ظهور عماد الدين زنكي: شكلت سياسة السلاجقة العامة من أجل السيطرة على العراق، وانهماكهم في حروب داخلية مستمرة؛ عاملاً كبيراً في إضعاف قوتهم وتشتيت جهودهم التي كان يجب أن يبذلوها في الحروب الصليبية، في الوقت الذي كان فيه الصليبيون يحتلون المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، كما أن تلك النزاعات المستمرة أدت إلى فتور روح الجهاد وإضعاف الشعور الديني عند العراقيين بعامة والبغداديين بخاصة (1)؛ لذلك اعتمد حكام السلاجقة على أمراء الأطراف لمواجهة الصليبيين وبخاصة أمراء الموصل والجزيرة الفراتية. كان والد عماء الدين زنكي قسيم الدولة آفسنقر الحاجب، أحد قادة السلطان ملكشاه السلجوقي ومن أعيان دولته وأكابر، أمرائه وأخص أوليائه، واعتمد عليه في أموره كلها وكافأه السلطان في عام (485 هـ / 1092م) بمنحه حكم حلب، ولكن أقسنقر لم يلبث أن قتل في عام (487هـ / 1094م) في صراعه مع تنش، أخي السلطان ملكشاه وابنه في العاشرة من عمره، فالتف حوله مماليك والده وأصحابه (2).

نشأ عماد الدين زنكي بعد وفاة والده، نشأة بعيدة عن النفوذ والسلطان، ودخل في خدمة أتابكة الموصل جاولي، ثم البرسقي، وتقرب من السلطان محمود، فزوجه أرملة كنتغدى وهو أحد كبار أمرائه (3)، وأقطعه البصرة في عام (518هـ / 1124م)، وعينه شحنة على العراق في ربيع الآخر 521هـ / نيسان 1127)، وهو المنصب الذي جعل منه رقيباً على الخليفة العباسي، بالإضافة إلى ما بيده من الولايات (4)، وأتابكا لولديه، ألب أرسلان وفروخ شاه المعروف بالخفاجي، ومنذ ذلك الوقت أطلق عليه لقب أتابك (5).

قضى عماد الدين زنكي في منصبه الجديد مدة خمسة أشهر قبل أن يعهد إليه السلطان في (رمضان أيلول) بولاية الموصل والجزيرة الفراتية وما يفتحه من بلاد الشام، وكلفه بالتصدي للصليبيين (6). وبتوليته الموصل، أتيحت له فرصة نادرة لتحقيق طموحه، وإشباع نزعته الاستقلالية التي بدأت تبرز مع تدرجه في المناصب الإدارية والعسكرية، وباعتلائه سدة الحكم في الموصل قامت الدولة الزنكية على يديه.

موقف عماد الدين من الصليبيين في بداية حكمه: لم يمارس عماد الدين زنكي، في بداية حكمه للموصل، أي نشاط عسكري ضد الصليبيين قبل أن يُثبت أقدامه في إمارته الجديدة، ويُعزّز إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية، ويُوحد ما أمكنه من الإمارات الصغيرة المتناثرة حولها لتأمين خطوط تحركاته في الجزيرة الفراتية وبلاد الشام إلى الحد الذي يُمكنه من التصدي لهم.

 ولعل ما يدل على بعد نظره في هذا الصدد أنه وقع هدنة مع جوسلين الثاني أمير الرها لمدة أخذ أثناءها سنتين، يوطد سلطانه في بلاد الشام (7)، لم تشر المصادر إلى شروطها، إلا أن ابن الأثير يذكر أنها تمت على ما اختاره عماد الدين زنكي، وهي خضوع المناطق الإسلامية من بلاد الشام بما فيها حلب لسيطرته (8)، ويبدو أن المشكلات التي واجهت صاحب الرها آنذاك (9) اضطرته إلى قبول هدنة لصالح عدوه المسلم.

