أكد ممثل المرجعية العليا والمتولي الشرعي لحرم الإمام الحسين، عليه السلام، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي، أن الحلم أشرف الكمالات النفسية بعد العلم.
وقال خلال خطبته الأولى من صلاة يوم الجمعة، إن العلم بدون الحلم لا ينفع.
وأضاف في مورد شرحه خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في بيان صفات المتقين، أن "الحلم فضيلة أخلاقية تتوسط رذيلتي المهانة والافراط في الغضب وهو من جنود العقل".
وأستدرك سماحته بالقول: "وعلى كل حال فالحلم هي - بتعبير بسيط- ملكة ضبط النفس عند تعرضها لموارد الغضب من المكروه الذي يتعرّض إليه الإنسان".
ولفت المتولي الشرعي إلى أن الحلم عادة ما يظهر "حين التعامل مع الجهّال فيضطر الحليم الى مداراتهم بعدم الردّ عليهم وكذلك حين صدور تجاوز أو إساءة من الآخرين فيضبط قوته الغضبية ولا ينفعل فتصدر منه أقوال أو أفعال مذمومة".
وأوضح الشيخ الكربلائي في سياق الحديث عن العلم وفق ما جاء في الوصية، أنه "لا عبادة ولا تقرب ولا كمال للانسان الا بالعلم".
وذكّر سماحته المصلين الذين احتشدوا لأداء فرض الجمعة في الصحن الحسيني الشريف، بالحديث القائل:"لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا خير في علم ليس فيه تفكر، ولا خير في قرائة ليس فيها تدبّر..".
إليكم النص الكامل للخطبة الأولى من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 2/ربيع الاول/1438هـ الموافق 2 /12 /2016م:
ورد في خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يصف فيها المتقين:
(وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَيَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ)
بعد ان بيّن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) حال اهل التقوى ونشاطهم في الليل من انشغالهم بتلاوة القران وبيان كيفية تلاوته وتنقلهم بين الركوع والسجود في صلواتهم يذكر في المقطع التالي وصفهم وحالهم في النهار... فقال (عليه السلام): (وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ...)
فهم يتصفون بصفة الحلم التي هي من اشرف الكمالات النفسية بعد العلم بل لا ينفع العلم بدونه اصلا ً وهو فضيلة اخلاقية تتوسط رذيلتي المهانة والافراط في الغضب وهو من جنود العقل بحيث ان القوة الغضبية يسيطر عليها المتقي وفق ما يدعو اليه العقل والشرع فهي ليست بذلك الضعف بحيث يهان ويذل حتى يصير فرداً مهاناً لا يتأثر بما حوله من امور تستدعي اعمال القوة الغضبية باعتدال وفق ما يقتضيه العقل والشرع ولا هو يُفرط في استعمالها بحيث تخرجه عن حدود العقل والشرع فيتهوّر ويتسرّع ويخضع لانفعالاته النفسية وتسيطر عليه حتى تصدر منه افعالا ً واقوالاً وتصرفات لا يرتضيها العقل ولا الشرع.. وعلى كل حال فالحلم هي – بتعبير بسيط- ملكة ضبط النفس عند تعرضها لموارد الغضب من المكروه الذي يتعرّض اليه الانسان..
وهذه الصفة غالباً ما تظهر حين التعامل مع الجهّال فيضطر الحليم الى مداراتهم بعدم الردّ عليهم وكذلك حين صدور تجاوز او اساءة من الآخرين فيضبط قوته الغضبية ولا ينفعل فتصدر منه اقوال او افعال مذمومة..
وقد مدح الله تعالى نفسه بهذه الصفة في عدة موارد منها قوله تعالى:
(والله غفور حليم) – البقرة 225-، (والله غني حليم) – البقرة 263-.
ومدح انبيائه في اتصافهم بهذه الصفة في عدة موارد: (ان ابراهيم لأواه حليم) – التوبة 114-.
وورد مدح هذه الصفة في عدة احاديث شريفة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ان الرجل المسلم ليُدرك بالحِلم درجة الصائم القائم).
واما العلم فهو ايضاً من جنود العقل ويقابله الجهل والمراد بكونهم علماء كمالهم في القوة النظرية بالعلم النظري الذي هو معرفة الصانع وصفاته والعلم الشرعي الذي هو معرفة تكاليفه واحكامه.. فهم يولون مسألة التعلم لهذه الامور الاهمية البالغة لوعيهم انه لا عبادة ولا تقرب ولا كمال للانسان الا بالعلم.. كما ورد في الحديث: (لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا خير في علم ليس فيه تفكر، ولا خير في قرائة ليس فيها تدبّر..)
واما البر: فقد يطلق ويراد به الصادق وقد يطلق على الذي من عادته الاحسان.. وقال في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: (ان الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) هو جمع البرّ المطيع لله المحسن في أفعاله..
واما التقوى فالمراد به هنا الخوف يعني انهم خائفون من الله تعالى وتاركون لجميع القبايح البدنية والنفسانية.. وحاصل هذه الصفات انهم موصوفون بالعلم الواقعي المشحون بالبر والتقوى وفيه اشارة الى ان العلم فقط أي ادراك الشيء لا اعتناء به في هذا المقام اذا لم تكن في طريق البر والتقوى اذ ربَّ عالم يقتله علمه في الدنيا ويوقعه في العذاب في العُقبى..
واشار الى كمال خوفهم بقوله (عليه السلام): (قد براهُمُ الخوفُ بَرْى القِداح)
أي نحتهم مثل نحت السهام وبعبارة اخرى رقق الخوف اجسامهم كما ترتق السهام بالنحت وهو كناية عن خشيتهم فان العلم الحقيقي أثره الخشية كما قال تعالى: (انما يخشى الله من عباده العلماء) – الفاطر 28- .
قال الصادق (عليه السلام): الخشية ميراث العلم والعلم شعاع المعرفة وقلب الايمان ومَنْ حُرم الخشية لا يكون عالماً.
وهذه الصفة شرح لفعل الخوف الغالب بهم، وانما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن، وشبّه برى الخوف لهم ببرى القداح ووجه التشبيه شدّة النحافة، ويتبع ذلك تغيّر السحنات والضعف عن الانفعالات النفسانية من الخوف والحزن حتى يحسبهم الناظر مرضى وان لم يكن بهم مرض.
ثم يقول امير المؤمنين (عليه السلام): (يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ....)
أي ينظر اليهم الناظر من عامة الناس نظراً ظاهرياً فيحسبهم مرضى وقد مازجهم اختلال العقل وفساده ولكن ليس الامر كذلك فهم قد خالطهم امر عظيم من توجههم لله تعالى ومعرفتهم بعظمته وقدرته والخشية منه حتى صاروا بهذا الحال..
ولا يرضون من انفسهم القليل من العمل لما ينظرون اليه من نعم الله تعالى العظيمة عليهم واستحقاق لفناء الذات في طاعته والتقرب اليه فان كانت اعمالهم قليلة عاتبوها وحاسبوها ووبخوها وان كانت كثيرة لم يستكثرها (لم يعدوها كثيرة وان كانت كذلك) خوفاً من الوقوع في حالة الرضا عن النفس والعجب والغرور..
فهم وان اتعبوا انفسهم وبلغوا غاية جهدهم من العبادة والطاعات والتوبات لا يعدونها كثيرة لمعرفتهم بان ما اعده الله تعالى من الثوابات وما يستحقه من عبادات فان اعمالهم زهيدة قليلة..