انفال بدر
قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال : 2 - 6].
قال عليّ بن إبراهيم القميّ : قوله تعالى : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} : إنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام وأبي ذرّ وسلمان والمقداد.
وقال : ثمّ ذكر بعد ذلك الأنفال وقسمة الغنائم وخروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى الحرب ، فقال : {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ - إلى قوله - وَهُمْ يَنْظُرُونَ} وكان سبب ذلك أنّ عيرا لقريش خرجت إلى الشّام فيها خزائنهم ، فأمر رسول اللّه أصحابه بالخروج ليأخذوها ، فأخبرهم أنّ اللّه قد وعده إحدى الطائفتين : إمّا العير ، وإمّا قريش إن ظفر بهم ، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا ، فلمّا قارب بدرا كان أبو سفيان في العير فلمّا بلغه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد خرج يتعرّض للعير خاف خوفا شديدا ، ومضى إلى الشام ، فلمّا وافى بهرة « 1 » اكترى ضمضم الخزاعيّ بعشرة دنانير وأعطاه قلوصا « 2 » ، وقال له : امض إلى قريش وأخبرهم أنّ محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم ، فأدركوا العير ، وأوصاه أن يخرج ناقته ، ويقطع أذنها حتى يسيل الدم ، ويشقّ ثوبه من قبل ودبر ، فإذا دخل مكة ولى وجهه إلى دبر البعير ، وصاح بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة « 3 » ، العير العير ، أدركوا أدركوا ، وما أراكم تدركون ، فإنّ محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم. فخرج ضمضم يبادر إلى مكة.
ورأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيام كأن راكبا قد دخل مكّة ، وهو ينادي : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اغدوا إلى مصارعكم ، صبح ثالث. ثم وافى بجمله على أبي قبيس ، فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل ، فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابه منه فلذة ، وكان وادي مكة قد سال من أسفله دما ، فانتبهت ذعرة ، فأخبرت العبّاس بذلك ، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة ، فقال عتبة : هذه مصيبة تحدث في قريش.
وفشت الرّؤيا في قريش ، وبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : ما رأت عاتكة هذه الرؤيا ، وهذه نبية ثانية في بني عبد المطلب ، واللات والعزى لننتظرنّ ثلاثة أيام ، فإن كان ما رأت حقا فهو كما رأت ، وإن كان غير ذلك لنكتبن بيننا كتابا أنه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ولا نساء من بني هاشم.
فلما مضى يوم ، قال أبو جهل : هذا يوم قد مضى. فلما كان اليوم الثاني ، قال أبو جهل : هذان يومان قد مضيا ، فلما كان اليوم الثالث ، وافى ضمضم ينادي في الوادي : يا آل غالب ، يا آل غالب ، اللطيمة اللطيمة ، العير العير ، أدركوا ، أدركوا ، وما أراكم تدركون ، فإن محمدا والصّباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم التي فيها خزائنكم.
فتصايح الناس بمكّة وتهيّأوا للخروج ، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن أميّة وأبو البختري بن هشام ومنبّه ونبيه ابنا الحجّاج ونوفل بن خويلد ، فقالوا :
يا معاشر قريش ، واللّه ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه ، أن يطمع محمد والصّباة من أهل يثرب أن يتعرّضوا لعيركم التي فيها خزائنكم ، فو اللّه ما قرشيّ ولا قرشيّة إلّا ولها في هذا العير نشّ « 4 » فصاعدا ، وإن هو إلّا الذّلّ والصّغار أن يطمع محمد في أموالكم ، ويفرّق بينكم وبين متجركم ، فأخرجوا.
وأخرج صفوان بن أميّة خمس مائة دينار وجهّز بها ، وأخرج سهيل بن عمرو [ خمس مائة ] ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرجوا مالا ، وحملوا ووقروا ، وأخرجوا على الصّعبة والذّلول ، لا يملكون أنفسهم ، كما قال اللّه تعالى : {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال : 47] وخرج معهم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب ، وأخرجوا معهم القيان « 5 » ، يشربون الخمر ويضربون بالدفوف.
وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا ، فلما كان بقرب بدر على ليلة منها بعث عديّ بن أبي الزغباء وبسبس بن عمرو يتجسّسان خبر العير ، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما ، واستعذبا من الماء ، وسمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالأخرى تطالبها بدرهم كان لها عليها ، فقالت : عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا ، وهي تنزل غداها هنا ، وأنا أعمل لهم وأقضيك. فرجعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فأخبراه بما سمعا ، فأقبل أبو سفيان بالعير ، فلما شارف بدرا تقدّم العير ، وأقبل وحده حتى انتهى إلى ماء بدر ، وكان بها رجل من جهينة ، يقال له مجدي الجهني ، فقال له : مجديّ ، هل لك علم بمحمد وأصحابه ؟ قال : لا. قال : واللّات والعزّى ، لئن كتمتنا أمر محمد لا تزال قريش لك معادية إلى آخر الدهر ، فإنه ليس أحد من قريش إلّا وله شيء في هذه العير نش فصاعدا ، فلا تكتمني. فقال : واللّه ما لي علم بمحمد ، وما بال محمد وأصحابه بالتجّار ، إلّا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا واستعذبا من الماء ، وأناخا راحلتيهما في هذا المكان ورجعا ، فلا أدري من هما. فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما ففتّ أبعار الإبل بيده ، فوجد فيها النّوى ، فقال : هذه علائف يثرب ، هؤلاء واللّه عيون محمد. فرجع مسرعا ، وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر ، وتركوا الطريق ومرّوا مسرعين.
ونزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأخبره أن العير قد أفلتت ، وأنّ قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها ، وأمره بالقتال ، ووعده النّصر ، وكان نازلا بالصّفراء « 6 » ، فأحبّ أن يبلو الأنصار لأنهم إنما وعدوه أن ينصروه في الدار ، فأخبرهم أن العير قد جازت ، وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عيرها ، وأنّ اللّه قد أمرني بمحاربتهم. فجزع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من ذلك ، وخافوا خوفا شديدا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « أشيروا عليّ ». فقام أبو بكر فقال : يا رسول اللّه ، إنّها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت حق من عند اللّه ! واللّه لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا أو شوك الهراس « 7 » لخضنا معك ، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة : 24] ولكنّا نقول : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فجزاه النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خيرا ، ثم جلس.
ثم قال : « أشيروا عليّ ». فقام سعد بن معاذ ، فقال : بأبي أنت وأمّي - يا رسول اللّه - كأنّك قد أردتنا ؟ فقال : « نعم ». قال : فلعلّك خرجت على أمر قد أمرت بغيره ؟ قال : « نعم ». قال : بأبي أنت وأمّي ، يا رسول اللّه ، إنا قد آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه ، فمرنا بما شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، واترك منها ما شئت ، والذي أخذت منه أحبّ إلي من الذي تركت ، واللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. فجزاه خيرا ، ثم قال سعد : بأبي أنت وأمّي ، يا رسول اللّه ، واللّه ما أخذت هذا الطريق قطّ ، وما لي به علم ، وقد خلّفنا بالمدينة قوما ليس نحن بأشدّ جهادا لك منهم ، ولو علموا أنها الحرب لما تخلفوا ، ونحن نعدّ لك الرواحل ونلقى عدوّنا ، فإنا نصبر عند اللقاء ، أنجاد في الحرب ، وإنا لنرجو أن يقر اللّه عينك بنا ، فإن يك ما تحبّه فهو ذاك ، وإن يك غير ذلك قعدت على راحلتك فلحقت بقومنا.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « أو يحدث اللّه غير ذلك ، كأنّي بمصرع فلان ها هنا وبمصرع فلان ها هنا ، وبمصرع أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنبّه ونبيه ابني الحجّاج ، فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ، ولن يخلف اللّه الميعاد ». فنزل جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بهذه الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلى قوله : {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال : 8].
فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالرّحيل حتى نزل عشاء على ماء بدر ، وهي العدوة الشاميّة ، فأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانيّة ، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء ، فأخذهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وحبسوهم ، فقالوا لهم : من أنتم ؟
قالوا : نحن عبيد قريش. قالوا : فأين العير ؟ قالوا : لا علم لنا بالعير. فأقبلوا يضربونهم ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يصلّي ، فانفتل من صلاته ، فقال : « إن صدقوكم ضربتموهم ، وإن كذبوكم تركتموهم ! عليّ بهم ». فأتوا بهم ، فقال لهم : « من أنتم ؟ » فقالوا : يا محمد ، نحن عبيد قريش. قال : « كم القوم ؟ » قالوا : لا علم لنا بعددهم. فقال : « كم ينحرون في كل يوم جزورا ؟ » قالوا :
تسعة إلى عشرة. فقال : « تسع مائة إلى ألف » قال : « فمن فيهم من بني هاشم ؟ » فقالوا : العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بهم فحبسوا ، وبلغ قريشا ذلك ، فخافوا خوفا شديدا.
ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام ، فقال له : أما ترى هذا البغي ؟
واللّه ما أبصر موضع قدمي ، خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا ، واللّه ما أفلح قط قوم بغوا ، ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كله ، ولم نسر هذا المسير.
فقال له أبو البختري : إنك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير التي أصابها محمد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي ، فإنّه حليفك.
فقال عتبة : أنت تشير علي بذلك ، وما على أحد منا خلاف إلا ابن حنظلة - يعني أبا جهل - فسر إليه وأعلمه أني قد تحمّلت العير التي قد أصابها محمد بنخلة ، ودم ابن الحضرميّ.
قال أبو البختري : فقصدت خباءه ، فإذا هو قد أخرج درعا له ، فقلت له : إن أبا الوليد بعثني إليك برسالة. فغضب ثمّ قال : أما وجد عتبة رسولا غيرك ؟ فقلت له : أما واللّه لو غيره أرسلني ما جئت ، ولكن أبا الوليد سيّد العشيرة ، فغضب غضبة أخرى ، وقال : تقول : سيد العشيرة ؟ !
فقلت : أنا أقول وقريش كلّها تقول ، أنه قد تحمّل العير ، وما أصابه محمد بنخلة ، ودم ابن الحضرمي.
فقال : إن عتبة أطول الناس لسانا ، وأبلغهم في الكلام ، ويتعصّب لمحمد ، فإنه من بني عبد مناف وابنه معه ، ويريد أن يخذل الناس ، لا ، واللات والعزّى حتى نقحم عليهم بيثرب ، ونأخذهم أسارى فندخلهم مكة ، وتتسامع العرب بذلك ، ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه.
وبلغ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كثرة قريش ، ففزعوا فزعا شديدا ، وبكوا واستغاثوا ، فأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال : 9، 10].
فلمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وجنّه الليل ، ألقى اللّه على أصحابه النّعاس حتى ناموا ، وأنزل اللّه تبارك وتعالى عليهم الماء ، وكان نزول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في موضع لا تثبت فيه القدم ، فأنزل اللّه عليهم السماء ولبّد « 8» الأرض حتى تثبت أقدامهم ، وهو قول اللّه تعالى : {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال : 11] وذلك أن بعض أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم احتلم {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } [الأنفال : 11] وكان المطر على قريش مثل العزالي « 9 » ، وعلى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رذاذا بقدر ما لبّد الأرض ، وخافت قريش خوفا شديدا ، فأقبلوا يتحارسون ، يخافون البيات « 10 ».
فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عمّار بن ياسر وعبد اللّه بن مسعود ، وقال : « ادخلا في القوم ، واتياني بأخبارهم ». فكانا يجولان في عسكرهم ، لا يرون إلّا خائفا ذعرا ، إذا صهل الفرس ثبت على جحفلته « 11 » ، فسمعوا منبّه بن الحجّاج يقول :
لا يترك الجوع لنا مبيتا * لا بد أن نموت أو نميتا قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « قد - واللّه - كانوا شباعى ، ولكنهم من الخوف قالوا هذا ، وألقى اللّه في قلوبهم الرّعب ، كما قال اللّه تعالى : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال : 12] ».
فلما أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عبّأ أصحابه ، وكان في عسكره صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فرسان :
فرس للزّبير بن العوّام ، وفرس للمقداد ، وكان في عسكره سبعون جملا يتعاقبون عليها ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعلي بن أبي طالب عليه السّلام ومرثد بن أبي مرثد الغنوي على جمل [ يتعاقبون عليه ] ، والجمل لمرثد ، وكان في عسكر قريش أربع مائة فرس ، فعبأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أصحابه بين يديه ، وقال : « غضوا أبصاركم ، ولا تبدأوهم بالقتال ، ولا يتكلّمن أحد ».
فلما نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، قال أبو جهل : ما هم إلّا أكلة « 12 » رأس ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد. فقال عتبة بن ربيعة : أترى لهم كمينا ومددا ؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحي ، وكان فارسا شجاعا ، فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ثمّ صعد الوادي وصوّت ، ثم رجع إلى قريش ، فقال : ما لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح « 13 » يثرب قد حملت الموت النافع ، أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي ، ما لهم ملجأ إلا سيوفهم ، وما أراهم يولّون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم. فقال أبو جهل : كذبت وجبنت ، وانتفخ سحرك « 14 » حين نظرت إلى سيوف يثرب.
وفزع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حين نظروا إلى كثرة قريش وقوّتهم ، فأنزل اللّه على رسوله : {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنفال : 61] وقد علم اللّه أنّهم لا يجنحون ولا يجيبون إلى السّلم ، وإنما أراد سبحانه بذلك لتطيب قلوب أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى قريش ، فقال : « يا معشر قريش ، ما أحد من العرب أبغض إلي من أن أبدأكم ، فخلّوني والعرب ، فإن أك صادقا فأنتم أعلى بي عينا ، وإن أك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمري ، فارجعوا ».
فقال عتبة : واللّه ، ما أفلح قوم قطّ ردّوا هذا. ثمّ ركب جملا له أحمر ، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يجول في العسكر وينهى عن القتال ، فقال : « إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، فإن يطيعوه يرجعوا ويرشدوا ».
فأقبل عتبة يقول : يا معشر قريش ، اجتمعوا واسمعوا. ثم خطبهم ، فقال :
يمن مع رحب ، ورحب مع يمن. يا معشر قريش ، أطيعوني اليوم ، واعصوني الدّهر ، وارجعوا إلى مكّة واشربوا الخمور ، وعانقوا الحور ، فإنّ محمدا له إلّ « 15 » وذمّة ، وهو ابن عمّكم ، فارجعوا ولا تردّوا رأيي ، وإنّما تطالبون محمدا بالعير التي أخذوها بنخلة ، ودم ابن الحضرمي ، وهو حليفي وعليّ عقله. فلمّا سمع أبو جهل ذلك غاضه ، وقال : إنّ عتبة أطول الناس لسانا ، وأبلغهم كلاما ، ولئن رجعت قريش بقوله ليكوننّ سيد قريش إلى آخر الدهر. ثم قال :
يا عتبة ، نظرت إلى سيوف بني عبد المطلب وجبنت وانتفخ سحرك ، وتأمر الناس بالرجوع وقد رأينا ثأرنا بأعيننا. فنزل عتبة عن جمله ، وحمل على أبي جهل ، وكان على فرس ، فأخذ بشعره ، فقال الناس : يقتله. فعرقب فرسه ، فقال : أمثلي يجبن ، وستعلم قريش اليوم أيّنا ألأم وأجبن ، وأيّنا المفسد لقومه ، لا يمشي إلا أنا وأنت إلى الموت عيانا. ثم قال :
هذا جناي وخياره فيه * وكلّ جان يده إلى فيه
ثم أخذ بشعره يجرّه ، فاجتمع إليه الناس ، وقالوا : يا أبا الوليد ، اللّه اللّه لا تفتّ في أعضاد الناس ، تنهى عن شيء وتكون أوّله. فخلّصوا أبا جهل من يده.
فنظر عتبة إلى أخيه شيبة ، ونظر إلى ابنه الوليد ، فقال : قم يا بنيّ. فقام ثمّ لبس درعه ، وطلبوا له بيضة تسع رأسه ، فلم يجدوها لعظم هامته ، فاعتجر بعمامتين ، ثم أخذ سيفه وتقدم هو وأخوه وابنه ، ونادى : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش. فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار : عوذ « 16 » ومعوّذ وعوف من بني عفراء ، فقال عتبة : من أنتم ، انتسبوا لنعرفكم ؟ فقالوا : نحن بنو عفراء ، أنصار اللّه ، وأنصار رسوله. فقال : ارجعوا ، فإنّا لسنا إيّاكم نريد ، إنما نريد الأكفاء من قريش. فبعث إليهم رسول اللّه : « أن ارجعوا ». فرجعوا ، وكره أن يكون أول الكرّة بالأنصار ، فرجعوا ووقفوا موقفهم.
ثم نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب ، وكان له سبعون سنة ، فقال له : « قم يا عبيدة ». فقام بين يديه بالسّيف ، ثم نظر إلى حمزة بن عبد المطّلب ، فقال : « قم يا عمّ » ثم نظر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ، فقال له : « قم يا علي » وكان أصغرهم ، فقاموا بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بسيوفهم وقال : « فاطلبوا بحقّكم الذي جعله اللّه لكم ، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها ، تريد أن تطفئ نور اللّه ، ويأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره ». ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « يا عبيدة ، عليك بالوليد بن عتبة » وقال لحمزة : « عليك بشيبة » وقال لعليّ عليه السّلام : « عليك بالوليد بن عتبة ». فمرّوا حتى انتهوا إلى القوم ، فقال عتبة : من أنتم ؟ انتسبوا حتى نعرفكم. فقال عبيدة : أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطّلب. فقال : كفؤ كريم ، فمن هذان ؟ فقال : حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب. فقال : كفؤان كريمان ، لعن اللّه من واقفنا وإيّاكم هذا الموقف. فقال شيبة لحمزة : من أنت ؟ فقال : أنا حمزة بن عبد المطّلب ، أسد اللّه وأسد رسوله. فقال له شيبة : لقد لقيت أسد الحلفاء ، فانظر كيف تكون صولتك ، يا أسد اللّه.
فحمل عبيدة على عتبة ، فضربه على رأسه ضربة فلق بها هامته ، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها وسقطا جميعا ، فحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما ، وكل واحد يتقي بدرقته ، وحمل أمير المؤمنين عليه السّلام على الوليد بن عتبة فضربه على عاتقه ، فخرج السيف من إبطه. قال علي عليه السّلام : « فأخذ يمينه المقطوعة بيساره فضرب بها هامتي ، فظننت أن السّماء وقعت على الأرض ». ثم اعتنق حمزة وشيبة ، فقال المسلمون : يا عليّ ، أما ترى الكلب قد أبهر عمّك ؟ فحمل عليه علي عليه السّلام ، ثم قال : « يا عمّ طأطىء رأسك » وكان حمزة أطول من شيبة ، فأدخل حمزة رأسه في صدره ، فضربه أمير المؤمنين عليه السّلام على رأسه فطنّ نصفه ، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه. وحمل عبيدة بين حمزة وعلي حتى أتيا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فنظر إليه رسول اللّه ، فاستعبر ، فقال : يا رسول اللّه ، بأبي أنت وأمّي ، ألست شهيدا ؟ قال : « بلى أنت أوّل شهيد من أهل بيتي ».
فقال : « أما لو كان عمك حيّ لعلم أني أولى بما قال منه ، قال : « وأيّ أعمامي تريد ؟ » قال : أبا طالب ، حيث يقول :
كذبتم وبيت اللّه يبزى « 17 » محمد * ولّما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرّع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « أما ترى ابنه كاللّيث العادي بين يدي اللّه ورسوله ، وابنه الآخر في جهاد اللّه بأرض الحبشة ». فقال : يا رسول اللّه ، أسخطت عليّ في هذه الحالة. فقال : « ما سخطت عليك ، ولكن ذكرت عمّي فانقبضت لذلك ».
وقال أبو جهل لقريش : لا تعجلوا ولا تبطروا كما عجل وبطر أبناء ربيعة ، عليكم بأهل يثرب ، فاجزروهم جزرا ، وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتى ندخلهم مكة ، فنعرّفهم ضلالتهم التي كانوا عليها. وكان فتية من قريش أسلموا بمكة ، فاحتبسهم آباؤهم ، فخرجوا مع قريش إلى بدر وهم على الشّكّ والارتياب والنّفاق ، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه ، والحارث بن ربيعة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن المنبّه. فلما نظروا إلى قلّة أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، قالوا : مساكين هؤلاء غرّهم دينهم فيقتلون الساعة. فأنزل اللّه على رسوله : {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال : 49] وجاء إبليس لعنه اللّه في صورة سراقة بن مالك ، فقال لهم : أنا جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه ، وجاء بشياطينه يهوّل بهم على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ويخيّل إليهم ويفزعهم ، وأقبلت قريش يقدمها إبليس ، معه الراية ، فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال : « غضّوا أبصاركم ، وعضّوا على النواجذ ، ولا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم ».
ثم رفع يده إلى السّماء ، فقال : يا ربّ ، إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد. ثم أصابه الغشيّ فسرّي عنه وهو يسلت « 18 » العرق عن وجهه ، ويقول : « هذا جبرئيل قد أتاكم بألف من الملائكة مردفين ».
قال : فنظرنا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وقائل يقول : أقدم حيزوم ، أقدم حيزوم. وسمعنا قعقعة السلاح من الجوّ ، ونظر إبليس إلى جبرئيل عليه السّلام فتراجع ورمى باللّواء ، فأخذ منبّه بن الحجاج بمجامع ثوبه ، ثم قال : ويلك ، يا سراقة ، تفتّ في أعضاد الناس ، فركله إبليس ركلة في صدره ، ثم قال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف اللّه.
وهو قول اللّه : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 48]. ثمّ قال عزّ وجلّ : {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال : 50].
قال : وحمل جبرئيل على إبليس فطلبه حتى غاص في البحر ، وقال : يا ربّ ، أنجز لي ما وعدتني من البقاء إلى يوم الدين.
روي في الخبر : أنّ إبليس التفت إلى جبرئيل عليه السّلام وهو في الهزيمة ، فقال : يا هذا ، أبدا لكم فيما أعطيتمونا ؟ فقيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام : أترى كان يخاف أن يقتله ؟ فقال : « لا ، ولكنه كان يضربه ضربة يشينه منها إلى يوم القيامة ».
وأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال : 12] قال : أطراف الأصابع ، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد أن تطفئ نور اللّه ، ويأبى اللّه إلّا أن يتمّ نوره ، وخرج أبو جهل من بين الصفّين ، وقال : اللهمّ ، إن محمدا أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه فأحنه « 19 » الغداة ، فأنزل اللّه على رسوله : {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 19]. ثم أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كفّا من حصى ورمى به في وجوه قريش ، وقال : « شاهت الوجوه « فبعث اللّه رياحا تضرب في وجوه قريش ، فكانت الهزيمة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « اللهمّ لا يفلتنّ فرعون هذه الأمة أبو جهل بن هشام ، فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون ، والتقى عمرو بن الجموح مع أبي جهل ، فضرب عمرو أبا جهل على فخذه ، وضرب أبو جهل عمرا على يده ، فأبانها من العضد ، فتعلّقت بجلدة فاتّكأ عمرو على يده برجله ، ثم نزا في السّماء حتى انقطعت الجلدة ، ورمى بيده.
وقال عبد اللّه بن مسعود : انتهيت إلى أبي جهل وهو يشتحّط في دمه ، فقلت : الحمد للّه الذي أخزاك ، فرفع رأسه ، فقال : إنّما أخزى اللّه عبد بن أمّ عبد ، لمن الدائرة ويلك. قلت : للّه ولرسوله ، وإني قاتلك ، ووضعت رجلي على عنقه. فقال ؛ ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم ، أما إنه ليس شيء أشدّ من قتلك إياي في هذا اليوم ، ألا تولّى قتلي رجل من المطيّبين أو رجل من الأحلاف « 20 ». فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته ، وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وقلت : يا رسول اللّه ، البشرى هذا رأس أبي جهل بن هشام ، فسجد للّه شكرا.