كان هدف عماد الدين زنكي من عقد الهدنة التفرغ لضم حلب إلى أملاكه واتخاذها نقطة انطلاق له في بلاد الشام (10)، وقد نجح في تحقيق هذا الهدف (11)، وانطلق بعد ذلك لاكتساح ما كان يقف في طريقه من حصون مستقلة وإمارات محلية متناثرة.

وحدث في عام (524هـ / 1130م) أن اجتازت إمارة أنطاكية الصليبية ظروفاً صعبة كادت تنتهي بسقوطها في يد عماد الدين زنكي أو بخضوعها لطاعته على الأقل، ذلك أن أميرها بوهيموند الثاني كان يطمع في أن يضم الإمارته كل البلاد التي كانت تشملها، والمعروف أن سلطة أنطاكية في كيليكية قد تداعت في حين لا زالت طرطوس (12)، وأذنة (13) بيد الصليبيين. واستطاع الأمير الأرمني ثوروس الأول (493 - 523 هـ / 1100 - 1129م) أن يؤسس إمارة أرمنية قوية في هذه المنطقة، وانتزع من البيزنطيين سيس (14)، وعين زربة (15)، واتخذ الأولى حاضرة له (16)، لكن ثوروس توفي في عام (523هـ / 1129م) ثم لحق به ابنه قسطنطين بعد بضعة أشهر نتيجة لما حدث في البلاط الأرمني من مؤامرات فخلفه عمه ليون الأول، ما جعل الإمارة الأرمنية تعاني كثيراً من المطامع الخارجية والمتاعب الداخلية (17).

وجاء الخطر الكبير الذي هدَّد الإمارة من جانب الأمير إيلغازي الدانشمندي صاحب ملطية (18) من ناحية الشمال الذي امتدت أملاكه إلى جبال طوروس، ومن جانب بوهيموند الثاني صاحب أنطاكية من الجنوب الذي اعتقد أنه حان الوقت لاستعادة عين زربة فسار إليها في (ربيع الأول 524هـ / شباط 1130م). وإذ ارتاع ليون، لم يسعه إلا التماس المساعدة من الأمير الدانشمندي، ولم يلبث أن تقابل الخصمان الأتراك والنورمان، في سهل عين زربة انتصر فيها إيلغازي وقتل بوهیموند الثاني مع جميع رجاله (19).

كان بوهيموند الثاني قد رُزق من زوجته أليس ابنة هي كونستانس، ولم تكن قد تجاوزت آنذاك الثانية من عمرها، فبادرت أليس إلى تولي شؤون الوصاية على أنطاكية بنفسها من دون أن تنتظر ما قد يقوم به والدها بلدوين الثاني ملك بيت المقدس من تعيين وصي بوصفه سيداً أعلى على الصليبيين في الشرق. وعندما هرع إلى الشمال فور سماعه نبأ مصرع بوهيموند الثاني ليعين وصياً على الإمارة، وجدت أليس نفسها في موقف حرج ما اضطرها إلى الاستعانة بعماد الدين زنكي، لكن التعاون بينهما لم يتم بفعل إلقاء القبض على الرسول الذي بعثته إليه.

ويُوضّح مثل هذا التصرف مدى ما كان لعماد الدين زنكي من نفوذ في المنطقة، وهو ما جعل الملك بلدوين الثاني يُسرع إلى أنطاكية عندما بهذه الأخبار سمع السيئة (20).

.................................................................................

(1) من الأمثلة التي تظهر ضعف العامل الديني أنه في أوائل عام (504هـ / 1110م) تجهز جماعة من سكان بغداد من الفقهاء وغيرهم، ومنهم الواعظ والمحدث والعالم بالقراءات علي بن عبيد الله الذغواني للخروج إلى بلاد الشام من أجل الجهاد وقتال الصليبيين، حين بلغهم أنهم استولوا على مدن عديدة مثل صيدا وغيرها، ثم عاد أغلبهم حين بلغهم كثرة الصليبيين. ابن كثير، الحافظ البداية والنهاية: جـ 12 ص 172.

