كانت براهين احتجاجات النبيّ والائمّة على الكفّار والمخالفين فلسفيّة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص259-262
2025-08-28
283
إن البحث والدعوة بالحكمة معناه البحث على أساس من الحقائق والواقعيّات؛ والمجادلة بالتي هي أحسن تعني ترتيب القياسات المنطقيّة الصحيحة واستخدام البرهان الفلسفيّ، وطرح الاعتباريّات والمغالطات وطريقة الخطابة وما إلى ذلك. ولا جَرَم أن مذهب ومنهج الرسول صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وباقي الأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو مذهب برهانيّ عقليّ قويّ، وهو مضافاً إلى ذلك منهاج فلسفيّ عجيب وغريب. أن مَن يُلقي نظرة على تلكم الطريقة ويتعرّف على ذلك النهج يستنتج في الحال أن بحوثهم ومجادلتهم مع مناوئيهم وخصومهم كانت كلّها تستند على أساس المقدّمات الفلسفيّة؛ وكانوا يُفحمون المقابل باستخدام القوى العقلية والفكريّة، فكان الخصم يُغلَب لا محالة وهو كظيم.
وللإمام الصادق عليه السلام رئيس المذهب الجعفريّ ومؤسّسه، تلاميذ كان يقوم بتدريبهم وتربيتهم على المجادلة والمناقشة على أساس المنطق واستخدام الصحيح من الصغرى والكبرى عند العمل بالقياس في مقابل الكفّار والمعاندين والمادّيّين وحتى المخالفين من العامّة.
وهشام بن الحكم كان أحد العارفين بالمذاهب والفلسفة. لكنّا نراه منقاداً وخاضعاً في مقابل الإمام الصادق ومطيعاً له، وكان الإمام عليه السلام بالمقابل يقوم بتعزيز وتشييد اسسه وتقوية مقدرته بنفس البرهان المنطقيّ ذاك.
وكذا كانت مباحثات ومناقشات الإمام الرضا عليه السلام مع العلماء غير المسلمين، ومع المسلمين العاميي المسلك على السواء، كلّها تستند إلى البرهان والعقل؛ ولم يكن يقول لهم: أن قلبك يؤمن بوجود الله، فلا حاجة إلى البحث في ذلك معك! فلو قال لهم ذلك لأجابوه: أن قلبك يؤمن بما ينفعك أنت؛ أمّا نحن فلا ...! هل سمع أحدكم أو قرأ أن نبيّاً أو إماماً أحال المشركين أو علماءهم إلى العلم الوجدانيّ والشهوديّ قائلًا لهم: بما أنّني أعلَمُ أن الله موجود وأنّني نبيّه ورسوله، فعليك أنت كذلك أن تؤمن بذلك وتقبله...! هذا يسمّى تحكيماً؛ والتحكيم مردود ومرفوض في أيّ مذهب ومدرسة لاهوتيّة، بل حتى بين الشعوب المتوحّشة. في حين نرى أن أيّ أمر أو مسألة تكون مقبولة وصحيحة إذا كانت ناتجة عن البرهان والمنطق.
لقد كانت سلسلة الدروس التي كان يُلقيها الإمام الصادق عليه السلام خلال فترة ثلاثين سنة من نشرٍ للعلوم ودرس وتعليم وتربية في مدينة رسول الله في بستانه الخاصّ تستند كلّها إلى البراهين المنطقيّة والأدلّة العقليّة والمسلّمات ومسائل الحكمة التوحيديّة؛ ممّا حدا مثلًا بابن أبي العوجاء، وهو أحد المؤمنين بالمذهب المادّيّ والطبيعيّ، إلى القول: إنّي لا أملك إلّا أن أكون خاضعاً خاشعاً في دروس هذا الرجل، ولا أستطيع التكلّم ببنت شفة وأنا أستمعُ دروسه، وأراني عاجزاً عن التقدّم (في حُجّتي ومجادلتي) خطوة واحدة. فلو كان للإنسان وجود لانحصر في هذا الرجل؛ ولكان جميع مَن سواه في عداد الأنعام! وبالطبع فإنّ وجود مثل هذا المذهب لازم وضروريّ؛ والمطلوب من جميع علماء الإسلام التسلّح بهذا البرهان القويّ والمنطق الحقّ والحكمة الإلهيّة والفلسفة المتعالية وأن يبرعوا في استخدام كلّ ذلك، حتى يتسنّى لهم الإجابة على شبهات الملحدين والضالّين والمادّيّين والسفسطائيّين في عصرنا الحاضر، ويثبتوا في مقابل الفِرَق الأخرى ويصمدوا في وجوهها. لكنّ الأمر هنا يتعلّق بمسألة مهمّة، وهي: هل يكون هذا المذهب أو المنهج كافٍ ووافٍ أم لا؟! هل بإمكان الإنسان أن يُؤنس قلبه ويُبهج فؤاده بذكر الله وانسه والتعرّف على أسمائه وصفاته ويتلمّسها عن قُرب؟! هل تَعلّم الفلسفة وحدها يُطمئن القلوب ويُهدّئها؟! هل بإمكان العلوم العقليّة والتفكيريّة تَهدِئَة النفس ومنحها الخضوع والخشوع الوجدانيّينِ أمام الحقّ والحقّانيّات والواقعيّات وعالَم الخَلق وصرح الأصالة البهيّ، دون الاستعانة بالفيوضات القلبيّة الربّانيّة، أم لا؟! ولا شكّ في أن الإنسان ما كان ليؤدّي العبادة للّه لو لا كونه في مقام العبوديّة. إذاً، هل يكفي أن يكون الإنسان قد توصّل إلى إثبات وجود الله تعالى بالمذهب الفلسفيّ والبرهان، وإن كان فاسقاً فاجراً يُعاقر الخمر ويتعاطى القمار والميسر؟! لقد كان كثير من العلماء الإنجليز موحّدين، يعبدون الله تعالى؛ فداروين كان ممّن يعبدون الله ومن المؤمنين بالمسيح على نبيّنا وآله وعليه السلام؛ وفَلاماريون العالِم الفرنسيّ كذلك كان من أهل الكتاب، وممّن ألّف كتاباً أسماه «الله في الطبيعة»[1]، حيث يقوم بإثبات وجود الله على أساس خمسة أدلّة من الاصول المُسلّمة للعلوم المادّيّة؛ فهل يكون هذا النوع من النهج والاعتقاد وهذا النمط من الإثبات كافٍ أم لا؟! هل بإمكان المناهج المذكورة والطرق المُبيّنة أعلاه إظهار الله عبرَ المرحلة العينيّة أم لا؟! هل باستطاعتها إبداء الحقّ تعالى شأنه كما هو مطلوب منها أن تبديه، ثمّ بالتالي إيجاد علاقة بين الإنسان وحضرة جلاله، أم هي عاجزة عن ذلك كلّه؟! ومهما يكن من أمر، فإنّ المسألة هنا، كما قلنا، تتعلّق بالسؤال التالي: هل يكون هذا المذهب أو المنهج كافٍ ووافٍ أم لا؟!
[1] - اسمه بالفرنسيّة«Dieu dans la naure».
الاكثر قراءة في شبهات وردود
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة