النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
موجز من حياة السيدة الزهراء عليها السّلام
المؤلف:
اسماعيل الأنصاري الزنجاني الخوئيني
المصدر:
الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء "ع"
الجزء والصفحة:
ج 1، ص131-184
2025-09-02
21
فاطمة عليها السّلام شخصية تباهى خالقها عز وجل بها ؛ وهي التي ولدت في البيت النبوي ، وتزوجت بمن يمتلك مقام الإمامة والولاية ، فأصبحت أم الأئمة وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين .
وهي التي فرض اللّه عز وجل طاعتها على جميع خلقه ، وهي امرأة ما تكاملت النبوة لنبي حتى أقرّ بفضلها وورد في شأنها : « من عرفها فقد أدرك ليلة القدر » .
فالتأليف الذي نحن بصدده يدور حول شخصية هي حجة على الأئمة الأطهار الذين هم حجج اللّه على الخلق ، والتركيز على شخصية فيها الأسوة لمهدي آل محمد أرواحنا فداه .
والقصد في هذا الباب هو عرض موجز لحياة الزهراء عليها السّلام التي تعدّ معجزة من معاجز الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه وآله وسببا لدوام سلالته المباركة إلى يوم القيامة وهي المالكة لزمام الأمور في يوم النشور والمنجية لشيعتها في المواقف الصعبة بشفاعتها لهم .
خلق الزهراء عليها السّلام النورانية
إن فاطمة الزهراء عليها السّلام خلقت هي وأبوها وبعلها وبنوها - أصحاب الكساء الخمسة - بسبعة آلاف عام قبل خلق العالم ، فكانوا أنوارا محدقين بالعرش الإلهي يسبّحون اللّه ويقدّسونه ويهلّلونه .
وإن طينة هؤلاء عجنت بماء الحيوان ، ثم خلقت أرواح شيعتهم ومواليهم من فاضل تلك الطينة .
وبعد خلق الزهراء النورانية وقبل ولادتها ، عرضت ولايتها على السماوات والأرضين ، فمن قبلها كتب من المؤمنين والمقرّبين ومن جحدها كتب من الكافرين .
انعقاد نطفتها المباركة
شاءت الإرادة الإلهية أن تهبط الصديقة الكبرى من الملكوت الأعلى إلى ساحة الناسوت وإلى هذه المعمورة بعد مضى آلاف السنين من خلق نورها في العوالم العليا .
وفي الحقيقة إن ولادتها في الأرض لا تعتبر بدء لخلقها ، بل هي نشأة ثانية وتجل ثان لنورها .
كما ينبغي أن لا نتصور أن ولادة الزهراء عليها السّلام هي مجرد ولادة طفل مبارك وعظيم على وجه الأرض ، بل إن ولادتها تمثّل ولادة أعظم شخصية مقدسة وولية للّه .
ولما حان وقت حملها أمر اللّه عز وجل نبيه وجبرائيل والملائكة ومن في الجنة أن يعدوا أنفسهم لذلك . فهبط الأمين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال له : « العلي الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحا » .
فشق ذلك على النبي ولكنه امتثل أمر اللّه عز وجل ؛ فأقام أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل في بيت فاطمة بنت أسد . ثم بعث عمار بن ياسر إلى خديجة وقال لها : « يا خديجة ، لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلى ، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لينفذ أمره ، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا ، فإن اللّه عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا . فإذا جنّك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك فإني في منزل فاطمة بنت أسد » .
فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . فلما كان كمال الأربعين هبط جبرائيل فقال : « يا محمد ، العلي الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيته وتحفته » .
قال النبي صلّى اللّه عليه وآله : « يا جبرائيل ، وما تحفة رب العالمين وما تحيته » ؟ قال : لا علم لي . فبينا النبي صلّى اللّه عليه وآله كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل من سندس ، فوضعه بين يدي النبي صلّى اللّه عليه وآله . وأقبل جبرائيل عليه السّلام وقال : يا محمد ، يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام .
وكان النبي صلّى اللّه عليه وآله إذا أراد أن يفطر يفتح الباب لمن يرد إلى الإفطار ؛ ولكنه في هذه الليلة منع دخول أحد عليه لتناول الطعام وقال : « إنه طعام محرّم الا عليّ » .
ثم أكل النبي صلّى اللّه عليه وآله منه شيئا وارتوى من ماء الجنة ، ثم قام ليصلي . فأقبل عليه جبرائيل وقال : « الصلاة محرمة عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة فتواقعها ، فإن اللّه عز وجل آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة » . فوثب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى منزل خديجة .
وكانت خديجة عليها السّلام في تلك الليلة قد آوت إلى فراشها ولم تكن بالنائمة ولا بالمنتبهة ، إذ قرع النبي صلّى اللّه عليه وآله الباب وقال بعذوبة كلامه وحلاوة منطقة : « افتحي يا خديجة ، فإني محمد » . فقامت خديجة فرحة مستبشرة بالنبي صلّى اللّه عليه وآله وفتحت الباب ، فدخل النبي صلّى اللّه عليه وآله البيت .
وكان صلّى اللّه عليه وآله إذا دخل البيت يتطهر ثم يصلي ركعتين يوجز فيهما ، ثم يأوي إلى فراشه ولكنه هذه المرة لم يفعل ذلك بل أخذ بيد خديجة وآوى إلى الفراش ؛ ثم لم يبتعد عنها حتى أحسّت بثقل الجنين في بطنها .
فحملت خديجة بالزهراء عليها السّلام من ذلك الحين ، وكانت الزهراء عليها السّلام تحدثها وهي في بطنها وتصبّرها لما يتحامله المشركون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله .
ولادة الزهراء عليها السّلام
مضت أيام حمل خديجة ، وحان موعد ولادة الزهراء عليها السّلام وهي فترة تحتاج فيها خديجة بل كل امرأة إلى من يساعدها ويعينها في أمرها ، ولكن خديجة لما تزوج بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها ؛ فاستوحشت من ذلك .
فلما حضرت ولادتها وجّهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم أن يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء ، فرفضن ذلك بل منعن النساء الأخر من المجيء عندها .
ولكن اللّه عز وجل لم يك غافلا عنها بل أعانها في أمرها وهو تعالى أحق بذلك .
وليس لتلك الملوثات بالرجس اللاتي لا جدارة لهن ليخدمن خديجة في إنجابها الحوراء فاطمة الزهراء عليها السّلام .
فأنزل اللّه تعالى أربع نسوة طوال كأنهنّ من نساء بني هاشم ، وهن سارة زوجة إبراهيم عليه السّلام وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون ومريم بنت عمران أم عيسى عليه السّلام وكلثوم أخت موسى عليه السّلام ، فحضرن عند خديجة ليلين أمرها كما تلي النساء من النساء .
ففزعت منهن خديجة ، فقالت لها إحداهن : « لا تحزني يا خديجة ، فإنا رسل ربك إليك » . ثم عرّفت نفسها وعرّفت باقي النسوة .
ثم تكفّلن أمرها ، فوضعت خديجة فاطمة طاهرة مطهرة . فلما سقطت الزهراء عليها السّلام إلى الأرض ، شعّ منها نور دخل كافة بيوتات مكة ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا وشعّ فيه ذلك النور .
ثم تناولت إحداهن الزهراء عليها السّلام فغسّلتها بماء الكوثر وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن وأطيب رائحة من المسك ، فلفّتها بواحدة وقنّعتها بالأخرى .
ثم نطقت فاطمة قائلة : « أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن ولدي سادة الأسباط » ، ثم سلّمت عليهن ، وسمّت كل واحدة منهن باسمها .
وتباشرت الحور العين وبشّر أهل الجنة بعضهم بعضا بولادة فاطمة عليها السّلام . ثم سلّمت إحداهن فاطمة عليها السّلام إلى خديجة وقالت : « خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة ، بورك فيها وفي نسلها » . فتناولتها خديجة عليها السّلام فرحة مستبشرة فألقمتها ثديها ، فشربت فدرّ عليها .
فترة صغر فاطمة عليها السّلام
أمضت الزهراء عليها السّلام مدة خمس سنوات من عمرها في مكة مع أمها وأبيها في أجمل أجواء عائلية ملؤها العطف والحنان ، وكانت الزهراء عليها السّلام تساعد أمها لتوفّر الأجواء المناسبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليقوي على نشر الإسلام في خارج البيت .
فالزهراء عليها السّلام في جميع مراحل طفولتها وقفت إلى جانب خديجة وأمير المؤمنين عليه السّلام ونصرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على قدر وسعها ، وكانت تسلّيه وتصبّره وتحاول أن تقدم له خدمة بأي صورة ممكنة .
ولم تمض مدة على بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي كان ملؤه السعادة إلا ومرضت خديجة ولازمت فراش العلة . فتألّمت الزهراء عليها السّلام وأصبحت تعيش حالة انتظار عودة صحة أمها لتكون معها ، ولا سيما وقت الصلاة ليتضرعا معا إلى بارئهما .
ولكن تفاقمت حالة خديجة الصحية ويئس الجميع من بقائها على قيد الحياة .
فدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الزهراء عليها السّلام وكان عمرها يقارب خمس سنوات وجعل يوصيها بالصبر ، فعلمت الزهراء عليها السّلام بقرب فقدانها لأمّها .
ولم تمض فترة حتى توفيت خديجة وفارقت روحها الحياة ، فبقيت الزهراء عليها السّلام وحيدة تعاني من فراق أمها . فكانت عليها السّلام تلتجئ إلى الرسول صلّى اللّه عليه وآله وتشكو له همّها .
وفي محنة فراق الأم كان مأوى الزهراء عليها السّلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأنه كان يسلّيها ويصبّرها .
ولكن بعد فترة اضطرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يترك مكة ويهاجر إلى المدينة ، وذلك على أثر ما لاقاه من أذى المشركين بعد وفاة خديجة وأبي طالب . فعند ذلك ابتعدت الزهراء عليها السّلام عن أبيها وبقيت عند فاطمة بنت أسد أم الإمام علي عليه السّلام .
هجرة فاطمة عليها السّلام
إن فاطمة عليها السّلام كان يصعب عليها فراق أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولو لفترة قصيرة ؛ كما أن الرسول أيضا يشق عليه مفارقة من لا يسعه أن يفارقه ولو ليوم واحد .
فلهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمير المؤمنين عليه السّلام من قبل أن يهاجر إلى المدينة ، أن يصطحب معه ابنته فاطمة ويأتي بها مع أمه فاطمة بنت أسد ومع فاطمة بنت الزبير .
فاستعدّ أمير المؤمنين عليه السّلام لذلك بعد أن أدّى أمانات الرسول صلّى اللّه عليه وآله إلى أهلها وتوجّه نحو المدينة . فتعرّض له مشركوا قريش ولكنه ردعهم ومنعهم من ذلك وأوصل الفواطم إلى المقصد بسلام ، وعادت الزهراء عليها السّلام إلى جوار أبيها مرة أخرى .
زواج فاطمة عليها السّلام
خطبة فاطمة عليها السّلام
ما إن تمّ في أفق الجلالة بدر كمال الزهراء عليها السّلام تقدم كبار الشخصيات وأشراف قريش واحدا تلو الآخر إلى خطبة الزهراء عليها السّلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . فردّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأنهم كانوا على ضوء سوابقهم الملوّثة بالآثام لا يمتلكون الأهلية للزواج مع الزهراء عليها السّلام .
وقد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن جبرائيل هبط عليه وقال : يا محمد ، إن اللّه جل وعلا يقول : « لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض ، آدم فما دونه » .
فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول لمن يقدم لخطبتها : إنّ أمرها إلى اللّه . وكان الرسول ينتظر قدوم الخطيب الذي قد عيّنه الباري عز وجل ، وهو الذي كان في علمه تعالى فأخبر تعالى آدم عليه السّلام به من قبل ، وهو الذي أشارت الزهراء عليها السّلام بنفسها إليه بعد ولادتها بقولها « وأشهد أن بعلي سيد الأوصياء » .
وقبل أيام من قدوم أمير المؤمنين عليه السّلام لخطبة الزهراء عليها السّلام هبط جبرائيل من عند اللّه على الرسول صلّى اللّه عليه وآله ، وقال : يا محمد ، إن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول لك : « إني قد زوجت فاطمة ابنتك من علي بن أبي طالب في الملأ الأعلى ، فزوّجها منه في الأرض » .
فلما تقدّم الزوج المعيّن من قبل اللّه والمشخّص في القضاء والقدر الإلهي الإمام علي بن أبي طالب لخطبة الزهراء عليها السّلام جلس عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مطأطئ الرأس ، والحياء قد علا محياه . فقال له الرسول صلّى اللّه عليه وآله : يا علي ، ما حاجتك ؟
وكان الرسول صلّى اللّه عليه وآله يعلم أن فاطمة عليها السّلام لعلي عليه السّلام وكان ينتظر قدومه لخطبتها ، لكنه كان يريد أن يكون بدء الأمر من الإمام علي عليه السّلام ويكون هو الذي يذكر الزهراء عليها السّلام عنده ويطلبها منه .
فحكى له الرسول صلّى اللّه عليه وآله خبر جبرائيل ، ثم قال : يا علي ، أنت الكفؤ الذي اختاره الباري قبل خلق الخليقة ، ليقترن نوره بنور الزهراء عليها السّلام . وبهذا تمّ الأمر لأن الباري كان قد اختار من قبل فاطمة عليها السّلام لعلي عليه السّلام وكانت مسألة زواج الزهراء عليها السّلام من علي من الأمور المسلّمة .