(2) ابن الأثير : التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل ص 15.

(3) المصدر نفسه ص27

(4) ابن خلكان: ج 2 ص 327

(5) ابن خلكان: ج 2 ص 328

(6) ابن الأثير: التاريخ الباهر: ص 34.

(7) رنسیمان ج 2 ص 291

(8) التاريخ الباهر: ص 37؛ نیكلسون روبرت تطور الدويلات اللاتينية (1118 - 1144م) فصل في كتاب الحروب الصليبية، بإشراف كينيث سيتون الجزء الأول، ترجمة عبد الرحمن محمد المغربي ص 117.

(9) لعل أهم المشكلات التي كان يواجهها جوسلين الثاني ضغط سلاجقة الروم بالإضافة إلى أنه اتصف بالجبن، لم يمتلك شيئاً من عزيمة والده جوسلين دي كورتناي وحماسته وشجاعته .

(10) ابن الأثير: جـ 37.

(11) ضم عماد الدين زنكي مدينة حلب في (جمادى الآخرة 522هـ/ حزيران 1128م). ابن العديم ج 2 ص 437.

(12) طرطوس مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم ويشقها نهر البردان. الحموي: ج1، ص28.

(13) أذنه بلد بالثغور قرب المصيصة. المصدر نفسه: ج1 ص 132، 133.

(14) سيس أو سيسية: أعظم مدن الثغور الشامية بين أنطاكية وطرسوس على عين زربة المصدر نفسه : ج 3 ص 297

(15) عين زربة بلد بالثغر من نواحي المصيصة المصدر نفسه: جـ4 ص 177.

(16) رنسیمان ج 2 ص 292

(17) Iorga, N: L'Armenie Cilicienne pp 92, 93

(18) ملطية بلدة من بلاد الروم مشهورة تتاخم الشام الحموي جـه ص 192.

(19) وليم الصوري: تاريخ الأعمال المنجزة فيما وراء البحار: ج 2 ص 648 - 650.

(20) وليم الصوري: جـ 2 ص 650.

اخر الاخبار

اخبار العتبة العباسية المقدسة

الهيأة العليا لإحياء التراث وجمعية العميد تعقدان الاجتماع التنسيقي الثاني استعدادًا ليوم اللغة العربية

المجمع العلمي يختتم دورة القراءة الصحيحة وأحكام التجويد في النجف

قسم الشؤون الفكرية يصدر كتاب (دروس تمهيدية في الفقه – العبادات)

قسم الشؤون الطبية يشرع بتقديم لقاح الانفلونزا للمنتسبين

المزيد

الآخبار الصحية

في زجاجات المياه.. خطر غير مرئي يتسلل إلى أجسامنا

هل المكملات الغذائية مجرد هدر للأموال؟.. خبراء يجيبون

علبة واحدة فقط.. هذا ما تفعله المشروبات الغازية في كبدك

الصباح أما المساء.. ما أفضل وقت للتمارين الرياضية؟

المزيد

الآخبار التكنلوجية

أبوظبي تحتضن المؤتمر العالمي للحفاظ على الطبيعة 2025

لم يره أحد.. كويكب غامض يمر على مسافة لا تصدق من الأرض

3 باحثين بينهم عربي يفوزون بنوبل الكيمياء

النساء أم الرجال.. من أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب؟

المزيد

مواضيع ذات صلة

السلاجقة ما لهم وما عليهم

الأعوام الأخيرة من حياة دولة السلاجقة في العراق

وفاة السلطان مسعود

السلطان محمود والأوضاع الداخلية في عهده

السلطان مسعود وعلاقته مع الخلافة العباسية

ذيول وفاة السلطان محمود

وفاة السلطان محمود

فتح الأثارب (1)

العلاقة السلطان محمود مع الكرج

علاقة السلطان محمود مع الخلافة العباسية

صراع الأمراء وأثره على العلاقة بين السلطان محمود وأخيه مسعود

خروج طغرل على أخيه السلطان محمود