لعلّكم سمعتم أنّ ابن سينا اشتغل مدّة من عمره في السياسة والوزارة، فكانت له الوزارة لعدّة ملوك، وهذه من الأمور التي عابه عليها من جاء بعده من العلماء، بأنّ هذا الرجل صرف أكثر وقته بهذه الأمور، في حين أنّه يتمكّن بنبوغه الخارق وذكائه العظيم أن يكون نافعاً ومفيداً أكثر للمجتمع.
وفي أحد الأيّام جاء ابن سينا مع غلمانه وحاشيته وعليه أبّهة السلطنة والحكومة، وقصد العبور من أحد الأزقة، فشاهد كنّاساً يكنس الطريق ويتمتم ببعض الكلمات
وكان ابن سينا على ما هو معروف عنه ذا سامعة قويّة جدّاً حتى أنّهم ذكروا بعض الأساطير في هذا المجال، فكان هذا الكنّاس يتحدّث مع نفسه ويقول بعض الأشعار ومنها أنّه قال:
إنّني أكرمتُك يا نفس من الذلّ * حتّى تستريحين من هموم الدنيا
فسمع ذلك ابن سينا وضحك، وذلك أنّ هذا الرجل كنّاس وهو عملٌ حقير وتافه، ويمنُّ على نفسه أنّه قد احترمها وحفظ كيانها وشخصيتها!
فتقدّم إليه وقال له: كيف تقول هذا الكلام والحقيقة أنّك قد أهنتَ نفسَك، أفلا عمل أفضل من هذا العمل تُكرم به نفسك؟! وما شرف هذا العمل؟!
فنظر إليه الكنّاس وعرف من ظاهر الحال أنّ هذا المتكلّم هو الوزير فقال: انّ الخبر الذي يأتيني عن طريق هذا الشغل الخسيس أفضل من أن أتحمّل ثقل المنّة من رئيس!
فخجل ابن سينا وتصبّب وجهه عرقاً وذهب.
ونفس هذا المعنى يُمثّل حاجة غريزية للإنسان بأن يكون الإنسان حرّاً في حياته ولا يخضع لمنّة أحد الناس، ويتجلّى هذا المعنى لمن كان له شعور إنساني وعزّة وكرامة، ويكون هذا الشيء من أثمن الأشياء، وهذا لا يعيشه المرء إلّا بأن يعمل بكدّ يمينه ويعتمد على نفسه في تحصيل معيشته.
◾️ المصدر: كتاب "التعليم والتربية في الإسلام" للشيخ مرتضى مطهري (رض)