ولكن الرسول صلّى اللّه عليه وآله مع ذلك أحب أن يعمل على ضوء الأمور الظاهرية والمتعارفة في الزواج ، فقال لعلي عليه السّلام : على رسلك يا ابن العم حتى أخرج إليك . ثم ذهب إلى البتول عليها السّلام وقال لها : « ابنتي فاطمة ، هذا علي ابن عمك يذكرك عندي . فما تقولين » ؟
فعلا وجه الزهراء عليها السّلام حمرة الحياء ، فحبست أنفاسها ولم تتمكن أن تتفوه ولو بكلمة واحدة . فنظر إليها النبي عليها السّلام فرأى الرضا واضحا على ملامح وجهها ! فقام من عندها متهلل الأسارير وقال : « اللّه أكبر ، سكوتها رضاها » .
ومن هذا الحين زيّن الملائكة الجنة وتلت الحور العين سورة طه ويس والشورى .
ثم بعث اللّه للملائكة سحابة فأمطرت عليهم الدر والياقوت واللؤلؤ والجوهر ، وأمر تعالى شجرة طوبى فحملت الحلي والحلل والدر والياقوت ، ثم نثرته عليهم . وأمر الحور العين أن يلتقطن ذلك ، فهنّ يتهادينه إلى يوم القيامة ويقلن : « هذا نثار فاطمة » .
عقد فاطمة عليها السّلام
أوّل من قرأ خطبة عقد فاطمة ملك يدعى « راحيل » ، قرأها في البيت المعمور في جمع من أهل السماوات السبع . ثم أمر اللّه ملكا آخر أن يهزّ شجرة طوبى ، فهزّها فنثرت رقاقا - أي صكاكا - وأنشأ اللّه ملائكة التقطوها ، فإذا كانت القيامة ثارت الملائكة في الخلق فلا يرون محبا لأهل البيت محضا إلّا دفعوا إليه منها كتابا من علي وفاطمة عليها السّلام فيه براءة له من النار .
ثم حضر ملك يدعى « محمود » عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال له : « بعثني اللّه أن أزوّج النور من النور » . فقال صلّى اللّه عليه وآله له : من وممن ؟ قال : فاطمة من على .
فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للمسجد وأشهد الصحابة على أنه زوج وليه ووصيه علي بن أبي طالب عليه السّلام بسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام . ثم توجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى علي عليه السّلام وقال : قم يا علي واخطب .
فخطب الإمام علي عليه السّلام وقال فيما قال : « هذا محمد بن عبد اللّه ، زوّجني ابنته فاطمة على صداق خمسمائة درهم ، وقد رضيت بذلك » .
صداق فاطمة عليها السّلام
يبدو في ظاهر الأمر أنّ صداق الزهراء عليها السّلام كان خمسمائة درهم ، ولكن في الواقع أن هذا المقدار من المال أو حتى خمس الدنيا أو ثلث الجنة بل جميع ما في الدنيا والجنة قليل في شأن الزهراء عليها السّلام ، لأن كل ذلك مخلوق ببركتها وبيمن وجودها . وصداق الزهراء عليها السّلام في الحقيقة كان ما طلبته بنفسها وهو شفاعة الأمة في يوم القيامة ، إذ تأتي ساحة المحشر وبيدها الخرقة التي دفنت معها ومكتوب عليها « الشفاعة لأمة رسول اللّه » ، فتشفع لمذنبي أمة أبيها في ذلك الموقف .
جهاز فاطمة عليها السّلام
أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قسما من مهر فاطمة عليها السّلام لبعض الصحابة ليبتاعوا ما يصلحها ، فكان مما اشتروه :
1 . قميص سبعة دراهم .
2 . خمار بأربعة دراهم .
3 . قطيفة سوداء خيبرية .
4 . سراويل مزمّل بشريط .
5 . فراشان من خيش مصر ، حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جزّ الغنم .
6 . أربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر .
7 . سترا من صوف .
8 . حصير هجري .
9 . رحاء لليد .
10 . سقاء من أدم .
11 . مخضب من نحاس .
12 . شن الماء .
14 . مطهرة مزفتة .
15 . جرّة خضراء .
16 . كيزان خزف .
17 . عباء قطوانى .
18 . قربة ماء .
فعند ما وقع بصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على هذا الجهاز رفع يده بالدعاء قائلا : « بارك اللّه لأهل البيت » ، وقد استجاب اللّه دعائه .
ثم أمر بنقل هذا الجهاز الذي كان يمثّل أثاث بيت الزهراء عليها السّلام إلى دار علي عليه السّلام وبقي الأمر معلقا حتى الزفاف ونقل العروس من دار أبيها إلى دار بعلها .
وليمة فاطمة عليها السّلام
مضت فترة والإمام علي عليه السّلام ينتظر قدوم الزهراء عليها السّلام إلى بيته . فاقترحت أم سلمة المسألة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقالت له : « لو أن خديجة كانت باقية لقرّت عينها بزفاف فاطمة » .
فلما طرق سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اسم خديجة دمعت عيناه وتذكّر الأيام الجميلة التي عاشها مع خديجة ، ثم أمر أم سلمة أن تهيأ إحدى حجر بيته وتزيّنها وتصلح شأنها لزواج فاطمة عليها السّلام .
ثم طلب عليا عليه السّلام وقال له : « يا علي اصنع لأهلك طعاما فاضلا ، فمن عندنا اللحم والخبز وعليك التمر والسمن » . فلما اشترى علي عليه السّلام تمرا وسمنا حسر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن ذراعه وجعل يشدخ التمر في السمن حتى اتخذه حيسا ، وبعث إلى علي كبشا سمينا فذبح وخبز له خبزا كثيرا .
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعلي عليه السّلام : « ادع من أحببت » . يقول الإمام علي عليه السّلام : أتيت المسجد وهو مشحن بالصحابة . فاستحييت أن أشخص قوما وأدع قوما ، فصعدت على ربوة هناك وناديت : « أجيبوا إلى وليمة فاطمة » . فأقبل الناس إرسالا ، فاستحييت من كثرة الناس وقلة الطعام . فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما تداخلني ، فقال : « يا علي ، إنّني سأدعوا اللّه بالبركة » ، فبارك اللّه في الطعام وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عمه حمزة والعباس أن يقفوا بالباب ويدخلوا عشرة عشرة .
واستمرت وليمة فاطمة عليها السّلام مدة ثلاثة أيام بلياليها وببركة اللّه أطعم هذا القليل من الطعام ما يزيد عن ثلاثة آلاف شخصا ولم ينقص منه شيء بل زاد عن حده ! ! فدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالصحاف فملئت ووجّه بها إلى منازل فقراء المسلمين ومساكينهم وأراملهم ويتاماهم وأرسل قسم من الطعام إلى بيوت زوجات النبي صلّى اللّه عليه وآله كما أخذ الرسول صلّى اللّه عليه وآله صحفة وجعل فيها طعاما وقال : « هذا لفاطمة وبعلها عليها السّلام » .
زفاف فاطمة عليها السّلام
لما انتهت الوليمة حان موعد زفاف فاطمة عليها السّلام وزواج النور من النور . فزالت الظلمة من أرجاء العالم وهبط جبرائيل وقدّم لفاطمة عليها السّلام ملابس وحلي . فلما لبستها تحيّرت نسوة قريش منها .
ثم أتى النبي صلّى اللّه عليه وآله ببغلته الشهباء وثنى عليها قطيفة وقال لفاطمة عليها السّلام : اركبي ، وأمر سلمان أن يقود البغلة وكان النبي يسوقها ، فبينما هم في بعض الطريق إذ التحق بهم جبرائيل في سبعين ألف ملك وميكائيل في سبعين ألف . فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله : ما أهبطكم ؟
قالوا : « جئنا نزف فاطمة إلى علي بن أبي طالب » . ثم كبّر جبرائيل وكبّر ميكائيل وكبّرت الملائكة .
وأمر النبي صلّى اللّه عليه وآله بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة عليها السّلام وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن حتى يدخلن الدار .
ونثرت شجرة طوبى في زواج الزهراء عليها السّلام الحلي والدر والياقوت ، فالتقطها الملائكة وجعل يتباهى كل منهم على الآخر بكثرة ما التقط منها .
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لأم سلمة : « هلمي فاطمة » ! فانطلقت وأتت بها ، وهي تسحب أذيالها وقد تصببت عرقا حياء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فعثرت الزهراء عليها السّلام ، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : أقالك اللّه العثرة في الدنيا والآخرة .
ثم وصلت الزهراء عليها السّلام إلى الحجرة التي قد أعدت من قبل وكان أمير المؤمنين عليه السّلام قد فرشها بالرمل اللين وقد نصب خشبتين من حائط إلى حائط ، واحدة لتعليق الثياب والأخرى لقربة الماء . وكان في الحجرة كوزا ، قد وضع على جلد كبش ومتكأ من ليف النخل وكانت هذه الأشياء هي أثاثه المتواضع .
فوقفت الزهراء عليها السّلام أمام أبيها باستحياء لم ترفع طرفها عن الأرض ، وكان الإمام علي عليه السّلام أيضا واقفا جنب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . فكشف الرسول الرداء عن وجه الزهراء عليها السّلام حتى رآها علي عليه السّلام ، ثم أخذ بيد فاطمة عليها السّلام ووضع يدها في يد الإمام علي عليه السّلام . ثم التفت إليه وقال :
« يا أبا الحسن ، هذه وديعة اللّه ووديعة رسوله عندك ، فاحفظ اللّه واحفظني فيها » .
ثم طلب النبي صلّى اللّه عليه وآله ماء فأخذ منه جرعة وتمضمض بها ثم مجّها في القعب ثم صبّها على رأس فاطمة عليها السّلام ، ثم قال لها : « اقبلي » . فلما أقبلت نضح من بين ثدييها ثم دعا قائلا :
« اللهم إنهما أحبّ خلقك إليّ ، فأحبّهما وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظا » .
ثم أخذ باقي الماء فنضحه عليها وقال : « إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » .
ثم خرج وأمر بخروج جميع النساء . فخرجن إلا أسماء بنت عميس . فسألها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن سبب بقائها ، فقال : « إنني أعطيت خديجة عهدا يا رسول الأنام ، لأن خديجة أوصتني - وهي برمقها الأخير تعالج سكرات الموت - أن لا أنسى غربة فاطمة بمثل هذه الليلة ، لأن الفتاة ليلة بنائها لا بد لها من امرأة قريبة منها ، إن عرضت لها حاجة .
فجئت أنا لأحرس فاطمة فأفي بعهدي الذي عاهدت ، وأكون كخديجة أقف قريبة لفاطمة عليها السّلام فيما تحتاجني بمثل هذه الساعات » .
فلما سمع المصطفى صلّى اللّه عليه وآله ذلك التمعت عيناه برقة الدموع ثم أذن لأسماء أن تكون مع فاطمة عليها السّلام .
ولادة أبناء فاطمة عليها السّلام
وبعد الزواج ومضي فترة منه بدء الإمام علي والزهراء عليها السّلام يعيشان حالة انتظار قدوم المولود الذي سيضفي جمالا رائعا على حياتهما المشتركة ويضاعف في حلاوتها .
وهكذا استمر الأمر حتى رزقهما اللّه ولدا جميلا في النصف من شهر رمضان في السنة الثالثة للهجرة .
فلما ولد هذا المولود جاءت به أمه الزهراء عليها السّلام إلى أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام وقالت : سمّه .
فقال : ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . ثم ذهب به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . فقال له الرسول صلّى اللّه عليه وآله : هل سميته ؟ فقال له علي عليه السّلام : ما كنت لأسبقك باسمه . فقال صلّى اللّه عليه وآله : ما كنت لأسبق باسمه ربي عز وجل . فهبط جبرائيل يقرأ النبي السلام من اللّه عز وجل لتسمية المولود بأمر اللّه ، فسمي ب « الحسن » .
ثم لفّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بخرقة بيضاء وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى . ولما كان يوم سابعه عقّ عنه بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذا ودينارا ، ثم حلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقا وطلي رأسه بالخلوق .
والمولود الثاني للإمام علي والزهراء عليها السّلام ولد في اليوم الثالث من شعبان عام الخندق ، وكان ذلك بعد مضي عشرة أشهر وعشرين يوما من ولادة الحسن عليه السّلام ، فسماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله « حسينا » بأمر اللّه وأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ؛ ثم ضمّه إلى صدره وبكى . فسئل عن سبب بكائه فقال : « تقتله الفئة الباغية من بعدى ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » .
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يأتي في كل يوم فيضع لسانه في فم الحسين فيمصه حتى يروي ، فأنبت اللّه عز وجل لحمه من لحم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهذا الأمر هو من الأمور التي اختص بها الحسين عليه السّلام دون غيره .
ومن خصائص الحسين عليه السّلام أيضا أن الإمامة بعده من ذريته ، والدعاء مستجاب تحت قبته وأن اللّه جعل الشفاء في تربته ؛ كما أن فطرس مسح نفسه بمهده فتاب اللّه عليه ببركة الحسين عليه السّلام وأنبت له جناحا جديدا مكان جناحه المكسور فعاد إلى مكانه في السماء .
وكان المولود الثالث « زينب الكبرى » عقيلة الهاشميين ، ولدت في الخامس من شهر جمادى الأولى في السنة الخامسة للهجرة ، وهذا المولود أيضا سماه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأمر من اللّه عز وجل ، وبكى عليه كما بكى على الحسين عليه السّلام وقال : « من بكى على مصائب هذه البنت كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين عليهما السّلام » .
وأما المولود الرابع فكانت « أم كلثوم زينب الصغرى » ، وكانت ولادتها في العام السابع للهجرة .
وأما الخامس من أولاد علي وفاطمة عليهما السّلام هو « المحسن » وهو الشهيد الأول الذي قتل في سبيل الدفاع عن الولاية ، فكان ضحية لأحداث السقيفة واستشهد وعمره ستة أشهر في بطن أمه خلال الاقتحام الذي أجراه أهل السقيفة على بيت الزهراء عليها السّلام ، فكان استشهاده قبل ولادته .
فاطمة عليها السّلام بعد زواجها حتى استشهاد أبيها صلّى اللّه عليه وآله
كانت الزهراء عليها السّلام لمدة عشر سنوات في المدينة تحت رعاية أبيها وبعلها ، وكانت مع أولادها . فعاشت أجمل أيام حياتها التي لا تزول عن ذاكرتها .
كان الرسول صلّى اللّه عليه وآله يأتي كل يوم - ما عدا أيام سفره - لزيارة الزهراء عليها السّلام ويسأل عن صحتها وعن حالها ، وحين مرضها كان يعودها الرسول صلّى اللّه عليه وآله برفقة أصحابه . وكان حين سفره آخر من يودع الزهراء عليها السّلام ، وإذا عاد من سفره أول من يبدأ بها ، وكان يمتاز تعامله معها عن تعامله مع الآخرين حتى اعترضت عليه عائشة .
وكان يأتي الرسول صلّى اللّه عليه وآله فجر كل يوم إلى باب بيت الزهراء عليها السّلام ويقول : « السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته ، إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » .
وحينما منع الباري عز وجل أن يدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسمه وأمر أن ينادي ب « يا رسول اللّه » ، تركت الزهراء عليها السّلام مخاطبة الرسول صلّى اللّه عليه وآله بقول : « يا أبه » ، ونادته ب « يا رسول اللّه » . فقال لها الرسول صلّى اللّه عليه وآله : يا فاطمة ، إنها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في
نسلك ، أنت مني وأنا منك . إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر . قولي « يا أبه » فإنها أحيى للقلب وأرضى للرب .
كما أن للزهراء عليها السّلام ذكريات كثيرة مع أبيها ، ومعظم هذه القضايا ليست مجرد أحداث تاريخية ، بل لها بعد عقائدي أيضا . ومن هذه القضايا يمكننا ذكر الأمور التالية :
الزهراء عليها السّلام وقضية المباهلة
دار بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ونصارى نجران الذين وفدوا إلى المدينة المنورة حوار ومناظرة في الأمور العقائدية حتى طال بهم المقام ، فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن الحوار يدور في حلقة مفرغة حاول أن يتخذ لتوعيتهم سبيلا آخر لعلهم يؤمنون . فدعاهم إلى المباهلة بأمر من اللّه سبحانه وتعالى ونزل قوله عز وجل : « فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ » .
فلما حان الموعد وإذا بنصارى نجران يرون أن الرسول صلّى اللّه عليه وآله قد وفد وليس معه إلا أهل بيته وهم أمير المؤمنين عليه السّلام الذي هو بمنزلة نفسه وابنته فاطمة وابناه الحسن والحسين عليهم السّلام .
فلما رأوا ذلك وشاهدوا أن الرسول قد صحب معه أقرب وأعز الناس إليه علموا أن الرسول صلّى اللّه عليه وآله لو كان في ريب من أمره ما كان يأتي بأعز أهله ليطلب لهم العذاب . فتراجعوا ولم يباهلوا .
فاطمة عليها السّلام وحديث الكساء
في حديث الكساء حينما اجتمع النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليها السّلام تحت الكساء أخذ النبي صلّى اللّه عليه وآله بطرفي الكساء وقال : « اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامّتي ، لحمهم لحمي ودمهم دمى ، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم ، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم وعدو لمن عاداهم ومحب لمن أحبهم ، إنهم منى وأنا منهم . . . » .
فقال الباري عز وجل : « يا ملائكتي ويا سكان سماواتى ، إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا فلكا يسري ولا بحرا يجري إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء » .
فقال جبرائيل : يا رب ، ومن تحت الكساء ؟ فقال اللّه عز وجل : « هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها » .
ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في فضل ذكر هذا الخبر : « والذي بعثني بالحق نبيا واصطفاني بالرسالة نجيّا ، ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا إلا ونزلت عليهم الرحمة وحفّت بهم الملائكة واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا » .
ثم أعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قائلا : « ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا وفيهم مهموم إلا وفرّج اللّه همه ولا مغموم إلا وكشف اللّه غمه ولا طالب حاجة إلا وقضى اللّه حاجته » .
فلما سمع أمير المؤمنين عليه السّلام ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال : « إذا واللّه فزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة وربّ الكعبة » .
تسبيح فاطمة عليها السّلام
إن أمير المؤمنين عليه السّلام لما رأى ما أصاب فاطمة عليها السّلام من عناء في العمل البيتي وشاهد ما تقوم به من شؤون البيت من استسقاء وطحن وكنس ، قال لها : « هلا أتيت أباك تسأليه خادما يكفيك مشقة خدمة البيت » .
فقالت الزهراء عليها السّلام لأبيها ذلك ، فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : أفلا أدلّك - يا فاطمة - على ما هو خير لك من الخادم في الدنيا ؟ قالت : بلى يا رسول اللّه . فعلّمها الرسول صلّى اللّه عليه وآله هذا التسبيح المعروف وهو ذكر « اللّه أكبر » أربع وثلاثين مرة ، ثم « الحمد للّه » ثلاث وثلاثين مرة ، ثم « سبحان اللّه » ثلاث وثلاثين مرة .
فاطمة عليها السّلام وسورة « هل أتى »
مرض الحسن والحسين عليهما السّلام ، فنذر أمير المؤمنين وفاطمة عليها السّلام وكل من في البيت أن يصوموا مدة ثلاثة أيام إذا برأ الحسنان عليها السّلام .
فاستجاب اللّه عز وجل نذرهما وعافى الحسنان عليها السّلام ، فعزم أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام على أن يصوموا ثلاثة أيام .
ففي اليوم الأول من صومهما جاء عند الإفطار مسكين وطلب منهم طعاما ليسد جوعه . فأعطوه ما كان عندهم ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء القراح .
وفي اليوم الثاني عند الإفطار طرق عليهم الباب يتيما وطلب منهم طعاما فرفعوا الطعام وناولوه إياه . ثم أصبحوا وأمسوا في اليوم الثاني كما كانوا في الأول .
وفي الليلة الثالثة طلب منهم أسير طعاما فأعطوه كل ما عندهم وبقوا ثلاثة أيام لم يذوقوا شيئا سوى الماء .
وفي اليوم الرابع جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى بيت فاطمة عليها السّلام ، فلما رأى ابنتها وقد لصقت بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع ورأى الحسن والحسين عليها السّلام كالفرخين تألّم لذلك .
فعندها هبط عليه جبرائيل وقرأ عليه سورة هل أتى : « يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً » .
فاطمة عليها السّلام وحجة الوداع
كانت الزهراء عليها السّلام مع أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في حجة الوداع وأدّت معه مناسك الحج وكان الإمام علي عليه السّلام حينئذ في اليمن وكان قدومه إلى مكة في حين أداء الحجاج لمناسكهم ؛ فالتحق أمير المؤمنين عليه السّلام بالنبي صلّى اللّه عليه وآله وأدى مناسك الحج وعادوا جميعا إلى المدينة المنورة .
فاطمة عليها السّلام وغدير خم
في العودة من حجة الوداع كانت الزهراء عليها السّلام مع أبيها في وادي « خم » وهو المكان الذي جمع فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الناس وأبلغهم الأمر الإلهي في علي بن أبي طالب .
وفي هذا الموقف خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله خطبته الغراء ثم أخذ بيد علي عليه السّلام فرفعها وقال : « من كنت مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله » . ثم قال : اللهم قد بلغت .
فكانت الزهراء عليها السّلام حاضرة في هذا الموقف ، ولذلك كانت بعد ما جرى في السقيفة تذكر الناس بعهدهم وبيعتهم يوم الغدير فقالت : « أنسيتم قول رسول اللّه يوم غدير خم :
من كنت مولاه فعلي مولاه » ؟ !
فاطمة عليها السّلام مع أبيها في لحظاته الأخيرة من عمره
كانت الزهراء عليها السّلام عند أبيها في اللحظات الأخيرة من حياته . فلما اشتد الألم بالرسول صلّى اللّه عليه وآله انكبت عليه وألصقت صدرها بصدره وجعلت تبكي .
ففتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عيناه ثم قال : « ابنتي فاطمة ، إنك مظلومة بعدي ؛ فمن آذاك فقد آذاني ومن أغضبك فقد أغضبني ومن سرك فقد سرني ومن جفاك فقد جفاني ومن وصلك فقد وصلني ومن هجرك فقد هجرني ومن أنصفك فقد أنصفني ومن ظلمك فقد ظلمني ، لأنك مني وأنا منك وأنت بضعة مني وروحي التي بين جنبي » .
ثم أسرّ إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمرا تهلّل وجهها له وذلك أنه أخبرها بأنها أول أهل بيته لحوقا به .
مواساة جبرائيل لفاطمة عليها السّلام
بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بينما كان صلّى اللّه عليه وآله مسجى في فراش العلة وحوله الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام هبط جبرائيل من العلي الأعلى وقال : « السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة . كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . إن في اللّه عز وجل عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا لما فات . فباللّه عز وجل ثقوا وإياه فارجوا . . . » .
مصحف فاطمة عليها السّلام
بعد أن فارق الرسول صلّى اللّه عليه وآله هذه الدنيا دخل فاطمة عليها السّلام حزنا وأسى شديدا حتى أصبح دأبها البكاء والتحسر . فأمر اللّه جبرائيل أن يحضر عندها ويسلّيها ويصبرها . فكان جبرائيل يحدثها بما سيجرى في العالم وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يكتب ذلك بعد أن تمليه الزهراء عليها السّلام عليه حتى نشأ من ذلك مصحفا كبيرا .
فمصحف فاطمة هو كتاب يحتوي على الأمور التي أخبرت به الزهراء عليها السّلام عن طريق جبرائيل . وفيه علم ما كان وما يكون ؛ وهو الآن بيد بقية اللّه الأعظم مهدى آل محمد عجل اللّه تعالى فرجه الشريف .
لوح فاطمة عليها السّلام
هذا اللوح جاء به جبرائيل وقدّمه لفاطمة عليها السّلام من قبل الباري عز وجل . وهو لوح فيه أسماء الأئمة الاثني عشر عليهم السّلام مع ذكر أسماء آبائهم وأمهاتهم .
وهو لوح أخضر من زمرد وكتابته بيضاء أشد نورا من الشمس ورائحته أطيب من المسك . وقد رأى جابر هذا اللوح بيد فاطمة عليها السّلام فقرأه واستنسخه ثم عرض ذلك على الإمام الباقر عليه السّلام .
حياة الزهراء عليها السّلام مع أمير المؤمنين عليه السّلام
كانت الزهراء عليها السّلام منذ أن كانت أمها على قيد الحياة تساعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما كان أمير المؤمنين عليه السّلام منذ أول بعثة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وهو في عمر عشرة سنوات يساعد ويعين الرسول صلّى اللّه عليه وآله ويدفع عنه أذى مشركي قريش ويدافع عنه . فالزهراء عليها السّلام أيضا كانت تساعد أبيها في سبيل إعلاء كلمة الحق .
ثم حين هجرتها من مكة إلى المدينة كانت الزهراء عليها السّلام مع الفواطم في ظلال رعاية الإمام علي عليه السّلام . فكان يحامي عنهم بسيفه خلال الطريق لئلا يصيبهم أذى من شر قريش .
ثم إنه أوصلهن إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو في قبا قرب المدينة .
ثم طرحت مسألة زواج علي عليه السّلام من الزهراء عليها السّلام فتزوّجها وعاشا معا مدة تسع سنوات حتى استشهدت الزهراء عليها السّلام .
ويمكننا أن نقول بقاطعية : إنه لا يوجد زوج وزوجة كعلي وفاطمة عليها السّلام عاشا من بدء حياتهما في أجواء ملؤها الصدق والطهارة بحيث نجد الزهراء عليها السّلام حينما أرادت أن تفارق الحياة اعتذرت منه وطلبت منه أن يبرأ لها الذمة وقالت له في وصيتها : « يا ابن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني » .
فصدّقها أمير المؤمنين عليها السّلام وقال : « معاذ اللّه ! أنت أعلم باللّه وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من أن أوبخك بمخالفتي » .
فالزهراء عليها السّلام لم تغضب عليا عليه السّلام قط طيلة حياتهما المشتركة كما أن عليا عليه السّلام أيضا لم يزعجها أبدا .
وكانت الزهراء عليها السّلام - عملا منها بوصية أبيها - لا تطلب من علي عليه السّلام شيئا . وفي يوم من الأيام مرضت الزهراء عليها السّلام فأصرّ أمير المؤمنين عليه السّلام وألحّ عليها أن تطلب شيئا تشتهيه من طعام أو فواكه أو غير ذلك من حلاوات الدنيا .
فقالت له الزهراء عليها السّلام من أجل أن تدخل السرور على قلب زوجها : يا علي ، أشتهي رمانا . فذهب علي عليه السّلام إلى السوق واشترى لها رمانة ثم رجع إليها ، فرأى شخصا مكفوف البصر ومريضا مطروحا على قارعة الطريق ، فوقف علي عليه السّلام فقال له : ما يريد قلبك يا شيخ ؟ فأجابه : أريد رمانا . فأطعمه علي عليه السّلام تلك الرمانة وعاد إلى البيت مستحيا . فما أن دخل الحجرة التي فيها فاطمة عليها السّلام إذ وجد طبقا مملوءا من الرمان أمام الزهراء عليها السّلام قد أرسله اللّه عز وجل إليها .