وأسر أبو بشر الأنصاري العبّاس بن عبد المطّلب ، وعقيل بن أبي طالب ، وجاء بهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فقال له : « هل أعانك عليهما أحد ؟ » قال : نعم ، رجل عليه ثياب بيض. فقال الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « ذلك من الملائكة ».
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم للعبّاس : « افد نفسك وابن أخيك ». فقال : يا رسول اللّه ، قد كنت أسلمت ، ولكن القوم استكرهوني. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم :
« اللّه أعلم بإسلامك ، إن يكن ما تذكر حقّا فإن اللّه يجزيك عليه ، وأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا ». ثم قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « يا عبّاس ، إنكم خاصمتم اللّه فخصمكم ». ثم قال : « أفد نفسك وابن أخيك ». وقد كان العباس أخذ معه أربعين أوقيّة من ذهب ، فغنمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فلمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم للعبّاس : « افد نفسك ». قال : يا رسول اللّه ، احسبها من فدائي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « لا ، ذاك شيء أعطانا اللّه منك ، فافد نفسك وابن أخيك » فقال العبّاس : فليس لي مال غير الذي ذهب منّي. فقال : « بلى ، المال الذي خلّفته عند أمّ الفضل بمكّة ، فقلت لها : إن حدث عليّ حدث فاقسموه بينكم ». فقال له : تتركني وأنا أسأل الناس بكفّي. فأنزل اللّه على رسوله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال : 70] ، ثمّ قال : {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال : 71].
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعقيل : « قد قتل اللّه - يا أبا يزيد - أبا جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنبّه ونبيه ابني الحجاج ونوفل بن
خويلد ، وأسر سهيل بن عمرو والنّضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط » وفلان وفلان.
فقال عقيل : إذن لا تنازعوا في تهامة ، فإن كنت قد أثخنت القوم وإلّا فاركب أكتافهم. فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قوله.
وكان القتلى ببدر سبعين والأسرى سبعين ، قتل منهم أمير المؤمنين عليه السّلام سبعة وعشرين ، ولم يأسر أحدا ، فجمعوا الأسارى وقرنوهم في الحبال ، وساقوهم على أقدامهم ، وجمعوا الغنائم ، وقتل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تسعة رجال ، فيهم سعد بن خيثمة ، وكان من النقباء.
فرحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ونزل الأثيل « 21 » عند غروب الشمس ، وهو من بدر على ستّة أميال ، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى عقبة بن أبي معيط والنّضر بن الحارث بن كلدة ، وهما في قران واحد ، فقال النّضر لعقبة : يا عقبة ، أنا وأنت مقتولان. قال عقبة : من بين قريش ! قال : نعم ، لأنّ محمدا قد نظر إلينا نظرة رأيت فيها القتل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « يا عليّ ، عليّ بالنّضر وعقبة » وكان النّضر رجلا جميلا عليه شعر ، فجاء علي عليه السّلام فأخذ بشعره فجرّه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. فقال النّضر : يا محمّد ، أسألك بالرّحم الذي بيني وبينك إلّا أجريتني كرجل من قريش إن قتلتهم قتلتني ، وإن فاديتهم فاديتني ، وإن أطلقتهم أطلقتني. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « لا رحم بيني وبينك ، قطع اللّه الرحم بالإسلام ، قدّمه يا علي فاضرب عنقه ». فقدّمه وضرب عنقه. فقال عقبة : يا محمّد ، ألم تقل : لا تصبر قريش ! أي لا يقتلون صبرا. قال : « أفأنت من قريش ! إنما أنت علج من أهل صفّورية « 22 » ، لأنت من الميلاد أكبر من أبيك الذي تدعى إليه ، ليس منها ، قدّمه يا علي فاضرب عنقه » فقدّمه وضرب عنقه.
فلمّا قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم النّضر وعقبة خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم ، فقاموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقالوا : يا رسول اللّه ، قد قتلنا سبعين ، وأسرنا سبعين ، وهم قومك وأساراك ، هبهم لنا يا رسول اللّه ، وخذ منهم الفداء وأطلقهم. فأنزل اللّه عليه : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال : 67 - 69] فأطلق لهم أن يأخذوا الفداء ويطلقوهم ، وشرط أن يقتل منهم في عام قابل بعدد من يأخذون منهم الفداء ، فرضوا منه بذلك ، فلمّا كان يوم أحد قتل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم سبعون رجلا ، فقال من بقي من أصحابه : يا رسول اللّه ، ما هذا الذي أصابنا ، وقد كنت تعدنا بالنّصر ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا ببدر قتلتم سبعين ، وأسرتم سبعين قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران : 165] بما اشترطتم » « 23 ».
____________
( 1 ) بهرة : موضع بنواحي المدينة ، أو موضع في اليمامة.
( 2 ) القلوص من النوق : الشابّة.
( 3 ) اللطيمة : العير التي تحمل الطيب وبزّ التجّار ، ومنه : يا قوم اللطيمة اللطيمة ، أي أدركوها « أقرب الموارد - لطم - ج 2 ، ص 1145 ».
( 4 ) النّش : نصف أوقيّة ، ويعادل عشرين درهما. « الصحاح - نشش - 3 : 1021 » وفي المصدر :شيء.
( 5 ) القيان : جمع قينة : الأمة مغنية كانت أو غير مغنية. « الصحاح - قين - 6 : 2186 ».
( 6 ) الصفراء : واد من ناحية المدينة ، كثير النخل والزرع ، بينه وبين بدر مرحلة. « معجم البلدان 3 : 412 ».
( 7 ) الهراس : شوك كأنّه حسك « لسان العرب - هرس - 60 : 247 ».
( 8) لبّد المطر والندى الأرض : ألصق بعض ترابها ببعض فصارت قويّة لا تسوخ فيها الأرجل.
( 9 ) يقال للسّحابة إذا انهمرت بالمطر : قد حلّت عزاليها وأرسلت عزاليها. « لسان العرب - عزل - 11 : 443 ».
( 10 ) بيّتهم العدو بياتا : أي أوقع بهم ليلا. « الصحاح - بيت - 1 : 245 ».
( 11 ) الجحفلة لذي الحافر : كالشّفّة للإنسان. « مجمع البحرين - جحفل - 5 : 334 ».
( 12 ) أي قليل يشبعهم رأس واحد.
( 13) الناضح : البعير يستقى عليه ، والجمع نواضح. « الصحاح - نضح - 1 : 411 ».
( 14 ) انتفح سحرك : أي رئتك ، يقال ذلك للجبان « النهاية 2 : 346 ».
( 15 ) الإل : العهد والقرابة. « مختار الصحاح : 22 ».
( 16 ) في مغازي الواقدي 1 : 68 معاذ ، بدل عوذ.
( 17 ) يبزى : أي يقهر ويغلب ، أراد لا يبزى ، فحذف ( لا ) من جواب القسم ، وهي مراده ، أي لا يقهر ولم نقاتل عنه وندافع. « النهاية 1 : 125 ».
( 18 ) أي يمسحه ويزيله. « انظر : المعجم الوسيط - سلت - 1 : 441 ».
( 19 ) الحين : الهلاك ، وأحنه : أهلكه « القاموس المحيط 4 : 219 ».
( 20 ) لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي عبد الدار من الحجامة والرّفادة واللواء والسّقاية ، وأبت عبد الدار ، عقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكّدا على أن لا يتخاذلوا ، فاجتمع بنو عبد مناف وبنو زهرة وتيم وأسد ، وجعلوا طيبا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه ، وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم ، فسمّوا المطيّبين ، وتعاقدت بنو عبد الدار مع جمح ومخزوم وعديّ وكعب وسهم حلفا آخر مؤكّدا ، فسمّوا الأحلاف لذلك. « النهاية 1 : 425 و 3 : 149 ».
( 21 ) الأثيل : موضع قرب المدينة. « معجم البلدان 1 : 94 ».
( 2 2) صفّورية : بلدة بالأردن. « القاموس المحيط - صفر - 2 : 73 ».
( 23 ) تفسير القميّ ج 1 ، ص 255.
الاكثر قراءة في مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة