الزمان: الليلةُ الأولى من ليالي شهر محرّم الحرام.
المكان: العتبتان المقدّستان الحسينيّة والعبّاسية.
الحدث: إقامة مراسيم تبديل راية القبّتين الشريفتين لمرقد الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العبّاس(عليهما السلام) من اللّون الأحمر إلى اللّون الأسود.
فمن أين جاءت هذه المراسيم؟ وما هي دلالاتُ الراية على القباب المشرّفة؟، ولماذا تتغيّر إلى اللّون الأسود؟
هذه المراسيمُ التي تضمّ العديد من الفقرات العزائيّة المختلفة وبهذا الحجم، هي أمرٌ جديد بادرت به إدارةُ العتبتين المقدّستين قبل نحو (15) سنة، أي بعد سقوط نظام الطاغية في (9/ 4/ 2003م)، والغاية منها هي إظهار شعائر الله تعالى وترسيخها بشكلٍ أعمق، لتكون هذه المراسيم على ما هي عليه الآن إعلاناً لبدء موسم الأحزان الذي يستمرّ لشهرَيْن (محرّم الحرام وصفر الخير)، حيث يتمّ استذكار أعظم مصابٍ في تأريخ البشريّة، وهي ذكرى شهادة أبي عبد الله الحسين وأهل بيته(عليه وعليهم السلام) في العاشر من محرّم الحرام سنة (61) للهجرة، وما جرى على أهل بيت النبوّة من بعدها.
أمّا اختيار وقت إقامة المراسيم فهو يكون بعد انقضاء يوم 29 ذي الحجّة من كلّ عام، وحسب ثبوت الرؤية الشرعيّة للشهر الجديد من عدمها، وبعد أداء صلاتي المغرب والعشاء من آخر يومٍ في السنة الهجريّة.
ما هي دلالاتُ الراية على القباب المشرّفة؟
البحثُ عن معنى رفع الراية الحمراء عند العرب فقط من الناحية التاريخيّة، وذلك لأنّ معناها يختلف من بلدٍ الى بلد ومن ديانةٍ الى ديانة أخرى، فقد كانت القبائل العربيّة إذا بدأت الحرب هناك عادات وتقاليد يلتزمون بها، وهي إيقافُ الحرب في الأشهر الحرم وهي: (رجب، ذي القعدة، ذي الحجّة، ومحرّم)، وإيقاف الحرب ليست من المهادنة وإنّما لقدسيّة الأشهر الحرم، وكلٌّ من الطرفين يترقّب انقضاء هذه الأشهر لكي تبدأ الحرب من جديد، لذا كان من عادتهم أنّه لابُدّ من الإعلان للجميع أنّ الحرب لم تنتهِ بعد وهناك ثأرٌ لم يؤخذ، لذا عمدوا إلى رفع رايةٍ حمراء على خيمة زعيم القبيلة، لكي يعلم الجميعُ أنّ الحرب لم تضع أوزارها بعد وأنّ هناك ثأراً لم يؤخذ.
لماذا تتغيّر إلى اللّون الأسود؟
من الناحية العلميّة فإنّ للألوان استخداماتٍ كثيرة، ومن هذه الاستخدامات أنّها تدلّ على مفاهيم اتُّفق عليها عرفيّاً من خلال العادات والتقاليد القديمة للإنسان، والتي تواترت عليها البشريّة لما لها من قابليّة على التأثير في النفوس، ولكلّ لونٍ قدرةٌ تأثيريّة على النفس نابعة من الطول الموجيّ الذي يحمله فيزيائيّاً، فاللّون الأخضر مثلاً يُعطي للنفس طمأنينةً وارتياحاً حين النظر اليه، لكونه يحمل طولاً موجيّاً متوسّطاً، ولذا يُستخدم كرمزٍ للسلام فضلاً عن استخدامه في المراقد المقدّسة.
أمّا فيما يخصّ اللّونين الأسود والأحمر فإنّ لهما الميزة الأكثر تأثيراً في النفس.
اللّون الأحمر: يكون مميّزاً عن باقي أقرانه من الألوان، فهو جاذبٌ للنظر ويخلق توتّراً عصبيّاً حين التركيز عليه، ويعطي نوعاً من التنبيه وعدم الاستقرار وذلك لكونه يحمل أطول تردّد (طول موجيّ)، ممّا يُكسبه حدّةً تفوق باقي الألوان، ولذا استُخدِم هذا اللّون للتنبيه على شيءٍ مميّز أو حدثٍ أو حادثةٍ مهمّة، وليس هناك أعظم من أن يتذكّر الناس حادثة عاشوراء على مدار العام.
اللّون الأسود: فإنّ له تأثيراً عميقاً في النفس، من حيث كونه لوناً يُضفي الحزن وعدم الارتياح، وهذا اللّون له شهرةٌ في إعلان الحزن عند الناس، لذا تُستبدل الراية من الأحمر إلى الأسود، كما أنّ لبس السواد لم يكن ظاهرةً حديثة وتصرّفاً جديداً، بل هو موروثٌ توارثه الناس منذ زمن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) الى يومنا هذا، فقد لبس النبيّ محمد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قميصة سوداء عند اشتداد وجعه وقيل في يوم وفاته، ولبس الإمام علي(عليه السلام) السواد بعد رحيل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ولبس الحسن والحسين(عليهما السلام) السواد عند استشهاد والدهما الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ولبست الهاشميّات السواد بعد رجوعهنّ من كربلاء إلى المدينة وأقمن العزاء على الإمام الحسين(عليه السلام) وهنّ على مرأى من الإمام زين العابدين(عليه السلام)، ولبس الإمام زين العابدين(عليه السلام) دراعةً سوداء وعليها طيلسان أزرق، وجميعُ الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) قد لبسوا السواد.
لذا فإنّ استبدال الراية من اللون الأحمر إلى الأسود هو لإعلان الحداد وإظهار العزاء، وليست الرايات تُستَبْدَل فقط بل تغطّى جدرانُ الصحن الداخليّة والخارجيّة للعتبتين المقدّستين بالقماش الأسود، الذي يدلّ على الحزن بقدوم شهر محرّم الحرام الذي قتل فيه الإمامُ الحسين وأهل بيته وأصحابه(عليهم السلام).
كما أنّ شوارع كربلاء المقدّسة تتّشح باللّون الأسود، وترتفع الرايات السوداء على سطوح دورها وبيوتاتها، بل ترى أغلب أهالي كربلاء يرتدون اللباس الأسود حزناً على سيّد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام).
ولا يقتصر الأمر على هذه المدينة وأهلها فقط، بل في كلّ بقعةٍ من أرجاء المعمورة هناك محبّون وموالون لأهل بيت النبوّة(عليهم السلام)، يعلنون الحزن والحداد على هذا المصاب العظيم من خلال رفع ونشر السواد وإقامة المآتم تخليداً لهذه الذكرى.