x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

شعراء الزبيريين

المؤلف:  شوقي ضيف

المصدر:  تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي

الجزء والصفحة:  ص:290-302

5-7-2021

5792

شعراء الزبيريين

رأينا في غير هذا الموضع كيف أخذت تظهر في صفوف الأشراف من أبناء كبار الصحابة معارضة حادة لأخذ معاوية البيعة لابنه يزيد بولاية العهد واستخلافه له من بعده، وكيف قاد الحسين بن على بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير هذه المعارضة. وحدث أن دعا بعض أهل الكوفة الحسين ليبايعوه، ومضي إليهم غير أنه قتل دون غايته، فخلا الجو لابن الزبير الذي عاذ بمكة، وقد اتخذ من قتل الحسين أداة للتشنيع على يزيد وعماله، وثارت المدينة، وأوقع بها يزيد وقعة الحرة المشهورة. فاتسعت الجروح في الحجاز، وبدا للعيان أن الأمويين، وإن كانوا قرشيين، يحكمون بسيوف كلب وغيرها من قبائل الشام اليمنية، وكأنه لم يعد لقريش ولا للحجاز عامة شئ في الحكم. وحقا أن الأمويين قرشيون ولكنهم حولوا الخلافة عن المدينة حاضرتها في الحجاز الى دمشق، ولم يعودوا يستندون في حكمهم على قريش، بل أصبحوا يستندون على قبائل الشام اليمنية ويحكمونها في رقاب الناس، بل لقد استباحوا بها مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم. وقد مضوا يلون الخلافة كما وليها يزيد، لا بسلطان شرعي، وإنما بسلطان السيف والقوة، إذ أن يزيد لا يأتي أولا بين أبناء كبار الصحابة فبينهم من يفضلونه بسابقة آبائهم في الإسلام وبسيرتهم الفاضلة. واتجه الجيش الذي نكب المدينة في وقعة الحرة الى مكة حيث يعوذ ابن الزبير، وهب كثير من العرب حتي من الخوارج للذود عن البلد الحرام. وضرب من حوله حصار،

290

 

 

 

 

291

غير أن الأنباء جاءت بموت يزيد، فرفع الحصار، وعاد الجيش أدراجه.

وبدا حينئذ كأن ابن الزبير هو القرشي الذي اختير للجماعة، فأبوه من كبار الصحابة المقدمين وأمه أسماء أخت السيدة عائشة زوج الرسول صلي الله عليه وسلم. وكان قوي الشخصية تقيا وشارك في فتوح إفريقية، وسرعان ما انضمت تحت لوائه قيس في الشام والجزيرة وتبعته العراق ومصر، وكذلك تبعته خراسان بقيادة عبد الله بن خازم السلمي القيسي. وولي بعد يزيد ابنه معاوية بعهد منه، ولكنه توفي سريعا، وبدا كأن حكم بني أمية قد انتهي، حتي ليقول ابن عرادة بخراسان (1):

أبني أمية إن آخر ملككم … جسد بحوارين ثم مقيم (2)

طرقت منيته وعند وساده … كوب وزق راعف مرثوم (3)

ومرنة تبكي على نشوانه … بالصنج تقعد تارة وتقوم (4)

وظل ابن الزبير يقود الولايات التي تبعته من مكة، ولم يلبث مروان بن الحكم أن ظهر بالشام تسنده كلب والقبائل اليمنية، وأوقع بقيس الشام وقعة مرج راهط المشهورة، فخلصت له الشام، ولم تلبث مصر أن استجابت له، وولي عليها ابنه عبد العزيز. وبذلك تحولت الخلافة من بيت السفيانيين الى بيت المروانيين، فإن مروان لم يلبث أن توفي وخلفه ابنه عبد الملك، وكان سياسيا أريبا، يعرف كيف يستخدم المال في جمع الناس من حوله، وكان في ابن الزبير بخل وحرص شديد جعل كثيرا من العرب ينصرفون عنه، ويضرب الرواة لذلك مثلا هو أن فضالة بن شريك الأسدي، وقيل بل ابنه، وفد عليه (5)

 

292

فقال له: إن ناقتي قد نقبت (6) ودبرت (7)، فقال: ارقعها بجلد (8)، واخصفها بهلب (9)، وسر البردين (10) بها تصح، فقال فضالة: إني أتيتك مستحملا ولم آتك مستوصفا، فلعن الله ناقة حملتني إليك، فقال له ابن الزبير: إن (11) وراكبها. وانصرف فضالة من عنده، وهو يقول:

شكوت إليه أن نقبت قلوصي … فرد جواب مشدود الصفاد (12)

يضن بناقة ويروم ملكا … محال، ذلكم غير السداد

ومضي يشيد ببني أمية وكرمهم الفياض، ويقول إنه صائر إليهم. ولعل في هذا الحادث ما يفسر السبب في قلة الشعراء الذين صدروا عن رأي ابن الزبير في الخلافة مدافعين عنه بنبال شعرهم، وكأنما لم تكن تعنيه هذه النبال.

وليس معني ذلك أنه لم يكن هناك شعراء يقفون في صف ابن الزبير، وإنما معناه أنه رغب بنفسه عن هذا اللون من الدعاية، أو قل رغب به شحه عنه، ومع ذلك فقد وقف في صفه كثير من الشعراء، لا في الحجاز حيث كان يدعو لنفسه بل بين قيس في الشام والجزيرة ولدن أخيه مصعب واليه على العراق.

ومر بنا في غير هذا الموضع أن العصبيات والوقائع الحربية اشتعلت بين القبائل القيسية من جهة والقبائل اليمنية وتغلب من جهة ثانية، وأن الشعراء في الطرفين جميعا سلوا ألسنتهم مدافعين عن قبائلهم ومهاجمين، أو بعبارة أخري مفاخرين ومتهاجين هجاء مريرا. ولم يكن الطرفان يتناقضان في العصبية القبيلية فحسب، بل كانا أيضا يتناقضان في السياسة، إذ كان هوي قيس مع ابن الزبير وهوي القبائل اليمنية وتغلب مع بني أمية، ومن ثم اختلطت في أشعارهم العصبية بالسياسة، ومن خير ما يمثل ذلك قصيدة «خف القطين» التي ضمنها الأخطل هجاء قيس ومديح عبد الملك مصورا موقف قبيلته من الخلافة الأموية وما قدمته لها من

 

293

مساعدات حربية ولسانية. وحين نتصفح أشعار زفر بن الحارث نجدها تقطر عصبية (13) عنيفة، فهو دائما يتهدد تغلب وكلبا وأخواتها من القبائل اليمنية، وهو في تهديده لا ينسي ابن الزبير وأنه يقف من دونه ضد قبيلة كلب وزعيمها ابن بحدل الذي يناصر بني أمية، يقول (14):

أفي الله أما بحدل وابن بحدل … فيحيي وأما ابن الزبير فيقتل

كذبتم وبيت الله لا تقتلونه … ولما يكن يوم أغر محجل (15)

ولما يكن للمشرفية فوقكم … شعاع كقرن الشمس حين ترجل (16)

وعلي هذا النحو كانت تختلط في أشعار الطرفين الذحول والثارات بالسياسة.

وظلوا يجترون ذلك طويلا، إذ نري جريرا لسان قيس ومحاميها يشن هجوما قاسيا على تغلب وشاعرها الأخطل الذي انبري له يرد كيده على نحو ما مر بنا في النقائض.

 

وكان مصعب بن الزبير من فتيان قريش شجاعة وسخاء، فلما ولي العراق لأخيه انهلت غيوثه على الشعراء، فمدحه منهم كثيرون مثل أعشي همدان ودكين الفقيمي، ولكن المدح من حيث هو لا يهمنا، إنما يهمنا الشعر السياسي الذي كان يدافع عن نظرية ابن الزبير في الخلافة، هاجيا لبني أمية مؤلبا عليهم القبائل. ولعل شاعرا لم يبلغ من ذلك ما بلغه ابن قيس الرقيات، فهو شاعر الزبيريين ونظريتهم السياسية غير مدافع، ومن ثم ينبغي أن نقف عنده قليلا.

ابن (17) قيس الرقيات

اختلف الرواة في اسمه هل هو عبيد الله أو عبد الله، والأول أرجح، لأن في أخباره أنه كان له أخ يسمي عبد الله. وعلي نحو ما اختلفوا في اسمه اختلفوا في

 

294

سبب نعته بالرقيات، وأصوب الآراء أنه كان يشبب بغير فتاة تسمي رقية، فنعت بالرقيات إشارة الى ذلك. وهو قرشي من بني عامر بن لؤي، ولد بمكة في العقد الثالث للهجرة لقيس ابن شريح بن مالك بن ربيعة (النويعم) بن أهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي. وأقدم أخباره تشير الى ملازمته لبعض المغنين وتصفحه لبعض النساء في الحج، ولم تكد تقع عينه على رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد أحد أفراد عشيرته الذين هاجروا مع طائفة منها الى الجزيرة سنة سبع وثلاثين حتي شغف بها، وسرعان ما أخذ ينظم فيها أشعاره.

ويظهر أنه تحول عن مكة الى المدينة وأقام بها طويلا، ولعل الذي دفعه الى ذلك تعلقه بالمغنين والمغنيات. ويسوق صاحب الأغاني أخبارا له مع سائب خاثر وبديح وفند، وهم من مغني المدينة المشهورين، ونراه يذكر في بعض شعره دارا له بها (18)، ويبدو أنه لم ينزلها وحده، بل نزلها مع أخيه عبد الله ونفر من عشيرته. وفي اختلاطه بالمغنين ما يدل على أنه كان يحيا حياة لاهية في المدينة، ونراه يشكو من مروان بن الحكم الذي كان يعقب معاوية بينه وبين سعيد بن العاص في حكمها، إذ كان كل منهما يليها فترة وكانت في مروان شدة وغلظة فكان إذا ولي يأخذ المغنين ودورهم بالضبط الشديد، ومن ثم تعرض له ابن قيس يصف شدته وقسوته (19)، وهو في أثناء ذلك ينظم مقطوعاته في الغزل، ويترنم بها المغنون والمغنيات، ويستحسنها الناس استحسانا شديدا.

ونراه يرحل الى الجزيرة في أثناء حكم يزيد بن معاوية، ويظهر أنه أراد الابتعاد عن المدينة في تلك الفترة التي ثارت فيها على يزيد. وهناك جاءته الأنباء بموقعة الحرة وأن طائفة من أهل بيته قتلوا فيها من بينهم أسامة وسعد ابنا أخيه عبد الله، فهزته تلك الأنباء هزا عنيفا، فإذا هو يبكي من ماتوا من أهله بكاء حارا، يقطر بالتورة على يزيد وبني أمية، يقول:

إن الحوادث بالمدينة قد … أوجعنني وقرعن مروتيه (20)

 

295

ينعي بنو عبد وإخوتهم … حل الهلاك على أقاربيه (21)

ونعي أسامة لي وإخوته … فظللت مستكا مسامعيه (22)

تبكي لهم أسماء معولة … وتقول ليلي: وارزبتيه

والله أبرح في مقدمة … أهدي الجيوش، على شكتيه (23)

حتي أفجعهم بإخوتهم … وأسوق نسوتهم بنسوتيه

ولم يلبث يزيد أن توفي، وتحولت الجزيرة الى ميادين حروب بين قيس وتغلب على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع، واصطدمت عشيرته بعمير بن الحباب بطل قيس في بعض حروبه، مما جعله يؤثر التحول عن الجزيرة الى فلسطين، ولم يلبث أن تركها الى العراق، حيث مصعب بن الزبير. وكان طبيعيا أن يجذبه إليه، فقد رأيناه حنقا على بني أمية منذ موقعة الحرة، يريد أن يقود الجيوش ضدهم، فيثأر لابني أخيه، ويسبي نساءهم. وجعله ذلك يستشعر عقيدة الزبيريين، فالخلافة ينبغي أن تكون في قريش روحا وواقعا عمليا، بحيث تكون حاضرتها في الحجاز، وبحيث تعتمد على القرشيين لا على كلب وأخواتها من قبائل الشام اليمنية التي أوقعت بأهل المدينة وقعة الحرة المشئومة.

وهو يصدر في ذلك عن قرشيته من جهة وعن الكلوم التي أصابت فؤاده من أهل الشام من جهة أخري، ومن ثم كان اعتناقه للعقيدة الزبيرية اعتناقا مخلصا، وهو اعتناق يشوبه الحقد على بني أمية والرغبة الشديدة في أن ينقض حكمهم في الشام انقضاضا، ولعل خير ما يصور ذلك قصيدته الهمزية التي يفتتحها بقوله:

أقفرت بعد عبد شمس كداء … فكدي فالركن فالبطحاء (24)

ومضي يطيل في ذكر الأماكن التي هجرها الأمويون الى دمشق وربوع

 

296

الشام منوها برجالهم وحسانهم من النساء، وكأنه يأسي لهذا المصير الذي انتهت إليه قريش، فقد تفرقت بلدانا وشيعا، حتي طمع فيها الطامعون، ويصرح بذلك فيقول:

حبذا العيش حين قومي جميع … لم تفرق أمورها الأهواء

قبل أن تطمع القبائل في مل‍ … ك قريش وتشمت الأعداء

ويمضي فيرد على الخوارج وأشباههم ممن كانوا يرون أن تنزع الخلافة من قريش وترد الى العرب، بل الى المسلمين جميعا، يقول:

أيها المشتهي فناء قريش … بيد الله عمرها والفناء (25)

إن تودع من البلاد قريش … لا يكن بعدهم لحي بقاء

فقريش هي عمود الخلافة، ولو أنها زالت عنها لسقط ركنها سقوطا لا يرتفع بعده. ولا يلبث أن يتوجه بخطابه الى عبد الملك هاجيا:

قد عمرنا فمت بدائك غيظا … لا تميتن غيرك الأدواء (26)

ويأخذ في الفخر بقريش وفضلها على الإسلام والخلافة، فيذكر الرسول صلي الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وحمزة عم الرسول وجعفرا الطيار والزبير بن العوام حواري النبي وأبا عبد الله ومصعبا. ويشير الى انتصار مصعب على المختار الثقفي، ويعرض لما كان يزعم من أنه يوحي إليه، ويمدح مصعبا، فيقول:

إنما مصعب شهاب من الل‍ … هـ تجلت عن وجهه الظلماء

ملكه ملك قوة ليس فيه … جبروت ولا به كبرياء

ويعود الى الافتخار بقريش ورجالاتها في الجاهلية والإسلام، ويفتخر ببيتها الحرام الذي يحج إليه الناس من كل فج عميق، ويأسي لحرق جيوش الشام هذا البيت حين حصارها لابن الزبير بعد موقعة الحرة، ويشيد ببناء ابن الزبير له بعد هذا الحصار، ولا يلبث أن يدعو دعوة عنيفة لحرب عبد الملك

 

297

وبني أمية الذين استتباحوا المدينة والبيت الحرام، وقتلوا الحسين في كربلاء يقول:

كيف نومي على الفراش ولما … تشمل الشام غارة شعواء

تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي … عن براها العقيلة العذراء (27)

أنا عنكم بني أمية مزو … ر وأنتم في نفسي الأعداء

إن قتلي بالطف قد أوجعتني … كان منكم لئن قتلتم شفاء (28)

وهذه هي الأنغام السياسية التي كان يوقعها على قيثارته الشجية، وكان يضيف إليها مديحا لعبد الله بن الزبير وبيان أنه أحق قرشي بالخلافة. وكان لا يزال يذكر وقعة الحرة مضيفا إليها وقعة مرج راهط التي هزم فيها أنصار ابن الزبير من القبائل القيسية متوعدا عبد الملك بالغارات المبيرة، ومشيدا بمصعب وشجاعته وكرمه وتقواه. وكان قد رأي عبد الرحمن بن حسان بن ثابت حين لج الهجاء بينه وبين يزيد بن معاوية يتخذ الغزل الفاضح برملة أخته وسيلة الى الهجاء المقذع، فحاكاه في هذا الاتجاه بغزله بعاتكة زوجة عبد الملك وأم البنين زوجة ابنه الوليد. وفي الوقت نفسه كان يشبب بزوجتي مصعب: عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين تشبيبا كله وقار، وكأنه أزهار ثناء، يريد أن يرضي بها مصعبا. ونحن لا نقرن الصورتين من الغزل بعضهما الى بعض حتي نري خبثه ومكره، وكيف استطاع أن يتخذ من الغزل أداة لشعره الزبيري السياسي ومن قوله في عائشة، وقد بعث به مصعب إليها وهي غاضبة عليه ليترضاها (29):

جنية برزت لتقتلني … مطلية الأصداغ بالمسك

عجبا لمثلك لا يكون له … خرج العراق ومنبر الملك (30)

ترمي لتقتلنا بأسهمها … ونزنها بالحلم والنسك (31)

 

298

وواضح أنه يحوطها بالنسك والطهارة والعفاف، واقرن هذه الصورة الى غزله بعاتكة وأم البنين الذي كان يسوقه في مقدمة مدائحه لمصعب، فإنك ستراه يعرضهما في صورة تؤذيهما كقوله في عاتكة:

بدت لي في أترابها فقتلنني … كذلك يقتلن الرجال كذلكا

وقالت لو انا نستطيع لزاركم … طبيبان منا عالمان بدائكا (32)

ويتخيل أم البنين جاءته في الحلم، فنال منها كل ما أراد، وكأنها امرأة مبتذلة، لا يمسكها طهر ولا عفاف، فهي تمعن معه في اللهو الى طلوع الفجر، يقول:

أتتني في المنام فقل‍ … ت هذا حين أعقبها (33)

فلما أن فرحت بها … ومال على أعذبها (34)

شربت بريقها حتي … نهلت وبت أشربها (35)

وبت ضجيعها جذلا … ن تعجبني وأعجبها (36)

وأيقظنا مناد في … صلاة الصبح يرقبها (37)

وظل على هذا النحو يصول ويجول بشعره ضد عبد الملك وبني أمية ونسائهم، معلنا أن صلاح الأمة لا يتم إلا باجتماعها على ابن الزبير الذي يمثل الحكم القرشي الصحيح. وما نصل الى سنة 71 للهجرة حتي يقدم عبد الملك بجيش ضخم الى العراق لحرب مصعب، فيلقاه في دير الجاثليق، وقد انفض عنه أكثر أنصاره، ولم تبق معه منهم سوي بقية قليلة بينها ابن قيس. ويقتل مصعب ويفر ابن قيس الى الكوفة متفجعا على صاحبه آسيا لانفضاض العراقيين عنه، ويطلبه عبد الملك، فيستتر منه عند امرأة أنصارية تسمي كثيرة نحو عام، ونظن ظنا

 

299

أنها زوجة (38) على بن عبد الله بن العباس، وكان ممن يجيرون على عبد الملك، ولكن يظهر أنه لم يستطع أن يطلب العفو منه على ابن قيس الرقيات لأن ذنبه كان عظيما. ومن ثم رأيناه يخرج من مخبئه، ميمما وجهه شطر عبد الله بن جعفر في المدينة، ويقال إنه راسل عبد العزيز بن مروان كي يشفع له عند أخيه، ولباه عبد العزيز، فأرسل الى ابنته أم البنين، وكان عبد الملك لا يرد لها طلبا، أن تشفع فيه، وقبلت شفاعتها، وقيل بل راسلها ابن جعفر وفي رواية أن ابن جعفر هو الذي شفع له عند عبد الملك، ولم يلبث أن مثل بين يديه ينشده بائيته التي يقول فيها:

ما نقموا من بني أمية إ … لا أنهم يحلمون إن غضبوا

وأنهم معدن الملوك فلا … تصلح إلا عليهم العرب

إن الفنيق الذي أبوه أبو ال‍ … عاصي عليه الوقار والحجب (39)

خليفة الله فوق منبره … جفت بذاك الأقلام والكتب

يعتدل التاج فوق مفرقه … على جبين كأنه الذهب

ويظهر أن عبد الملك لم يطب نفسا له، ومن ثم نري ابن قيس يولي وجهه شطر العراق فيمدح أخاه بشرا، ويعطيه الجزيل. ويعود من لدنه الى الحجاز فيعيش في ظل ابن جعفر يغدق عليه من بره ونواله، ويجذبه جود عبد العزيز بن مروان بمصر، فيرحل إليه، ويمكث عنده طويلا، حتي إذا فكر عبد الملك في صرف ولاية العهد عنه الى ابنه الوليد رأيناه يثور معه على أخيه، إذ يقول في بعض مدائحه له، مبشرا له بالخلافة وأنها ستصير إليه وإلي بنيه:

لتهنه مصر والعراق وما … بالشام من بزه ومن ذهبه (40)

يخلفك البيض من بنيك كما … يخلف عود النضار في شعبه (41)

نحن على بيعة الرسول وما … أعطي من عجمه ومن عربه

 

300

وبلغت القصيدة عبد الملك فتوعده، وعرف ذلك ابن قيس، فلم يقر له قرار وضاقت الدنيا في عينيه فنظم قصيدة بديعة يذم فيها من يغتابونه عند عبد الملك رياء له ونفاقا افتتحها بقوله

بشر الظبي والغراب بسعدي … مرحبا بالذي يقول الغراب

وهو فيها يصور ما يلزمه من نحس رمز له بالغراب. ويظهر أنه كان يفد على عبد الملك من حين الى حين ففي ديوانه مدائح له مختلفة، والطريف أنه يستهل بعضها بغزله بأم البنين لا على شاكلة غزله القديم الذي كان يريد به أن يؤذي عبد الملك، ولكن على شاكلة غزله بعائشة بنت طلحة، فهو يصف جمالها ووقارها متلطفا. وليس في ديوانه مدائح في الوليد مما يدل على أنه إن كان لحق عصره فإنه لم يعش فيه طويلا. وفي ديوانه قصائد مختلفة مدح بها عبد الله بن جعفر، وهو يشيد به وبجوده إشادة رائعة على شاكلة قوله:

أتيناك نثني بالذي أنت أهله … عليك كما يثني على الروض جارها

إذا مت لم يوصل صديق ولم تقم … طريق من المعروف أنت منارها

وممن مدحهم ونوه بهم طويلا طلحة الطلحات الخزاعي والي سجستان، وهو يثني على كرمه وشجاعته، وفيه يقول حين توفي بيته المشهور من مرثية فيه بديعة:

نضر الله أعظما دفنوها … بسجستان طلحة الطلحات

وليس له وراء هجائه السياسي سوي قطعة هجا بها عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد حين هزم في حربه للأزارقة، وهو لا يقسو فيها قسوة الهجائين في عصره.

وحتي الآن لم نتحدث عن غزله، وهو في الطليعة من شعراء الغزل المكيين، ولو أنه لم يشغل نفسه بالمديح والدعاية للزبيريين وخلص للغزل على شاكلة عمر بن أبي ربيعة لما قصر عنه في هذا الفن، وقد رأيناه في مطلع حياته يلزم

 

301

المغنين والمغنيات، وكان لذلك أثر واسع في موسيقي شعره، إذ تمتاز بالنقاء والصفاء والعذوبة حتي في مدائحه ومراثيه. وليس ذلك فحسب، فإنه من أكثر الحجازيين عناية بالأوزان المجزوءة والأخري القصيرة، وهو من هذه الناحية يطبع شعره بطوابع الغناء التي عاصرته، إذ نجد عنده حلاوة النغم وخفة الأوزان بحيث تحمل كل ما يريد المغنون والمغنيات من أنغام وترنيمات على مثال قوله:

رقي بعيشكم لا تهجرينا … ومنينا المني ثم امطلينا

عدينا في غد ما شئت إنا … نحب-وإن مطلت-الواعدينا

فإما تنجزي عدتي وإما … نعيش بما نؤمل منك حينا

وقوله:

رقية تيمت قلبي … فواكبدي من الحب

وقالوا اداؤه طب … ألا بل حبها طبي

وقوله:

حب ذاك الدل والغنج … والتي في عينها دعج (42)

والتي إن حدثت كذبت … والتي في وعدها خلج (43)

خبروني هل على رجل … عاشق في قبلة حرج

ودائما يجري غزله على هذه الصورة من عذوبة الألفاظ ورشاقة الألحان.

وهو لا يتغزل بمن سمين باسم رقية فحسب، إذ نراه يتغزل بكثيرات، غزلا يملؤه بالصبابة واللوعة. وخاصة حين يكون غزله صادقا لا يريد به سياسة ولا ما يشبه السياسة.

302

 

 

_________

(1) طبري 4/ 421.

(2) حوارين: قرية من قري حمص توفي بها يزيد.

(3) راعف: سائل. مرثوم: انكسر حتي تقطرت منه الخمر.

(4) مرنة: مغنية.

(5) انظر في هذه الوفادة ترجمة فضالة بن شريك في الأغاني (طبع دار الكتب) 12/ 71 وما بعدها وتهذيب ابن عساكر 7/ 424 والإصابة 3/ 224 ومعجم الشعراء ص 176.

(6) نقبت: من نقب البعير إذا حفي ورقت أخفافه.

(7) دبرت: أصابها جرح في ظهرها.

(8) ارقعها بجلد: يريد أن يجعل لها خفا من جلد.

(9) الهلب: الشعر. الحصف: الخرز. يريد أن يخرز الخف به ليقيه.

(10) البردين: الغداة والعشي.

(11) إن هنا بمعني نعم.

(12) القلوص: الناقة. الصفاد: ما يشد به الأسير من قيد ونحوه.

(13) انظر الجزء الخامس من أنساب الأشراف للبلاذري في مواضع متفرقة والأغاني (ساسي) 17/ 112، 20/ 124.

(14) طبري 4/ 419.

(15) يريد يوما مشهورا يبير كلبا ولا يبقي ولا يذر

(16) المشرفية: السيوف. ترجل: ترتفع.

(17) انظر في ترجمة ابن قيس الأغاني (طبع دار الكتب) 5/ 73 وما بعدها والشعر والشعراء 1/ 523 وابن سلام ص 530 وخزانة الأدب 3/ 265 والموشح ص 186 وشواهد المغني ص 211 وحديث الأربعاء لطه حسين (طبعة الحلبي) 1/ 316 وكتابنا الشعر والغناء في المدينة ومكة ولعصر بني أمية (طبع دار المعارف) ص 275. وله ديوان نشره رود كناكس في فينا سنة 1902 وحققه تحقيقا علميا وأعاد نشره في بيروت محمد يوسف نجم. والرقيات إما صفة لابن قيس فينون قيس وإما مضافة. راجع في ذلك الخزانة.

(18) الديوان (طبعة بيروت) ص 24.

(19) الديوان ص 177 والأغاني 5/ 72 وما بعدها.

(20) المروة: حجر أبيض تقدح منه النار. وهو مثل يضرب لمن نزل به شر.

(21) بنو عبد: عشيرته نسبها الى جده السابع.

(22) استكت المسامع: صمت وضاقت، هو مثل يضرب للنبأ الشديد يعرك سامعه.

(23) مقدمة: يريد مقدمة الجيش. الشكة: السلاح التام.

(24) كداء وكدي: جبلان بمكة. والركن. ركن البيت الحرام. والبطحاء: حيث كان ينزل أشراف مكة حول البيت في الجاهلية.

(25) عمرها: يريد بقاءها.

(26) عمرنا: عشا زمنا طويلا، يشير الى خلافة ابن الزبير وأنها استقرت له أعواما.

(27) البري: الخلاخيل. وقد كني بذلك عما يصيبهن من فزع شديد.

(28) الطف: من نواحي الكوفة حيث كربلاء التي قتل فيها الحسين.

(29) انظر الأغاني (طبع دار الكتب) 11/ 176 وقارن بالديوان ص 141 وقد وصل القطعة بأبيات في أم البنين لا شك في أنها ملأت صدر عبد المك موجدة.

(30) يريد بمنبر الملك الخلافة كأنه يتمناها لمصعب.

(31) نزنها: ننسبها إلي.

(32) طبيبان: يريد رسولين، ويريد بالداء الحب الذي سري في نفس عاتكة له.

(33) أعقبها: صارت عقباها لي أي صارت إلي.

(34) أعذبها: فها.

(35) نهلت: رويت. أشربها: أسقيها.

(36) جذلان: فرح.

(37) يرقبها: أي يرقب الصلاة.

(38) انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (طبعة أوربا) ص 412.

(39) الفنيق: أصله الفحل من الإبل الكريم على أصحابه.

(40) البز: الثياب والمتاع.

(41) النضار: يريد الشجر النضر، ويخلف الثانية: ينبت عودا بعد عود.

(42) الدل: الدلال. الغنج: حسن الدل والمزح. الدعج: شدة سواد العين.

(43) الخلج: الاضطراب وعدم الثبات على حال.

 

 

 

 

 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+