وأما حياة الزهراء عليها السّلام في البيت مع أمير المؤمنين عليه السّلام ، فكان الرسول صلّى اللّه عليه وآله قد قسّم بينهما الأعمال ، فوضع الأعمال التي تتمّ خارج البيت على عاتق علي عليه السّلام والأعمال المنزلية على عاتق فاطمة عليها السّلام . فكانت الزهراء عليها السّلام تتكفل وحدها بأعمال البيت من قبيل طحن الحبوب وطبخ الطعام وتنظيف البيت والقيام بشؤون الأطفال .
ولما رزقها اللّه خادمتها « فضة » ، قسمت الزهراء عليها السّلام الأعمال بينها وبين فضة ، فقدّرت أن تكون الأعمال يوما لها ويوما لخادمتها فضة .
وعلى أي حال استمرت هذه الفترة الذهبية حتى سقي الرسول صلّى اللّه عليه وآله السم ففارقت روحه الحياة شهيدا وانتقل إلى بارئه .
فمن هذا الحين توجّه الجور والظلم الذي كان يصيبه المنافقين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى ابنته الزهراء عليها السّلام ، فلم يسمحوا لها أن تعيش لحظة واحدة في هناء وراحة بعد فقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، بل عاملوها معاملة صارت من خلالها الزهراء عليها السّلام تبكي ليلها ونهارها .
تعامل الزهراء عليها السّلام مع الخصم ونتائج ذلك
اتخذت الزهراء عليها السّلام في أقوالها وتعاملها على الإطلاق طيلة فترة حياتها منهجية وأسلوبا لم يجرأ أحد بعد ذلك وإلى يومنا هذا أن يشكل عليها أو يمس كرامتها .
وكل هذا في الحقيقة ناتج من أسلوب تعامل الزهراء عليها السّلام قبال الجور والظلم الذي لاقته من خصومها . فكان ثمرة مواقف الزهراء عليها السّلام المحنكة أن نشأ من بدء الأمر في أوساط المجتمع حالة اعتراض على ظلمة الزهراء عليها السّلام . فاستبصر بالتدريج من كان يجهل فاطمة عليها السّلام وأصبح من مواليها ومحبيها .
وكانت هذه الحالة في تزايد يوما بعد يوم ، إذ استبصر الكثير في هذا المجال واعتنقوا نهج الزهراء عليها السّلام والتحقوا بالخط الفكري الذي ابتدأ منذ يوم إحراق باب دار الزهراء عليها السّلام ، ثم استمر إلى يومنا هذا وهو ممتد إلى يوم القيامة ، وسوف يتجلّى هذا الخط مع من التحق به في ساحة المحشر إذ تدخل الزهراء عليها السّلام الجنة ويتبعها هؤلاء الذين التحقوا بركبها من قبل ، فيدخلون الجنة معها .
فمواقف الزهراء عليها السّلام في الأيام الأولى بعد استشهاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واستقامتها وكيفية تعاملها مع الخصم منحتها مكانة ومنزلة سامية في قلوب مواليها ومخالفي نهجها الفكري بحيث لا يتمكن أحد أن يزيل هذه المكانة من القلوب عن طريق الدعاية أو الترغيب أو الترهيب ، بل إن قوة أثر تعامل الزهراء عليها السّلام لقوته ترك الأثر حتى على غير المسلمين ، بحيث دفعهم في الصعيد العلمي إلى إنجاز بعض النشاطات لتبيين مكانة الزهراء عليها السّلام وكانت مواقف الزهراء عليها السّلام من يوم السقيفة منظمة ودقيقة جدا بحيث لم تخطأ إصابة الهدف المنشود والوصول إلى الغاية في عملها أبدا .
وعلى خلاف ذلك مواقف خصومها إذ تخبّطوا في الأخطاء ، فسدوا أمام أنفسهم كافة الأبواب بحيث لم يجدوا مخرجا للخلاص مما أوقعوا أنفسهم فيه .
وهذه المواقف التي اتخذتها الزهراء عليها السّلام دفعت الكثير من الذين قد شبهت عليهم الأمور أو الذين كانوا يعيشون الغفلة أن يلتفتوا إلى حقيقة الأمر وأن يستبصروا فتتبيّن لهم ولاية الزهراء عليها السّلام الإلهية .
ومن جهة أخرى فإن مواقف الزهراء عليها السّلام إزاء خصومها ومخالفيها أصبحت درسا أخلاقيا ومنهجا رائعا لأتباعها وللبشرية كافة ليتعلموا أسلوب كيفية مواجهة الظلمة والذين هانت عليهم أنفسهم فلوّثوها بالآثام والمعاصي .
فموقف الزهراء عليها السّلام إزاء الذين اقتحموا دارها بوقاحة وجسارة ودخلوا دارها من دون إذن والذين غصبوا الخلافة من بعلها وغصبوا منها فدك ، كان بتأني وتدبر وعن دراية ؛ بحيث بقي أثره الايجابي خالدا وأصبح كالشجرة الطيبة يقتطف منها أولياء اللّه وأحباؤه وأتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلي وفاطمة عليهما السّلام الثمار الطيبة ، وأصبح ذلك مستمسك يتباهى به من زرع حب الزهراء عليها السّلام في قلبه . كما أن موقف الزهراء عليها السّلام أيضا فضح أعداءها أمام الملأ العام وأبداه بوضوح بحيث لا يشوبه ريب .
وفي الحقيقة لم يكن موقف أفضل مما صنعته الزهراء عليها السّلام إزاء الخصوم وإن الجميع قد استحسن ما قامت به الزهراء عليها السّلام إزاء فعال خصمها .
ونحن نفتخر في الدنيا والعقبى بأننا « فاطميون » وننادي دوما من أعماق قلوبنا ونقول باعتزاز : « إننا من أتباع الزهراء عليها السّلام ، ونحن براء من الذين ظلموها وأورثوها الحزن والأسى . فالزهراء عليها السّلام قدوتنا ونحن تبع لها ، لأنها تنطلق من منطلق العصمة والطهارة ، ونحن نعترف بأن ما سوى المعصوم عليه السّلام لا يستطيع أن يكون في جميع مواقفه إزاء مخالفيه منتصرا بحيث يستطيع أن يتغلب على خصمه من دون استخدام قوة أو سلاح بحيث يندم خصمه على فعله الشنيع في مرضه الذي توفي فيه ويقول : « وددت أني لم أكشف بيت فاطمة وتركته » .
محاولات المنافقين لإزالة قدسية الزهراء عليها السّلام وعظمتها
حاول الخصوم أن يطيحوا بعظمة الزهراء عليها السّلام ، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل لأنّ عظمة الزهراء عليها السّلام تفوق التصور البشرى . فلهذا بقي الخصم محتارا أمام عظمة الزهراء عليها السّلام التي بلغت هذه الدرجة بأن اللّه يبلّغ سلامه إليها عن طريق الأمين جبرائيل ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله .
كما أن الرسول صلّى اللّه عليه وآله كان يحضر كل يوم عند باب الزهراء عليها السّلام ويسلّم عليها وكان يستأذن منها حين دخوله إلى الدار ، ثم يقبّل يدها . وكان إذا دخلت عليه الزهراء عليها السّلام يقوم من مقامه إجلالا لها ؛ وكان حين سفره آخر من يودعها وإذا قدم بدء بها . وكان يقول :
« إنها سيدة النساء » ، ويقول : « إن فاطمة بهجة قلبي وأم أبيها ، فمن آذاها فقد آذاني » .
فأثارت هذه الأمور حسد المنافقين ، فلما توفرت لهم الفرصة أظهروا حقدهم الدفين في صدورهم ، بحيث لم يقصروا في محاربتها ولم يبالوا في ارتكاب أي جريمة في حقها ، بل أفرطوا في ذلك وحاربوا الزهراء عليها السّلام محاربة لم يتوقعها أحد من قبل بل هي أمور لم تخطر على قلب أحد .
وكانت معاداتهم ومحاربتهم للزهراء عليها السّلام بشكل هائل ومكثف بعد استشهاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فقاموا بأعمال سجّلها المؤالف والمخالف بحيث لا يسع أحد إنكارها .
وهذه الأعمال التي تصدر من الجبهة المعارضة للرسول وأهل البيت عليهم السّلام لم تكن أمورا جديدة في الساحة ، بل إن جذورها تعود إلى بدء دعوة الرسول صلّى اللّه عليه وآله ، إذ كانت حمالة الحطب تلقي الشوك في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، أو كان البعض يرمون عليه فرث جزور والبعض الآخر يحاربه بالحجارة حتى أدميت رجلاه ، ومنهم من يتهمه بالجنون أو السحر .
ولكن بعد هجرة الرسول صلّى اللّه عليه وآله بقي حقد زمرة المنافقين دفينا في قلوبهم لا يجرءون إظهاره لعظمة شوكة النبوة والولاية وتعالي الإسلام ، ولكنهم حينما علموا بدنوّ وفاة الرسول صلّى اللّه عليه وآله نشط عملهم مرة أخرى فخططوا ليحققوا مآربهم .
فلما دنت منية الرسول صلّى اللّه عليه وآله طلب منهم النبي صلّى اللّه عليه وآله ليأتوا له بكتف ودواة ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا ، فهنا اتفقت كلمة المنافقين ليقفوا بوجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويتجرؤوا على عصمته ليفسحوا المجال لأنفسهم لانتهاك حرمة أهل بيته من بعده وليستطيعوا غصب الخلافة منهم .
فتجاسروا عليه وقالوا له مقالة لا يجرأ شخص عادي أن يتفوه بها ؛ ولكنهم لم يبالوا لا بالرسول ولا بالقرآن الذي يصف قول الرسول صلّى اللّه عليه وآله : « إن هو إلا وحي يوحى » . فانتهكوا حرمته فقال كبيرهم عمر بن الخطاب مقولته الشنيعة : « إن الرجل ليهجر » وهي مقولة بيّن بها صاحبها الكفر الذي كان كامنا في صدره ، وكانت هذه هي الخطوة الأولى لتدنيس المقدسات وانتهاك حرمة الرسول صلّى اللّه عليه وآله والإطاحة بشخصيته ومكانته الاجتماعية ، ليسهل عليهم بعد ذلك أمام الملأ أن ينتهكوا حرمة بيت النبوة ويقتحموا دار ابنته ويحرقوا باب الدار ويؤذوا فلذة كبده .
ولكن بالنتيجة أدّى مواجهتهم لفاطمة عليها السّلام عكس ما كانوا يريدون وكانت النتائج خلاف ما كانوا يبتغون ، وشاء الباري عز وجل أن تبقي حجته على رؤوس العباد ليعلم الجميع أن عترة الرسول صلّى اللّه عليه وآله هم أولي الأمر الذين فرضت طاعتهم على العباد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله .
فكانت الزهراء عليها السّلام أدرى بكيفية مواجهة مخططاتهم لإبطال مفعولها وإظهار حقيقة الأمر للعالمين وإتمام الحجة عليهم ، فتعاملت مع القوم معاملة أبدت بها الحق بوضوح بحيث لا يستطيع أحد أن يخفيه أو يحجبه عن الأبصار .
وإن ما قام به أعداؤه لم ينقص شيء من قدسيتها وعظمتها ، بل كان سببا في ارتقاء شأنها وتعالي منزلتها وتجلي مكانتها السامية يوما بعد يوم ، وبذلك أدان الجميع ما قام به البعض في مواجهتهم للزهراء عليها السّلام .
فاطمة عليها السّلام بعد أبيها
بلغ بكاء الزهراء عليها السّلام وعويلها بعد وفاة أبيها إلى درجة لا ترقأ دمعتها ولا تهدأ زفرتها حتى عدّت من البكّائين الخمس في العالم .
وهم الإمام زين العابدين عليه السّلام الذي بكى أكثر من ثلاثين عاما على المصائب التي حلّت بأبيه الإمام الحسين عليه السّلام وأهل بيته في حادثة الطف الدامية ، والبكاءون الآخرون هم يوسف ويعقوب عليهما السّلام إذ بكى كل منهما على فراق الآخر ما يقارب أربعين عاما ، وآدم عليه السّلام إذ بكى ثلاثمائة عام على خطيئته بعد أن أخرجه اللّه عز وجل من الجنة وأبعده من جوار رحمته . والزهراء عليها السّلام ببكائها في فترة أقل من ثلاثة أشهر عدّت من هؤلاء .
ومن هنا يتبين فداحة المصائب التي صبت عليها من قبيل فراقها لأبيها وغصب القوم للخلافة وظلمهم لبعلها وغصبهم فدك منها ، وتضييعهم باقي حقوقها وانتهاكهم حرمتها وايذائهم المستمر لها ، ومن هنا أيضا يتبين ما لاقته الزهراء عليها السّلام من كسر ضلعها وضربهم عضدها بالسوط وإحراقهم بيتها وإسقاطهم جنينها المحسن عليه السّلام وغير ذلك بحيث تقول الزهراء عليها السّلام بنفسها :
صبّت عليّ مصائب لو أنّها * صبّت على الأيام صرن لياليا
وهذه المصائب هي التي جعلت الزهراء عليها السّلام تبكي ليلها ونهارها ولا ترقأ دمعتها ولا تهدأ زفرتها حتى اشتكى منها أهل المدينة عند أمير المؤمنين عليه السّلام وقالوا له :
يا أبا الحسن ، إن فاطمة تبكي بالليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا ، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلها أو نهارها .
فأقبل أمير المؤمنين عليه السّلام حتى دخل على فاطمة عليها السّلام وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء ، فلما رأته سكنت هنيئة له فقال لها : يا بنت رسول اللّه ، إن شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إما تبكين أباك ليلا وإما نهارا .
فقالت : يا أبا الحسن ، ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبى من بين أظهرهم ، فو اللّه لا أسكت ليلا ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول اللّه . فقال لها علي عليه السّلام : افعلي يا بنت رسول اللّه ما بدا لك .
وكان يتهيج حزن وبكاء الزهراء عليها السّلام كل يوم بأمور عديدة ، فكانت تارة تذكر أبيها صلّى اللّه عليه وآله عندما ترى مكانه خاليا ، وتارة تذكره عند رؤية ملابسه ، وتارة حينما يطرق سمعها صوت مؤذن أبيها بلال أو حينما يقع بصرها على وجه الحسنان عليهما السّلام فكانت عندئذ تجهش بالبكاء .
فاطمة عليها السّلام وبيت الأحزان
لم يواس أهل المدينة فاطمة الزهراء عليها السّلام ولم يتعاطفوا معها ، بل قالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك وطلبوا منها التنحي عن مجاورة المسجد إلى طرف من أطراف المدينة ! ! فاضطرت الزهراء عليها السّلام بعد ذلك رغم ضعفها ونحولتها أن تقطع مسافة طويلة كل يوم وتذهب خارج المدينة وتبكي عند قبر حمزة بن عبد المطلب .
ولكن بالتدريج أخذ المصاب منها مأخذا كبيرا وبدأت تتدهور صحتها من الضربات التي أصابتها عند اقتحام القوم لدارها ، فأصابها النحول ولم تستطع بعد ذلك أن تقطع تلك المسافة إلى قبر حمزة في أرض أحد . فجعلت تأخذ يد الحسن والحسين عليهما السّلام وتخرج إلى البقيع باكية وتجلس بظل شجرة سدر وتذرف دموعها ، ولكن لم تمض مدة حتى بادر المنافقون إلى قطع تلك الشجرة .
فبنى لها أمير المؤمنين عليه السّلام بيتا خارج البقيع سمي ب « بيت الأحزان » . فكانت الزهراء عليها السّلام تأتي كل صباح مع الحسنين عليهما السّلام ، فتبكي فيه ويبكي معها الحسنان عليهما السّلام حتى غروب الشمس ، ثم يعودون معا إلى دارهم .
وانتهى الأمر بالزهراء عليها السّلام أن أصبحت تعيش الغربة في مدينة الرسول صلّى اللّه عليه وآله . ثم فقدت استطاعة الذهاب إلى بيت الأحزان ؛ ومن جهة لم يكن بوسعها البكاء في دارها .
فلم يبق لها سبيل سوى أن تطلب الموت من اللّه عز وجل ، ولهذا كان دعاؤها الأخير الذي دعت به من أعماق قلبها هو قولها : « اللهم عجّل وفاتي سريعا » . ومن الواضح أن دعاء الزهراء عليها السّلام حينما تدعو من أعماق قلبها يستجاب في أسرع وقت .
فاطمة عليها السّلام وبلبلة السقيفة
لم يزل جثمان الرسول صلّى اللّه عليه وآله مسجى في حجرته وهو لم يدفن بعد وإذا بالقوم تشاجروا على الخلافة في سقيفة بني ساعدة وارتفعت الأصوات : « منا أمير ومنا أمير » . ثم تفاقمت الوضعية وتأزمت الأمور حول استلام زمام الحكم ، فبدأ الانحراف في مسار الإسلام بعد أن أهمل الذي عيّنه اللّه والرسول للخلافة ! فتم تعيين رجل للخلافة بخلاف ما أراد اللّه ورسوله ، وكان تعيينه فلتة شهدتها الساحة الإسلامية ، كما كان الذين بايعوه يعلمون عدم جدارته للخلافة ، بل حتى الخليفة كان لا يجد نفسه لائقا وأهلا لهذا المقام وقد أقرّ بذلك عدة مرات وقال أمام الملأ العام : « أقيلوني أقيلوني ، فلست بخيركم وعلي فيكم » .
وكان الناس في تلك الحالة همج رعاع يقودهم أهل الأهواء والمطامع بالترغيب والترهيب . فاندفع بعضهم لذلك من دون وعي ومنهم من اندفع لحقده لعلي عليه السّلام .
فكان أول من بايع الخليفة شيخا كبيرا بين عينيه سجادة ، صعد المنبر متكأ على عصاه ثم مدّ يده إلى أبي بكر وبايعه . فقال عنه أمير المؤمنين عليه السّلام فيما بعد : « إنه كان إبليس لعنه اللّه » ! ! ثم بايع الناس من بعده .
وقد علم البعض بخطئهم فيما بعد ، ولكن كان ذلك بعد فوات الأمر لأن السلطة وقعت بأيدي القوم وانتقى مجال أخذها منهم بسهولة ، ثم لاحظ الخليفة وزمرته أن هنالك مجموعة تعتدّ ببيعتهم لم يأتوا للبيعة ، وكلهم قد اجتمعوا في بيت فاطمة عليها السّلام والتفّوا حول الإمام علي عليه السّلام .
فقال عمر لأبي بكر : إن بيعتك لا تستقيم إذا لم يبايعك علي ومن معه . فبعث أبو بكر قنفذا إلى بيت علي عليه السّلام ليدعو عليا إلى البيعة . فذهب قنفذ وقال لعلي : « أجب خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله » ! فقال له علي عليه السّلام : ما خلّف رسول اللّه غيرى ! لسريع ما كذبتم على رسول اللّه .
فرجع قنفذ إلى أبي بكر وأخبره بذلك . فأرسله أبو بكر مرة أخرى فأقبل قنفذ وقال لعلي عليه السّلام : يدعوك خليفة المسلمين ! فقال علي عليه السّلام : ما أسرع ما ادعيت ما لم تكن بالأمس ! فرجع قنفذ وعاد مرة أخرى وقد باءت كل محاولاته بالفشل .
فأرسل أبو بكر عمر ومعه جماعة إلى دار الزهراء عليها السّلام . فلما أتوا الباب فقرعوها قرعا شديدا ، فلما سمعت الزهراء عليها السّلام أصواتهم نادت بأعلى صوتها : « يا أبت ، يا رسول اللّه ، ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » ! ؟
الهجوم على دار فاطمة عليها السّلام
فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرف معظمهم وبقي عمر ومعه جماعة ، وكان عدد أتباع عمر الذين جاءوا لاقتحام الدار وأخذ البيعة من علي ثلاثمائة شخص وعدد من لحقهم لينظر ما ذا سيحدث أربعة آلاف .
فدعا عمر بالحطب وقال بأعلى صوته : واللّه لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول اللّه . ثم قال : والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها ! !
ثم أخذ عمر قبسا من نار فأحرق الباب ، ثم ركلها برجله فكسرها ، وكانت الزهراء عليها السّلام خلف الباب ، فمانعته لكنه دفع الباب ، ولما دخل لكزها في جنبها بنعل سيفه ، ثم رفع سوطه فضربها على عضدها !
ويصف عمر هذا الموقف بنفسه في كتاب كتبه إلى معاوية فيذكر : . . . فضربت فاطمة يديها على الباب تمنعني من فتحه . فرمته فتصعّب عليّ ، فضربت كفّيها بالسوط فآلمها ، فسمعت لها زفيرا وبكاء فكدت أن ألين وأنقلب عن الباب .
فذكرت أحقاد علي وولوعه في دماء صناديد العرب وكيد محمد وسحره . فركلت الباب وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه وسمعتها وقد صرخت صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها وقالت : « يا أبتاه يا رسول اللّه ! هكذا كان يفعل بحبيبتك وابنتك ، آه يا فضة إليك فخذينى فقد واللّه قتل ما في أحشائي من حمل » . وسمعتها تمخض وهي مستندة إلى الجدار ، فدفعت الباب ودخلت . فأقبلت إليّ بوجه أغشى بصري ، فصفقتها صفقة على خديها من ظاهر الخمار فانقطع قرطها وتناثرت إلى الأرض . . .
ويذكر ابن أبي الحديد وصلاح الدين الصفدي وابن خيزرانة وابن قتيبة وابن حجر العسقلاني وإبراهيم السيار النظام والبلاذري والدهلوي والمسعودي قضية إحراق بيت فاطمة عليها السّلام وإسقاط المحسن عليه السّلام .
وقد جاء في ذكر قضية إحراق بيت الزهراء عليها السّلام أن عمر قال لفاطمة عليها السّلام : فاختاري إن شئت خروج علي بن أبي طالب لبيعة أبي بكر أو إحراقكم جميعا .
ثم ضرب عمر بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود ، وركل الباب برجله ثم دفعها . فبقيت الزهراء عليها السّلام بين الباب والحائط فأسقطت المحسن عليه السّلام . ثم هوت إلى الأرض والنار تسعر وتسفع وجهها .
ويصف الإمام الصادق عليه السّلام فداحة هذه المصيبة وعظمة هذه المأساة والمحنة بقوله :
« ولا كيوم محنتنا بكربلاء وإن كان يوم السقيفة وإحراق النار على باب أمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة وزينب وأم كلثوم عليهم السّلام وفضة وقتل محسن عليه السّلام بالرفسة أعظم وأدهى وأمرّ لأنه أصل يوم العذاب » .
بعد إحراق بيت فاطمة عليها السّلام
لم تمض أيام على الزهراء عليها السّلام بعد إحراق بيتها ولم تلتئم بعد جروحها ولم تجبر آلامها النفسية وإذا بالمنافقين يبادرون إلى ارتكاب جريمة بشعة أخرى زادت في محنتها وأذيتها مرة أخرى .
فالزهراء عليها السّلام من جهة كانت تعيش مصاب فقدانها لأبيها ، ومن جهة كانت تبكي ليلها ونهارها مما لاقته بعد أبيها . ففي حين كان القوم قد ألهتهم الرئاسة وشغلتهم السلطة بنفسها ، ولكنهم مع ذلك لم يكتفوا بالغصص والهموم التي جرّعوها للزهراء عليها السّلام بل فكّروا ليدبروا مخططا آخر لإيذائها وإيذاء أهل البيت عليهم السّلام .
فجاء أبو بكر وعمر إلى أمير المؤمنين عليه السّلام وقالوا له : ما تقول في إرث رسول اللّه ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : نحن أحق بالناس برسول اللّه . فقال عمر : حتى فيما يخص أموال خيبر ؟ فقال : نعم حتى في أموال خيبر .
فسأله عمر : حتى أموال فدك ؟ فقال : حتى في أموال فدك . فقال عمر : إلا أن يقطع أعناقنا بالمناشير وهذا ما لا يكون . . . ! !
كانت فدك أرض عامرة وفيها عين فوارة ونخل كثير . وهي أرض فتحها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مع أمير المؤمنين عليه السّلام في العام السابع بعد الهجرة ولم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب . فأصبحت ملكا خالصا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله .
وبعد فتح فدك نزل قوله تعالى : « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » فدعى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الزهراء عليها السّلام وقال لها : « يا فاطمة ، هذه فدك وهي مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين ، فقد جعلتها لك لما أمرني اللّه تعالى به . فخذيها لك ولولدك . وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر وإن أباك قد جعلها له بذلك وأنحلتكها لك ولولدك بعدك » .
فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأديم ودعا علي بن أبي طالب عليه السّلام فقال : اكتب لفاطمة بفدك نحلة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . فشهد على ذلك علي عليه السّلام ومولى لرسول اللّه وأم أيمن .
ومن ذلك الحين أصبحت فدك ملكا للزهراء عليها السّلام وكانت هذه الأرض تدرّ عليها سنويا ما بين سبعين ألف إلى مائة وعشرين ألف دينارا ذهبيا . وكان وكيل الزهراء عليها السّلام وعاملها في فدك يوصل هذا المال إلى الزهراء عليها السّلام فتأخذ منه ما يسدّ حاجتها وتقسّم الباقي بين الفقراء .
غصب فدك
واستمر الوضع على هذا المنوال حتى توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فاستكثرت السلطة التي هيمنت على زمام الحكم هذا المقدار من المال بيد أهل البيت عليهم السّلام فقصدوا محاصرتهم وسلب ما في أيديهم فارتئوا الاستيلاء على هذه الأرض .
فأمر أبو بكر أياديه فذهبوا إلى فدك وأخرجوا عامل الزهراء عليها السّلام وغصبوا فدك . ثم خصصوا عائدها للسلطة الغاصبة ولم يبالوا بأمر اللّه وسنة نبيه ورفضوا السند الموثوق الذي كتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأشهد البعض على ذلك .
والإمام علي والزهراء عليهما السّلام كان دأبهم في الحقيقة عدم المبالاة بالدنيا وما فيها وكانا لا يقيمان لها وزنا ، وقد ورد أن أمير المؤمنين عليه السّلام قال للدنيا : « يا دنيا ، غرّي غيري ، فقد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها » .
وكانت الزهراء عليها السّلام في الوقت الذي تدرّ عليها فدك سنويا مائة وعشرين دينارا ذهبيا تأكل خبز الشعير وتلبس الثياب المرقعة وكانت تدفع تلك الأموال إلى الفقراء والمساكين .
محاولات أمير المؤمنين والزهراء عليهما السّلام لتبيين حق فدك
وأما سبب عدم سكوتها إزاء غصب فدك لأنّ هذه الأرض خرجت بعد غصبها من الزهراء عليها السّلام عن كونها فقط مسألة ملك أو مال ، وأصبحت المسألة أمرا عقائديا تمسّك به أمير المؤمنين والزهراء عليهما السّلام لتوعية الناس وإلفات نظرهم لجور الخلافة الظالمة ، فبينوا بها الحقائق للناس .
ولهذا لم يجد الظلمة قبال موقف أمير المؤمنين عليهما السّلام مخرجا للهروب وافتضح أمرهم فالتجئوا إلى كبت وتخميد الأصوات المعارضة . ولكن كتمانهم للحق لم يدم لأن الأجيال اللاحقة عرفت مظلومية الزهراء عليها السّلام ومظلومية أمير المؤمنين عليه السّلام .
وكانت محاولات أمير المؤمنين والزهراء عليهما السّلام لتبيين حقهم كما يلي :
1 . اعتراض أمير المؤمنين عليه السّلام على فعل أبي بكر وعمر .
2 . دفاع الزهراء عليها السّلام عن حقها في أمر فدك بايرادها خطبة طويلة أمام أبي بكر وحشد من الصحابة في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله .
3 . مناظرة أمير المؤمنين عليه السّلام لوحده مع أبي بكر وعمر لإتمام الحجة .
4 . احتجاج الزهراء عليها السّلام على أبي بكر فلم يحر جوابا فكتب لها كتابا اعترف فيه أن فدك لها طعمة بأمر اللّه ، ولكن حينما علم عمر بالكتاب أخذه ومزّقه .
5 . إبراز أمير المؤمنين عليه السّلام سند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حول فدك للقوم .
6 . مناظرة أمير المؤمنين عليه السّلام أمام جملة من الصحابة مع أبي بكر وعمر .
7 . احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على أبي بكر وعمر ، وبيّن الحقيقة للناس .
8 . ذهاب الزهراء عليها السّلام إلى بيوت المهاجرين والأنصار وطلبت العون منهم .
9 . كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام إلى أبي بكر حول غصبه فدك من الزهراء عليها السّلام وحذره من عاقبة الأمر .
محاولات غاصبي فدك
ومن هنا لما عرف الغاصبين أنّهم أمام عقبة خطيرة تهدّد مصالحهم حاولوا حد الإمكان إخفاء الحقائق والتجئوا إلى تلبيس الحق بالباطل على الناس وتبرير أعمالهم وكانت من جملة محاولاتهم كما يلي :
1 . استفسارهم حول أمر فدك من الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لمعرفة رأيه وما ينبغي من اتخاذ موقف قباله .
2 . الافتراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأنه قال : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » .
3 . استعانتهم بعائشة وحفصة لدعم ما ذهبوا إليه .
4 . رفض شهادة المعصوم عليه السّلام .
5 . تمزيق عمر للكتاب الذي اعترف فيه أبو بكر أن فدك للزهراء عليها السّلام .
6 . استخدام أسلوب الترهيب مع معارضيهم .
7 . التصميم على قتل أمير المؤمنين عليه السّلام لإنهاء هذه القضية .
8 . استخدام أسلوب الترغيب مع الناس لكسب الرأي العام ، فوزّعوا عليهم قسم من أموال بيت المال لتلهيتهم بذلك .
9 . الالتجاء إلى المكر والخداع ، فجاؤوا لعيادة الزهراء عليها السّلام ليغطّوا أفعالهم الشنيعة .
10 . مجيئهم إلى بيت أمير المؤمنين عليه السّلام بعد استشهاد الزهراء عليها السّلام ليتكفلوا تشييعها ويشاركوا في دفنها .
11 . أثاروا الضجة بعد ما دفن أمير المؤمنين عليه السّلام الزهراء عليها السّلام سرا فغضبوا لذلك .
ما قامت به الزهراء عليها السّلام في مسألة فدك
وكان أول ما قامت به الزهراء عليها السّلام بعد أن بلغها خبر غصب أبي بكر لفدك ، هو أن لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم . فضربوا بينها وبين القوم ستارا وحجابا .
فجلست الزهراء عليها السّلام ، ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء . فارتجّ المجلس ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأ فورتهم افتتحت الكلام بحمد اللّه والثناء عليه والصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فعاد القوم في بكائهم .
فلما أمسكوا عادت في كلامها ، فشهدت بوحدانية اللّه وبيّنت صفاته عز وجل وأفعاله ، ثم شهدت برسالة أبيها وذكرت أوصافه ومجّدت فضائله .
ثم التفتت إلى أهل المجلس من المهاجرين والأنصار وذكرت لهم أن القرآن هو عهد قدّمه اللّه إليهم ، ثم بيّنت لهم أسرار الأحكام الربانية ودعتهم إلى تقوى اللّه في أمره ونهيه ، ثم عرّفت نفسها وذكرت أبيها وأشارت إلى الجهد الذي بذله في سبيل إعلاء كلمة الحق وإلى إنقاذه صلّى اللّه عليه وآله إياهم من شفا حفرة من النار وتخليصه إياهم من أجواء الجاهلية .
ثم أشارت إلى حسيكة النفاق التي ظهرت بعد أن اختار اللّه لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، وذكرت أن الشيطان أطلع رأسه من مغزره وألفاهم لدعوته مستجيبين .
فحذّرتهم الزهراء عليها السّلام الفتنة ثم أشارت إلى فدك قائلا : إن القوم ابتغوا حكم الجاهلية حيث منعوها إرثها .
ثم قالت لأبي بكر : لقد جئت شيئا فريا . فاحتجّت عليه بالقرآن وحذّرته يوم القيامة .
ثم رمت بطرفها نحو قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فهمهمت ، ثم التفتت إلى الأنصار فحشمتهم وقالت : « ما هذه الغميزة في حقي والسنة عن ظلامتي » . ثم قالت : أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع . . . وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون .
فلما رأى أبو بكر أن الزهراء عليها السّلام إذا استمرت في خطبتها ينتهي الأمر إلى وقوع بلبلة في أوساط الناس شرع بالكلام ليردها . فذكر صفات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وشخصيته وصدّق كلام الزهراء عليها السّلام في ذلك . ثم اعتذر من أخذه فدك بحديث اصطنعه بنفسه ونسبه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بأنه قال : « نحن معاشر الأنبياء صلّى اللّه عليه وآله لا نورّث » ، فاعترضت عليه الزهراء عليها السّلام ودحضت مقولته باستشهادها بأقوال اللّه في القرآن وما قاله تعالى في إرث الأنبياء .
فلما لم يحر أبو بكر جوابا نسب ما قام به إلى المسلمين فقال : إنه أخذ ما أخذ باتفاق منهم وهم الذين دفعوه إلى ذلك .
فالتفت الزهراء عليها السّلام إلى الناس ووبّختهم لميلهم إلى الباطل . فأجهش القوم بالبكاء والنحيب ، وعلا صوت البكاء من بني عبد المطلب والمهاجرين والأنصار ، وارتجت أرض المدينة وعلت أصوات البكاء كيوم وفاة الرسول صلّى اللّه عليه وآله .
وبعد خطبة الزهراء عليها السّلام اضطرب أبو بكر وعمر ، فتشاورا معا ثم دعوا الناس بعد ذلك إلى المسجد واتخذوا أسلوب الترهيب وأمروا الناس بالتزام الصمت وعدم التدخل في شؤون الخليفة . ثم دعوهم ليأتوا بكرة لاستلام حصتهم من بيت المال !
فعادت الزهراء عليها السّلام إلى دارها ويحيطها الحزن والأسى ، وكان يتوقع أمير المؤمنين عليه السّلام رجوعها إليه . فلما عادت واستقرت بها الدار بثت همومها إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فواساها الإمام علي عليه السّلام ودعاها إلى الصبر وكظم الغيظ .
فلازمت الزهراء عليها السّلام فراش العلة بعد عودتها إلى الدار ، ولما اشتد مرضها اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار فسألوها عن صحتها ، فحمدت اللّه وأثنت عليه وصلّت على أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله . ثم تبيّنت أنها غير راضية عن رجال المهاجرين والأنصار ، وأنّهم قصروا في حقّها وتركوا أمير المؤمنين عليه السّلام حتى غصبت منه الخلافة ، ثم ذكرت أنّهم لو اتّبعوا أمير المؤمنين عليه السّلام لهداهم إلى الحق ، ولكنهم نقموا من أبي الحسن نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات اللّه عز وجل .
ثم أشارت إلى الخسران المبين الذي وقعت به الأمة وتأسفت على ذلك وقالت : إن ذلك سوف يؤدي إلى هرج شامل واستبداد من الظالمين .
فدك بعد غصبها من فاطمة عليها السّلام
بعد غصب فدك من الزهراء عليها السّلام وتكذيب القوم لعصمتها وعصمة أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السّلام وتكذيبهم شهادة أم أيمن التي شهد الرسول أنها امرأة من أهل الجنة وبعد هتكهم حرمتها أمام الملأ ، اشتد مرض الزهراء عليها السّلام فلازمت فراش العلة وأعلنت حرمة تصرف الغاصبين بفدك وأوعدتهم بأن ما يأكلون من ثمارها إنما هو نار يدخل في بطونهم .
وبعد غصب القوم لفدك وسخط الزهراء عليها السّلام عليهم لم يتهنأ بها أحد من الظالمين لأنها أصبحت ذريعة بيد موالي الزهراء عليها السّلام ومحبيها لإدانتهم .
ومع أن أبا بكر وعمر اشتركا في غصب فدك وانتزاعها من الزهراء عليها السّلام ، لكن لما تولى عمر الخلافة دفع فدك إلى ورثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ! فبقيت فدك عند آل محمد صلّى اللّه عليه وآله إلى أن تولى الخلافة عثمان ، فأقطعها مروان بن الحكم .
ولما ولى معاوية الخلافة أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك وعمرو بن عثمان ثلثها ويزيد ابنه ثلثها الآخر . فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت كلها لمروان أيام ملكه . ثم أورثها مروان ابنه عبد العزيز وصفت بعده لعمر بن عبد العزيز .
وهو لما تولى هذا الأمر اعترف في مجلس عام أنها ليست له ، فتخلى عنها وردّها إلى ولد فاطمة . ثم انتزعها من بعده يزيد بن عبد الملك من أولاد فاطمة فصارت في أيدي بني مروان حتى انقرضت دولتهم .
وفي فترة سلطة العباسيين ، لما قام أبو العباس السفاح بالأمر وتقلّد الخلافة ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السّلام . ثم قبضها أبو جعفر المنصور الدوانيقي في خلافته من بني الحسن . ثم ردّها المهدي بن المنصور على الفاطميين . ثم قبضها موسى بن المهدي من أيديهم . ولم تزل في أيدي العباسيين حتى تولى المأمون الخلافة فردّها على الفاطميين .
وكان في أرض فدك إحدى عشرة نخلة غرسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيده المباركة ، فكان أبناء الزهراء عليها السّلام - في الفترة التي كانت هذه الأرض بأيديهم - يحصدون ثمار هذه الأشجار ويقدّمونه إلى الحجاج في موسم الحج . وكان الحجاج أيضا يتبركون بهذه الأشجار ويعطون عليها أموالا وهدايا إلى أبناء الزهراء عليها السّلام .
فلما بويع المتوكل انتزع فدك من الفاطميين وأقطعها عبد اللّه بن عمر البازيار ، فوجّه البازيار رجلا من أهل البصرة وأمره بقطع هذه الأشجار التي غرسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيده الكريمة ، فنفذ هذا الرجل الأمر وصرم تلك النخيل ثم عاد إلى البصرة ففلج .
عيادتهما لفاطمة عليها السّلام
انهالت المصائب بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على الزهراء عليها السّلام واحدة تلو الأخرى فأنكتها وأعيتها بحيث لازمت فراش العلة بعد ذلك ، وبدأت تشتد علتها يوما بعد يوم .
ولم تأذن الزهراء عليها السّلام بعيادة أبي بكر وعمر لها بعد مقاطعتها لهم ، فاضطر أبو بكر وعمر تحت ضغط الرأي العام أن يعودا الزهراء عليها السّلام ، فطلبا من أمير المؤمنين عليه السّلام أن يستأذن لهما بعيادتها فلم تأذن لهما . فجاءا في إحدى الأيام على باب الدار وطلبا من علي عليه السّلام الإذن ليسمح لهما لعيادة الزهراء عليها السّلام .
فجاء أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الزهراء عليها السّلام وقال : يا بنت رسول اللّه ، قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت وقد ترددا مرارا ورددتهما ولم تأذني لهما وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك . فقال فاطمة عليها السّلام : « البيت بيتك والحرة زوجتك والنساء تبع للرجال . لا أخالف عليك بشيء فأذن لمن أحببت » .
فقال عليه السّلام لها : « شدّي قناعك » ، فشدّت قناعها وحوّلت وجهها إلى الحائط . فدخل أبو بكر وعمر حجرتها فسلّما عليها ، فلم ترد عليهما وحوّلت وجهها عنهما ، فتحوّلا واستقبلا وجهها حتى فعلت مرارا ، ثم قالت : يا علي ، جاف الثوب . وقالت لنسوة حولها : حوّلن وجهي . ويبدو أن دخول هذين الرجلين قد أرهقها بحيث اشتد بها الضعف ولم تستطع أن تحوّل وجهها ، فطلبت من النساء ذلك .
فقال لها أبو بكر : إنا جئنا معتذرين مبتغين مرضاتك ، فاغفري واصفحي عنا ولا تؤاخذينا بما كان منا .
فالتفتت عليها السّلام إلى علي عليه السّلام وقالت : « إني لا أكلّمهما من رأسي كلمة حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، فإن صدّقاني رأيت رأيي » .
ثم قالت : أنشدكما باللّه هل سمعتما النبي صلّى اللّه عليه وآله يقول : « فاطمة بضعة مني وأنا منها ، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللّه » .
قالا : اللهم نعم . فقالت : « الحمد للّه » . ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت : « اللهم اشهد أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي ، فأشكوهما إليك وإلى رسولك . لا واللّه لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما . واللّه لأدعونّ اللّه عليكما دبر كل صلاة أصليها » . فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور ، فقال له عمر : تجزع يا خليفة رسول اللّه من قول امرأة ؟ !
وصايا فاطمة عليها السّلام
لم تزل الزهراء عليها السّلام بعد وفاة أبيها صلّى اللّه عليه وآله مهمومة مغمومة محزونة مكروبة باكية حتى مرضت مرضا شديدا . فلما دنت منها المنية ونعيت لها نفسها وجّهت إلى علي عليه السّلام فأحضرته لتقدّم له وصاياها .
وكانت من جملة وصاياها أن يسمح لأسماء بنت عميس أن تشاركه في غسلها ، وأن يتخذ لها نعشا ويدفنها في الليل سرا إذا هدأت العيون ونامت الأبصار ، وأن لا يشهد جنازتها أحد من الذين ظلموها ، وأن يحنطها ببقية حنوط والدها وهو كافور جاء به جبرائيل من الجنة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حين حضرته الوفاة ، وأن يتزوّج بعدها بابنة أختها أمامة بنت أبي العاص ، وأوصته بمساعدة فقراء بني هاشم وبني عبد المطلب من أموالها .
وأوصت بموقوفاتها وحوائطها السبعة بالعواف والدلال والبرقة والميثب والحسنى والصافية وأموال أم إبراهيم إلى علي بن أبي طالب عليه السّلام فإلى الحسن عليه السّلام ، فإن مضى الحسن عليه السّلام فإلى الحسين عليه السّلام فإن مضى الحسين عليه السّلام فإلى الأكبر فالأكبر من ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله .
وأوصت لكل واحدة من زوجات النبي صلّى اللّه عليه وآله عدة أوقيات ولنساء بني هاشم مثل ذلك ، وأوصت بإعطاء بعض أشيائها لأمامة بنت أبي العاص وبعضها إلى بنت أبي ذر الغفاري ، وأشهدت على ذلك المقداد بن الأسود والزبير بن العوام ، فكتب الإمام علي عليه السّلام ذلك .
كما أنها أوصت إن حدث بأحد ممن أوصت له قبل أن يدفع إليه فإن ذلك ينفق في الفقراء والمساكين ، وأوصت عليا أن لا يصلي عليها أبو بكر وعمر ، وأوصته إن تزوج من بعده بامرأة فليجعل لها يوما وليلة ولأولادها يوما وليلة ؛ وقالت يا أبا الحسن :
لا تصح في وجوههم فيصبحا يتيمين غريبين .
ثم أوصته أن يبكي عليها وعلى شهيد الطف ؛ وأوصته إذا أنزلها في القبر وسوّى التراب عليها أن يجلس عند رأسها قبالة وجهها ويكثر من تلاوة القرآن ، والدعاء فإنها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء .
استشهاد فاطمة عليها السّلام
رأت الزهراء عليها السّلام في عالم الرؤيا أمرا ينبئها بدنوّ أجلها . فسرّها ذلك وهيّأت نفسها للإلحاق بأبيها . وكان أكثر ما يشغل بالها شأن أبنائها ، فصنعت لهم طعاما . ثم رغم ضعفها ونحولتها غسلت ملابسهم ونادتهم واحدا واحدا وغسلت رؤوسهم . ثم اغتسلت أحسن ما يكون ولبست ثيابا لها جددا .
فدخل أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الدار ، فلما رأى ذلك سألها : لما ذا اشتغلت بهذه الأمور مع ضعفك ومرضك ؟ قالت : إنه كان آخر يوم من حياتي فأحببت أن أغسل رؤوس أولادي وثيابهم ، فإنهم غدا يصبحون يتامى . ثم قامت فاطمة عليها السّلام على أجمل هيئة إلى فراشها فاضطجعت وقلبها متلهف للقاء أبيها .
فلما عاد أمير المؤمنين عليه السّلام إلى البيت استقبله بعض النسوة باكيات حزينات ! فقال لهن : ما الخبر وما لي أراكن متغيرات الوجوه ؟ فقلن : يا أمير المؤمنين ، أدرك ابنة عمك الزهراء وما نظنك تدركها !
فأقبل أمير المؤمنين عليه السّلام مسرعا حتى دخل عليها ، وإذا بها ملقاة على فراشها - وهو من قباطي مصر - وهي تقبض يمينا وتمدّ شمالا . فأخذ رأسها وتركه في حجره وناداها :
« يا زهراء » ! فلم يسمع منها جوابا . فناداها : « يا بنت محمد المصطفى » ، فلم يسمع منها جوابا . فناداها : « يا بنت من حمل الزكاة في طرف ردائه وبذلها على الفقراء » ، فلم يسمع جوابا . فقال : « يا بنت من صلى بالملائكة في السماء مثنى مثنى » فلم يسمع جوابا . فقال :
« يا فاطمة ، كلميني فأنا ابن عمك علي بن أبي طالب » . ففتحت الزهراء عليها السّلام عينها في وجهه ، ثم أجهشت بالبكاء فلم يتمالك أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه فبكى معها .
ثم قال لها : ما الذي تجدينه ؟ فقال : يا أبا الحسن ، رقدت الساعة فرأيت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في قصر من الدر الأبيض . فلما رآني قال : « هلمّي إليّ يا بنية فإني إليك مشتاق » . فقلت : واللّه إنّي لأشد شوقا منك إلى لقائك . فقال صلّى اللّه عليه وآله : « أنت عندي هذه الليلة » ، وهو الصادق لما وعد والموفي لما عاهد .
ثم قالت : يا ابن العم وأنا أوصيك بأشياء في قلبي . فقال لها علي عليه السّلام : أوصني بما أحببت يا بنت رسول اللّه . فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت . فقالت :
يا ابن العم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني .
فقال : معاذ اللّه ، أنت أعلم باللّه وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفا من اللّه أن أوبخك بمخالفتي . وقد عزّ عليّ مفارقتك وتفقدك إلا أنه أمر لا بد منه . واللّه جدّدت عليّ مصيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فإنا للّه وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها . فهي واللّه مصيبة لا عزاء لها ورزية لا خلف لها .
فقالت له : أنا أستودعك اللّه تعالى وأوصيك في ولدي خيرا . وإذا دنت مني المنية فابعث زينب وأم كلثوم إلى بيوت الهاشميين لئلا يرين وفاة أمهما .
ثم بعد ذلك بمدة تدهورت صحة الزهراء عليها السّلام فاضطجعت على يمينها مستقبلة القبلة ووضعت يدها اليمنى تحت خدها وكان حولها مجموعة من النساء فاعترتها حالة الاحتضار ، ففتحت عينيها وقالت : « السلام على جبرائيل ، السلام على رسول اللّه ، اللهم مع رسولك ، اللهم في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام » .
ثم قالت : « أترين ما أرى ؟ فقلن لها : ما ترين ؟ قالت : هذه مواكب أهل السماء وهذا جبرائيل وهذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول : « يا بنية ، أقدمي فما أمامك خير لك » !
ثم قالت : « وعليك السلام يا قابض الأرواح ، عجّل بي ولا تعذبني ، إليك ربي لا إلى النار » .
وحينما دنت منها المنية كان أمير المؤمنين عليه السّلام خارج الدار ، وكان الحسنان قد ذهبا مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليتضرعا إلى بارئهما في شفاء أمها ، ولم يكن في البيت سوى أسماء وفضة .
فقالت فاطمة عليها السّلام لأسماء : إذا أنا متّ يضرب في زاوية البيت خيمة من سندس فيه هودج ، فاجعليني فيه .
ثم قالت لأسماء : انتظريني هنيئة وادعيني ، فإن أجبتك وإلا فاعلمي أني قد مت على أبي .
فانتظرتها أسماء هنيئة ثم نادتها عدة مرات فلم تجبها ، فدخلت إلى الحجرة وكشفت الثوب عن وجه الزهراء عليها السّلام فإذا بها قد فارقت روحها الحياة .
فشقّت أسماء جيبها ، وألقت بنفسها عليها وجعلت تقبّلها وتقول : يا فاطمة ، إذا قدمت على أبيك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فاقرأه عن أسماء بنت عميس السلام .
فبينا هي كذلك إذ دخل الحسن والحسين عليهما السّلام فرأيا أمهما ممدّدة ، فقالا لأسماء :
يا أسماء ، ما تنام أمنا في هذه الساعة ؟ قالت : يا ابني رسول اللّه ، ليست أمكما نائمة ، ولقد فارقت الحياة . فوقع الحسن على جثمان أمه وقال : يا أماه ، كلميني قبل أن تفارق روحي بدني . وأقبل الحسين عليه السّلام يقبّل رجل أمه ويقول : أنا ابنك الحسين ، كلّميني قبل أن يتصدع قلبي فأموت .
فقالت لهما أسماء : يا ابني رسول اللّه ، انطلقا إلى أبيكما علي عليه السّلام فأخبراه بموت أمكما . فخرجا يبكيان بنبرات تخنقها العبرات حتى إذا كانا قرب المسجد ذكرا محبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليهما وعلى أمهما فارتفعت أصواتهما بالبكاء . فرآهما بعض الصحابة وسألاهما عن سبب بكائهما ، فقالا : « قد ماتت أمنا فاطمة » ! فلما سمع أمير المؤمنين عليه السّلام ذلك ، وقع على وجهه مغشيا عليه . فلما أفاق قال : « بمن العزاء يا بنت محمد ؟ كنت بك أتعزى ، فبمن العزاء بعدك ؟ اللهم إني راض عن ابنة نبيك . اللهم إنها قد أوحشت فآنسها وهجرت فصلها وظلمت فاحكم لها يا أحكم الحاكمين » .
موقف أهل المدينة من استشهاد فاطمة عليها السّلام
لما انتشر خبر شهادة الزهراء عليها السّلام ضجّ أهل المدينة رجالا ونساء بالبكاء والعويل كيوم وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وصاح أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء المدينة في دارها . فلما رأين أمير المؤمنين عليه السّلام وأبناءه حول جثمان الزهراء عليها السّلام بتلك الحالة التي تبعث الحزن والأسى ، صرخن صرخة واحدة كادت المدينة تتزعزع لها ، ونادين :
يا سيدتاه ، يا بنت رسول اللّه !
وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي عليه السّلام وهو جالس والحسن والحسين عليهما السّلام بين يديه يبكيان ، فبكى الناس لبكائهم .
وجاءت عائشة لتدخل ، فقالت لها أسماء : لا تدخلي . فشكت إلى أبي بكر وقالت : إن هذه الخثعمية ( أي أسماء ) تحول بيننا وبين بنت رسول اللّه ، وقد جعلت لها مثل هودج العروس .
فجاء أبو بكر فوقف على الباب فقال : يا أسماء ، ما حملك على أن منعت أزواج النبي يدخلن على بنت رسول اللّه وجعلت لها مثل هودج العروس ؟
فقالت : هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد ، وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية ، فأمرتني أن أصنع ذلك لها .
وفي الحقيقة كان السبب في أمر الزهراء عليها السّلام أن لا تدخل عليها عائشة أو كل من ظلمها لأجل تخليد مظلوميتها وكان قصدها أن لا تدع مجالا للمنافقين ليستعملوا المكر والخدعة ويقللوا في أعين الناس ما ارتكبوه من ظلم وجور في حق الزهراء عليها السّلام .
فاجتمع الذين خذلوا الزهراء عليها السّلام فيما سبق حول دارها وجعلوا يضجون وينتظرون خروج جنازة بنت المصطفى عليها السّلام ليقوموا عليها ويصلوا ! !
وعلى العادة لم يفت أبو بكر وعمر هذا الأمر بل جاءا أول الناس ليغطّوا على ظلمهم الذي ارتكبوه بحقّ الزهراء عليها السّلام .
فأقبلا يعزيان عليا وقالا : يا أبا الحسن ، لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول اللّه . ولكن الزهراء والإمام علي عليهما السّلام بعصمتهما لم تخف عليهم مثل هذه الحيل ، ولهذا لم تكن وصية الزهراء عليها السّلام اعتباطا إذ أوصت بعلها أن يشيعها ويدفنها سرا وأن لا يسمح لهؤلاء أن يصلّوا عليها . فالزهراء عليها السّلام بوصيتها هذه أبطلت جميع مخططات المنافقين والغاصبين .
وعملا بهذه الوصية أرسل أمير المؤمنين عليه السّلام أبا ذر ليفرّق الناس . فأقبل أبو ذر وقال لهم : « انصرفوا فإن ابنة رسول اللّه قد أخّر إخراجها هذه العشية » . فقام الناس وانصرفوا .
فلما جن الليل ومضى شطرا منه وهدأت الأصوات ونامت العيون قام أمير المؤمنين عليه السّلام لينفّذ وصية الزهراء عليها السّلام . فأشعل النار في جريدة النخل ثم بادر إلى غسل جثمان الزهراء الذي أنهكته المصائب والآلام . وكانت أسماء تناوله الماء وأمير المؤمنين عليه السّلام يصب الماء على جسدها وهي في قميصها فلم يكشف القميص عنها . وقد يكون السبب في ذلك أن أمير المؤمنين عليه السّلام أراد أن لا يقع عيون أبناء الزهراء عليها السّلام على أثر الضربات والصدمات الموجودة في جسم أمهم . وروي أن الزهراء عليها السّلام تطهّرت قبل أن تفارق روحها الحياة وأمرت أن لا يكشفها أحد . ولعل هذه من الأمور التي قد خصها الرسول صلّى اللّه عليه وآله بها .
وقد يكون غسل أمير المؤمنين عليه السّلام للزهراء عليها السّلام عملا بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذ لم يكن بوسع أحد غير أمير المؤمنين عليه السّلام غسلها لأنها كانت صديقة ولا يغسل الصديقة إلا الصديق كما لم يغسّل الصديقة مريم بنت عمران إلا ابنها الصديق عيسى عليه السّلام ، لأن المعصوم ينبغي أن يغسّله المعصوم وأن لا تصل إليه يد غير المعصوم ، ولهذا لم تباشر أسماء غسل الزهراء عليها السّلام بل كانت مهمتها فقط صب الماء .
فأفاض أمير المؤمنين عليه السّلام عليها من الماء ثلاثا أو خمسا وجعل في الأخيرة شيئا من الكافور الذي كان حصتها من الجنة .
فلما أكمل أمير المؤمنين عليه السّلام غسلها ، كفّنها في سبعة أثواب وقال : « اللهم إنها أمتك وابنة رسولك وصفيتك وخيرتك من خلقك . اللهم لقّنها حجتها وأعظم برهانها وأعل درجتها وأجمع بينها وبين أبيها محمد » .
يقول أمير المؤمنين عليه السّلام عن كيفية تجهيزها : واللّه لقد أخذت في أمرها وغسلتها في قميصها ولم أكشف عنها . فو اللّه لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة . ثم حنّطتها من فضلة حنوط رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها . فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت :
« يا أم كلثوم ، يا زينب ، يا فضة ، يا حسن ، يا حسين ، هلموا تزودوا من أمكم ، فهذا الفراق واللقاء في الجنة » .
وكان أبناء الزهراء عليها السّلام ينتظرون إذن أبيهم ليتزودوا من أمهم فلما أذن لهم بذلك أقبل الحسنان فألقيا بأنفسهما على جسدها . ويصف أمير المؤمنين عليه السّلام هذه الحالة قائلا : إني أشهد اللّه أنها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّا ، وإذا بهاتف من السماء ينادي : يا أبا الحسن ، ارفعهما عنها فلقد أبكيا واللّه ملائكة السماوات ، فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب .
ثم حان موعد الصلاة عليها ، فلم يصلّ عليها أحد ممن ظلمها بل صلى عليها أفضل من على وجه البرية ، ولم يكن على وجه الأرض سوى سبعة لهم هذا المقام وهم :
أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السّلام ، وسلمان وأبو ذر والمقداد وفضة ويليهم من بعدهم أيضا قلّة صالحة لها اتصال بولي اللّه الأعظم .
ثم جعلها أمير المؤمنين عليه السّلام في ملحودة قبرها ، ووارى عليها التراب . فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خديه وحوّل وجهه إلى قبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال : « السلام عليك يا رسول اللّه ، عني وعن ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك ، المختار اللّه لها سرعة اللحاق بك . قلّ يا رسول اللّه عن صفيتك صبري وضعف عن سيدة النساء تجلّدي . . . » .
ثم قال : لقد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة واختلست الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللّه ، أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهد . لا يبرج الحزن عن قلبي أو يختار اللّه لي دارك التي أنت فيها مقيم . كمد مقيّح وهمّ مهيّج ، سرعان ما فرّق اللّه بيننا وإلى اللّه أشكو .
وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك عليّ وعلى هضمها حقّها ، فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا .
وعن أمير المؤمنين عليه السّلام لما حمل جثمان الزهراء عليها السّلام وأدخله في القبر خرجت من القبر يدان وتلقّت جثمان الزهراء عليها السّلام وأعانت أمير المؤمنين عليه السّلام على دفنها ، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : يا أرض ، استودعك وديعتي ، هذه بنت رسول اللّه ، ثم وضعها في اللحد وقال : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ، بسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه محمد بن عبد اللّه .
سلّمتك أيتها الصديقة إلى من هو أولى بك مني ورضيت لك بما رضي اللّه لك » .
قبر فاطمة عليها السّلام
دفن أمير المؤمنين عليه السّلام الزهراء عليها السّلام سرا في جوف الليل وغيّب قبرها وسوّاه مع الأرض ليخفي موضعه ، وكان حذرا لئلا ينكشف قبرها ، فسوّى في البقيع قبورا مزورة حتى لا يعرف قبرها ، بل ليوهم الأمر على الناس أنه دفنها في البقيع ، لأن الظاهر أنه لم يكن بوسعه أن يدفنها في البقيع بحيث لا يتلفت إليه أحد . كما يضعف احتمال دفنها ما بين قبر النبي صلّى اللّه عليه وآله ومنبره لمبيت بعض الصحابة في المسجد .
فلهذا ولما روي عن الإمام الصادق والإمام الرضا عليهما السّلام وما ذهب إليه بعض العلماء كالشيخ الطوسي رحمه اللّه والعلامة المجلسي رحمه اللّه فإن الأقوى أنّها دفنت في دارها .
ولكننا مع ذلك تبعا لوصية الزهراء عليها السّلام بأن يعفى تراب قبرها ويبقى مجهولا ، نترك القرائن والاحتمالات لتحديد مكان قبرها الشريف ولا نحدّد مكانا لزيارتها ، ونسير على ضوء ما ذهب إليه معظم العلماء المتقدمين بأن قبرها مجهول بين الاحتمالات الثلاثة التي أشرنا إليها .
ولما أكمل الإمام علي عليه السّلام دفن الزهراء عليها السّلام نفض يده من تراب القبر وهاج به الحزن لفقد بضعة الرسول عليها السّلام ، فانصرف إلى ذكر اللّه فصلى ركعتين وأمضى تلك الليلة مع يتامى الزهراء عليها السّلام في البيت حتى الصباح .
فلما بزغ نور الشمس أقبل أهل المدينة إلى بيت علي عليه السّلام يتقدمهم أبو بكر وعمر يريدون الصلاة على فاطمة عليها السّلام والمشاركة في تشييعها وتدفينها .
فخرج إليهم المقداد وقال لهم : « قد دفنا فاطمة البارحة » . فالتفت عمر إلى أبي بكر وقال : ألم أقل لك أنهم سيفعلون . فقال العباس : إنها أوصت أن لا تصليا عليها .
فغضب عمر وقال : واللّه لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها ! ثمّ توجّه عمر إلى البقيع وتبعه الناس فوجدوا فيها مجموعة قبور جديدة ! ! فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور ، فضج الناس ولام بعضهم بعضا وقالوا : لم يخلف نبيكم فيكم إلا بنتا واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصلاة عليها ولا تعرفون قبرها ! ؟
فقال عمر : هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلي عليها ونزور قبرها .
فلما بلغ أمير المؤمنين عليه السّلام ذلك خرج مغضبا وقد احمرّت عيناه وعليه قباؤه الأصفر الذي كان يلبسه في كل كريهة وهو متكأ على سيفه ذي الفقار حتى ورد البقيع .
فتلقاه عمر ومن معه من أصحابه وقال له عمر : ما لك يا أبا الحسن ؟ واللّه لننبشنّ قبرها ولنصلينّ عليها ! فضرب علي عليه السّلام بيده إلى جوامع ثوبه فهزّه ثم ضرب به الأرض وقال له : يا ابن السوداء ، أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم ، وأما قبر فاطمة فوالذي نفس علي بيده لئن رمت وأصحابك شيئا من ذلك لأسقين الأرض من دمائكم فإن شئت فاعرض يا عمر .
فتقدم أبو بكر إلى الإمام علي عليه السّلام فقال : يا أبا الحسن بحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبحق من فوق العرش إلّا خليت عنه ، فإنا غير فاعلين شيئا تكرهه ! فخلا أمير المؤمنين عليه السّلام عن عمر وتفرق الناس ولم يعودوا إلى ذلك .
الإمام علي عليه السّلام بعد فاطمة عليها السّلام
بقيت حالة الحزن والأسى كامنة في قلب الإمام علي عليه السّلام بعد فقدانه للزهراء عليها السّلام وكان ذلك الحزن ينصب في صدر الإمام بين الحين والآخر ، فكان حينما لا يجد من يبث إليه ما يختلج في صدره يجلس عند حافة بئر ويلقي ما عنده من هموم وغموم فيه ، وتحمّل الإمام كل العناء الذي لاقاه وبقي في حد قوله : « صبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى » . وكان من جملة ما أنشد عليه السّلام في رثاء الزهراء عليها السّلام :
نفسي على زفراتها محبوسة * يا ليتها خرجت مع الزفرات
لا خير بعدك في الحياة وإنما * أبكي مخافة أن تطول حياتي
* * *
فراقك أعظم الأشياء عندي * وفقدك فاطم أدهى الثكول
سأبكي حسرة وأنوح شجوا * على خلّ مضى أسنى السبيل
ألا يا عين جودي واسعديني * فحزني دائم أبكي خليلي
* * *
حبيب ليس يعدله حبيب * وما لسواه في قلبي نصيب
حبيب غاب عن عيني وجسمي * وعن قلبي حبيبي لا يغيب
* * *
ما لي وقفت على القبور مسلما * قبر الحبيب فلم يردّ جوابي
أحبيب ما لك لا تردّ جوابيا * أنسيت بعدي خلة الأحباب
قال الحبيب : فكيف لي بجوابكم * وأنا رهين جنادل وتراب
فعليكم مني السلام تقطّعت * عني وعنكم خلة الأحباب
* * *
لكل اجتماع من خليلين فرقة * وكل الذي دون الفراق قليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد * دليل على أن لا يدوم خليل
* * * وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يذكر بين فترة وأخرى ما لاقته الزهراء عليها السّلام من ظلم وجور ، فيتنفّس الصعداء وتحيطه الحزن والأسى ، وفي إحدى الأيام ذكر رجل في محضره اسم قنفذ ، فقال عليه السّلام : « هو الذي ضرب فاطمة عليها السّلام بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم فماتت صلوات اللّه عليها وأثر السوط لفي عضدها مثل الدملج » ، وتارة كان يلتفت إلى أصحابه حينما يذكر الزهراء عليها السّلام ويقول : « أو تضرب الزهراء نهرا ويؤخذ منا قهرا وجبرا فلا نصير ولا مجير ولا مسعد ولا منجد » ؟ ! !
وفي إحدى المرات تمنى الموت وقال : « فليت بن أبي طالب مات قبل يومه ، فلا يرى الكفرة الفجرة قد ازدحموا على ظلم الطاهرة البرة » .
وكان بعض الأحيان يذكر اسوداد متنها عليها السّلام ويقول : « فقد عزّ على ابن أبي طالب أن يسوّد متن فاطمة ضربا » .
حياة الزهراء عليها السّلام الشخصية
تمتاز حياة أمير المؤمنين والزهراء عليهما السّلام الزوجية بصفات وسمات تجعلها حياة فريدة لا مثيل لها ، لأنّ تعامل الزهراء عليها السّلام مع الإمام علي عليه السّلام طيلة حياتهما المشتركة كان تعاملا رائعا وفذا من جميع النواحي .
فالزهراء عليها السّلام لم يكن قلبها متعلقا بزخارف الدنيا ليسبّب ذلك تكدير صفاء معيشتها مع أمير المؤمنين عليه السّلام ، بل كانت الزهراء في قمة الزهد بحيث دفعت قميص عرسها الجديد للسائل ليلة زفافها ولبست قميصا باليا ، فنالت بذلك مكانة سامية عند اللّه ، فأرسل لها سبحانه وتعالى ثيابا من الجنة .
وكانت الزهراء عليها السّلام تتولّى بنفسها كافة أعمال وشؤون البيت الشاقة والمرهقة بلا معين حينما كان أمير المؤمنين عليه السّلام يتولى ما يتصل بخارج الدار ، حتى أدميت يديها من كثرة استخدامها للطاحونة اليدوية ، واتّسخت ثيابها على أثر كثرة تنظيفها للدار .
ثم رزقها اللّه بعد أن أنجبت أبناؤها جارية تدعى باسم « فضة » وهنا أيضا أبت الزهراء عليها السّلام أن تحمّل فضة جميع أعمال البيت بل قسمت الأعمال بينها وبين فضة .
كما أنّ أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر أيضا أصبحت تعينها وتساعدها في شؤونها بعض الأحيان ، وكانت أسماء ملازمة للزهراء عليها السّلام عندما اشتدّت بها العلة التي توفيت فيها .
وكانت أم أيمن - هذه المرأة الصالحة - أيضا رغم شيخوختها تعود الزهراء عليها السّلام فكانا يجلسان معا ويؤنس أحدهما الآخر .
وكانت الزهراء عليها السّلام معتدلة في ملبسها ولا ترتدي الملابس الفاخرة ، بل مضت فترة تلبس رداء مرقعا بألياف التمر في اثنى عشر موضعا .
وأما طعامها عليها السّلام وطعام أبنائها فكان بسيطا في معظم الأحيان ، وكانت الزهراء عليها السّلام تطحن الدقيق وتخبزه بنفسها ، وكثيرا ما حدث أنّها بقيت مع أبنائها جياعا لا يذوقون الطعام مدة ثلاثة أيام أو يكتفى كل واحد منهم بكمية قليلة من الطعام .
ولكن مع ذلك كان الباري عز وجل يتلطف عليها وينزل لها بعض الأحيان طعاما من الجنة ليبيّن لها عظمته وليشكر سعيها ، فكانت الزهراء عليها السّلام تأخذ الطعام وتأتي به بعلها وأبنائها فيتناولونه معا .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
