الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
الحسد في آيات القرآن
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة: ج2/ ص71-79
2024-12-10
282
تنويه :
إن أحد الرذائل الأخلاقية الاخرى الّتي اقترنت مع نتائج سلبية كبيرة في حياة الفرد والمجتمع هي صفة (الحسد) ويعني كما ذكر علماء الأخلاق (الحزن على رؤية النعمة لدى الآخرين وتمني زوالها بل السعي في طريق رفعها عن الطرف الآخر).
إن الحسد يملأ أجواء الروح الإنسانية بالظلمة ويشوّه معالم النفس ويثير في المجتمع البشري عدم الأمن والقلق والتوتر الناشيء من حالات الصراع النفسي بسبب دوافع الحسد.
إنّ الحسود ليس له راحة في الدنيا ولا يتنعم في الآخرة ، وبما أنّ سعيه في حركة الحياة هو إزالة آثار النعمة عن الطرف المحسود فسوف يتلوث بأنواع الجرائم النفسية والعملية ومن بين ذلك : الكذب ، الغيبة ، ارتكاب أنواع الظلم والعدوان بل قد يؤدي به الأمر في حالات الحسد الشديدة إلى القتل وسفك الدماء أيضاً.
وفي الحقيقة يمكن القول إن الحسد هو أحد الجذور الأصلية لجميع أنواع الفساد والسيّئات ومن أشنع فخاخ الشيطان وأخطر شراكه وهو المصيدة الّتي وقع فيها الإنسان الأوّل المتمثل بابن آدم (قابيل) حيث تلوثت يده بدم أخيه (هابيل) بدافع من الحسد ، ولهذا السبب نجد في الروايات الإسلامية والمفاهيم الدينية أنّ الحسد يُعد أحد الاصول الثلاثة للكفر أي (التكبر ، الحرص ، الحسد).
إنّ الشخص الحسود في الواقع يعترض على حكمة الله تعالى ، ولهذا السبب فالحسد نوع من الكفر والشرك الخفي.
والنقطة المقابلة للحسد هو (حب الخير) للآخرين ، أي أن يحب الإنسان أن يرى نعمة الله تصيب الآخرين من أفراد المجتمع ويلتذ بذلك ويسعى لحفظها ويرى أنّ سعادته مقرونة بسعادة الآخرين ومصالحه في خط واحد مع مصالح الآخرين ومنافعهم.
وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنقرأ في أجوائها معطيات هذه المسألة :
1 ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)([1]).
2 ـ (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ* قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ). ([2])
3 ـ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)([3]).
4 ـ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)([4]).
5 ـ (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)([5])
6 ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)([6])
7 ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)([7]).
تفسير واستنتاج :
نار الحسد المحرقة
«الطائفة الاولى» من الآيات محل البحث تتحدّث عن قصة ابني آدم وأنّ أحدهما قد ملكه الحسد على الآخر بحيث أدّى به إلى أن يقتل أخاه ، وبذلك وقعت أوّل جريمة قتل على الأرض وكانت في الحقيقة بداية للجرائم البشرية الاخرى.
تقول الآية الكريمة (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)([8]).
أي انني لم أقصد أن اسيء إليك لتصمّم على قتلي فإنّ مشكلتك هي من باطنك لأنّ عملك غير خالص ولم يقترب بالتقوى ، ولذلك لم يتقبل الله منك لأن الله تعالى لا يتقبل إلّا ما كان طاهراً نقياً.
ثمّ تقول الآية (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)([9]).
ثمّ إن قابيل وبسبب نار الحقد والحسد المتأججة في قلبه صمّم على قتل أخيه هابيل وتمزيق أواصر الاخوّة بينهما بحيث إنّ الحقد والحسد حجبا عن عينه كلّ القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية وارتكب تلك الجناية الشنيعة كما تقول الآية (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ)([10]).
أجل لقد أصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة ، فقد خسر اخوه وخسر نعمة الأمن والاستقرار النفسي والهدوء الروحي ، لأن القاتل لو بقيت له ذرة من الوجدان فسوف يعيش عذاب الوجدان باستمرار ولا يجد طعم الهدوء والراحة في الدنيا ، وكذلك حاله في الآخرة حيث يستقر في جهنم وبئس المصير.
وقد ورد في الروايات انه قتل أخاه وهو نائم ([11]) ، وتُعد هذه جناية مضاعفة تدلّ على أنّ الحسد إذا ما استعر في قلب الإنسان فسوف يحول كلّ نعيم إلى رماد تذروه الرياح.
ولكنّ قابيل ندم بسرعة على فعلته الشنيعة وملكهُ الحزن العميق ، وكلّما نظر إلى جسد أخيه الدامي سرت في نفسه قشعريرة وتملكه الخوف والقلق ، فما كان منه إلّا أن حمل جسد أخيه ولم يعلم ما يصنع به واين يذهب به بحيث يغطي على آثار جنايته؟ مضافاً إلى أنّ هذا المنظر الموحش يقلقه ويزعجه فلم يكن يدري ما يصنع في هذه اللحظة ، وعلى رغم جنايته العظيمة وذنبه الكبير فإنّ لطف الله قد شمله كما تقول الآية (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ)([12]).
وقد جاء في بعض الروايات أنّ قابيل رأى أمام عينه غرابين يتقاتلان فقتل أحدهما الآخر ثمّ حفر له حفرة في الأرض ودفن فيها جسد الغراب المقتول.
وقال بعض إن غراباً جاء بجسد غراب ميت ودفنه ، وقيل أيضاً أنّ قابيل رأى غراباً يدفن بعض المواد الغذائية ليحفظها كما هو ديدن الغربان فتعلم من ذلك دفن الموتى ([13]).
وعلى أيّة حال فقد ندم قابيل بشدة ولكن ندمه لم يكن مستقراً ومن موقع التوبة والانابة إلى الله تعالى حتّى يكون من شأنه تطهيره من الذنوب.
وهنا يطرح سؤالان ، الأوّل : ما المقصود من «القربان» في قوله تعالى «إذ قرّبا قرباناً»؟ والآخر : هو انه من اين عَلِما أنّ الله تعالى تقبل قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل؟
ولم يرد في القرآن الكريم ما يشير إلى جواب عن هذين السؤالين ، واما الروايات فهي مختلفة على مستوى السند أو المتن والدلالة ، ولكن ما يتطابق مع المنطق والعقل ويتلائم مع القرائن الموجودة هو ما ورد في الرواية عن سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) جعلت فداك إن الناس يزعمون أنّ آدم زوج ابنته من ابنه؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : «قد قال الناس في ذلك ولكن يا سليمان أما علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : لو علمت أنّ آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم ، وما كنت لارغب عن دين آدم. فقلت جعلت فداك إنهم يزعمون أنّ قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على اختهما ، فقال له : يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أنّ تروي هذا على نبي الله آدم؟ فقلت : جعلت فداك فبم قتل قابيل هابيل؟ فقال : في الوصية ثم قال لي : يا سليمان أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل ، وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل ، فغضب فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية. فأمرهما أن يقربا قرباناً بوحي من الله إليه ، ففعلا فقبل الله قربان هابيل فحسده قابيل فقتله» ([14]).
وعلى أيّة حال فإنّ قابيل وجد نفسه في مفترق طريقين لإنهاء حالة القلق والاضطراب الّتي يعيش فيها : أحدهما التوبة إلى الله تعالى والسعي لجبران ما صدر منه من الاثم بالعمل الصالح والخالص والتحرك في خط التقوى والاستقامة والانفتاح على الله (وهو العمل الّذي يسمّيه علماء الأخلاق ب «الغبطة» وهي حالة ممدوحة وبناءة) ولكن قابيل اختار الطريق الآخر ، أي السعي لإزالة النعمة من أخيه ، وبذلك أوقع نفسه في أسوء طريق وانتخب أشنع وسيلة بذلك وتلوثت يده بدم أخيه البريء ليطفىء نار الحسد في قلبه.
إذا تسبب «تكبر» إبليس لأن يقع طريد رحمة الله إلى الأبد ، وتسبب «الحرص» في أن يحرم آدم من الجنّة ، فإنّ «الحسد» قد جعل قابيل ملعوناً ومطروداً من رحمة الله إلى الأبد بسبب قتله لأخيه ، وكلّ قتل يقع في الدنيا فإنّ قابيل له سهم من تلك الجناية باعتباره المؤسس لها.
فالتاريخ البشري مليء بالجنايات والفجائع المختلفة الّتي تنطلق بدافع من (الحسد).
«الطائفة الثانية» من الآيات الكريمة التي تحدثت عن جانب آخر من هذه الصفة الذميمة في حالات الإنسان وهي «الحسد» وآثارها المدمرة في حياة الفرد والمجتمع ، وتستعرض في ذلك قصة النبي يوسف واخوته.
«النبي يوسف» لم يكن صاحب الجمال في وجهه وملامحه البدنية فحسب بل كان يتمتع بمنتهى الجمال في أخلاقه وسيرته الحميدة ، وهذا الأمر هو الّذي اخبر عن مستقبله العظيم كما توقع له أبوه يعقوب وأحبه ذلك الحبّ الشديد ، وكان هو السبب في غرس عامل (الحسد) في قلوب أخوته الّذين كانوا أكبر منه سناً.
وهذا الموضوع تجلّى بوضوح عند ما حكى يوسف لأبيه حلماً كان قد رآه حيث تقول الآية : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ)([15]).
وكان النبي يعقوب يعلم أنّ مثل هذه الرؤيا ليست رؤيا عادية ومن افرازات الخيال للأطفال بل هي علامة على مستقبل مشرق ينتظر ابنه يوسف فقال له كما تتحدث الآية : (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)([16]).
ولكن هل أنّ اخوة يوسف علموا بمضمون رؤيا يوسف العجيبة الّتي تتحدّث عن مستقبله الزاهر أم لا؟
لا نعلم بذلك على وجه الدقة ، ولو أنّهم كانوا قد علموا بذلك لكانت هذه بمثابة البذرة الثانية لحالة (الحسد) الّتي اعتمرت قلوبهم ، ولكن على أيّة حال فإنّ الأب كان يعلم انه إذا علم الاخوة بمضمون هذه الرؤيا العجيبة فانهم سوف يتحركون ضد أخيهم يوسف من موقع العداوة والخصومة ، ولهذا أصرّ عليه بكتمان هذا الخبر عنهم.
وجاء في بعض الروايات أنّ يعقوب ومن فرط فرحه وسروره بهذه الرؤيا قد أخبر زوجته بذلك على أساس انها تكتم الخبر ، ولكن بما أنّ السر إذا تجاوز الاثنين فشا ، فإنّ هذه الحكاية انتشرت وعلم بها اخوة يوسف ، وجاء في رواية اخرى أنّ يوسف لم يستطع كتمان خبر هذه الرؤيا ، (فتصوّر أن نهي أبيه هو نهي ارشادي لا نهي تحريمي) فعند ما علم اخوته بخبر الرؤيا قالوا أنّ يوسف يطمح أن يكون ملكاً ([17]).
ولكن إذا لم يعلم الاخوة بخبر الرؤيا فانهم على الأقل كانوا يرون تعامل أبيهم مع يوسف وسلوكه الّذي ينبىء عن عظيم حبّه له وخاصة انه كان بقية امّه راحيل الّتي ماتت وهو في طفولته.
القرآن الكريم يقول في هذا الصدد (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)([18]).
وبهذه الصورة اصدروا حكمهم بضلالة أبيهم ، وبعد ذلك صمّموا على رفع هذا المانع الكبير ، أي يوسف ، من طريقهم ليبقى لهم حبّ أبيهم ومودّته ، وضمن البحث في (جلسة شيطانية) قرروا ما يلي (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)([19]).
وكما نعلم انه لم يتم لهم قتل أخيهم يوسف بل قد توسّط أحد الاخوة في ذلك وتم القرار بإبعاده إلى أرض بعيدة ومنطقة نائية ، وبالرغم من أنّ هذا النفي والتبعيد ليوسف قد سبّب الحزن الشديد لأبيه يعقوب بحيث ابيضّت عيناه من الحزن وصار بصيراً من كثرة البكاء ، ولكن هذا العمل وعلى خلاف توقع الاخوة اصبح مقدمة لينال يوسف مقام القدرة والسلطنة على بلاد مصر الّتي كانت تعتبر من أعظم البلدان في ذلك الزمان وكذلك لم يحظوا بحبّ أبيهم أيضاً.
أجل فإنّ الامواج الخطيرة للحسد قوية وعظيمة إلى درجة أنّها دفعت الاخوة إلى قتل أخيهم وتسبّبت في أن يحملوا أوزاراً كبيرة اخرى منها الكذب وكتمان الجريمة ونسبت أبيهم إلى الضلالة واهانة نبي من الأنبياء وأمثال ذلك.
«الآية الثالثة» تشير إلى قصة اليهود وتتحدث عن سلوكياتهم الذميمة ، ونعلم أنّ طائفة عظيمة من بني إسرائيل قد قرأوا علامات النبي في آخر الزمان ومنطقة ظهوره ، فرحلوا من (الشامات) إلى (المدينة) ليحظوا بصحبة ذلك النبي ويؤمنوا به ، ولذلك كانوا ينتظرونه دائماً.
ولكن بعد ظهور هذا النبي فإنّ الكثير منهم لم يبقوا على تعهدهم والتزامهم المسبق بحمايته ونصرته والإيمان به ، بل أصبحوا في صف المخالفين له والمحاربين لدعوته ، والسبب الأهم في ذلك هو عنصر «الحسد» والآخر هو ما توهموا من وقوع منافعهم ومصالحهم في الخطر.
القرآن الكريم يتحدّث لنا عن هذه الحالة لليهود فيقول (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)([20]).
أجل فإنّ المشيئة الإلهية قد تعلقت في أن يملك آل إبراهيم والّذين كان اليهود من ذريتهم وأن تكون لهم النبوة والعلم ، ولكن المشيئة الإلهية قررت في زمان لاحق أن تتعلق النبوة والعلم بمحمّد وآله الكرام وكلّ ذلك وفقاً للمصالح الّتي تتعلق بها المشيئة الإلهية ، فهل أنّ اليهود كانوا يقبلون أن يحسدهم الناس على ما آتاهم الله من فضله في الزمان السالف؟
إذن فلما ذا استعرت في قلوبهم نيران الحسد عند ما يرون أنّ نعمة الله قد صارت من نصيب آخرين وبذلك تحركوا في خط الباطل.
«الآية الرابعة» تتحدّث عن طائفة من أهل الكتاب الّذين يتعاملون مع المسلمين من موقع الحسد ، والظاهر انها ناظرة إلى اليهود وتقول (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)([21]).
إن الحسد قد يصل بالإنسان إلى درجة أن لا ينحصر تأثيره في الامور المادية مورد التنازع بين الناس عادة فحسب بل قد يتجاوز ذلك إلى الامور المعنوية الّتي لا تتزاحم بطبعها في تواجدها بين أفراد البشر كافة بخلاف حال الامور المادية الّتي تتزاحم بالذات بين الأفراد ، وهؤلاء يحسدون المؤمنين من موقع العناد والاصرار ويسحقون على سعادتهم ويديرون ظهورهم للحقّ بسبب امور موهومة ، ونفس هذا الحسد يتسبّب أن يضعف في الآخرين أيضاً الدافع لسلوك طريق السعادة والتحرّك في خط الإيمان والتقوى ، وهذا من عجائب الحسد.
وقد ذكر الكثير من المفسّرين أنّ جملة «حَسَداً مِنْ عِنْدِ انْفُسِهِمْ» إشارة إلى أنّ العامل لهذه الحالة في نفوسهم هو عنصر الحسد المتجذر في باطنهم والّذي يتفرع من جهلهم وعدم اطلاعهم على حقائق الامور بل حتّى بعد اطلاعهم على الحقيقة يسلكون هذا المسلك المنحرف كما تقول الآية بعد ذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
ولكنّ القرآن الكريم يخاطب المسلمين من موقع الأمر إلى أن يتركوا هؤلاء الحسّاد لحالهم (لأن نار الحسد المستعرة في قلوبهم هي أفضل جزاء لهم) ولكن لا يتصوروا أنّ هذا العفو والصفح من قِبل المسلمين يستمر إلى ما لا نهاية وأنّهم أحرار في سلوك أيّ عدوان واضرار بالآخرين ، كلّا.
إنّ الزمان سوف يُثبت على انّ العذاب الإلهي سوف يُحيط بهؤلاء المنحرفين والظالمين إما في الدنيا بواسطة جيش الحقّ فيعذبهم الله ويريهم جزاء مؤامراتهم الخبيثة وممارساتهم المنحرفة تجاه أصحاب الحقّ ، أو يذيقهم العذاب في الآخرة.
وعلى أيّة حال فهذه الآية تشير إلى أنّ المسلمين الّذين اعتنقوا الإسلام حديثاً عليهم أن لا يستسلموا لوساوس اليهود وغيرهم من المنحرفين وقوى الضلال لأنهم ينطلقون في تعاملهم مع المسلمين من موقع الحسد ولا يريدون سعادتهم بل يتألمون لما يروا من سعادة المسلمين في ظلّ التقوى والإيمان.
«الآية الخامسة» وهي الآية الخامسة من سورة الفلق تشير إلى شرّ الحاسدين وتخاطب النبي بأن يتعوذ بالله تعالى من شرّ كلّ حاسد وتقول (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)([22]).
وفي بداية هذه السورة تخاطب النبي بالقول (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ).
ثمّ تقسم المخلوقات الشريرة إلى ثلاثة أقسام وتقرر أنّ أساس الشرّ والعامل الأصلي له في العالم هي هذه الامور الثلاثة :
الأوّل : المخلوقات الشريرة الّتي تستغل ظلمة الليل وتهجم على الإنسان في حال نومه ويقظته ، والتعبير بكلمة (غاسق) (ويعني الموجود الشرير الّذي يهجم في الليل) وذلك لأن الحيوانات الوحشية والحشرات المؤذية تخرج ليلاً من آجامها وجحورها بل إنّ الأشخاص من أهل الشرّ والخبث والدناءة يستغلّون ظلمة الليل غالباً للوصول إلى مقاصدهم الشريرة.
ولكن الظلام هنا يمكن أن يكون له معنىً واسع بحيث يشمل كلّ أنواع الجهل والغفلة والمؤامرات الخبيثة وأمثال ذلك لأن قطّاع طريق الحقّ يستغلون جهل الناس عادة ويهجمون على المؤمنين واصفياء القلوب من موقع التآمر عليهم.
ثمّ تشير السورة إلى الأشرار الّذين ينفخون في العقد ، وهو تعبير يشير إلى النساء اللواتي يسلكن طريق الإنحراف كما هو حال الساحرات الّذين يقرأن بعض الأوراد والتماتم في حال عملية السحر ثمّ ينفخن في العُقد ويقرأن على البسطاء والسذّج من الناس مطالب وكلمات غير مفهومة ، وبهذه الوساوس يسعين إلى ايجاد عنصر الخذلان في إرادتهم ويجرّونهم إلى حال الترديد والتشكيك ، فعند ما تضعف الإرادة في الإنسان يتسنّى حينئذٍ لجيش الشيطان أن يهجم ويتسلط عليه.
ثمّ تشير الآيات إلى الطائفة الثالثة والأخيرة من طوائف الشرّ وتقول (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ).
وهنا يتضح أنّ أحد عوامل التخريب والفساد في العالم هو عامل الحسد والتخريب الّذي ينشأ من فعل الحسّاد ، وعليه فالآية في حديثها عن المنابع الثلاثة للشرّ والفساد (وهي : المهاجمون في ظلمة الليل ، والموسوسون الّذين يتحركون من خلال الإعلام لهدف تضعيف عقائد الناس وايمانهم وايجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية ، والحاسدون الّذين يتحركون بين الناس من موقع التخريب) فهذه الآيات شاهد ناطق على المراد أي الأضرار الوخيمة للحسد.
أمّا ما ورد في الآية من هذه السورة من الصفة الإلهية (بِرَبِّ الْفَلَقِ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الطوائف الشريرة الثلاثة تستغل دائماً الظلمة والجهل والاختلاف والكفر ، فلو أنّ هذه الظلمات تبدّلت إلى نور العلم والاتحاد والايمان فإنّ قوى الانحراف هذه سوف لا تستطيع أن تعمل شيئاً.
«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث بعد أن مدحت الأنصار مدحاً بليغاً (وهم الّذين دعوا نبي الإسلام إلى يثرب ونصروه واستقبلوه أحسن استقبال وجعلوا جميع ما لديهم من امكانات تحت اختياره) تحدّثت عن (التابعين) وهم الّذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار والتزموا خطّ الايمان واعتنقوا الإسلام واستمروا في خط الايمان ، تقول الآية («وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)([23]).
وعلى هذا الأساس يقول هؤلاء بعد طلبهم المغفرة لهم ولمن تقدّمهم في الإيمان (المهاجرين والأنصار) حيث يطلبون من الله تعالى أن يُزيل أي شكل من أشكال (الغِل والحقد والحسد) في قلوبهم بالنسبة إلى المؤمنين ، لأنهم يعلمون انّه ما دامت هذه الامور تعيش في قلب الإنسان فإنّ روابط المحبّة والاخوّة والاتحاد لا يمكن أن تؤثر أثراً وبالتالي لا ينال الفرد التوفيق في حركته الدينية والاجتماعية.
كلمة (غِل) المأخوذة من مادّة (غلل) وكما يقول الراغب في كتابه (المفردات) هي في الأصل بمعنى الشيء الخفي الّذي ينفذ تدريجياً وبخفاء ، ولهذا يُقال للماء الجاري (غلل) لأنّه ينفذ إلى الأشجار تدريجياً.
ثمّ استُعمل الغلول في (الخيانة) لأنها تنفذ بخفاء وتدرّج ، وكذلك استُعملت في (الحقد والحسد) حيث ينفذان إلى القلب بشكل خفي وتدريجي.
وجاء في (لسان العرب) أنّ الحسد نوع من (الغلّ) كما أنّ من مصاديقه هو الحقد والعداوة أيضاً.
والكثير من المفسّرين يرون في تفسير الغِل بمعنى الحسد كالفخر الرازي في (التفسير الكبير) والمراغي في تفسيره والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) في ذيل هذه الآية محل البحث.
«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن صفات أهل الجنّة وتقول بعد تصريحها باستقبال الملائكة لهم في القيامة ودعائهم لهم بالسلامة والأمن (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)([24]).
أجل فإنّ أهل الجنّة طاهرون من كلّ أشكال الحسد والحقد والعداوة الّتي يتصف بها أهل النار ، وإذا رأينا أنّهم يعيشون حالة الأخوة والسلامة والأمن في الجنّة فإنما هو بسبب زوال هذه الامور السلبيّة من وجودهم وقلوبهم (وذلك بلطف الله وببركة أعمالهم الصالحة في الدنيا).
ولا شكّ أنّ الناس في الدنيا لو عاشوا بحياة خالية من الحقد والعداوة والحسد في تفاعلهم الاجتماعي فيما بينهم لأضحت حياتهم الدنيوية كحياة أهل الجنّة حيث يعيشون الأمن والأمان والاخوة والصفاء أيضاً.
النتيجة :
ومن مجموع ما تقدّم من الآيات المذكورة آنفاً تتضح الآثار السلبيّة الوخيمة لحالة الحسد في حركة الحياة الفردية والاجتماعية ، ويتضح كذلك موقف القرآن السلبي والشديد من هذه الصفة الأخلاقية الذميمة ، فالحسد هو الّذي تسبب في أن يقتل الإنسان أخاه وأن يُغمض عينه عن رؤية الحقّ ويُسدل على عقله حجاباً كثيفاً يمنعه عن رؤية الحقيقة ويُثير في أجواء المجتمع الظلمة ، ويقطع أواصر المحبّة والود بين الأفراد ، ويحوّل المجتمع البشري إلى جهنم محرقة تحرق المتلوثين بهذه الصفة الذميمة.
[1] سورة المائدة ، الآيات 27 و 28 و 30.
[2] سورة يوسف ، الآية 4 و 5.
[3] سورة النساء ، الآية 54.
[4] سورة البقرة ، الآية 109.
[5] سورة الفلق ، الآية 5.
[6] سورة الحشر ، الآية 10.
[7] سورة الحجر ، الآية 47.
[8] سورة المائدة ، الآية 27.
[9] سورة المائدة ، الآية 28.
[10] سورة المائدة ، الآية 30.
[11] تفسير القرطبي ، ج 3 ، ص 2133.
[12] سورة المائدة ، الآية 31.
[13] نور الثقلين ، ج 1 ، ص 616.
[14] نور الثقلين ، ج 1 ص 610 ، ح 125.
[15] سورة يوسف ، الآية 4.
[16] المصدر السابق.
[17] تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 2433 ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 6 ، ص 341.
[18] سورة يوسف ، الآية 8.
[19] سورة يوسف ، الآية 9.
[20] سورة النساء ، الآية 54.
[21] سورة البقرة ، الآية 109.
[22] سورة الفلق ، الآية 5.
[23] سورة الحشر ، الآية 10.
[24] سورة الحجر ، الآية 47.