزلت في مشركي مكة الذين كانوا ينهون عن الاقرار والاعتراف برسالة النبي ( ص ) ويبتعدون عنه بما يدخلونه عليه من الأذى ، واعتبروا نزولها في أبي طالب قولا شاذا ومخالفا لظاهر الآية وسياقها ، فقد سبقها قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ .
وهذه الآيات صريحة في أنها تعني المشركين الذين قالوا بأن كتابه من أساطير الأولين ونهوا عن الأخذ به وابتعدوا عن محمد ( ص ) واين ذلك من أبي طالب ( ع ) الذي يقول :
أو يؤمنوا بكتاب منزل عجب * على نبي كموسى أو كذي النون وقوله :
ألم تعلموا انا وجدنا محمدا * رسولا كموسى خط في أول الكتب
وقد روى الطبري في تفسيره نزولها في مشركي مكة وغيرهم عن كل من السدي وابن عباس وابن الحنفية وقتادة وأبي معاذ وغيرهم .
اما الرواية بأنها نزلت في أبي طالب فقد رواها الطبري من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن ثابت عمن سمع من ابن عباس وسفيان الثوري وحبيب بن ثابت من المتهمين بالكذب والتدليس .
وجاء في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال انهما متهمان بالكذب والتدليس[3]، على أن حبيب بن ثابت قد أرسلها عن ابن عباس ولم يذكر الراوي الذي رواها عنه ، والارسال في الحديث من عيوب الراوي والرواية كما نص على ذلك المؤلفون في علم دراية الحديث من السنة والشيعة .
ومن جملة الآيات التي تعلق بها أنصار الأمويين والحاقدون على الطالبيين ، الآية 113 من سورة التوبة ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ .
وقد روى نزولها في أبي طالب كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللّه فوجد عنده أبا جهل وعبد اللّه بن أبي أميّة ، فقال : أي عم قل لا إله إلا اللّه كلمة أحاجّ لك بها عند اللّه فقال له أبو جهل وعبد اللّه بن أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول اللّه يعرضها عليه وهما يكرران مقالتهما عليه حتى قال أبو طالب على حد زعم الراوي على ملة عبد المطلب ، فقال النبي ( ص ) واللّه لاستغفرن لك ما لم انه عن ذلك ، فانزل اللّه عليه ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية .
ويكفي هذه الرواية عيبا ان الراوي لها شعيب عن الزهري ، والظاهر أنه شعيب بن أبي حمزة ، واسمه دينار الأموي كما جاء في تهذيب التهذيب وهو من موالي بني أميّة وكان يكتب الحديث عن الزهري للأمويين ، وأضاف إلى ذلك في تهذيب التهذيب ، انه كان كاتبا لهشام بن عبد الملك ، وهل ينتظر من شخص ينتسب إلى الأمويين ويعيش في قصورهم ويتولى الكتابة لهم ان يروي في أبي طالب وآل أبي طالب غير ذلك والأمويون أنفسهم هم الذين كانوا يسخرون الرواة ويبذلون الأموال لوضع الأحاديث التي تسيء إلى علي وأبيه وأبنائه كما يبدو ذلك للمتتبع للتاريخ وكتب الحديث ، هذا بالإضافة إلى أن الزهري نفسه كان من عملائهم المعروفين وكان يتولى تعليم أولادهم كما تنص على ذلك كتب التراجم والتاريخ .
وجاء في تهذيب التهذيب ان جميع أحاديث الزهري ألفا حديث ومائتا حديث نصفها غير مسند اي من المراسيل ومنها أكثر من مائتي حديث يرويها عن غير الثقات ، وكان يحيى بن سعيد يقول عنه وعن قتادة انهما بمنزلة الريح قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا بشيء علقوه[4].
اما سعيد بن المسيب الذي انفرد بنقل هذه الرواية ، فيدعي جماعة من المؤلفين في التراجم بأنه كان من المنحرفين عن علي بن أبي طالب[5].
هذا بالإضافة إلى أن الرواية المذكورة تنص على أن الآية نزلت حينما قال النبي ( ص ) لعمه : لاستغفرن لك ما لم انه عن ذلك ، وقد قال له ذلك بمكة قبل الهجرة بسنتين أو ثلاثة ، والآية من سورة التوبة وقد نزلت على النبي ( ص ) بعد ان فتح مكة في السنة الثامنة من هجرته وهي آخر ما نزل من القرآن ، على أن هناك روايات كثيرة أوردها محدثو السنة تتنافى مع هذه الرواية .
فقد جاء في الغدير للأمين ، ان الطيالسي وابن أبي شيبة واحمد والترمذي والنسائي وابا يعلي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الايمان عن علي ( ع ) أنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت تستغفر لأبويك وهما مشركان ، فقال ا ولم يستغفر إبراهيم ، فذكرت ذلك للنبي ( ص ) فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ .
وقال السيد زيني دحلان في أسنى المطالب : إن هذه الرواية من الصحاح وتعضدها رواية ثانية صحيحة عن ابن عباس أنه قال : كانوا يستغفرون لآبائهم حتى نزلت هذه الآية فامسكوا عن الاستغفار لهم ، وأضاف إلى ذلك وحيث كانت هذه الرواية أصح كان العمل بها أرجح ، فالأرجح ان الآية نزلت في استغفار أناس من المسلمين لآبائهم المشركين لا في أبي طالب .
وورد في مرويات السنة ان الآية نزلت حينما أراد النبي ان يستغفر لأبيه وأمه .
وفي رواية الطبري في تفسيره ان الاستغفار في الآية هو الصلاة على الموتى .
وروي عن المثنى عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ، لأني لم أسمع ان اللّه يحجب الصلاة إلا عن المشركين حيث يقول : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى .
إلى غير ذلك من الاختلاف في الروايات ومضامينها وتضارب بعضها مع البعض الآخر في المضمون والدلالة ، مما يرجح نزول الآية في المسلمين الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون لهم الرحمة والرضوان ، وهي بعيدة عن أبي طالب سيد المسلمين بعد السماء عن الأرض .
ومن الآيات التي حاول الحاقدون على آل أبي طالب ان يتعلقوا بها الآية 56 من سورة القصص .
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ . وقد روي نزولها في أبي طالب وهو في ساعة الاحتضار عندما طلب منه النبي ( ص ) ان ينطق بالشهادتين فأبى عليه ، روى نزولها بهذه المناسبة شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، ورواه أيضا أبو هريرة ، كما رواها أبو سهل السري بن سهل باسناده عن عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس ، وقد تحدثنا عن شعيب والزهري وابن المسيب في خلال حديثنا عن الآية السابقة .
واما أبو هريرة الذي رواها عن الرسول بدون واسطة وهو يناجي عمه مما يشعر بسماعها منه مباشرة في تلك الساعة ، في حين انه في ذلك التاريخ كان في ارض دوس يرعى فيها الغنم ومعه هرته يلاعبها ، ولم يدخل في الاسلام الا في أواخر السنة السابعة من هجرة النبي ( ص ) فهو في هذه الرواية اما مختلق للحديث من أساسه ، أو مدلس قد سمعه من شخص آخر ورواه بهذا الشكل ليوهم السامع بأنه قد سمعه من النبي والتدليس من العيوب التي لا يصح التغاضي عنها .
واما أبو سهل السري بن سهل وعبد القدوس الدمشقي فهما من الكذابين المعروفين بين المحدثين كما تنص على ذلك مجاميع أهل السنة في أحوال الرواة .
ومجمل القول فيها ان الآية لم تتعرض لأبي طالب ولا لغيره من الناس بعينه فهي عامة لكل الناس قريبا كان أو بعيدا بقرينة وجود كلمة من الموجودة فيها فتفسيرها بأبي طالب تصرف في كلام اللّه بغير دليل ، والروايات التي اعتمدها السنة في المقام بدون تحقيق في أسانيدها وبدون محاكمة لمتونها فقد تحدثنا عنها بما فيه الكفاية ، وبلا شك لو أنها واردة حول اسلام أبي سفيان لكان للسنة منها موقف آخر ، واني أجد من الخير ان اختم حديثي عن أبي طالب بالأبيات التالية :
ولولا أبو طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى * وهذا بيثرب جس الحماما
وما ضر مجد أبي طالب * جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر آيات الصباح * من ظن ضوء النهار الظلاما
[1] انظر ج 7 ص 367 من الغدير للأميني .
[2] انظر شرح النهج ج 3 / ص 314 و 315 وانظر تاريخ ابن كثير وتاريخ أبي الفداء ج 2 ص 19 .
[3] انظر تهذيب التهذيب ج 2 ص 179 وميزان الاعتدال ج 1 ص 396 كما جاء في الغدير ج 8 ص 4 .
[4] انظر تهذيب التهذيب ج 4 ص 351 وج 9 ، ص 451 .
[5] انظر شرح النهج ج 1 ص 370 .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة