عصر (بركليز)
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج12 ص 532 ــ 534
2025-05-16
282
والواقع أن «أثينا» بعد السيطرة على أعضاء هذا الحلف بلغت أوج رفعتها، ولكن لم تلبث أن بدأت المتاعب تنتابها من أعضاء هذا الحلف، إذ ثار عليها عدد من هذه الدويلات التي كانت خاضعة لسلطانها، وقد تجاسر جيش أسبرتي على مهاجمة «أتيكا»، وأخذ يقتل ويحرق ويخرب البلاد. وقد كان من حسن الحظ أنه كان على رأس «أثينا» وقتئذ قائد حكيم مثل «بركليز»، فقد رأى بفكره الثاقب أنه على الرغم مما كانت تتمتع به «أثينا» من قوة، فإنه لن يكون في استطاعتها أن تخمد الثورات في البلاد الخارجة عليها، وفي الوقت نفسه نحارب «أسبرتا»، فعقد أولًا صلحًا مع «أسبرتا» لمدة ثلاثين سنة وأطلق عليه صلح «بركليز».
وكان «بركليز» هذا رجلًا يمتاز بالجد وضبط النفس وسمو العقل كما كان حاضر الذهن، أرستقراطي النزعة، ديمقراطي الميول، وخطيبًا مصقعًا لا يجري وراء الشهرة الشعبية بل كان يبتعد عنها بطريقة تدل على العزة والاحتشام حتى إن الناس أطلقوا عليه «الألمبي»، وقد بقي ثلاثين عامًا ممسكًا بزمام الأمور في «أثينا» بعزم وأصالة رأي، وقد بدأ أولًا محاولة إغراء الحكومات الصغيرة الإغريقية في بلاد اليونان نفسها في أن تنضم إلى «أثينا»؛ لتكوين اتحاد مؤلف من مدن حرة، وكذلك عمل على إعادة إصلاح المعابد التي خربها الفرس خلال حروبهم؛ لتكون دليلًا على إظهار شكر الأثينيين على ما وهبوهم من نصر على عدوهم الجبار، وعندما رفضت حكومات البلوبونيز هذا العرض حول «بركليز» أفكاره ومجهوداته إلى إعادة بناء معابد «أثينا». وقد استعمل جزءًا من أموال حلف «ديلوس» في النفقات اللازمة لذلك، وعندما عارض نفر من الأثينيين في ذلك أجاب «بركليز» بأنه إذا كانت الجزر والمدن قد أصبحت في مأمن من الفرس، فإن «أثينا» بوصفها رئيسة الحلف هي التي عملت كل ما يلزم للوصول إلى هذا الأمن. ومن المحتمل أن يوافق الإنسان مع المعارضين، ولكن «بركليز» كانت له طريقته، وشرع في جعل «أثينا» أجمل مدن بلاد الإغريق قاطبة، ففي مدى عشرين سنة تقريبًا كان تل «اكروبوليس» الصخري المنحدر قد توج بالمعابد الجميلة والتماثيل البديعة، ولا بد أن منظرها وقتئذ كان غاية في البهجة في سماء وهواء «أثينا» الصافي وجبالها وبحرها، وبخاصة أن هذه المباني كانت مقامة من المرمر، ولونت بعض أجزائها بالألوان الزاهية. وكان منحدر «اكربوليس» الغربي يؤدي في أعلاه إلى المبنى المسمى «بروبيلا»، وهو بناء جميل مؤلف من عدة عمد له طريق ينفذ الإنسان منها إلى قمة التل، وعن يمينه أقيم على ركن صخري فيما بعد معبد النصر الصغير، وهو مقدس للإلهة «أثينا» ويطل على جزيرة «سلامس».
وكان يشمخ على قمة التل التمثال البرنزي العظيم للإلهة «بلاس أثينا»، وكان شاهقًا في ارتفاعه حتى إن البحارة الذين كانوا يلفون حول أقصى نقطة جنوبية في «أتيكا» كان في استطاعتهم رؤيته. وخلفه أقيم مبنى من أهم مباني العالم. وهذا هو «برثنون» Parthenon (1) معبد «أثينا» الإلهة العذراء، وكان مقامًا من الرخام الأبيض السمني اللون وزينه الحفار الشهير «فدياس»، وكان يرى من بابه المفتوح من نهايته الشرقية قاعة ذات عمد نصب فيها كذلك تمثال آخر للإلهة نحته «فدياس» أيضًا. وكان مغطى بالعاج وسجف بالذهب ويرتدي خوذة، وزردية وترسا. وهذا التمثال في جماله السامي كان يُعد عند الأثينيين صورة مجسمة لآلهتهم واقفة على استعداد لحماية مدينتها.
ولم تكن المعابد الإغريقية تحتوي على منافذ، ولكن كان الضوء يدخل إليها من الباب الشرقي العظيم — ومن المحتمل كذلك من أحجار المرمر الشفيفة التي يتألف منها السقف — فينتشر على الذهب الوهاج والعاج الذي كان يغطي التمثال. وخلف قاعة الآلهة كانت توجد حجرة صغيرة استعملت خزانة للإلهة «أثينا»، وهي عند الإغريق إلهة الحكمة والنظام الشخصي؛ ولذلك فإن «فدياس» عندما أراد أن يعبر عن ذلك حفر على ترسها، وعلى أماكن في ظاهر المعبد مناظر تظهر انتصارات الإغريق على الأمازون المتوحشة و«سنتور»، ومناظر إلهة منتصرة على شياطين جامحة فخورة، كل ذلك كان المقصود منه التعبير عن روح الإلهة «أثينا» ومدينتها. وقد حفرت مناظر أخرى على جدران «برثنون» الخارجية؛ لتقص علينا قصة هذه الآلهة. ففي مكان مرتفع فوق العمد كان يوجد في كل طرف مساحة مثلثة تسمى «قوصرة» (واجهة) تحتوي على مجموعة تماثيل، ويفسر لنا واحد منها كيف أن أنباء ولادتها قد انتشرت في الخارج، وتشاهد الإلهة «إريس» إلهة قوس قزح، وهي تنشر ألوانها لتحمل الأنباء السارة، والقوصرات (الواجهات) الأخرى فسرت لنا كيف أن الإلهة «أثينا» قد انتصرت على مناهضها الإله «بوزيدون»، وأصبحت الإلهة الحامية لمدينة «أثينا»، وقد كسبت بذلك لمدينتها الينبوع الملح الذي كان رمزًا لسيادتها في البحر، وكانت قد استولت على الزيتون الذي منحها زيته السيادة على التجارة. وكان يوجد أفريز في داخل الصف الخارجي من عمد المعبد منقوش، وهو يمثل الموكب العظيم الذي أقيم على شرف الإلهة «أثينا». ويخيل للناظر إليه أن صور الرجال والشبان والعذارى وحيوانات الضحية والخيل يسيرون إلى الأمام بين العمد كلما تقدم الإنسان في طريقه خارج المعبد. والواقع أن كل المعبد كان يمثل الخدمة التي قدمها الأثينيون للإلهة اعترافًا بعظمتها وهداياها وقوتها الحامية لهم.
...............................................
1- كلمة «برثنوس» Parthenos بالإغريقية معناها العذراء
الاكثر قراءة في العصور القديمة في العالم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة