الحملة على مصر
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج14 ص 108 ــ 112
2025-07-15
394
زحف برديكاس بجيشه على مصر في ربيع عام 321ق.م عن طريق سوريا إلى الحدود المصرية، وكان أسطوله بإمرة «أتالوس» يسير محاذيًا للجيش، غير أنه لم يكد يولي ظهره متجهًا نحو مصر حتى أتته الأخبار أن «كراتريوس» و«أنتيباتر» عبرا «الدردنيل» لمهاجمته، في حين أن «أنتيجونوس» ولي شطره نحو «سارديس» حيث أراد أن يأخذ «إيمنيس» على غِرَّة،(1) وكانت الطامة الكبرى عندما سمع برديكاس أن قائد البحر كليتوس قد انضم إلى أعدائه، ثم حذا حذوه شطاربة «ليديا» و«كاريا» و«مياندر» وأساندروس Asandros ، وأخيرًا وجد أن القائد «نيوبتوليم» Neoptoleme الذي كان عليه أن يساعد «إيمنيس» قد انضم إلى معسكر أنتيباتر وكراتيروس، وقد زاد الطين بلة أن جنود برديكاس الذين كان يقودهم أخذوا يقلقون باله بإظهار التمرد عليه، وآية ذلك أنه عندما وصل إلى الحدود المصرية أراد أن يجعل لهذه الحملة التي قام بها على بطليموس صبغة قانونية بأن يوافق الجيش عليها، ومن ثم دعا بطليموس ليظهر أمام المجلس العسكري الذي كان يصدر الحكم عليه، وأنه إذا تخلف عن الحضور فإنه سيعلن عصيانه وامتناعه عن الحضور أمام القضاء، وهذه الخطة التي رسمها برديكاس للقضاء على بطليموس كانت قد نجحت من قبل مع أنتيجونوس في الخريف الماضي، ولو كان بطليموس من البساطة وحضر المحاكمة للحكم عليه بأنه خارج على القانون بسبب أنه أخضع إغريق سيريني، واستولى على بلادهم، كما أنه استولى على جثمان الإسكندر اغتصابًا، غير أن بطليموس لم يكن ساذجًا فبدلًا من أن يرفض الحضور برَّأ نفسه بوساطة مفوضين عنه وقد أفلح في ذلك(4)، ولكن برديكاس لم يقنع بهذه البراءة ومضى في تنفيذ عزمه للقضاء على بطليموس بحد السيف محافظة على كبريائه.
ومما يؤسف له جد الأسف أن برديكاس قد أظهر في حربه التي شنها على بطليموس عدم كفاية، فلم يكن في مقدوره أن ينتخب مكانًا على الفرع البلوزي للنيل ليعبر منه النهر دون خوف أو وجل، حقًّا نجده قد حاول عبر النهر للمرة الأولى عند مكان كان يحميه بطليموس ويُدعَى «جدار الجمل»، وذلك أنه أخذ في كرْي قناة قديمة مهجورة لأجل أن يجري فيها ماء النهر الذي كان يقف حجر عثرة في طريقه، وبذلك عبر فرع النيل، ولكن هجومه على الحصن كلَّفه خلقًا كثيرًا دون فائدة، وكان من جراء انطلاق الماء بشدة في القناة التي أصلحها أن غرق معسكره، وعندئذ ظن برديكاس أن هناك مؤامرة دُبرت للقضاء على جنوده الذين بدئوا على إثر ذلك يفرون من ساحة القتال، ولذلك لم ير بدًّا من أن يسير في النهر بجيشه نحو «منف»، وقد قام بمحاولة جديدة لعبور النهر عند أسفل «بوبسطة» في مكان كانت توجد فيه جزيرة تقسم تيار النهر، مما كان يسهل عليه عبور النهر، ولكنه أخطأ الحساب؛ إذ قُضيَ على محاولته بالفشل الذريع، ففقد برديكاس هناك أكثر من ألفي مقاتل لاقوا حتفهم غرقًا دون حرب، أو التهمتهم الحيتان على رأي ديودور.
وقد كان من جراء هذه الكارثة أن هاج الجيش على قائده الأعلى الذي أظهر عدم الكفاية، فأعلن كبار الضباط في وجه برديكاس أنهم لن يطيعوا أوامره، في حين أن فريقًا منهم من بينهم القائد العظيم «سيدوكوس» الذي أصبح فيما بعدُ ملك سوريا، قد عاملوه بالطرق التي اعتاد الجيش اتباعها في محاكمة الضباط الخارجين، فحكموا عليه بالإعدام وحزوا رقبته (يوليو سنة 321ق.م) وفي اليوم التالي من إعدام «برديكاس» اجتمع رجال الجيش وظهر في وسطهم بطليموس محييًا ومسلمًا على المقدونيين بحب وسلام، ثم قدم بعد ذلك اعتذاره عن سلوكه في محاربة برديكاس، ولما كان الجيش تنقصه الأطعمة أمر بتوزيع القمح عليهم بكثرة كما أمد المعسكر بكل أنواع المؤن والذخيرة، ولقد كان مسلك بطليموس بهذه الصورة مدعاة لحب الجيش واحترامه(2)، وبعد ذلك عقد الجيش جلسة عرض فيها على بطليموس أن يحتل مكانة برديكاس غير أنه أبى، وكان ذلك عن بعد نظر لأنه رأى أن توليه هذا المنصب يثير غيرة رفاقه القدامى في الجيش، هذا فضلًا عن أن قبوله سيحرمه ملك مصر الذي يحرص عليه كل الحرص، كما كان يلقي به في معمعة المغامرات التي لا بد منها لكل من يتولى نيابة حكم الإمبراطورية التي خلفها الإسكندر، يضاف إلى ذلك أنه على الرغم من وجود فليب أريداوس والإسكندر الرابع على العرش سويًّا، وكان برديكاس يصحبهما معه في كل مكان ذهب إليه، فإنه كان لا يمكن المحافظة على الإمبراطورية بهذه الصورة.
وعلى أية حال كان بطليموس راضيًا بمصر نصيبًا له من هذه الإمبراطورية الضخمة، وقد رأى بطليموس الحكمة ألا يترك مكان نيابة الإمبراطورية خاليًا فنصَّب كل من «بيثون» و«أريدايوس» أحد المقربين من الإسكندر الأكبر وصيَّيْنِ على الإمبراطورية مؤقتًا، هذا ولم يمضِ أكثر من يومين على وفاة برديكاس حتى وصلت أخبار الأحداث التي كانت تجري في آسيا؛ فقد جاءت الأنباء بهزيمة كراتيروس على يد إيمنيس في كابودوشيا، وأنه مات في ساحة القتال (حوالي عام 321ق.م) وأن أنتيباتر عندما وصل إلى كليكيا وجد نفسه في مأزق حرج؛ إذ قُطعت بينه وبين مقدونيا المواصلات، هذا فضلًا عن أن الأسطول لم يسعفه بالنجدة بل طارد في بحر قبرص قائد برديكاس، وذلك بأمر من أنتيجونوس وكليتوس، والواقع أن هذه الأخبار المزعجة لو كانت قد وصلت قبل قيام برديكاس بالحرب على بطليموس لأصبحت كارثة للأخيرة وأعوانه، غير أن نصر بطليموس على أنتيباتر وإنتيمونوس يدعونهما لعقد اجتماع عام يكون مقره «تريباراديوس» (ربلة الحالية في سوريا)، وتدل شواهد الأحوال على أن بطليموس لم يذهب مع الوصيين أو الملكين إلى مكان الاجتماع حرصًا منه وبعد نظر؛ إذ الواقع أنه كان قد حدد أطماعه بالاكتفاء بملك مصر، فكان عليه أن يبقى فيها ولا يخرج منها.
ولا نزاع في أن اجتماع تريباراديوس الذي عُقد في خريف عام 321ق.م كانت تسوده البلبلة، وعلى أية حال انتهى بتنصيب أنتيباتر وصيًّا على الإمبراطورية، وقد أسفر التقسيم الذي عمل في تريباراديوس تثبيت بطليموس في ملك مصر بوصفها ضيعة كسبها بحد السيف (3). ومهما يكن من أمر فإنه لم يكن من المستطاع خلعه منها في هذه الأحوال بل على العكس أضيفت له بلاد «لوبيا» و«سيريني» التي كانت فعلًا في قبضة يده، وتوثيقًا لعُرى هذا الاتفاق زوَّج «أنتيباتر» ابنته «أيريديكي» من «بطليموس» ولا نزاع في أن بطليموس كان في مقدوره في هذا الموقف بعد انتصاره على برديكاس أن يصبح وصيًّا، غير أن هذا المنصب الذي كانت تحفه عوامل الحقد والغيرة لم يُغْرِهِ ولم يخدعه، ومن ثم أظهر مهارته السياسية وبعد نظره برفضه لهذا المنصب؛ إذ الواقع أنه كان لا يمكن مهاجمته في شطربيته إلا من رعاياه الجدد، وعلى أية حال فإن التقسيم الذي اتفق عليه في حلف تريباراديوس بالنسبة لمصر لم يكن إلا تأكيدًا للقرار الذي اتُّخذ سابقًا في «بابل» وفضلًا عن ذلك فإن مركز الإمبراطورية قد انتقل الآن من «آسيا» إلى «أوروبا» وهذا كان أقل خطرًا على استقلال مصر.
حقًّا كان من نصيب «سيلوكوس» جد الأسرة المناهضة لمصر «بابل» غير أنه لم يكن من المستطاع التنبؤ بالعظمة التي سينالها بيته في المستقبل، ومن جهة أخرى ظهرت مملكة أخرى بمقتضى حلف تريباراديوس كانت أعظم خطرًا من السابقة في بلاد الأناضول، وذلك أن أنتيجونوس الأعور قد حافظ هناك على حكوماته، واتخذ لنفسه لقب «الحاكم فوق العادة لآسيا» والقائد الأعلى لجنود الإمبراطورية، وعلى الرغم من أن أنتيباتر قد تقدم في السن فإنه كان مع ذلك نشطًا وطموحًا خاليًا من الشكوك، وعلى استعداد لأن يتتبع خُطَا برديكاس، هذا وكان يلوح له وجود خطر يمكن أن يهدد بطليموس نفسه في المستقبل ويجعله يندم على عدم اهتمامه بصورةٍ جِدِّية بإمبراطورية الإسكندر، كما أنه أدرك إهماله في اجتماع تريباراديوس في عدم طلبه صراحة ضم بلاد سوريا التي عزم في قرارة نفسه على أن يضمها إلى مصر لما كان لها من أهمية بالغة لحفظ كيان بلاده كما دلت الأحداث التاريخية في كل عصور حياة مصر كما فصلنا القول في ذلك.
...................................................
1- راجع: Bouché-Leclercq, I, P. 23.
2- راجع: Diod. XVI, 36.
3- راجع: Diod. XVIII, 39, 43.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في العالم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة